الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

lundi 25 février 2013

فتحي عثمان..إسلامي نقد الحركة الإسلامية وعارض أسلمة الغرب (ندوة)
كتبت بواسطة  عبدالرحمن يوسف

fathyosmaanعقدت جمعية مصر للثقافة والحوار صالونها الثقافي الشهري بمحافظة الإسكندرية شمالي مصر وذلك بمشاركة عدد من المهتمين بشأن الفكر الإسلامي من الباحثين للتباحث حول شخصية المفكر الإسلامي محمد فتحي عثمان الذي توفى في سبتمبر الماضي عن عمر يناهز 82 عام في الولايات المتحدة الأمريكية.

بدأت الصالون باستعراض مسيرة الدكتور محمد فتحي عثمان من الباحث أحمد زايد، مستهلا كلامه بالحديث عن نشأة عثمان حيث ولد بمحافظة المنيا عام 1928، وتلقى فيها ثم انضمامه فيما بعد إلي جماعة الإخوان المسلمين في الأربعينات من القرن العشرين واعتزازه بالتتلمذ على يد حسن البنا والشيخ محب الدين الخطيب والشيخ رشيد رضا ودراسته قبل سفره إلي أمريكا واستقراره بها حتى توفى في 11 سبتمبر الماضي.

وصف زايد شخصية عثمان بأنها نقدية مستشهدا بحوار دار بينه وبين الشيخ حسن البنا عقب انضمامه لجماعة الإخوان المسلمون طلب على أثره البنا منه كتابة مقالات بمجلة "الدعوة"  الخاصة بالإخوان آنذاك، بحيث يكتب فيها ما يراه من نقد للجماعة،فضلا عن إنشائه مع مجموعة ضمت الدكتور عبد الحليم أبو شقة والدكتور جمال الدين عطية والدكتور أحمد العسال وغيرهم، مجموعة "الشباب المسلم"، والتي كان الدكتور عبد العزيز كامل أبا روحيا لها، اهتموا آنذاك بنقد الحركة الإسلامية ومحاولة طرح حلول للإشكاليات التي تواجه تطورها،وهو ما  ظهر في قضايا الفكر الإسلامي حيث كان التفكير النقدي ملمحا أساسيا له.

وأشار زايد إلي دراسة عثمان للقانون في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، بعد دراسته للتاريخ حتى عام 48،ثم حصوله على الماجستير في التاريخ من جامعة القاهرة عام 62 ثم نيله درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة بريجستون عام 76 أي عند بلوغه 49 عاما.

اليأس والهجرة إلى أمريكا

الهجرة إلي أمريكا كانت مع الشيخ حسان حتحوت عام 1987 ، ويقول زايد إن أسباب عثمان لاتخاذ قرار الهجرة التامة بعدما عمل في الجزائر والكويت يعود إلي أسباب متداخلة منها يأسه من واقع الحركات الإسلامية والمجتمعات الإسلامية وأمله في ذات الوقت في دعوة الغرب إلي الإسلام تأثرا بفكرة سطرها صاحب مدرسة المنار الشيخ رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي مفادها أن الغرب المتحضر هو من يستطيع تحمل هذا الدين.

إلا أن زايد عاد وأوضح أن عثمان تراجع في أواخر حياته عن فكرة أسلمة الغرب مناديا بفكرتين تحل محلها الأولى هو السعي إلي الاتفاق على أخلاقيات عامة مع الغرب والأخرى هي أن يتعلم المسلمون وخاصة الإسلاميون منهم كيفية الحوار مع الغرب لأن – والكلام عن عثمان – " من إشكالية الإسلاميين أنهم يناقشون الغرب من واقع خلفية أمور هي مسلمات بالنسبة للإسلامي في حين أنها غير معترف بها أصلا عند الغرب الأمر الذي لا يساعد على حدوث أي تلاقي بينهما"،هذا فضلا عن انتقاده الشديد لما يعرف بالسلفية الحجازية – نسبة إلي مدن الحجاز ( السعودية فيما بعد ).

واستكمل زايد استعراض التاريخ الفكري لعثمان والمحاور الذي تركزت أفكاره حولها،مشيرا إلي سيطرة فكرة تطوير الشريعة عليه، والتي ظهرت جليه في كتابه "الفكر الإسلامي والتطور" فضلا عن تأسيسه مجلة "أرابيا" التي كانت تصدر بالانجليزية، وكتابه الذي أثار جدلا واسعا "آراء تقدميه في التراث الإسلامي"، دعوة الغربيين إلي الإسلام التي كان له مع الشيخ حتحوت جولات كثيرة لتنفيذها على أرض الواقع عبر النقاشات والكتابات في أمريكا والتي تصب في هذا الاتجاه.

جمود الحركات الإسلامية

أما المحور الثاني فكان نقد جمود الحركات الإسلامية التي رأي عثمان بحسب زايد "أن مطلبها الرئيسي يجب أن يكون الديمقراطية" لأنها " بددت طاقات كبرى في متاهات جزئية لا تعدوا أكثر من المراوحة في المكان"، واختتم زايد شرح محاور تفكير عثمان بأن أبرز كتبه جاء بالإنجليزية في ألف صفحة بعنوان "المفاهيم في القرآن دراسة موضوعية تفسيرية " يتناول عن مفاهيم القرآن الكلية والتصنيف الموضوعي لآياته.

أما آخر المحاور فكان التاريخي الذي هو أصل دراسته لكنه كان قليل الإنتاج فيه وكان أبرز ما أنتج هو كتاب مدخل في التاريخ الإسلامي وبعض المقالات التي دعا فيها عبد الرحمن الشرقاوي وطه حسين لعدم تناول التاريخ وتحليله من المنظور المادي فقط وتبني محاور أخرى في نظرتهم له.

الغرب والفكرة الإسلامية

أما الداعية الإسلامي محمد حسين فشدد على عدم تشابه النزعة النقدية لدى عثمان مع الاتجاه المغاربي في تغيير نمط الإسلام في مسألة تطور الشريعة ، مؤكدا أن نشأة عثمان وجيله في مرحلة اتسمت بالزخم الفكري ووسط حركة تنظيمية مميزة بقيادة الشيخ حسن البنا فضلا عن تمييز هذا الجيل بتركيزه على الدراسات الإنسانية بعكس جيل السبعينات من الإسلاميين الذي سيطر على قياداته دراسة المواد العلمية وهو ما أسهم في تكوين عقلية رحبة في تعاملها مع الآخر لإطلاعها على كثير من مجمل التاريخ الإنساني.

من جانبه انتقد الخبير والباحث في شئون الحركات الإسلامية حسام تمام فكرة محاولة أسلمة الغرب مثنيا على تراجع عثمان عنها،ومؤكدا أنه لو وجه نصف حجم الإنفاق الذي يوجه لأسلمه الغرب إلي إفريقيا لأصبحت كل القارة إسلامية منتقدا إجبار الغرب على تقبل الفكرة الإسلامية داعيا إلي الاهتمام بالإصلاح الداخلي للمسلمين وعدم تتبع الغرب في كل خطواته بحثا عن الإصلاح.

واتفق الدكتور عبد الفتاح ماضي الأستاذ بقسم العلوم السياسية في كلية التجارة بجامعة الإسكندرية مع  أحمد دراز  - أحد الحاضرين - في تحويل مبادئ الدين إلي واقع معاش وبناء النفس بالتوازي مع البحث عن النهضة للمجتمعات الإسلامية،مشددا – على أن المسلمون المهاجرين للغرب يتعرضوا إجبارا لشرح الدين والإجابة عن الأسئلة الموجه إليهم وهو ما لم يجد فيه استلابا اتجاه الغرب.

وقد شهد الصالون نقاشا فكريا حول ما طرح من موضوعات وأفكار في العرض لشخصية ومحاور فكر فتحي عثمان وذلك بين بعض رموز العمل العام والإسلامي في الإسكندرية للصالون مثل المهندس ممدوح علي مدير جمعية مصر للثقافة والحوار بالإسكندرية والمهندس هيثم أبو خليل مدير مركز ضحايا لحقوق الإنسان والمهندس سامي فرج أحد المهتمين بقضايا الإصلاح والتغيير في الإسكندرية.

مفكر وداعية إسلامي

توفي فتحي عثمان في مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأميركية في 11 سبتمبر 2010  عن عمر ناهز 82 عاما مضى منها أكثر من 30 عاما متغربا عن بلده مصر. بعد وفاته بأربعة أيام نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز مقالا وصفت فيه الراحل بأنه أكثر العلماء تأثيرا في العالم الإسلامي، وذكرت أنه نموذج فذ لعلماء المسلمين الذين ينطلقون من رؤية ليبرالية وإنسانية عميقة تستند إلى تعاليم الإسلام ونهجه. وتبعتها بعد ذلك بأربعة أيام صحيفة نيويورك تايمز التي نشرت مقالا مستفيضا عن الكاتب والمفكر الراحل وعدته أحد أهم علامات تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين.

صدر للراحل أكثر من 25 كتابا معظمها باللغة الإنجليزية، لكن مؤلفه "الفكر الإسلامي والتطور"، الذي صدر في بداية الستينيات، يعد أهم وأبرز مؤلفاته، حيث قدم فيه لأول مرة أطروحات جريئة حول إعادة صياغة الفكر الإسلامي بما يتواءم مع العصر، خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية وحقوق غير المسلمين.

لقد كان الراحل كاتبا ومفكرا ومعلما وخطيبا وداعية، وكان مناصرا للقضايا الإنسانية مجتهدا في القضايا المعاصرة، خلف العديد من الكتب ومئات إن لم يكن آلاف الرسائل والمحاضرات في شتى مواضيع الفكر الإنساني، كان جلها حول القرآن ومحاولات استجلاء معانيه وتنزيل قيمه على واقع المسلمين اليوم.

----------------------
*صحفي مصري مهتم بالحركات الإسلامية
* خاص بـ"الإسلاميون.نت"
المصدر

http://islamyun.net/index.php?option=com_k2&view=item&id=595:%D9%81%D8%AA%D8%AD%D9%8A-%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D8%B6-%D8%A3%D8%B3%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%86%D8%AF%D9%88%D8%A9&Itemid=162&tmpl=component&print=1
تركيا وإيران في تطور والعرب في تأخر
زهير الخويلدي
” ستكون لدينا سذاجة أكيدة إذا منحنا ثقة مطلقة للمجتمع الديمقراطي، معتقدين أنه طالما وُجد، يستبعد كل خطر يلحق بالحريات.”
يتجنب الفكر الحاذق منطق التعميم والتسرع في الحكم ويحترس من الاغتراب والموقف الإيديولوجي والنظرة الضيقة ويبحث عن التحليل العلمي والحكم الموضوعي ويتسلح بالوعي النقدي والرؤية الإستشرافية والبعد الوظيفي وإذا التزم في توجهه نحو نفسه بهذه المبادئ وحاول تشخيص حال العرب في العالم ومنزلتهم بالمقارنة مع جيرانهم وبالخصوص الفرس والأتراك بعد قرب انقضاء العقد الأول من القرن الواحد والعشرين فإنه يستخلص ويا للدهشة النتيجة التالية: تركيا وإيران في تقدم والعرب في تأخر. من البين أن هذا الاستخلاص المتشائم ليس تعميما إجماليا ولا حكما مسبقا ولم ينتج عن خضوع الفكر إلى موقف متحيز ورؤية أحادية الجانب كما يتبادر للأذهان منذ الوهلة الأولى وإنما صادر عن متابعة للأحداث التاريخية والمحطات السياسية وقراءة متأنية للمواقف السيادية الحضارية والمؤشرات الاجتماعية والثقافية وإحصاء دقيق للمعدلات والأرقام في التمنية والنمو والثروات البشرية والقدرات التقنية والصناعية. فماهي العوامل التي ساعدت على النجاح النسبي للتجربتين التركية والإيرانية؟ ولماذا وجد العرب أنفسهم بعد تفجر سلسلة الحروب المتناسلة في المنطقة العدوانية الغربية من الخارج والأهلية الكارثية من الداخل خارج التاريخ؟ وهل يمكن أن يستخلصوا جملة من العبر والدروس من إحراز كل من الجار الإيراني والتركي بعض التقدم؟
“العثمانيون الجدد” كما يحلوا لبعض الكتاب تسميتهم استطاعوا بفضل التجربة السياسية الناضجة لحزب العدالة والتنمية إحداث حراك حقوقي ومؤسساتي لافت للأنظار في البلاد تمثل في إجراء جملة من الاستفتاءات رسخت التقاليد الديمقراطية لتركيا الفتية وتفكيكهم المتدرج لقلاع العلمانية الراديكالية بعد تفوقهم الباهر في الانتخابات التشريعية والرئاسية وتصويت الشعب لصالح إصلاحات دستورية الأسبوع الماضي مما ساهم في تعزيز وضعها كقوة ديمقراطية عظمى جديدة في الشرق الأوسط وبروز أسماء محسوبة على التيار التحديثي في الساحة السياسية مثل أوردغان وغول وأوغلو ذات فاعلية على الساحة. من جهة ثانية حققت حكومة العدالة والتنمية نسبة نمو اقتصادي محترمة وتحولت تركيا إلى شريك تجاري بارز لعدد كبير من الدول وخاصة الاتحاد الأوروبي التي تسعى جاهزة للانضمام إليه ودول آسيا الوسطى والدول العربية والإفريقية. كما أن قضية قافلة الحرية التي قادتها سفينة مرمرة التركية والتي سعت إلى كسر الحصار عن غزة وقوبلت بحسم عسكري همجي أعادت أحفاد الإمبراطورية التركية إلى واجهة الصراع العربي الإسرائيلي وبروزهم كأهم قوة إقليمية داعمة لحقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة التسويفات الغربية. علاوة أن تحسن الأحوال السياسية الداخلية والإطلاق النسبي للحريات الدينية للأرمن بالسماح لهم بتنظيم قداس رسمي بعد توقف طويل تعتبر مؤشرات هامة على أهمية الإصلاحات السياسية التي حدثت في أنقرة رغم التحدي الذي مثله الصراع المسلح مع حزب العمال الكردستاني ورغم تصاعد القوى اليمينية الدينية والقومية الرافضة لإصرار حكومة على طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
أما حكام إيران وبعد انتقالهم المبطئ من الثورة إلى الدولة وخروجهم بأخف الأضرار من الحرب مع العراق وعدم تورطهم في مواجهة مع الغرب أثناء حرب الخليج والعدوان الأمريكي على أفغانستان وبعد محافظتهم على العروة الوثقى التي تجمعهم بسوريا وقوى المقاومة وتمسكهم بالخيار الإيديولوجي المعادي للصهيونية وحسن استثمار العائدات المالية من الثروات النفطية والاقتصادية في تطوير بنية تحتية صناعية إنتاجية قد جعلوا من بلدهم قوة إقليمية تتمتع بحصانة سيادية وتمثل رقما لا يستهان به في اللعبة السياسية الدولية وشريكا بارزا مع القوى الكبرى يمتلك مفاتيح العديد من الملفات الساخنة.
اللافت للانتباه أن هذه المكانة التي احتلتها إيران في الساحة السياسية الدولية قد تعززت بحسن إدارتهم للملف النووي وتمسكهم بحقهم في إنتاج الطاقة النووية لأغراض سلمية وبناء علاقات دبلوماسية متوازنة مع قوى دولية مهمة خارج عن الطوق الأمريكي مثل البرازيل وروسيا والصين. إضافة إلى تقوية قدراتهم العسكرية وإمكانياتهم على الردع وشروعهم في التعويل على أنفسهم في التصنيع الحربي وتطويرهم للقدرات القتالية على الصعيد البحري والجوي وذلك بالتعويل على الموارد الذاتية. أما على الصعيد السياسي فيمكن ملاحظة احتكام القوى السياسية المتنافسة إلى منظومة انتخابية تتميز بالخصوصية والتعددية داخل المرجعية الإسلامية وتتيح إمكانية التداول السلمي على السلطة بين المؤيدين لمرشد الثورة ونظرية ولاية الفقيه والرافضين لها من أنصار الخط الإصلاحي. علاوة على النمو الهائل الذي عرفته الثقافة والتعليم والفنون والشعر والفلسفة نتيجة التشجيع الحكومي على ذلك وحدوث تقدم في مجال السينما والدراما والرسم وتحول المدن الإيرانية إلى قبلة الفنانين ومكان تنظم فيه الملتقيات والمهرجانات العالمية.
في حين تاه العرب عن الوحدة الجامعة وتأجلت الثورة الثقافية وظهرت دعاوي التحريم والتكفير وتعثر مسار الإصلاح الديمقراطي وظل عمقهم الاستراتيجي العراقي ممزقا بين ملوك الطوائف وأمراء الحرب والشركات الأمنية وما تبقي من جيوش الاحتلال التي أعادت الانتشار ضمن دعاوي الانسحاب الجزئي والمناشدة بالتعويضات كمكافأة للمهمة النبيلة والخدمات الجليلة. كما تم زرع عملية انتخابية مصابة بالقصور الذاتي والشلل الهيكلي حيث استحال تحقيق الوفاق ضمن محاصصة فئوية وتأجل تشكيل الحكومة إلى وقت غير معلوم في ظل تخل قوى خارجية في الشأن السيادي الداخلي وتصاعد موجة الاحتراب الداخلي والعنف الدموي وبروز قوى معارضة ومقاومة. كما انشغلت الأنظمة السياسية بالمحافظة على الحكم وبوضع القوانين وتنقيح الدساتير حتى تلاءم واقع التشميل والتأبيد وأبقوا على خلافتهم المذهبية والطائفية والتاريخية ونسوا وحدة المصير وواجب التكتل بل فرطوا في القضايا الحيوية مثل الحقوق الفلسطينية وركبوا موجة الهدنة والتهدئة والسلم الاجتماعي والاستسلام وتراجعوا على المستوى التعليمي والصحي وشهدت اقتصادياتهم تراجعا خطيرا وصعوبات على الصعيد المالي نتيجة تأثر النظام المصرفي العربي بالأزمة الاقتصادية العالمية. ولكن الغريب أن النظام الرسمي للجامعة العربية قد واصل مسلسل التسلح العقيم وتحديث الجيوش وتكديس المعدات والأجهزة المتطورة وتضاعفت النفقات على شراء الأسلحة المتطورة وأثقلت كاهل ميزانيات الدول بالتضخم والديون وتعثرت مخططات التنمية وتعذر تحقيق الأمن الغذائي العربي وخسرت بعض الدول حرب المياه التي اندلعت مع قوى إقليمية مناوئة وعمت إجراءات الخوصصة والتفويت في القطاع العام ووقع اعتماد النهج الليبرالي في الاقتصاد في مختلف الدول العربية وغابت لليبرالية السياسية وإطلاق الحريات وبرزت الحلول الأمنية للاحتجاجات الاجتماعية التي تفاقمت نتيجة الفقر والتهميش والبطالة وانسداد الآفاق.
غير أن العيب الكبير الذي سقط فيه الملأ السياسي هو توجه البعض من العرب نحو استعداء الجار الإيراني والتخويف الدعائي من انتشار التشيع ومن عودة المد الصفوي والاستقواء غير المبرر بالغرب ضده وبث الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة من جهة والتشكيك في مدى نجاعة الاقتداء بنموذج العدالة والتنمية السياسي في المنطقة العربية من جهة أخرى والتذكير بالعثمنة والتتريك ومسؤولية الباب العالي في ضياع فلسطين والتقسيم الاستعمار للوطن العربي والاحتراز من هذا الحراك الديمقراطي محافظة على الأسلوب التقليدي في ممارسة الحكم وتنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة.
فماذا قدمت الأنظمة الحاكمة إلى الشعوب العربية من أجل تحقيق الترقي والنهوض؟ ومتى تعطى الأولوية إلى الديمقراطية وتطوير نظم التربية والتعليم ويعود البريق الى المعاهد والجامعات العربية وتفعل التنمية الاقتصادية واللحمة الاجتماعية وتولى حقوق الإنسان العربي بالعناية القصوى وتتحقق المصالحة بين العرب وجيرانهم الأتراك والفرس؟ وأليس في امتلاك هؤلاء الجيران وسائل المنعة والغلبة هو تقوية للأمن الحضاري في مواجهة التحدي العولمي؟ ألم يصدق فقيد الإسلام العقلاني محمد فتحي عثمان القول عندما أعلن:” إن الإسلام سيفيد من الظروف العالمية الجديدة في دعوته الإنسانية… بل سيسهم دون شك في تدعيم حياة السلام…وإذا كان القانون الداخلي قد أنهى عصر القصاص الفردي فإن الأمل أن ينهي القانون الدولي في مجال العلاقات الدولية عصر الحروب”" ؟
المراجع:
فريدريك لوبيز، الدروس الأولى في الفلسفة، ترجمة علي بوملحم، صدر عن هيئة كلمة ومؤسسة مجد، الطبعة الأولى، 2009.
محمد فتحي عثمان، الفكر الإسلامي والتطور، دار البراق للنشر، تونس، الطبعة الأولى 1990.
كاتب فلسفي
المصدر
http://www.doroob.com/archives/?p=47700

dimanche 24 février 2013

 الفكر الاعتزالي وأثره في الفكر الإسلامي المعاصر[ 5/8]
الفكر الاعتزالي وأثره في الفكر الإسلامي المعاصر[ 5/8]
محمد أحمد الزهراني

الفصل الثاني
المبحث الثالث
تأثير الفكر الاعتزالي على
الفكر الإسلامي المعاصر


أولاً: المدارس

ثانياً: الأفراد
أولا: تأثير الفكر الاعتزالي على الفكر الإسلامي المعاصر

سبق في المبحث الثالث من الفصل الأول ذكر أن اتخاذ منهج المعتزلة العقلي في التعامل مع الوحي وكل مناحي الحياة وإخضاعها للنظر العقلي، هو منهج متكرر عند بني آدم بمجرد ابتعادهم عن الاحتكام إلى الوحي الكريم، ولعل هذه هي السمة الأبرز في المنهج الاعتزالي، حتى صارت هي المعيار في وسم الجماعة أو الفرد بمنهج المعتزلة، فمجرد معرفة إنسان أو جماعة ما أنه يحتكم إلى عقله ويقدمه على كل حاكم آخر كاف في وصفه بأنه معتزلي، ولعل لهذا نصيباً من الصحة كبير، فإن أصول المعتزلة كلها هي في الحقيقة نتيجة لاجتهادات عقلية أبت الانصياع لنصوص الشريعة والتسليم لمنهج السلف في التعامل معها، بداية بالمنزلة بين المنزلتين وانتهاء بآخر أصول المعتزلة التي اشتهرت بها بل وفروعها.

ورغم تأثر الفكر الإسلامي المعاصر بكثير من فروع عقيدة المعتزلة، إلا أن التأثر الأكبر كان هو في إعطاء العقل المنزلة الأولى في التعامل مع النصوص الشرعية من حيث القبول والرد، ومن  حيث الفهم والتنزيل على الواقع، وهو ما سيظهر من خلال كثير من النقولات التي ستمر معنا في هذا المبحث، ومن الله الإعانة والتوفيق.

وسيكون هذا المبحث بالترتيب التالي:

أولاً:  توطئة لا بد منها في تحديد المراد بالفكر الإسلامي والمفكرين الذين نتحدث عنهم.

ثانياً: أهم المدارس الفكرية المعاصرة المتأثرة بالفكر الاعتزالي.

ثالثاً: أهم الأفكار الاعتزالية المنتشرة في الفكر الإسلامي المعاصر.

أولاً: توطئة لا بد منها:

لم يفتأ أعداء هذا الدين منذ ظهور الرسالة وإشراق نورها على العالمين، لم يفتئوا من الكيد له، ومحاولة إبطاله وتغييره وصرف أبناءه عنه، ظهر ذلك جلياً في الكيد الأول منذ زمن ابن سبأ ومن على شاكلته، واستمر على ذلك حتى هذا العصر حين بدأت الأمة تعود إلى دينها في صحوة دينية مباركة أزعجت الأعداء، وحركت قلوب الحاقدين، فعاد الملحدون من أبناء جلدتنا والحاقدون مدافعين عن هذا الدين (زعموا) وهم في الحقيقة كما جاء عن المصطفى عليه الصلاة والسلام (1): من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها.

يقول أحدهم في مقال له بعنوان: (أزمة المجتمع العربي وأزمة اليسار) (2):

(أن الإسلام كان ولا يزال، مركز الشرعية الأول والأخير بالنسبة للأغلبية الساحقة من الجماهير العربية التي نتعامل معها، وإن كل الطروحات الايدلوجية الأخرى لم تتمكن من الحصول حتى على بصيص من الوفاء والالتزام، الذي أمكن الوصول إليه عن طريق الاسلام).

وقد تبنى هذا المنهج في تغيير الإسلام وتبديله عدد غير قليل ممن ينتسبون - زورا- إلى الفكر الإسلامي المعاصر، ولم يخفوا هذا المنهج وهذا الشعور، بل ذكروه صراحة في عدة مناسبات لهم، ومن ذلك قول أحدهم في بحث له بعنوان: (الدين وأزمة التطور الحضاري) (3) يقول بعد مطالبته بتنظيم صفوف العلمانيين لابتعاث حملة فكرية إلى المجتمعات المسلمة لتحقق أهدافهم المنشودة، يقول: (إن هدف الحملة الفكرية المطلوبة هو أن نقنع الناس بوجوب الأخذ بالنظرية العلمانية الخالصة في كل ما يختص بأمور معاشهم ودنياهم، وهي لن تفلح في هذا إلا إذا أقنعتهم بأن الإسلام ـ دين كثرتهم ـ لا يتنافى مع النظرة العلمانية، بل ليس من المغالاة أن نقرر أن موقفه من أمور دنيانا هو موقف علماني صرف).

ويقول هذا (المنظِّر) نفسه في بحث سابق له عنوانه:(نحو ثورة في الفكر الديني) (4):(إذا كان الحديث عن الحياة لا عن العقيدة وما يتصل بها من شعائر العبادة، فإن القرآن لم يشرع لنا إلا التشريع الذي يكفل حياة أمة واحدة، هي أمة العرب، في زمن واحد هو زمن الرسول عليه الصلاة والسلام).

ويقول أحد كبار منظريهم مظهراً هدفهم من هذا التوجه (5): (أستطيع أن ألخص رأيي في ذلك… أن ما نأخذ من تراثنا هو الشكل دون المضمون).

فهم يتكلمون باسم الإسلام إذاً، لإلغاء الإسلام وتفريغه من حقيقته وكل ذلك باسم الإسلام والدفاع عنه.

هذه الحملة وهذا التيار في حقيقته لا يعدو أن يكون شرذمة من اليساريين والقوميين العرب والعلمانيين الذين شعروا بتهديد الصحوة الإسلامية لهم، فتنادوا لمحاولة صد نجاحات هذه الصحوة وتغيير مسار المنتسبين لها أو بعضهم على الأقل، فتنادوا لمؤتمر يوحدون فيه الجهود وينظموها، ونجحوا في عقد المؤتمر التأسيسي لجبهة علمانية موحدة في الكويت عام 1974م، نظمته جامعة الكويت تحت عنوان: (أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي) (6) انتهى هذا المؤتمر باعتماد المخطط (اليساري الفرنسي العربي) الذي يعتمد الهدم من الداخل مع تجديد اللوائح والشعارات، حيث استبدلوا: اليسار الإسلامي بشعار جديد هو: الفكر الديني المستنير.

وقد كان كل هذا تنفيذاً لاقتراح تقدم به ثلاثة مفكرين ماركسيين فرنسيين لهم اهتمام بالحركات الفكرية في العالم العربي وهم: (روجيه جارودي) و (مكسيم رودنسون) و (إيف لاكوست) وكانوا قد زاروا بعض بلاد العالم العربي في الستينات، ورأو أثر الصحوة الإسلامية وبداية تأثيرها في المجتمع وإزاحتها كل فكر دخيل، فوجهوا اقتراحهم بنقل مجال عداوة الدين إلى داخل التراث الإسلامي بدلاً من معارضة الدين الصريحة، كما كان حالهم من قبل، ولو اقتضى ذلك إعلان بعضهم تحوله إلى الإسلام بأي سيناريو تمثيلي مناسب، ومن ثم اتخاذهم الشعارات واللافتات المناسبة لكل ما يحقق أهدافهم (7).

وسياق الكلام السابق جميعه القصد منه هو بيان أن هناك فئة أو تياراً ينسب إلى الفكر الإسلامي المعاصر، وربما تكلم باسمه أو انتمى إليه، وليس له من ذلك شيء، وهم هؤلاء العلمانيين والقويميين واليساريين، ولذلك فلن يكونوا في مجال حديثنا هنا، فنحن إنما نتحدث عن الإسلاميين الذين تأثروا بفكر المعتزلة، ولا نتحدث عن من يريدون أن يحرفوا الفكر الإسلامي ويغيروا مضامينه إلى الماركسية والعلمانية.

انظر مثلاً إلى قول بعضهم (8): وهو يتحدث عن إثبات الإمام الأشعري لأركان الإيمان الستة، وأنه استنبطها من القرآن (كما يقول) في عصر الانتصارات وانتشار الإسلام والعلم، قال: (وهذا يحتم علي أنا أيضاً أن استنبط من القرآن عقائد جديدة… وأن أجعل للناس قواعد ستاً للعقيدة أيضاً، مقاومة الاستعمار، مقاومة التخلف، مقاومة الصهيونية، مقاومة التجزئة والتشرذم، مقاومة القهر ومقاومة الفقر والقرآن يمدني بذلك في قوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ"[سورة قريش].

فليس حديثنا عن هذا وأمثاله ممن يمكن أن يضعوا أركاناً جديدة للإيمان.

ولا يمكن أن نقبل أن يكون حديثنا هنا عن من قال (9):( أن مصدر المعرفة الإنسانية هو العالم المادي خارج الذات الإنسانية).

ويقول: (أن أئمة المتقين في فرقان محمد صلى الله عليه وسلم هم من أئمة العلم المادي وذوي التفكير العلمي البعيد عن الخرافة).

ويقول: (أن التسبيح في كتاب الله، معناه صراع المتناقضين داخلياً الموجودين في كل شيء).

ويقول: (القرآن كتاب الوجود المادي والتاريخي، لذا فإنه لا يحتوي على الأخلاق ولا التقوى ولا اللياقة ولا اللباقة ولا تنطبق عليه عبارة: هكذا أجمع الفقهاء، وإننا في القرآن غير مقيدين بأي شيء قاله السلف، إننا مقيدون فقط بقواعد البحث العلمي والتفكير الموضوعي وبالأرضية العلمية في عصرنا، لأن القرآن حقيقة موضوعية خارج الوعي فهمناها أو لم نفهمها).

وما سبق هو نَفَسٌ ماركسي تلبس لباس تفسير القرآن وقراءته قراءة معاصرة، يذكرك باقتراح الفرنسيين الماركسيين بغزو الإسلام من الداخل.

ولسنا حين نتحدث هنا عن (تأثير المعتزلة في الفكر الإسلامي) نتحدث عن من ينادون بعلمنة الإسلام صراحة ويطالبون بقراءة القرآن من خلال الفكر الغربي الماركسي، مثل من يقول (10): (نلاحظ أن الماركسية لم تعرف بصورتها الإيجابية حتى الآن، لا في الفكر الغربي المعاصر ولا في الفكر الإسلامي بشكل عام، نفس الشيء يمكن أن يقال بخصوص نقد القيم الذي قامبه (نيتشه) تجاه المسيحية، وهذا النقد قابل للتطبيق على الإسلام، وإذا ما نظرنا للتاريخ بكليته ضمن هذا المنظور فإنه يصبح ممكناً تعبيد الطريق وتمهيده نحو ممارسة علمانية للإسلام، يمكن للعلمنة عندئذٍ أن تنتشر في المجتمعات التي اتخذت الإسلام ديناً).

وصاحب هذا الكلام الغريب عن الفكر الإسلامي كله والاعتزالي أيضاً هو القائل (11): (إن إعادة قراءة القرآن من جديد قراءة نقدية متخصصة لا قراءة ايدلوجية تقليدية، هي الخطوة الأولى التي لا بد منها من أجل فهم المناخ الفكري والنفسي للشخصية العربية الإسلامية، أن هذه القراءة مضطرة لأن نأخذ في الاعتبار كل المسار الفلسفي والنقدي الذي قطعه الفكر الغربي ابتداءً من نيتشه وانتهاء بفرويد مروراً بطبيعة الحال بكارل ماركس).

فمثل هذا لا يُبحث في العقلانيين، وإنما في العلمانيين أو الماركسيين، أو سمهم أصحاب الدين العصري أو ما شئت.

ثانياً: أهم المدارس المتأثرة بالفكر الاعتزالي:

سبق الحديث عن (الفرق المتأثرة بالمعتزلة) وهي ما يمكن تسميتها بالمدارس العقدية القديمة، مثل الرافضة والخوارج والأشاعرة وغيرهم، وحديثنا هنا مقصور على المدارس الفكرية المعاصرة، ونقصد بها الجماعات أو المجموعات التي اتخذت لها منهجاً فكرياً أو اسماً مجدداً أو منهجاً تأثرت فيه بالفكر الاعتزالي، وبتقديم العقل على النص خاصة والاحتكام إليه عند التعارض، وسواء كانت جماعة منتشرة مشتهرة، أو كانت منحسرة محدودة بزمان أو مكان ما وصل علمنا إليها، إلا أنه لا بد من التنبيه على أنني هنا أذكر كل مدرسة وصفت بهذا الوصف، (المدارس العقلانية المعاصرة) أو (العصرانية) وسواء كانت قريبة مقبولة الطرح، أو بعيدة يغلب على آراءها الغرابة عن أصول الإسلام ما دامت تدعى العقلانية وتنتمي إلى الإسلام.

وخير أمثلة ذلك (مدرسة السيد أحمد خان) وهي التي سنبدأ بها هنا:

1.    مدرسة السيد أحمد خان في بلاد الهند (12):

أما مؤسسها فهو أحمد خان بن السيد محمد حنفي خان ولد سنة 1817م وخدم الحكومة الإنجليزية التي كانت تستعمر البلاد الهندية في ذلك الوقت وتنقل في عدة وظائف بها، سافر إلى انجلترا وعاد من المدافعين عنها والمطالبين باتباع خطاها في نشر العلوم الحديثة والاهتمام بالثقافة الأوربية، كان من أوائل من نادوا في القارة الهندية بالتوفيق بين الدين والعصر الحديث، وكان يطالب بإعادة تأويل النصوص وتفسير الدين في ضوء المستجدات المعاصرة، توفي سنة 1898م.

أما فكرة مشروعه الإصلاحي: فيمكن أن يكون مر بمراحل ثلاث (13):

المرحلة الأولى:

تبدأ بكتاب (جام جام) تاريخ سلاطين المغول، وقد استغرقت هذه المرحلة سبعة عشر عاماً من حياته، كان خلالها مدافعاً عن العلماء وعن آراءهم ولو ردّ النظريات الحديثة، ومن مؤلفاته في تلك المرحلة رسالة بعنوان: (القول الفصل في إبطال حركة الأرض) كما كان له أكثر من عشر رسائل تدور حول تأييد أقوال علماء الإسلام في مسائل مختلفة ورفض ما يعارضها من الآراء الحديثة.

والمرحلة الثانية من فكره:

تبدأ بفشل حرب التحرير ضد الاستعمار الإنجليزي وتمتد إلى عام 1869م قبل سفره إلى إنجلترا، وكان في هذه المرحلة يحاول التوفيق بين الإسلام والمسيحية، ومن مؤلفاته في هذه المرحلة: (تبيين الكلام في تفسير التوراة والإنجيل على ملة الإسلام) وكتاب آخر بعنوان: (أحكام طعام أهل الكتاب) وكتاب (تحقيق لفظ نصارى).

أما المرحلة الثالثة:

فكانت التحول الأكبر في فكره، وامتدت معه من 1869م إلى وفاته، وأهم ما يميز فكر هذه المرحلة:

1. الكره الشديد للعلوم الشرقية، واعتقاد أنها سبب التخلف، مع الإعجاب بعلوم الغرب وتفضيله المسيحيين على المسلمين.

2.  مناداته بالآخذ بعادات الغربيين وتقاليدهم وطريقة تفكيرهم، وذهب به الحماس إلى اعتبار سبيل أن التقدم هو محاكاة هؤلاء الإنجليز والسير على خطاهم وتعلم لغتهم، فكان منه بعد ذلك تفكير في افتتاح مركز تعليمي يخرج طلاب المستقبل وقيادات المجتمع الذين يديرون المجتمع على الطريقة الحديثة، وما أظن هذه إلا فكرة إنجليزية شريرة. فوضع اقتراحاً لعلاج الأمة والنهوض بها، في إنشاء مشروع (الكلية المحمدية الإنجليزية الشرقية) أو ما سمي فيما بعد: مدرسة العلوم، التي تحول اسمها بعد ذلك إلى: جامعة عليكرة الإسلامية.

وهو مشروع وقف في وجهه عند إنشاءه مجموعة من علماء الدين، ذلك أنه لم يتخذ في تدريس العلوم الحديثة فيه المنهج المادي الإلحادي فحسب، بل جاوز ذلك إلى إلزام طلابه اللباس الغربي والعادات الاجتماعية الإنجليزية.

يقول الأستاذ المودودي عن هذه الجامعة: وفي نظري أن تعليم الجامعة بشقيها الديني وغير الديني يخرج شخصاً لا يؤمن بتعاليم الإسلام).

ويصف الأستاذ محمد إكرام وضع هذه الجامعة بقوله: لو ناح نائح في طرف من أطراف العالم يدعو إلى هدم الإسلام أو القضاء على المسلمين.. لوجد أول الملبين في قاعات عليكرة … ).

ثم يذكر من أحوال تلك الجامعة والمتسبين لها، ويلخص ذلك كله بأن هؤلاء يمكن أن يجمعوا كل ما سبق في قولهم: أن عليكرة جامعة، وليست معبداً) (14).

كما اجتهد (السيد أحمد خان) في إخراج جريدة بمسمى: تهذيب الأخلاق كان ينشر فيها آراءه واجتهاداته العصرية (15).

وكان ممن شدد النكير على (السيد أحمد خان) ومبادئه (جمال الدين الأفغاني) رأس المدرسة العقلانية في مصر وشيخ الأستاذ محمد عبده رحمه الله. فقد وصفه بالزندقة وأن في صدره غل ونفاق وأنه يدعو الناس لنبذ الدين (16)، برغم ما كان يكرره (أحمد خان) من القول أنه يدافع عن الإسلام وأنه ينبغي أن يوجد طريقاً للمسلم المعاصر، يوفق فيه بين إسلامه وتقبله الحياة العصرية التي قامت إثر نهضة العلم الطبيعي.

ولا شك أن هذا الرجل وهذه المدرسة استطاعت أن تخرج أجيالاً متأثرة بفكرها العصراني عد منهم صاحب كتاب (مفهوم تجديد الدين) عدداً من علماء الهند كان من أبرزهم (غلام أحمد برويز) الذي صار من علماء باكستان وهو مؤسس جماعة (طلوع الإسلام) وقد سار على نفس الفكر والطريقة (17).

تأثر هذه المدرسة بالمعتزلة وأهم آراءها:

ظهر في بلاد الهند من المفكرين والمجددين من أمثال المودودي وإقبال الكثير، ولم يتجهوا هذا الاتجاه الغالي في التشبه بالغرب وتحكيم العقل في تأويل الشريعة وتفسير القرآن، بل إن بعضهم درس الفكر الغربي والفلسفة مثل إقبال، لكنه لم يصل إلى الدرجة التي وصل إليها (السيد أحمد خان) في نظره إلى كثير من أحكام الشريعة وتصرفه فيها بعصرانية وعقلانية نسخت كثيراً من أصولها.

ولعلي أزعم هنا أن البيئة التي نشأ فيها (السيد أحمد خان) بحكم انتشار عقائد الشيعة فيها (18)، والشيعة فرقة متأثرة بالمعتزلة في مسائل العقيدة، وتقديم العقليات، أقول أن هذه البيئة ربما كانت هي الأرضية التي جعلت عند (أحمد خان) هذا الاتجاه العقلاني في النظر إلى الحياة، والتعامل مع الأحكام الشرعية بعد ذلك بعقلانية امتزجت معها مادية الفلسفة الأوربية المعاصرة.

أما أهم آراءه فيمكن تلخيصها فيما يلي (19):

1.  اعتقاده أن القرآن هو الأساس لفهم الدين، ولا يقبل من حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام إلا ما يتفق مع العقل والتجربة.

2.  تأويلاته العقلانية لآيات الكتاب العزيز، فقصة إبراهيم عليه السلام مع الطيور الأربعة إنما هي رؤيا منام، ويونس عليه السلام لم يبتلعه الحوت وإنما أمسكه بفمه ثم لفظه، والملائكة هي قوى الطبيعة، والجنة والنار إنما هي إشارات رمزية لحالات نفسية من الألم والعذاب.

3.  كما يرى أن الأحاديث الواردة في الشئون الدينية هي الملزمة، أما أحاديث الدنيا فمتغيرة ولا يراد منها التزام الناس بها بل: أنتم أعلم بأمور دنياكم.

4.    ويرى أن الجهاد إنما هو للدفاع فقط ولا يشرع الجهاد لغير ذلك.

5.    وله آراء فقهية أخرى كثيرة وغريبة أحياناً.

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي (20) عن هذه المدرسة ومنشئها: (وعاد سيد خان إلى بلاده ونفسه ممتلئة إعجاباً بما شاهد ورأى وأخذ على عاتقه بعد عودته إلى أن مات أن يفتح أعين المسلمين إلى عظمة الحضارة الغربية ويشق لهم طريقاً للاقتباس منها واحتذائها، وكانت وسيلته إلى ذلك ثلاثة مبادئ: التعاون في المجال السياسي، واستيعاب علوم الغرب في المجال الثقافي، وتكييف وإعادة تأويل الإسلام في المجال الفكري).

2. مدرسة الأفغاني ومحمد عبده في البلاد المصرية:

فأما عن المؤسس فهو: محمد صفدر الحسيني ولد سنة 1254هـ قيل أنه أفغاني وقيل إيراني شيعي عاش في أفغانستان وهو الظاهر (21)، كان رجلاً ذكياً يتقن عدداً من اللغات، انتقل إلى مصر ودرس فيها التصوف والفلسفة وشارك بالمحفل الماسوني بها، وكان يظهر عداء الإنجليز ويحرض الناس ضدهم وضد عملائهم كما كان له صلات خفية بهم، تخرج عليه محمد عبده وسعد زغلول، وطرد من مصر فهاجر إلى دول عدة كان منها باريس التي أصدر منها مجلة (العروة الوثقى  وشاركه فيها تلميذه محمد عبده، وقد تضاربت حوله الأقوال والأحكام، لكنه بلا شك كان شخصية غريبة الأطوار والتصرفات توفي في الاستانة سنة 1314هـ.

أما محمد عبده فهو بن حسين خير الله آل التركماني ولد بمصر سنة 1266هـ تخرج من الأزهر سنة 1294هـ، اتصل بالأفغاني لما قدم مصر ولازمه وشارك بعد ذلك في الثورة العرابية فنفي إلى لبنان فسافر إلى شيخه الأفغاني في باريس وأصدرا من هناك مجلة العروة الوثقى، ثم سمح له بالعودة إلى مصر، وترقى به الأمر حتى صار مفتياً لمصر سنة 1317هـ كان ينادي بالإصلاح ويرى أن طريق ذلك الإصلاح التربوي، ولذلك لم يسلم الأزهر من نقده الحار توفي بالاسكندرية سنة 1905هـ (22).

أما مشروعهما الإصلاحي العقلاني:

فلقد نشأ (الأفغاني) في بيئة شيعية كما حقق ذلك بعض من ترجموا له (23) وكان هذا كفيلاً أن يجعله ينهج المنهج العقلي الرافضي في مسائل العقيدة وقضايا الدين، ثم زادته كتب الفلسفة والمنطق التي درسها ودرّسها إيغالاً في ذلك المنهج، وكذلك كان حال تلميذه الذي تأثر به ونشر فكره وهو لابس اللباس الأزهري، إضافة إلى أن عقيدة الإمام محمد عبده هي عقيدة الأزهريين الأشعرية المتأثرة بالمعتزلة.

فخلصنا إلى أن هذه المدرسة هي من أكثر المدارس العقلانية المعاصرة تأثراً بالمعتزلة.

ويمكن تلخيص فكرة هذه المدرسة ومنهجها فيما يلي (24):

أولاً: أنها أعطت العقل أكثر من حقه فقدمته على الوحي وفسرت به القرآن وأخذت به عند معارضة الأحاديث الصحيحة.

ثانياً: تأويل حقائق الدين ومسائله بما لا يعارض العقل من جهة ولا يعارض النظريات العلمية الغربية من جهة أخرى.

وبناء على هذا أولوا المعجزات والخوارق وأنكروا بعضها.

ثالثاً: تبرير الحضارة الغربية والثناء عليها ومجاراتها ولو على حساب جوانب من العقيدة والدين. وهذا مهد السبيل بدوره لسيطرة كثير من الأفكار والتقاليد الغربية في السياسة والمجتمع.

أما تأثرهم بالاعتزال فهو في جوانب منها (25):

ـ إنكار كثير من الأحاديث التي لا يقبلها العقل.

ـ إنكار بعض المعجزات ورد بعضها.

ـ عدم تعديل الصحابة كلهم وربما تنقص بعضهم عدداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ـ تحكيمهم العقل فيما يعارض الشرع.

ـ إنكار بعض الغيبيات أو تأويلها كالجن والسحر وغيرها.

ذكر الأستاذ أنور الجندي هذه المدرسة وأثرها في قوله (26):  إذا كان جمال الدين هو أول من فتح باب المنطق والفلسفة في الفكر العربي الحديث بحسبانه طريقاً إلى الدفاع عن الإسلام في مواجهة الفلسفات الحديثة، على نفس المنهج الذي اتخذه المعتزلة، فإن محمد عبده هو الذي عمّق هذا الاتجاه حتى أطلق عليهما: اسم (معتزلة العصر الحديث).

وقال اللورد كرومر في كتابه: مصر الحديثة (27): (أن محمد عبده كان مؤسساً لمدرسة فكرية حديثة، قريبة الشبه من تلك التي أسسها السيد أحمد خان في الهند مؤسس جامعة عليكرة).

3. مدرسة اليسار الإسلامي:

نشأت مدرسة اليسار الإسلامي تنفيذا لوصية الشيوعيين الفرنسيين (روجيه جارودي) ورفقاءه الذي رأوا أن غزو الإسلام يكون من داخله، وقد سبق الحديث عن ذلك (28)، فظهر في فترة السبعينات كتابات لأحمد عباس صالح حول (اليمين واليسار في الإسلام) كما نشطت محاولات لإيجاد تيار فكري جديد تحت شعار: اليسار الإسلامي، وفعلاً نشأ هذا التيار على يد: الدكتور حسن حنفي، وأصدر مجلة باسم (اليسار الإسلامي) لكنها لم يصدر منها سوى العدد الأول ثم توقفت.

واستطاع المنتمون لهذا التيار ومن تأثر بهم أن يجدوا مجالاً وفسحة للمشاركة في مجلة المسلم المعاصر، وإن أغلقت عليهم المشاركة بعد ذلك.

وبذل اليسار العربي بمختلف شرائحه محاولات لتثبيت هذا التيار لكنهم فشلوا، فاستبدلوا بهذا الشعار شعارً آخر هو (الفكر الديني المستنير) أو (تجديد الفكر الإسلامي) (29).

أبرز الأفكار والآراء:

لن نجد من يعطينا ما نريد من أفكار هذه المدرسة مثل متزعمها الدكتور حسن حنفي وفي مجلتهم (اليسار الإسلامي) فهو يقول في مقال له في هذه المجلة (30):

ـ ( أن كتابات (اليسار الإسلامي) استمرار لمجلة العروة الوثقى ولجريدة  المنار) (ص5).

ـ أما عن هدف اليسار فيقول: (يأتي اليسار الإسلامي كي يحقق أهداف الثورات الوطنية ومبادئ الثورة الاشتراكية وذلك من خلال تراث الأمة) (ص10) وهذا كان في بيان حقيقة هذه الدعوة التي سبق الإشارة إليها.

ـ يقول: (و (اليسار الإسلامي) أيضاً تطوير الإصلاح الديني الذي بدأ في المائتي سنة الأخيرة) (ص11).

ـ وعن تأثرهم بالمعتزلة يقول: (في علم أصول الدين (اليسار الإسلامي) تيار اعتزالي في الفكر الديني، يرى أن المعتزلة كانت تمثل ثورة العقل وعالم الطبيعة وحرية الإنسان) (ص14).

ـ وعن جهودهم في ذلك يقول: (يتفق (اليسار الإسلامي) مع أصول المعتزلة الخمسة، لذلك يحاول إحياء التراث الاعتزالي بعد أن تم القضاء عليه منذ القرن الخامس  الهجري) (ص14).

ـ وعن مهمتهم يقول: (ومهمة (اليسار الإسلامي) الكشف عن العناصر الثورية في الدين، أو إن شئنا بيان أوجه الاتفاق بين الدين  والثورة، أو بلغة ثالثة تأويل الدين على أنه ثورة) (ص38).

ـ ثم يقول في تمييع للدين وإلغاء لحدوده: (ولا يرى (اليسار الإسلامي) أي حرج في أن يعتبر نفسه إسلامياً أو عربياً أو عالمياً أو قومياً، دينياً أو علمانياً، فالإسلام دين وقومية، عربي وعالمي) (ص45).

4. حزب التحرير الإسلامي (31):

أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني (1908-1977) وهو من مواليد فلسطين أزهري تأثر في أول أمره بالإخوان المسلمين عمل معهم في الأردن، لكنه ما لبث أن أعلن إنشاء حزب مستقل سنة (1952م)، عمل أول حياته مدرساً ثم قاضياً، تنقل لنشر آراءه في بلاد الشام حتى توفي في بيروت.

أبرز الآراء والتأثر بالمعتزلة:

ـ إعطاء العقل أهمية زائدة في الجوانب العقدية.

ـ ينفي الحزب عقيدة عذاب القبر وظهور المسيح الدجال رغم وضوح النصوص وتواترها في هذا.

ـ يعطلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعلقون ذلك بقيام الدولة الإسلامية.

ـ لهم في كتبهم آراء فقهية غريبة قائمة على العقليات وإلغاء النصوص مثل قولهم بسقوط الصلاة عن سكان القطبين، وعن رجل الفضاء المسلم، وجواز أن يكون حاكم الدولة الإسلامية كافراً، وجواز النظر إلى النساء العاريات وغير ذلك.

ـ التركيز على الثقافة والسياسة وأنهما الطريق لإعادة الثقة بالإسلام.

5. الجبهة الإسلامية القومية في السودان (32):

وهي حركة إسلامية خرجت من عباءة (الإخوان المسلمون) وأعلنت عن نفسها رسمياً سنة 1954م واعتمدت في تربوياتها وأدبياتها كثيراً على نتاج حركة (الإخوان المسلمون) الأدبي والتربوي والحركي من مؤلفات البنا والقطبين والغزالي واعتمدت أيضاً على كتب المودودي ومالك بن نبي.

أما مؤسس هذه الحركة فهو الدكتور حسن بن عبد الله الترابي المولود سنة 1932م تلقى الفقه والعربية على والده ثم درس القانون وصار بعد ذلك محاضراً في جامعة الخرطوم، له مؤلفات كثيرة في قضايا الدعوة والمجتمع، وله اجتهادات عقلانية خالف بها النصوص أضرت بسمعته وسمعة الجبهة الإسلامية القومية، وجعلها تصنف من الأحزاب العقلانية باعتبار تنظيرات وآراء مؤسسها وأمينها العام الدكتور الترابي (33).
ثالثاً: أهم الأفكار الاعتزالية في الفكر الإسلامي المعاصر

لعلّ من الأنسب هنا بدل تعيين أشخاص بأعيانهم ثم جمع كلامهم الذي يدل على تأثرهم بالفكر الاعتزالي، لعلّ الأنسب أن نذكر أبرز الآراء والاعتقادات التي تسربت إلى الفكر الإسلامي المعاصر من المعتزلة، ثم يذكر بعض المفكرين والكتاب الذين تأثروا بهذه الأفكار ويذكر كلامهم الدال على ذلك، فإن ذكر الأسماء تبعاً هو أفضل من أن تذكر قصداً وأولاً،  خاصة في ضوء أن كثيراً من هؤلاء ربما لم يقل بهذه المقالة عالماً لما تقتضيه عارفاً أنها من فكر المعتزلة، وإذاً فحري ألا يذكر اسمه إلا تبعاً، ولعل هذا هو المنهج الأسلم في علاج مشكلاتنا اليوم، وهو أولى في واقع الدعوات المسلمة اليوم التي هي بحاجة إلى جمع الشتات أولى من العمل على ما يزيدها فرقة وبعثرة ونسأل الله أن يصلح حال المسلمين، ونحن هنا سنعرض بمشيئة الله تعالى لأبرز الأفكار التي تأثر بها الفكر الإسلامي المعاصر من عقيدة المعتزلة أو تأثراً بمنهجهم.

ولعلّ أشهر وأذكر عقيدة تأثر بها الفكر المعاصر والقديم مما اشتهرت به المعتزلة وعملت به واعتقدته هو قضية (العقلانية) التي تحكمت حتى في نصوص الوحيين، ولذلك فهي أيضاً الفكرة الأكثر انتشاراً وتأثيراً وجاذبية في ساحات الفكر الإسلامي، وسنفردها بإذن الله أولاً، لكننا سنجدها تسير معنا في مسائل العقيدة والأصول والمسائل المعاصرة وتلازم الاجتهاد العقلاني في شأنه كله.

أولاً: العقل ومكانته عند القوم

كان لزعماء المدرسة العقلية المعاصرة قصب السبق في هذا الباب وقد سبق ذكر شواهد من كلام كل من (السيد خان، والأفغاني، وعبده) عند الحديث عن مدارسهم، ونسوق هنا بعض كلامهم وكلام المنتمين لهذه المدرسة في هذه المسألة:

1.  يقول الشيخ محمد عبده رحمه الله (34): (اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا يُنظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دلّ عليه العقل).

وقال (35): (اتفق المسلمون إلا قليلاً ممن لا يعتد برأيه فيهم على أن الاعتقاد بالله مقدم على الاعتقاد بالنبوات وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل كتاباً ويرسل رسولاً).

ويقول عن منزلة العقل (36): (فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي والأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض).

2.  أما الدكتور حسن الترابي وهو من أبرز المحسوبين على التيار العقلاني المعاصر فهو يقول مضخماً لدور العقل في أمور الحياة (37):

(لم تعد بعض صور الأحكام التي كانت تمثل الحق في معيار الدين منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم، ولا توافق المقاصد التي يتوخاها لأن الإمكانات قد تبدلت وأسباب الحياة قد تطورات… وقد تزايد المتداول في العلوم العقلية المعاصرة بأقدار عظيمة وأصبح لزاماً علينا أن نقف في فقه الإسلام وقفة جديدة لنسخر العلم كله لعبادة الله وحده، ولعقد تركيب جديد بين علوم النقل التي نتلقاها كتابة ورواية وقرآناً محفوظاً أو سنة يدعمها الوحي، وبين علوم العقل التي تتجدد كل يوم وتتكامل التجربة والنظر، وبذلك العلم الموحد نجدد فقهاً للدين وما يقتضيه في حياتنا الحاضرة طوراً بعد طور).

3. ويأتي في نفس السياق كلام الدكتور محمد عمارة الذي هو من أعمدة الفكر المعتزلي المعاصر باعترافه هو في كثير من كتبه، يقول عن دور العقل مع الشرع (38):

(إن حدث وبدا أن هناك تعارض بين ظاهر النص وبرهان العقل وجب تأويل النص ـ دون تعسف ـ بما يتفق مع برهان العقل حتى تتوافق في هداية البشر الأدلة النابعة من مصدر واحد).

ويقول محمد عمارة أيضاً:

(لا بد من عرض النصوص المروية على البرهان العقلي فإذا تعارضت معه وجب تأويلها كي تتفق مع برهان العقل) (39).

4. ويقرر فهمي هويدي هذه المسألة ويسوق عليها الشواهد من كلام الأئمة الرازي والغزالي وابن حزم ويستشهد حتى بالجاحظ الذي لا أدري هل يعده من أئمة الدين أو ماذا يريد بالاستشهاد بقوله في مسألة مهمة كهذه.

لكن العجيب أن ينسب هويدي هذا القول لشيخ الإسلام ويزعم أنه يقول به، ثم يورد قول الرازي زاعماً أنه لشيخ الإسلام (40).

5. وقريباً من هذا المنهج سار الدكتور يوسف القرضاوي حين قال (41):

(حمل الكلام على الحقيقة مع وجود المانع العقلي أو الشرعي أو العلمي أو الواقعي مرفوض…).

فالواقع والعلم الحديث والعقل كلها ترد بها النصوص عند القرضاوي عفا الله عنه.

ثانياً: تأويل آيات القرآن الكريم

وهذا هو الدور التطبيقي لتقديم العقل على النص عند التعارض وهو كثير في كتابات المعاصرين ولنسق على ذلك أمثلة:

1.    الموقف من عقيدة الملائكة في القرآن:

أ. يقول الإمام محمد عبده: (وقد بحث أناس في جوهر الملائكة وحاولوا معرفتهم ولكن من وفقهم الله تعالى على هذا السر قليلون والدين إنما شرع للناس كافة، فكان الصواب الاكتفاء بالإيمان بعالم الغيب من غير بحث عن حقيقته لأن تكليف الناس هذا البحث أو العلم يكاد يكون من تكليف ما لا يطاق، ومن خصه الله تعالى بزيادة في العلم فذلك فضله يؤتيه من يشاء) (42).

وكأن هذا الكلام هو تمهيد لذكر الرأي الآخر الذي توسع في ذكره والاستشهاد له ومناقشة مخالفيه في كتاباته الكثيرة فهو يقول:

(ذهب بعض المفسرين مذهباً آخر في فهم معنى الملائكة وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع (مَلَكاً) ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني (القوى الطبيعية) إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة، والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمراً هو مناطها، وبه قوامها ونظامها لا يمكن لعاقل أن ينكره وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكاً وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموساً طبيعياً لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع ـ فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات).

ب. وكذلك الشيخ أحمد مصطفى المراغي ينقل هذا القول عن محمد عبده ويؤيده في تفسيره (43).

ج. ويفعل ذلك أيضاً رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار (44).

2.    تأويل المراد بالجن:

فأما محمد عبده فقال (45):

(يصح أن يقال أن الأجسام الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة وتسمى بالمكروبات يصح أن تكون نوعاً من الجن …).

ورشيد رضا يقول (46):

(ورد أن الجن أنواع منها ما هو من الحشرات وحشائش الأرض).

ويقول (47):

(وفعل جنة الشياطين في أنفس البشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء الميكروبات في أجسادهم وفي غيرها من أجسام الأحياء تؤثر فيها من حيث لا ترى فتتقى).

3.    وفي التأويل للمراد بالجنة في القرآن:

يقول محمد إقبال (48):

(وعلى هذا فإني أميل إلى اعتبار الجنة التي جاء ذكرها في القرآن تصويراً لحالة بدائية يكاد يكون الإنسان فيها مقطوع الصلة بالبيئة التي يعيش فيها ومن ثم فإنه لا يحس بلدغة المطالب البشرية التي تحدد نشأتها دون سواها من العوامل بداية الثقافة الإنسانية).

وهذا هو ذات ما يقرر محمد عبده حين يقول (49) بعد أن تحدث عن قصة آدم وإبليس في الجنة وإخراج آدم منها:

(وأما التمثيل فيما نحن فيه فيصح عليه أن يراد بالجنة الراحة والنعيم..).

وهو قوله (50):

(والخروج من الجنة مثال لما يلاقيه الإنسان من البلاء والعناء بالخروج عن حد الاعتدال الفطري).

ولزعماء المدرسة العقلية وأتباعها تأويلات أخرى في آيات القرآن الكريم مثل تأويلهم لسجود الملائكة لآدم، وتأويلهم لخلق عيسى عليه السلام وقضية الوحي وغيرها من القضايا (51).

ثالثاً: الموقف من قصص القرآن والمراد بها

فإن الأستاذ محمد عبده يقول (52):(بيّنا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين..).

ويقول رشيد رضا (53):

(ولا يشترط أن تكون القصة في مثل هذا التعبير واقعة بل يصح مثله في القصص التمثيلية، إذ يراد أن من شأن مثلها في وضوحه أن يكون معلوماً حتى كأنه مرئي بالعين..).

ورغم أن ما سبق ليس صريحاً في أن قصص القرآن ليست حقيقة، إلا أن هذا الرأي هو الذي مهد السبيل لأقوال تخرجت على هذه الأقوال أُتهم أصحابها بالكفر، منهم:

محمد أحمد خلف الله الذي ذكر أن ورود الخبر في القرآن لا يقتضي وقوعه، ثم قال (54): (هذه الوقفات الطويلة وهذا التفكير المستمر جعل العقل الإسلامي يقرر أخيراً، ويقرر في قوة أن التاريