الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

samedi 29 juin 2013

الغارة على بلاد الري وتقهقر الاتجاه العقلي على عهد محمود الغزنوي

الغارة على بلاد الري وتقهقر الاتجاه العقلي على عهد محمود الغزنوي
«فان الري اجمع البلاد للمقالات والإختلافات في المذاهب على تضادها وكثرتها»
ابن الأنباري في (نزهة الألباء ص236)
يوسف الهادي
على الرغم من حرص الدولة الأموية على إبقاء بلاد الري موالية في عقائدها الدينية وإتجاهاتها السياسية للخط الحاكم حيث بذلت في سبيل ذلك الأموال الهائلة واستخدمت أعنف الأساليب الا إن تلك البلاد إستجابت بمرور الزمان لشتى المذاهب الدينية والسياسية وخاصة ما كان يشكل خطراً مباشراً على الكيان السياسي للدولة من وجهة نظر الدولة. فقد إنتشر هناك كل المذاهب من سنية وشيعية بلا إستثناء لأي مذهب. وكان من أبرزها المذهب الشيعي حيث تحدى القرار السياسي الصادر عن أعلى سلطة في الخلافة الأموية(1) وبدأ ينتشر نفوذه تدريجياً في البلاد. يقول إبن الأثير «ولما ولي المغيرة بن شعبة الكوفة إستعمل كثير بن شهاب على الري وكان يكثر من سب علي على منبر الري»(2).
وقد فرق ذلك المسلمين وأضر ضرراً بليغاً بالإسلام ومع ذلك وجدنا تأثيرات شيعية مجاورة لبلاد الري في مدينة قم التي لا تبعد عنها كثيراً(3)، حيث وصل وفد من تلك المدينة إلى المدينة لزيـارة الإمام جعفر بن محمد الصادق(4) المتوفى عام 148هـ.
أما عن المذاهب الأخرى فقد إنتشر في البلاد ايضاً المذهبان الحنفي والشافعي، حيث كانت تقع بين اتباع المذهبين ـ للأسف الشديد ـ معارك طائفية(5)، كما كان للمذهب الزيدي نصيب فيها وكان ظاهراً كما نقل التوحيدي وهو يشير إلى مذهب الصاحب بن عباد بقوله:
«وأجلس النجار ليجتدع الديلم بالزيدية، ويزعم إنه على مقالة زيد بن علي ورأيه ودينه ومذهبه»(6). والجار المذكور هو رأس الفرقة النجارية، قال عنه الشهرستاني: «هو الحسين بن محمد النجار، وأكثر
_______________________________
1- حول الأوامر بشتم الإمام علي (ع)، انظر مثلا الطبري ج5، ص189 والمحبر ص479.
2- حوادث عام 41هـ، ج3، ص413.
3- حسب ياقوت الحموي فإن التشيع دخل بلاد قم عام 83هـ.
4- أعتماداً على رواية للحسن بن محمد القمي في كتابه تاريخ قم، ص214، الذي ألفه عام 378هـ.
5- انظر آثار البلاد وأخبار العباد، ص376، للقزويني المتوفى عام 682، وكذلك «ياقوت» مادة «الري».
6- مثالب الوزيرين، ص117.

معتزلة الريّ وما حواليها على مذهبه»(1).
اما المذهب الزيدي فقد كان منتشراً في طبرستان المجاروة للري منذ إستيلاء الداعي العلوي الحسن بن علي الأطروش عام 301هـ على تلك المنطقة، حيث كان سبباً في دخول الديلم إلى الإسلام(2)، وقد إستحكمت العلاقة بين الصاحب بن عباد وبيت الأطروش عندما تزوج أحد أحفاد الأطروش بنت الصاحب(3).
أما الشيعة الإسماعيلية فبحكم كونهم تنظيماً سرياً دقيقاً، فقد إستطاعوا التغلغل بهدوء إلى المنطقة، ويقول التاريخ الإسماعيلي: «إن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق قد فرّ من الكوفة خوفاً من ملاحقة العباسيين، وقد إلتجأ إلى بلاد الري هو وعائلته وأخوه علي بضيافة حاكم الري إسحاق بن العباس المعيّن من قبل هارون الرشيد، وعندما علم الرشيد بذلك أرسل احداً للقبض عليه وفي رواية إنه سار بنفسه إلى الري، وعند إطلاع الوالي إسحاق ـ وكان شيعياً محباً لمحمد ـ على ذلك، رجا محمد إنه يتحول هو واهله إلى الطرف الثاني من جبال نهاوند لينزل في بيت صديقه ـ اي صديق الوالي ـ منصور النامي، وهو قاضي القضاة بتلك الناحية، وقد وصل إلى هناك فعلاً وزوجه القاضي المذكور إبنته، وقد أرسل هارون الرشيد ـ عندما علم بمكانه الجديد ـ مجموعة من الجند لم تتمكن من القبض عليه وزاد المؤرخ فدائي خراساني إن «محلة محمد آباد» التي في مدينة الري منسوبة إلى محمد هذا»(4).
اما المعتزلة فيكفي ان نشير إلى أشهر علمائهم وهو قاضي القضاة عبد الجبار الهمداني الذي قال عنه اليماني:
«إليه إنتهت الرياسة في المعتزلة حتى صار شيخها وعالمها غير مدافع، وصار الإعتماد على كتبه ومسائله، نَسَختُ كتب من تقدمه من المشايخ، وشهرة حالة تغني عن الاطناب في الوصف، واستدعاه الصاحب إلى الري بعد سنة 360، فبقي فيها مواظباً على التدريس إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة 415 أو 416، وكان الصاحب يقول فيه أفضل أهل الأرض، ومرة يقول هو أعلم أهل الأرض»(5).
وقد ذكر اليماني ايضاً عند ذكره أئمة المعتزلة جمعاً كثيراً منهم كان قد درس أو درّس في بلاد الري وما جاورها(6). وعند ذكره للنجارية قال: «وهم الآن بناحية الري فرق كثيرة»(7).
_______________________________
1- الملل والنحل، ج1 ص81، وفي الاعلام، ج2 ص253، إنه توفي حوالي 220هـ.
2- ابن الأثير، ج8 ص81، وقال عنه ص86: «وكان حسن السيرة عادلاً، ولم ير الناس مثله في عدله وحسن سيرته» توفى عام 304هـ، وأنظر الملل والنحل، ج1 ص139.
3- عمدة الطالب، ص80، وأنـظر معجم الأدباء ج6 ص286.
4- تاريخ إسماعيلية، ص44 ـ 46، ملخصاً، وعيون الأخبار السبع الرابع وفي اعلام الزركلي، ج6 ص34، إن حياة محمد بن إسماعيل كانت بين 136 ونحو 198هـ.
5- المنية والأمل، ص194، وفي تاريخ كزيده، ص418، إن القاضي عبد الجبار رفض الترحم على الصاحب بعد وفاته وقال: «إنني لا أعلم توبته»، وقد قام الوزيران الضبي وإبن حمولة اللذان وليا الوزارة بعد الصاحب بمصادرة أموال القاضي المذكور.
6- المنية والأمل، ص195، 197، 199، وفي ص200، قال عن أبي سعيد السمان: «وله من الزهد والورع ما ليس لغيره، كان يصوم الدهر، وربما درّس في الريّ، وربما درّس في الديلم».
7- نفس المصدر، ص35، وقال في ص109: «وهذا المذهب بطبرستان والري كثير ويقل في غيرهما».

ولنختم بالمذهب المالكي فقد روى «ان ابن فارس ظل دهراً شافعي المذهب، ولكنه في آخر أمره حين استقر به المقام في مدينة الري تحول إلى مذهب المالكية، ولما سئل عن ذلك قال: أخذتني الحمية لهذا الإمام أن يخلو مثل هذا البلد عن مذهبه، فعمرت مشهد الإنتساب إليه حتى يكمل لهذا البلد فخره، فإن الري أجمع البلاد والإختلافات في المذاهب على تضادها كثرتها»(1).
هذه البلاد، التي هي أجمع البلاد للمقالات والإختلافات في المذاهب قُدّر لها ان تكون عرضة لغارة عنيفة دموية شنها قائد عسكري مازال في عنفوان قوته، هو السُلطان محمود الغزنوي، الذي بدأ حملاته الدؤوبة على بلاد الهند وماوراء النهر فافتتح البلدان وغنم الغنائم، مما أثار إعجاب الخليفة العباسي القادر بالله، فظل يواصله بالخلع والألباب بين فترة وأخرى، بينما كان محمود يرسل بين الحين والآخر رسله ووفوده لإظهار الطاعة للخليفة(2) على الرغم من أن الإثنين لم يلتقيا، وكأن أملاً كان يراود الاثنين معاً في تحقيق إنجاز ما، إنجاز أكبر من تلك الفتوحات الكثيرة في الأطراف الشرقية للعالم الإسلامي.
طبيعة وأهداف غارات الغزنوي
إتسمت غاراته بالسرعة والقسوة في معاملة المهزومين وكثافة الغنائم، حيث كانت هذه الغنائم إضافة إلى تثبيت دعائم سلطنته أهم عاملين ظلا يدفعانه إلى آخر لحظات عمره إلى القتال واقتحام المدن والقلاع، وكان قد عبر في غزوة من غزواه إلى ماوراء النهر فضمن له اهل سمرقند ألف غلام حتى كف عنهم(3)، كما كان قاسياً عند إستيفاء الاموال، يقول ابو الفضل البيهقي الذي أرخ حياته وكان نائباً لرئيس ديوان الرسائل على عهد ولده مسعود، عن أبي سعيد المسؤول عن الضياع السلطانية حوسب على عهد مسعود ولم يكن يستطيع الوفاء بما طولب، فأخذ الجميع يتساءلون عما سينتهي إليه مصيره «وقد كان هذا لأنهم شاهدوا ما كان يتخذه السُلطان محمود من الشدة، كالضرب بالسياط وقطع الأيدي والأرجل، والتعذيب اثناء محاسبة معدّلدار عامل هرات، وأبي سعيد الخاص صاحب غزنة، وعامل كرديز»(4).
وقد إستخدم أبشع وسائل التعذيب مع وزيره أحمد بن الحسن الميمندي عندما عزله عن الوزارة ليعلم منه كل ما لديه من أموال وضياع ويصادرها(5) ويعتقله بعد ذلك في إحدى قلاع بلاد الهند(6).
_______________________________
1- نزهة الألباب، ص236.
2- انظر مثلاً اليميني، ص182، 302، وكرديزي، ص381، 414، ويقول إبن الفوطي (طبع القاسمي) ص312، إنه زيد في عام 417هـ على القاب الغزنوي لقب (كهف الاسلام والمسلمين)، مضافاً إلى (يمين الدولة وأمين الملة ونظام الدين وخطب له بذلك).
3- المنتظم، ج8 ص53، وعن علاقته بالغلمان قال عروضي سمرقندي في (جهار مقالة): «لقد كان معروفاً ذلك العشق الذي كان السلطان يمين الدولة محمود يكنه لإياز التركي، الذي لم يكن جميل الوجه جداً إلاّ إنه كان ذا وجه أسمر حلو، ومتناسب الاعضاء وظريف الحركات...» واضاف ان السلطان قد راوده عن نفسه ليلة بعد سكر من الخمر، الا انّ  المحتسب نبه السلطان إلى ضرورة الإمتناع عن هذا العمل. ولسنا ندري لماذا لم ينهه المحتسب الورع عن شرب الخمر؟!!!
4-  تاريخ البيهقي، ص136.
5- نسائم الأسحار، ص43، وفي إبن الأثير ج9 ص400، إنه صادر منه ما قيمته خمسة ملايين دينار، وقال فصيحي في المحمل، ج2 ص127، إن الميمندي أقسم بعد المصادرة إنه لم يعد يملك شيئاً.
6- دستور الوزراء، ص140.

وعندما استولى على إصفهان خلّف عليها والياً، فلما رحل عنها ثار عليه أهل أصفهان وقتلوه، فرجع محمود اليها، واعطى لهم الأمان حتى اطمأنوا، وانتظر إلى ان صار يوم الجمعة، واجتمع اهل أصفهان للصلاة في الجامع فهاجمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة(1).
ويقول ابن الأثير عن حبه للمال، وذلك بعد ان يمتدحه بقوله: «كان يمين الدولة محمود بن سبكتكين عاقلاً، ديناً، خيراً: ولم يكن فيه ما يعاب إلاّ انّه كان يتوصل إلى أخذ الاموال بكل طريق، فمن ذلك انّه بلغه إن انساناً من نيسابور كثير المال، عظيم الغنى، فأحضره إلى غزنة وقال له: بلغني إنك قرمطي، فقال: لست بقرمطي، ولي مال يؤخذ منه مايراد، وأعفى من هذا الإسم، فاخذ منه مالاً، وكتب معه كتاباً بصحة إعتقاده»(2).
ننقل هذا لنطلع على ما ابتلي به أهالي بلاد الري التي إشتهرت بغناها، لأنها مقر مملكة آل بويه، وذلك حين إجتاح محمود الغزنوي المدينة وصنع ما سنراه.
وعن فتوحاته وحروبه في الهند ننقل ما كتبه الرئيس جواهر لال نهرو في كتابه:
The Discovery of India‎:
«كان محمود يقصد الهند كل عام تقريباً ويشن الغارات عليها، وبهذا يكون ما قد شنه من غارات يقرب من سبع عشرة غارة على الهند. وكان يحمل معه عند عودته إثر كل غزوة: الذهب والأحجار الثمينة التي كان يكنزها الهندوس في المعابد وفي داخل أصنامهم. ولذلك كان محمود يهدم المعابد ويكسر الأصنام. وهذا هو السبب في ان كثيراً من مؤرخي الهندوس والإفرنج إتهموه بسلب اموال الهند ونهبها وقتل أبريائها بدون هدف اساسي. وهذه تهمة لايمكننا الدفاع عنها، لان ملوك الأتراك لم يراعوا تعاليم الإسلام حق الرعاية أثناء غزواتهم بخلاف الفاتحين العرب الذين ضربوا أمثلة رائعة لتمسكهم بتعاليم الإسلام في الغزوات والجهاد»(3).
الكرامية وابن محمشاد
ظهرت طائفة الكرامية وهم أتباع محمد بن كرام في نيسابور وكانوا يقولون بالتجسيم، أي يعطون لله سبحانه، الصفات الجسمانية كاليد والوجه اعتماداً على ورود هذه الألفاظ في القرآن الكريم، وبلغ الامر بأحد علمائهم وهو محمد بن إسحاق بن خزيمة إنه ألف كتاباً في «اعضاء الرب» تعالى الله عن ذلك، وسماه كتاب «التوحيد» وروى فيه إن الله خلق ملائكته من زغب ذراعيه، ورووا ـ اي الكرامية ـ ان اله يحاسب الناس يوم القيامة وهو في صورة آدم، ورووا إن له حجاباً يحجبونه، وغير ذلك من الآراء»(4).
ولنا ان نتصور حجم الكارثة التي حلت ببلاد الري المليئة بالمذاهب والطوائف المخالفة لهذه الطائفة التي اوكل اليها النظر في عقائد سائر المذاهب والحكم على كما إمتاز الكرامية ايضاً بكونهم «اشد الناس بغضاً
_______________________________
1- طبقات الشافعية، ج4 ص21، وهو أسلوب طبقه ولده مسعود أيضاً، عندما إجتاح مدينة إصفهان حين تولى السلطة فيما بعد، وقتل منهم خمسة آلاف إنسان حين قتلوا وإليه على المدينة.
2- إبن الأثير، ج9 ص401.
3- تاريخ الصلات بين الهند والبلاد العربية، ص132.
4- المنية والأمل، ص111 ـ 115، والملل والنحل، 99 ـ 104.

لعلي عليه السلام وأهل بيته، ويحبون معاوية وإمامته وإمامة يزيد»(1).
الصحيح أو الفاسد منها، وقد قاد عمليات النظر في العقائد هذه شيخ من شيوخ الكرامية يدعى أبابكر محمد بن إسحاق بن ممشاد أو محمشاد، حيث شكل ما نسميه اليوم بميليشيات مسلحة من اتباعه، كانوا يشنون الغارات ويداهمون البيوت والمساجد والمكتبات، فيقتلون ويصادرون ويسجنون ويبتزون الأموال، حتى اصبحوا أثرياء من عمليات تصحيح إعتقادات المسلمين!!! ومن امتنع عن مجاراتهم أو إعطائهم ما يطلبون رموه بالالحاد، والزندقة وفساد الإعتقاد، وإذا إستعصى عليهم أمر جماعة أو طائفة كتبوا إلى محمود الغزنوي نفسه يستعينونه(2).
قال عبد الجباّر العتبي الذي الّف تاريخه باسم السُلطان محمود الغزنوي عن أبي بكر بن محمشاد وأتباعه:
«قد كان أبو بكر مرموقاً بعين النباهة في صدر هذه الدولة لمكانة أبيه من الزهادة، وضمّه الأطراف على العبادة، واقتفائه نهج أبيه فيما كان ينتحله وينتحيه، وكان الامير ناصر الدين ابو منصور سبكتكين يرى من عصابته في التزهد والتعفف والتقشف(3)، ما قل وجود مثله في كثير من فقهاء الدين وأعيان المتعبدين، فحلى ذلك في قلبه كما حلى بعينه، والمجاهد في الله محبوب، وقد يكرم أهل الشفاعات، من له ذنوب.
واستمر السُلطان بعده على وتيرته، في ملاحظتهم بعين الإحترام وايثار طوائف الكرامية بالإكرام، حتى قال ابو الفتح البستي فيما شاهد من نفاق اسواقهم:
الفقه فقه ابي حنيفة وحده***والدين دين محمد بن كرام
ان الذين اراهم لم يؤمنوا***بمحمد بن كرام غير كرام
وانضاف إلى هذه الوسيلة القوية، والذريعة الالهية، انّه لما تورّد جيوش الخانية خراسان، عند غزوة السلطان ناحية الملتان، قبضوا بنيسابور على أبي بكر إحتياطاً لانفسهم من شيعته، وإحتراساً من غامض مكيدته، ونقلوه في جملتهم حين طلعت رايات السُلطان من مغاربها، وأومضت سيوف الحق عن مضاربها، إلى ان وجد منهم فرصة الإفلات، والسلامة على مس تلك الآفات، فاعتبر السلطان ذلك في سائر مواته، وأوجب له حقاً يحفظه بعين مراعاته.
ونبغت من باب البدع الباطنية على ما تنامت به البلاغات، والله اعلم بما تجنه الضمائر والنيات، فئام
_______________________________
1- المنية والأمل، ص112.
2- كما صنعوا عندما كتبوا تقريراً إلى السلطان محمود وأرسلوه إليه بغزنة يخبرونه بأمر الصوفي الشهير أبي سعيد الخير(357 ـ 440هـ) ومريديه الذين كانوا عددهم آنذاك 120 فرداً، إضافة إلى حشود من عامة الناس، أسرار التوحيد، ص79 ـ 82.
3- يبدو إن لبسهم الرث من الثياب كان مظهراً يغطون به أطماعهم الحقيقية في المال والجاه، وكان الناس يعرفون ذلك عنهم، قال علي بن زيد البيهقي في لباب الأنساب، الورقة 86 A، وهو يترجم لأحد السادة العلوية:
«فدخل هذه الدار ـ خراسان ـ الأستاذ الإمام إسحاق بن محمشاد إمام الكرامية، مع ثوب خلق، وصوف وسخ، فأنشد السيد الأجل ابو محمد يحيى مشيراً إليه:
ودع التواضع في الثياب تخشعاً***فالله يعلم ما تسرّ وتكتم
فرثاث ثوبك لا يزيدك قيمة***عند الإله وانت عبد مجرم

وافقت تصلباً من السلطان في استئصالهم، وتعصباً لدين الله في إحتناك أمثالهم، فحشروا من أطراف البلاد، وصلبوا عبرة للعباد، وكان ابو بكر هذا أحد اعوان السلطان، على رأيه حشراً إليه، وتصويباً للرأي عليه فصار البريء كالسقيم مذعوراً، وعاد الملأ في عارض الخطب شورى، ورأى الناس ان ريقته السم القاتل، وقدته السيف الفاصل فنجعوا له بالطاعة، وفرشوا له خدود الضراعة، وانعقدت له الرياسة في لبسة الصوف، ولحظته الخاصة والعامة بعين المرجو والمخوف، ووجدت خاصته سوقاً للأطماع بعلة الإبتداع، فاستزبنوا(1) الناس واستفتحوا الأكياس، فمن الطّ(2) منهم بمكاس، رُمي بفساد معتقده، أو يعطي الجزية عن يده، وغبرت على هذه الجملة سنون، لا مطمع لأحد في تبديل شكلها، وتحويل فادح الحال عن اهلها، ولا علم لهم بان الزمان بتغيير الأحوال ضمين، وبالخلاف عن صورة المعتاد رهين»(3).
وعلى الرغم من إن السُلطان محموداً قد شن على هؤلاء الكرامية ورئيسهم إبن محمشاد غارة كانت ـ كما قيل ـ تحت ضغوط صيحات الناس المظلومين التي رأى فيها السلطان خطراً وازن بينه وبين ان يضحي بإبي بكر بن محمشاد، فاختار التضحية بالفقيه المذكور، على الرغم من ذلك، وملاحقته لأتباع ابن محمشاد ومصادرة أموالهم، وإلقاء بعضهم في السجون(4)، فان هذا لم يغير من حقيقة ان ما جرى منهم كان إرهاباً منظماً اشرف عليه السلطان محمود شخصياً، إضافة إلى ان الأموال التي صادرها محمود من رؤساء هذه الطائفة «الكرامية» لم تعد إلى الناس الذين سلبت منهم، بل إلى خزانة السلطان، كما لم يجر النظر في أي مظلما من المظالم التي ارتكبوها، الم يقل العتبي مؤرخ بلاط محمود الغزنوي إنه قد تتبع الذين كان «ظاهر دعوتهم الرفض، وفي الباطن الكفر المحض»، «وارسل الجواسيس إلى كل البلدان، وبعد ان جمع قوائم بأسمائهم، القى القبض عليهم، وبعد ان جمعوا من الأماكن والمساكن المتفرقة في كل البلدان، وأحضروا إلى بلاطه، عذّب جمعاً منهم بأنواع العذاب، بينما شنق آخرين على الأشجار، ورجم بالأحجار جمعاً آخر منهم، وقد وافق السلطان على ذلك الأستاذ أبو بكر محمشاد الذي كان شيخ أهل السنة، وكان فاضلاً ومتديناً وكبيراً، حيث قام بالتمثيل بكل من كان منتمياً لهذه الفرقة الغالية، وأهل البدعة الجافية»(5).
ومع الأخذ بعين الإعتبار حقيقة إن سبكتكين والد محمود كان من الكرامية(6)، كما كان محمود من المعتقدين بأنهم من اصحاب الكرامات(7)، فان الرجل لم يكن متديناً تأخذه الغيرة على الدين فلم يؤثر عنه ـ كما يقول المؤرخ المعتدل إبن فندق ـ زيادة في العدل ولا أثر عنه يحمد(8)، كما كان سكّيراً صاحب
_______________________________
1- غبنوه وابتزوه، وما يجري هذا المجرى «اساس البلاغة، زبن».
2- الط: دافع، إمتنع.
3- اليميني، ص392 ـ 394، واعتمدنا هنا على الأصل العربي الموجود في «الفتح الذهبي».
4- اليميني 399 ـ 400، ويقول ابو المعين النسفي(508هـ) في نهاية العقول من الكلام: «يرى المتقشفة والكرامية إن كسب المال وجمعه حرام، لان التوكل على الله واجب، وقد قال تعالى: وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين»!!!!، أنظر «فيلسوف ري»، ص129.
5- المصدر السابق، ص370.
6- تاريخ سيستان، ص339.
7-  آثار الوزراء، ص187 ـ 188، وقال إن إعتقاده بكراماتهم قد بطل فيما بعد.
8- تاريخ البيهقي، ص71.

مجالس اُنس وطرب غالباً ما كانت تكاليفها تقع على عاتق دافعي الضرائب من المواطنين البائسين(1).
ومع النظر إلى رأي الباحث المعروف بو سورث الذي قال فيه «إن محموداً إتخذ من أتباع الفرقة الكرامية قوة محافظة ورأس حربة ضد راديكالية المعتزلة والإسماعيلية(2)، مع كل هذا فان لنا رأياً في المسألة هو:
الأهداف المشتركة بين الخليفة القادر والغزنوي
اولاً: واجه الخليفة العباسي القادر بالله تهديداً جدياً من الخلافة الفاطمية بمصر التي ما فتأت، بالوسائل السلمية وغير السلمية، تحاول إختراق مراكز النفوذ والقدرة في داخل حدود الدولة العباسية وخارجها، حتى بلغ الأمر إن الأمير العربي قرواش بن المقلد العقيلي خطب باسم الحاكم بأمر الله الفاطمي في الأعمال التابعة له وهي: «الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها»(3) وذلك عام 401هـ، إلاّ ان تجهيز حملة عسكرية ضخمة من القادر بالله، جعلت قرواش العقيلي يتراجع عن قراره ويعيد الخطبة للقادر العبّاسي.
وكانت للحكّام الفاطميين بمصر محاولات لكسب ودّ السُلطان محمود الغزنوي نفسه تمثلت فيما يلي:
أ ـ وصول داعية من الدعاة الإسماعيلية واسمه التاهرتي مبعوثاً من الخليفة الفاطمي مع هدايا ورسالة خاصة للسلطان محمود إلى مدينة نيسابور، إلاّ إن السلطان أمر بقتله، بعد ان سأل عن مذهبه وحقيقته، وعلى حد تعبير المؤرخ العتبي ـ مؤرخ بلاط السُلطان محمود ـ فقد وجد عنده «عدة كتب من تصنيف اهل الباطن مشتملة على المستحيلات والأغاليط القائمة على كلام المجانين ووساوس المرضى، ليس فيها حجة من المعقول، ولا بينة من المنقول»(4).
ب ـ عين السُلطان محمود عام 415 هـ وزيراً له اسمه الحسن بن محمد بن العباس الذي كان السلطان نفسه يسميه تحبباً بـ«حسنك»، وقد سافر هذا في نفس العام إلى الحج، ولدى عودته عرج على مصر، (وقد أرسل ملك مصر الذي كان من الملاحدة والقرامطة بيده رسالة ودية إلى السلطان محمود، اضافة إلى خلعة خلعها على الوزير)(5)، إلاّ ان السلطان الذي كان يود توثيق علاقاته مع الخليفة العباسي، ارسل تلك الخلعة إلى القادر بالله مع رسالة اظهر فيها ولاءه له، وقد أحرق الخليفة الخلعة «حسنك» وسماه «القرمطي»، وقد أمر السلطان محمود وهو غاضب بالرد على الخليفة قائلاً:
«يجب ان يكتب لهذا الخليفة الخرف، بأني قد أدخلت إصبعي ـ من أجل العباسيين ـ في كل جهات العالم ابحث عن القرامطة واشنق كل من أجده وتثبت عليه القرمطية، ولو تحقق لنا إن حسنك قرمطي،
_______________________________
1- انظر مثلاً كرديزي، ص407، وتركستان نامه، ج1 ص609.
2- تاريخ غزنويان، ج1 ص188.
3- إبن الأثير، ج9 ص223.
4- اليمني، ص371، وطبقات الشافعية، ج5 ص320.
5- هذا نص عقيلي في آثار الوزراء، ص187، وقد نقله حرفياً من نسائم الأسحار، ص42، وملك مصر آنذاك هو الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي.

لعرف أمير المؤمنين ما أفعل به، وإني أنا الذي ربيت حسنك، وإنه ليتساوى عندي مع أبنائي وإخوتي، فاذا كان حسنك قرمطياً فأنني قرمطي كذلك»(1).
ثانياً: ظهور موجة واسعة ذات طابع جماهيري من التشيع والإعتزال ساعد على ترسيخها عوامل عدة منها: كون السلطة الفعلية بيد الأسرة البويهية الشيعية، وكثرة علماء ومكتبات ومؤلفات الشيعة والمعتزلة في هذه الفترة، في قلب العاصمة العباسية أو في أهم مدنها كبلاد الري والجبال وهمدان.
وعندما إستولى السلطان محمود على بلاد خراسان عام 387هـ أعلن نفسه مدافعاً عن المذهب السني، بقصد التقرب من الخليفة العباسي الذي كانت العلاقة به تعني الشرعية لحكم السلطان محمود، بينما رأى الخليفة في السلطان الفتي المتوثب أبداً للحملات العسكرية، رأس حربة متقدمة لا تكلفه شيئاًفي مواجهة القواعد العسكرية والفكرية للإعتزال والتشيع في البلاد البعيده عنه، والتي تغذي فكرياً ومادياً تجمعاتها في مقر الخلافة، فأوفد عام 408هـ هيئة إلى بلاط السلطان محمود إقترح فيها شن كفاح مشترك ضد الباطنية والمعتزلة(2)، وقد أرخ الذهبي ضمن حوادث 408هـ الواقعة كما يلي:
«وفيها إستتاب القادر بالله ـ وكان صاحب سُنّة ـ طائفة من المعتزلة والرافضة وأخذ خطوطهم بالتوبة، وبعث إلى السلطان محمود بن سبكتكين يأمره ببث السنة بخراسان، ففعل ذلك وبالغ، وقتل جماعة، ونفى خلقاً كثيراً من المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والجهمية والمشبهة، وأمر بلعنهم على المنابر»، وزاد إبن الأثير على ذلك ان الخليفة نهى عن المناظرة في المذاهب، ومن فعل ذلك نُكّل به وعوقب(3).
وقد أدت هذه السياسة من جانب الخليفة إلى إشتداد الصراع الطائفي ـ للأسف الشديد ـ ببغداد بين السنة والشيعة، حيث ذهب من الطرفين من الضحايا ودُمّر من الممتلكات وعُطل من الأعمال وأحرق من الكتب مما كان المسلمون في غنى عنه، وليس له مسوغ من شرع أو عقل.
ويرى ماك درموت ان الخليفة ـ ومنذ إتصاله بالسلطان اما السلطان محمود فقد كان يرى في كل تقرب من الخليفة نحوه خطوة جديدة تساعده هو على التقدم باتجاه مقر الخلافة، وهو ما قام به فعلاً عندما إتجه بجيشه إلى بلاد الري والجبال المجاورة للحدود العراقية عام 420هـ.
بدأ يسحب نفسه تدريجياً من تحت السيطرة البويهية، ويتجه إلى تعزيز سلطته الشخصية(4).
السُلطان محمود يغزو الري
توخينا ان ننقل غزو محمود لبلاد الري من أقدم مصادرها القريبة من الواقعة فلم نجد إلاّ ما كتبه كرديزي(5) الذي ألف كتابه حوالي 442 ـ 443 هـ، لأن العتبي أنهى كتابه «اليميني» قبل 420هـ، كما ضاع الجزء الخاص بالسلطان محمود من تاريخ البيهقي.
_______________________________
1- البيهقي، ص194.
2- انديشه هاي كلامي شيخ مفيد، ص23، نقلاً عن كتاب أصول السنة والديانة لعبيد الله العكسبري (إبن بطّة).
3- العبر، ج3 ص98، وإبن الأثير، ج9 ص305، وفي مجمع الأنساب ص67 إن محموداً قد شنق في مدّة حكمه ما زاد على خمسين ألفاً من سيّىء الدين والزنادقة.
4- انديشه هاي كلامي، ص22.
5- قال كرديزي ـ 379 - عن أخبار السلطان محمود: «أما هذه الأخبار فقد أخذتها عمن كان قد رآها رأي العين.

قال كرديزي ان السلطان محمودا كان يبعث بقواته على دفعات باتجاه الري، إلى ان حشدها في المواضع القريبة على الطرق المؤدية اليها بكتمان وسرية، ثم قام بترتيب العساكر (ميمنة وميسرة وقلب)، وأضاف كرديزي:
«عندما وصل الخبر إلى الملك مجد الدولة أبو طالب رستم بن فخر الدولة بان الأمير محموداً قد جاء بنفسه، خرج لإستقباله مع مائة فارس من خاصته وأهله ومقربيه، ومجموعة من المشاة الركابدارية وحملة الدروع والرماح وغير ذلك، وعندمارآه علي الحاجب(1) ارسل إليه من طلب منه النزول ريثما يبلغه رسالة يحملها، فنزل مجد الدولة ونصبت له خيمة جلس فيها، وهنا أصدر علي الحاجب أومره إلى جنده بأن يقفوا على ابواب المدينة ولا يسمحوا لأي أحد بالخروج أو الدخول اليها، لكي يظل أمر مجد الدولة مخفياً.
ثم قام علي الحاجب باحتجازه في نفس تلك الخيمة بعد ان جرده من السلاح الذي كان معه، ثم ارسل إلى السُلطان محمود من اخبره بصورة الحال، فجاء الجواب بأن يحمل مجد الدولة مع ستين رجلاً آخر إليه على الإبل، ثم أمر بهم فأخذوا إلى بلدة غزنين وظلوا هناك إلى آخر أعمارهم.
ثم جاء الأمير يمين الدولة (السلطان محمود) إلى الريّ وأخذها بلا تعب ولا عناء، وإستولى على خزائن البويهيين التي جمعوها في سنين عديدة، والتي إحتوت على ما لا يمكن عدّه ولا إحصاؤه وكان ذلك في جمادي الأولى سنة 420 هـ»(2).
وكما رأينا من النص آنفاً فقد كان مجد الدولة مطمئناً من جهة السلطان محمود، وإلاّ لما خرج إليه بذلك العدد القليل من الرجال الذين جاء بهم لأجل التشريفات، وهو ما يؤيد ما رواه كثير من المؤرخين من إن مجد الدولة قد دعا السُلطان محمود إليه للإستعانة به، وهو غلط فادح إرتكبه دلل به على عدم درايته بالسياسة وشؤون الملك، وإن الرجل كما أجمع مؤرخو سيرة حياته كان رجل فكر وقلم، وليس له باع في مكائد السياسة(3).
والمهم لدينا في هذا الإحتلال الذي قام به السلطان محمود الغزنوي لبلاد الري، هو الإجراءات القمعية التي تشبه ما نسميه اليوم بتشكيل حكومة عسكرية ذات صلاحيات غير محدودة.
ولنا دليل على ذلك في الرسالة التي بعث بها إلى الخليفة القادر بالله يخبره فيها بكل ما فعله في هذه البلاد من القتل والشنق والصلب وإحراق الكتب، إضافة إلى تهم وإفتراءات شبيهة بتهم الكرامية ضد خصومهم مما لم يقصد به إلاّ التشهير واعطاء مسوغ للسلطان باستباحة أموال واعراض ودماء اهل المدينة المنكوبة.
قال ابن الجوزي في المنتظم(4) ضمن حوادث سنة 420هـ:
_______________________________
1- قائد الميسرة في جيش السلطان محمود.
2- گرديزي، ص 417 ـ 418، وفي تاريخ جهان آرا، ص78، إن السلطان محموداً قد نزل قرية دولاب وهي من قرى الريّ صباح الإثنين 12/جمادي الأولى/420هـ، وإنه القى القبض على مجد الدولة وولده أبي دلف، وأرسلهما إلى خراسان، ولم ير لهما أثر منذ ذلك الحين، وفي تاريخ كزيده، ص422، إن السلطان قتلهما.
3- لم يشذ عن ذلك الا إبن الفوطي (ص64، من الجزء الذي حققه القاسمي)، عندما قال: «ولما إستولى السلطان يمين الدولة على ممالك مجد الدولة، أمر مجد الدولة بتجهيز العساكر لمحاربته، وسلمت إلى الكامل أبي حرب والفاخر صهر مبارك الوظائفي وضم اليهما أبو القاسم الدواتي، وذلك في سنة 420هـ».
4- ج8 ص38 ـ 40، والمقصود بـ(رستم بن علي) هو مجد الدولة.

«ورود إلى الخليفة كتاب من الأمير يمين الدولة ابي القاسم محمود وكان فيه: سلام على سيدنا ومولانا الإمام القادر بالله أمير المؤمنين، فان كتاب العبد صدر من معسكره بظاهر الري غرة جمادي الآخرة سنة عشرين، وقد أزال الله عن هذه البقعة أيدي الظلمة، وطهرها من دعوة الباطنية الكفرة والمبتدعة الفجرة، وقد تناهت إلى الحضرة المقدسة حقيقة الحال في ما قصر العبد عليه سعيه وإجتهاده، من غزو اهل الكفر والضلال، وقمع من نبغ ببلاد خراسان من الفئة الباطنية الفجار، وكانت مدينة الري مخصوصة بالتجائهم اليها، وإعلانهم بالدعاء إلى كفرهم، فيها يختلطون بالمعتزلة المبتدعة والغالية من الروافض المخالفة لكتاب الله والسنة، يتجاهرون بشتم الصحابة، ويرون إعتقاد الكفر ومذهب الإباحة، وكان زعيمهم رستم بن علي الديلمي، فعطف العبد عنانه بالعساكر فطلع بجرجان وتوقف بها إلى انصراف الشتاء، ثم دلف منها إلى دامغان، ووجه عليا الحاجب في مقدمة العسكر إلى الري، فبرز رستم بن علي من وجاره على حكم الإستسلام والإضطرار، فقبض عليه وعلى أعيان الباطنية من قواده، وطلعت الرايات اثر المقدمة بسواد الري غدوة الإثنين السادس عشر من جمادي الأولى، وخرج الديالمة معترفين بذنوبهم شاهدين بالكفر والرفض على نفوسهم، فرجع إلى الفقهاء في تعرف أحوالهم، فاتفقوا على أنهم خارجون عن الطاعة، وداخلون في أهل الفساد، مستمرون على العناد، فيجب عليهم القتل والقطع والنفي على مراتب جناياتهم، وإن لم يكونوا من أهل الإلحاد فكيف وإعتقادهم في مذاهبهم لايعدو ثلاثة اوجه تسود بها الوجوه في القيامة: التشيع، الرفض، والباطن.
وذكر هؤلاء الفقهاء ان أكثر القوم لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة، ولا يعرفون شرائط الإسلام، ولا يميزون بين الحلال والحرام، بل يجاهرون بالقذف وشتم الصحابة، ويعتقدون ذلك ديانة، والأمثل منهم يتقلد مذهب الإعتزال، والباطنية منهم لا يؤمنون بالله عزوجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وإنهم يعدون جميع الملل مخاريق الحكماء، ويعتقدون مذاهب الإباحة في الأموال والفروج والدماء وحكموا بأن رستم بن علي كان يظهر التستر ويتميز به عن سلفه إلاّ ان في حبالته زيادة على الخمسين إمرأة من الحرائر، ولدن ثلاثة وثلاثين نفساً من الذكور والإناث، وحين رجع إليه في السؤال عن هذه الحال، وعرف ان من يستجيز مثل هذا الصنيع مجاوز كل حد في الإستحلال، وذكر ان هذه العدة من النساء أزواجه، وان أولادهن أولاده، وان الرسم الجاري لسلفه في ارتباط الحرائر كان مستمرا على هذه الجملة وانّه لم يخالف عادتهم في إرتكاب هذه الخطة وان ناحية من سواد الري قد خصت بقوم من المزدكية يدعون الإسلام باعلان الشهادة، ثم يجاهرون بترك الصلاة والزكاة والصوم والغسل وأكل الميتة، فقضى الإنتصار لدين الله تعالى بتميز الباطنية عنهم فصلبوا على شارع مدينة طالما إمتلكوها غصباً، وإقتسموا أموالها نهباً، وقد كانوا بذلوا أموالاً جمة يفتدون بها نفوسهم، فعرفوا ان الغرض نهب نفوسهم دون العرض، وحول رستم ابن علي وابنه وجماعة من الديالمة إلى خراسان، وضم اليهم أعيان المعتزلة والغلاة من الروافض، ليتخلص الناس من فتنتهم.
ثم نظر فيما اختزنه رستم بن علي، فعثر من الجواهر ما يقارب خمسمائة الف دينار ومن النقد على مائتين وستين الف دينار، ومن الذهبيات والفضيات على ما بلغ قيمة ثلاثين الف دينار ومن أصناف الثياب على خمسة آلاف وثلاثمائة ثوب، وبلغت قيمة الدسوت من النسيج والخزوانيات عشرين الف دينار ووقف اعيان على مائتي الف دينار وحول من الكتب خمسون حملاً ما خلا كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض، فانها أحرقت تحت جذوع المصلبين، إذ كانت اصول البدع، فخلت هذه البقعة من دعاة الباطنين واعيان المعتزلة والروافض، وانتصرت السنة، فطالع العبد بحقيقة ما يسره الله تعالى لانصار الدولة القاهرة».
كان سلطاناً غاشماً، وكان السيف بيده، والمال وخزائن ملوك آل بويه نصب عينيه، وحلم الوصول إلى بغداد والسيطرة على مقاليد الأمور يملأ قلبه بكامله، لذا كان لابد له من التشهير بأعدائه والقول بأنهم غير مسلمين وزنادقة ويأكلون الميتة ولا يصلون أو يصومون ويتزوجون زواجاً باطلاً ـ وربما بخمسين إمرأة كما زعم ذلك عن مجد الدولة البويهي ـ ويعني بذلك الروافض والمعتزلة والشيعة والباطنية وغيرهم ممن ورد ذكرهم في رسالته إلى الخليفة التي كان لها وقع حسن في نفس الخليفة القادر بالله من حيث انّه استخدمها للتشهير بخصومه التقليديين (الشيعة والمعتزلة) بل وقام بإجراء فوري بعد استلامه الرسالة وقراءتها تمثل فيما رواه إبن الجوزي:
«وفي هذا اليوم جمع الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء في دار الخلافة، وقرىء عليهم كتاب طويل عمله الخليفة القادر بالله يتضمن الوعظ وتفضيل مذهب السنة والطعن على المعتزلة وإيراد الأخبار الكثيرة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة»(1) إلاّ ان وجود جيوش السُلطان محمود في بلاد الري أثار المخاوف في نفس الخليفة خاصة بعد ان سمع ان مسعود بن السلطان محمود قد قرر بعد ان سيطر على إصفهان ان يتوجه إلى بغداد بحجة الذهاب إلى الحج لذا فقد سارع الخليفة بالكتابة إلى السلطان محمود يقول فيها: «انّه ليس من مصلحتك ان تترك مملكة غزنين وخراسان وتأتي إلى هنا، إن كان هدفك الحج، فان ادارة شؤون الممالك والرعايا والعدل والإنصاف هو أفضل من الحج»(2).
وعلى أي حال فقد كان نصراً سهلاً حققه السلطان محمود لنفسه، الا ان نشوته لم تدم طويلاً قد أبتلي وهو في بلاد الري بمرض السل، ربما بسبب إسرافه في الشرب احتفاء بالنصر، أو بسبب إنغماسه بعلاقاته الجنسية الشاذة بغلمانه الذين كان يستصحبهم معه في حله وترحاله(3)، الذين كان «إياز» أشهرهم(4)، حيث وصف شبانكاره اي عودته إلى غزنين فقال:
«عاد السلطان من الري وقد اشتد مرضه مع اضطراب وسأم عظيمين، حتى انّه كان يغضب لأتفه الأسباب، وكان لا يطيق رؤية الاصحاء من الناس، اما إياز الذي كان عشق السلطان له فريداً من نوعه، فقد كان مريضاً ايضاً، وكان كلاهما محمولاً على محفّة(5) وضعت على ظهر فيل، وكانت المسافة بين محفة إياز ومحفة السلطان ستة كيلومترات، لذا خصص السلطان خمسين أو ستين من الملازمين له، أختير من
_______________________________
1- المصدر السابق، ج8 ص41، وفيه أيضاً كيف اتّخذ الخليفة إجراءات أخرى أدت إلى ازدياد المشاحنات بين السنة والشيعة.
2- مجمع الأنساب، ص64.
3- في آثار الوزراء ص150: «كان السلطان محمود شغوفاً بإستخدام ملامح الوجه»، ثم روى كيف ان وزيره الإسفراييني عندما جلب أحد الغلمان الملاح من تركستان، ألبسه ملابس النساء لكي لا يطلع جواسيس محمود على خبره، ومع ذلك علموا بالأمر وأرسلوا الخبر إلى السلطان مما كان سبباً في نكبة هذا الوزير وإقالته من الوزارة، والحادثة مذكورة ايضاً في دستور الوزراء ص138.
4- في البيهقي ص291 قول مسعود بن السلطان عن إياز هذا «إياز نشأ في العز والدلال، وكان كالظل لوالدنا، ولم يبتعد خطوة عن السراي».
5- المحفة كما في لسان العرب: مركب كالهودج، الا ان الهودج تضوع عليه قبة والمحفة لا تقبب.

بينهم عشرة ليكونوا بجانبه، بينما أختير عشرة أخرون ليكونوا بجانب إياز، حيث طلب إلى هؤلاء ان يقوموا بنقل أخبار إياز، ويحصوا حتى أنفاسه لحظة بلحظة، فكانوا يكتبون تقارير عن شرب إياز للعصير، ودرجة حرارة بدنه، ولعبه النرد والشطرنج وحديثه، ويقدمون ذلك للسلطان الذي كان يرى رأيه فيه، وقد عانت الحاشية والكتاب من ذلك العذاب الأليم، وظلّوا على هذا المنوال حتى عادوا إلى غزنين»(1).
مات السُلطان لدى وصوله غزنين في العام 421هـ، بعد ان خلف ذكريات بشعة في المدينة المنكوبة لسنين طويلة، تردد في ما بقى من كتابات بعض المؤرخين، مثل كرديزي الذي قال:
«ذكروا ان الأمير محموداً رحمه الله، عندما بلغه ان في مدينة الريّ ونواحيها كثير من الباطنية والقرامطة، قد أمر بان يحضروا كل متهم بذلك المذهب، ويرجموهم بالحجارة، وقد قتل كثيراً من أهل ذلك المذهب، كما قيّد جمعاً آخر منهم وأرسلهم إلى خراسان ليموتوا في القلاع والسجون»(2).
وقال مؤلف كتاب مجمل التواريخ والقصص المؤلّف بين 520 و525هـ:
«نصب المشانق الكثيرة وصلب كبار الديلم على الأشجار، والبس قسماً منهم جلود الثيران ونفاهم إلى غزنين، وأخرج من بيوتهم خمسين حملاً من كتب الروافض والباطنية والفلاسفة، ووضعها تحت أشجار المشنوقين وأحرقها... ولقد قام السُلطان بذلك بحضور كل علماء وأئمة المدينة وفضح سوء مذهبه وسيرتهم، واعترفوا بذلك»(3).
وقال مؤلف كتاب بعض فضائح الروافض الذي إنتهى من تأليفه عام 555هـ وهو يشيد بأعمال السلطان محمود:
«وما وقع في عهد السُلطان محمود الغازي على علماء الرافضة من قتل وصلب وتسويد وجوههم، وتكسير منابرهم، ومنع مجالسهم، وكلما جيء بمجموعة منهم شُدّت أيديهم بعمائمهم إلى أعناقهم، تلك الأيدي التي طالما أسبلوها في الصلاة، وكبّروا بها التكبيرات الخمس على الميت، وجددوا بها عقد النكاح بعد الطلاق ثلاثاً، وكان اولئك العظماء قد اطّلعوا على حقيقة مذهبهم، ولم ينخدعوا بالتقية وزخرف أقوالهم من إدعائهم الولاء للعترة ومذهب أهل البيت، وكانوا على علم بكذبهم»(4).
كانت جثث القتلى تملأ المدينة، فمنها ما كانت الدماء تغطيه بينما الحجارة قد تناثرت على أعضائه وحوإليه  فقد رجم كثيرون بالحجارة حتى الموت(5)، بينما كانت جثث آخرين مصلوبة على الأشجار(6)، حيث وضعت تحت تلك الجثث أكوام من كتب الفلسفة والإعتزال والتشيع واشعلت فيها النيران(7) التي كانت ألسنتها تطال اقدام واجساد المعلقين فوقها. مزيج من رائحة الورق المحترق واللحم الإنساني المشوي، الدخان يمتد بعيداً يسود الأُفق بلونه القاتم، بينما كانت طوابير طويلة من اهالي مدينة الري الذين
_______________________________
1- مجمع الأنساب، ص64.
2- گرديزي، ص418.
3- مجمل التواريخ، ص404، وروضة الصفاء، ج4 ص169، وابن الأثير، ج9 ص372، وفيه إنه «أحرق كتب الفلسفة ومذاهب الإعتزال والنجوم، وأخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل».
4- النقض، ص42.
5- گرديزي، ص418.
6- مجمل التواريخ، ص404.
7- مجمل التواريخ، ص404.

قُيدت أيديهم بعمائمهم إلى رقابهم(1)، وألبس قسم منهم جلود الثيران(2) يساقون إلى المنافي البعيدة في بلاد خراسان ليموتوا في السجون والقلاع(3).
مظاهر القمع الفكري ونتائجه
أولاً: تدمير الكفاءات الفكرية والإدارية:
اصدر السلطان محمود جملة من القرارات الإدارية التي إتخذها لتصفية الدواوين ـ إدارات الدولة ـ ممن يشك بكونهم من ذوي العلاقة بالفرق الضالة (!) التي دأب على قمعها وإبادتها كالشيعة والمعتزلة، حيث نجد تلك القرارات في نص فريد ذكره الوزير نظام الملك (المتوفى عام 485هـ) في كتابه (سياسة نامه) الذي الفه لأغراض تعليمية لما ينبغي ان يكون عليه الملوك أو الوزراء. لذا فإن ذكره لرسالة السُلطان محمود الغزنوي تدخل في هذا الباب التعليمي.
فقد نقل نص رسالة السلطان محمود ـ وهي طويلة ـ بدأها بذكر إنتصاره على الملك مجد الدولة البويهي، وسيطرته على بلاد الري، وطعن فيها بمذاهب أهالي مدن ونواحي تلك البلاد الذين أسماهم: الزنادقة والباطنية، ونسب اليهم الكفر ومجاهرتهم بعدم الإعتراف بالله سبحانه، والتجديف على الله والنبي (ص) والزنى، وعدم إيمانهم بالحج والصوم والصلاة والزكاة، وما إلى ذلك من إفتراءات هدفها التشهير وتشويه السمعة، تحدث عن كيفية إستعانته بجيش من الأتراك لفتح بلاد الري:
«فأنتدبت جيشاً من الترك، المسلمين الأطهار الحنفيين لحرب الديلم والزنادقة والباطنية، وإقتلاع جذورهم، حيث قتل بعض منهم بسيوفهم (بسيوف الحنفية)، وقيد آخرون والقوا في السجن، بينما شرد بعضهم في بقاع العالم.
وعهدت بكل الوظائف والأعمال إلى الغلمان والموظفين الخراسانيين الأطهار الذين كانوا إما حنفية أو شافعية، وكلا الطائفتين عدو للرافضة والخوارج والباطنية ومؤيد للترك، حتى لم ادع ولا كاتباً عراقياً(4)واحدا يخط بقلمه على الورق، لعلمي ان كُتاب العراق منهم (من اتباع فرق الرافضة والخوارج والباطنية) ويشغبون عليهم، ليخلوا العراق بهذا الإجراء ـ وبمرور الأيام ـ من سييء الدين»(5).
وكما يحدث في أمثال هذه المناسبات فإن ذوي الكفاءات يمكن ان يزاحوا من مناصبهم لمجرد نميمة أو حسد حاسد أو طمع في منصب أو مال، بينما يستولي النفاق والتملق وتقديم الطاعة والولاء على المواقع الحساسة في الدولة
_______________________________
1- النقض، ص42.
2- مجمل التواريخ، ص404.
3- گرديزي، ص418.
4- المقصود بالعراق هنا: بلاد الري والجبال وإصفهان وما جاورها.
5- سياست نامه، ص76 ـ 77، وفي دستور الكاتب، ق1 ج- ص225، قول السلطان ـ في نفس هذه الرسالة ـ «ولم أضع دقيقة واحدة في قلع وإستئصال الديالمة الزنادقة والباطنية».

ثانياً: إحراق المكتبات العامة.
إذا عرفنا مكتبة الصاحب بن عياد الخاصة كانت تحتوي على170000 كتاب كما صرح هو بنفسه(1)، وقد كان مقيماً في بلاد الري كما هو معلوم، فلنا ان نتصور مدى الكارثة التي حلت ببقية مكتبات الري العامة والخاصة ونخص بالذكر «بيت الكتب» الذي قال عنه المؤرخ أبو الحسن البيهقي:
«وأنا أقول: بيت الكتب الذي بالري دليل على ذلك، بعدما أحرقه السُلطان محمود إبن سبكتكين، فإني طالعت هذا البيت، فوجدت فهرس تلك الكتب عشر مجلدات، فإن السلطان محموداً لما ورد إلى الري، قيل له: إن هذه الكتب، كتب الروافض، واهل البدع، فاستخرج منها كل ما كان في علم الكلام، وأمر بحرقه»(2).
ترى كم فقد في تلك الحرائق من مصادر في شتى فنون المعرفة مما كان عوناً للباحثين من أهل العقل والإستقصاء والبحث؟
ثالثاً: الترحيل الإجباري للعلماء
وقد تمثل ذلك في ترحيل مجموعة من العلماء والباحثين والمحققين الذين شرّدهم السلطان محمود في البلدان أو ممن اصطحبهم معه إلى مقر السلطنة «غزنة» حيث لم يتمكنوا لخوفهم ولشدة الرقابة عليهم من التصريح أو الكتابة في امور التاريخ والسياسة وحتى تراجم اولئك الادباء والعلماء الذين كانوا بالأمس القريب في بلاد الري.
وتعود عادة السلطان محمود في استجلاب العلماء والادباء إلى بلاطه لفترة تسبق احداث عام 420 هـ لاسباب قيل انها تتعلق بالتجمل بهم في بلاطه لمباهاة سائر السلاطين والملوك، كما كان اغداقه عظيماً على الشعراء الذين دأبوا على تدبيج القصائد في مديحه وتمجيد فتوحاته، حيث قيل ان عددهم بلغ 400 شاعر ملازمين لبلاطه، إلاّ انّه كان شحيحاً مع العلماء حتى ان البيروني الذي أكرهه محمود الغزنوي على الاقامة في بلاطه منذ عام 408 هـ اشار إلى ذلك وكان يشير ايضا إلى ابنه السلطان مسعود اشارات فضحت بخله حتى قال انّه ـ اي السلطان ـ لم يشجعه أو يعطيه شيئاً طيلة 13 عاماً كان يؤلف فيها كتابه «تحقيق ما للهند».(3)
يقول كراتشكوفسكي وهو يتحدث عن البيروني:
«لما احتل محمود الغزنوي خوارزم، اخذ البيروني معه إلى غزنة عام 408 هـ بوصفه عنصراً لا يطمأن إليه، ولا تكاد تخلو مصنفاته المتأخرة بأجمعها من الشكوى المرة لما يلاقيه العلم من سوء التقدير، ولمصيره الشخصي الذي انتهى إليه هو نفسه، وليس في الاستطاعة النفاذ إلى جوهر شكايته، فهي بالنسبة لظروف ذلك الزمان كثيراً ما وردت على هيئة اشارات غامضة».
ويعلق على اختفاء عواطف البيروني الشيعية بقوله:
«وعواطف البيروني نحو الشيعة التي تنعكس في كتابه الآثار الباقية، قد اختفت بمرور الزمان، ومن
_______________________________
1- مقدمة كتاب الأغاني، ج1 ص32.
2- معجم الأدباء، ج6 ص259، وقد مر بنا آنفاً نماذج من إحراقه للكتب والمكتبات.
3- انظر تفصيلاً اكثر حول ذلك في تاريخ غزنويان، ج1 ص 131 ـ 135.

المحتمل ان يكون قد اضطر إلى خنق هذه العواطف فيما بعد، اثناء اقامته في الوسط السُنّي المتطرف لبلاط محمود الغزنوي».(1)
من المؤكد ان اجواء القمع والارهاب التي سادت في عهد محمود الغزنوي ضد الفرق الشيعية والمعتزلة هي التي أدت إلى خنق ما كان يمكن للبيروني وغير البيروني ان يكتبوه أو يتحدثوا به، هذا وحمل البيروني إلى غزنة كان في عام 408 هـ، ترى كيف كان الوضع بعد عام 420 هـ الذي رأينا فيه جانباً من اعمال السلطان محمود بالري وما جاورها؟
ومن العلماء الذين أجبرهم السلطان محمود على الاقامة في غزنة بسبب معتقداتهم نجد أسماء متفرقة مثل من ذكرهم اليماني قائلاً:
«أبو الفتح الاصفهاني، جمع في آخر عمره بين فضل وعلم، وكان في عنفوان شبابه دنّس نفسه وتابع الرؤساء ثم تاب، وورد الكتاب من محمود سلطان زمانه بحمل المعتزلة إلى حضرته بغزنة، فحمل من نيسابور ثلاثة نفر: هو، وأبو صادق امام مسجد جامع، وأبو الحسن الصابري المعروف بسيبويه لعلمه بالنحو، فبُعث بهم إلى غزدار فماتوا هناك وقبورهم بها».(2)
كما كان بعضهم ينقل إلى غزنة للاستفادة من كفاءاته الادارية أو العلمية مثل ابراهيم بن عبدالله الكاتب الطائي الذي قال عنه الثعالبي «نقل من الريّ إلى الحضرة بغزنة حرسها الله تعالى واستخدم في ديوان الرسائل بها، ثم ضُمّ إلى الشيخ العميد أبي الطيب طاهر بن عبدالله ليكتب في ديوانّه بالري».(3)
ومن الذين حملوا إلى غزنة الحكيم ابو الخير الخمار، الذي يمكن ان يكون اشتغاله بالحكمة والفلسفة سبباً للتشكيك به، فقد قيل:
«لمّا استولى محمود بن سبكتكين السُلطان (على خوارزم)، حمله إلى غزنة، وعمره جاوز المائة».(4)
مات محمود الغزنوي عام 421 هـ وحكم بعده ولده مسعود، وحكم كأبيه، وأخيراً انطوى بساط آل محمود، وأوكل امره إلى التاريخ، إلاّ ان الاسى الذي خلّفه غزو محمود للعقائد والاراء والكتب والمكتبات والتدمير الذي الحقه بكل ذلك، لم تنقض آثاره السيئة حتى اليوم على مجالات البحث العلمي والتاريخي، حيث يعاني هذان المجالان نقصاً مهماً في مصادر تلك الفترة التي اُحرقت تحت جذوع المصلوبين، أو اُضرمت فيها النيران وهي بمكتباتها العامة.
مصادر البحث
«الحرف «ف» امام المصدر، يدل على انّه مكتوب بالفارسية».
1ـ اثار البلاد واخبار العباد: زكريا بن محمد القزويني. بيروت د. ت.
2ـ آثار الوزراء «ف»: سيف الدين عقيلي، تحقيق مير جلال محدث، طهران 1985.
3ـ اسرار التوحيد في مقامات الشيخ ابي سعيد «ف»: محمد بن منور الميهني، تحقيق ذبيح الله صفا.
_______________________________
1- تاريخ الادب الجغرافي العربي، ج1 ص 246 ـ 252.
2- المنية والأمل، ص 199.
3- تتمة يتيمة الدهر، ج1، ص 131.
4- مختصر في ذكر الحكماء اليونانيين والمليين، مجلة فرهنك ايران زمين، المجلد 7، ص 315.

طهران 1969.
4ـ الإعلام: خير الدين الزركلي، بيروت 1986م.
5ـ الاغاني: أبو الفرج الاصفهاني. دار احياء التراث العربي بيروت، على طبعة دار الكتب.
6ـ انديشه هاي كلامي شيخ مفيد «ف»: مارتين ماك درموت. ترجمة احمد آرام. طهران 1984م.
7ـ بعض مثالب النواصب في نقض بعض فضائح الروافض «ف»: اشرنا إليه باسم «النقض» فقط: وهو للقاضي عبدالجليل القزويني، تحقيق ميرجلال محدث، طهران 1979م.
8ـ تاريخ الادب الجغرافي العربي: كراتشكوفسكي: ترجمة صلاح عثمان هاشم، القاهرة 1935م.
9ـ تاريخ اسماعيلية «أو» هداية المؤمنين الطالبين «ف»: محمد بن زين العابدين خراساني فدائي، تحقيق سيموينوف، طهران 1985م.
10ـ تاريخ بيهق «ف»: علي بن زيد البيهقي، تحقيق احمد بهمنيار، طهران، د. ت.
11ـ تاريخ الامم والملوك: محمد بن حرير الطبري، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، اوفست بيروت على طبعة دار المعارف.
12ـ تاريخ سيتان «ف» مجهول المؤلف، تحقيق ملك الشعراء بهار، طهران 1935م.
13ـ تاريخ جهان آرا «ف» القاضي احمد غفاري، طهران 1964م.
14ـ تاريخ الصلات بين الهند والبلاد العربية الندوي.
15ـ تاريخ غزنويان «ف» مكيفورد ادموند باسورث، ترجمة حسن انوشه. طهران 1983م.
16ـ تاريخ قم «ف»: الحسن بن محمد القمي، تحقيق جلال الدين تهراني، طهران 1982م.
17ـ تاريخ كرديزي «ف»: عبدالحي بن الضحاك، تحقيق عبدالحي حبيبي، طهران 1984م.
18ـ تاريخ كزيده «ف»: حمد الله مستوفي، تحقيق عبدالحسين نوائي، طهران 1983م.
19ـ تتمة يتيمة الدهر: ابو منصور عبدالملك الثعالبي، تحقيق عبّاس اقبال، طهران 1974م.
20ـ تركستان نامه «ف»: بارتولد. ترجمة كريم كشاورز، طهران 1987م.
21 تلخيص مجمع الآداب في معجم الالقاب: كمال الدين عبدالرزاق بن الفوطي. تحقيق محمد عبدالقدوس القاسمي، 1939 دون ذكر المكان.
22ـ دستور الكاتب في تعيين المراتب «ف»: محمد بن هند وشاه نخجواني، تحقيق عبدالكريم علي اوغلي علي زاده، مسكو 1964.
23ـ دستور الوزراء «ف»: خواند مير، تحقيق سعيد نفيسي، طهران 1987م.
24ـ روضة الصفا «ف»: مير خواند محمد بن سيد برهان الدين، طهران 1960م.
25ـ سياستنامه «ف»: خواجه نظام الملك طوسي، تحقيق جعفر شعار، طهران 1985م.
26ـ طبقات الشافعية: تاج الدين السيكي، تحقيق طاهر الطحناوي وعبدالفتاح الحلو، القاهرة 1967م.
27ـ العبر في خبر من غير: شمس الدين الذهبي، تحقيق فؤاد سيد، الكويت 1961م.
28ـ عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: احمد بن علي بن عنبة، تحقيق السيد محمد حسن الطالقاني، النجف الاشرف، 1961م.
29ـ عيون الأخبـار وفنون الآثار: ادريس بن عماد الديـن القرشي، تحقيق الدكتور مصطفى غالب، بيروت 1973م.
30ـ الفتح الوهبي في شرح تاريخ العتبي: المنيني، القاهرة، الطبعة الاولى، وقد اشير إليه اختصاراً بـ «اليميني».
31ـ فيلسوف ريّ محمد بن زكرياي رازي «ف»: الدكتور مهدي محقق، طهران 1974م.
32ـ الكامل في التاريخ: محمد بن محمد بن عبدالكريم الشيباني ابن الاثير، بيروت 1979م.
33ـ لباب الانساب والالقاب الاعقاب: فريد خراسان علي بن زيد البيهقي، مخطوط في المكتبة الرضوية بمشهد برقم 5740.
34ـ كليات جهار مقاله «ف»: أحمد نظامي عروضي سمرقندي، تحقيق محمد بن عبدالوهاب قزويني، اوفست طهران، على طبعة لندن لعام 1910م.
35ـ مثالب الوزيرين: علي بن محمد ابو حيان التوحيدي، تحقيق ابراهيم الكيلاني، دمشق 1961م.
36ـ مجمع الانساب «ف»: محمد بن علي شبانكاره اي، تحقيق مير هاشم محدث، طهران 1984م.
37ـ محمل التواريخ والقصص «ف»: مجهول المؤلف، تحقيق ملك الشهراء بهار، طهران د. ت.
38ـ المحبر: محمد بن حبيب، حيدر آباد 1942م.
39ـ مختصر في ذكر الحكماء اليونانيين والمليين: مجهول المؤلق، تحقيق محمد تقي دانش بزوه، كتب عام 672 هـ، نشر في مجلة فرهنك ايران زمين، المجلد السابع الصفحة 283 وما بعدها.
40ـ معجم الادباء: ياقوت الحموي، مصر د. ت.
41ـ معجم مقاييس اللغة: احمد بن فارس، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، اوفست، ايران عام 1404 هـ، على الطبعة الاولى المصرية.
42ـ الملل والنحل: محمد عبدالكريم الشهرستاني، تحقيق محمد بن فتح الله بدران، اوفست قم عام 1985م، على الطبعة المصرية.
43ـ المنتظم في تاريخ الملوك والامم: عبدالرحمن بن الجوزي، حيدر اباد الدكن 1359 هـ.
44ـ المنية والأمل في شرح الملل والنحل: احمد بن يحيى بن المرتضى اليماني، تحقيق الدكتور محمد جواد شكور، دمشق د. ت.
45ـ نزهة الالباب في طبقات الادباء: عبدالرحمن بن محمد الانباري، تحقيق الدكتور ابراهيم السامرائي، بغداد 1970م.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire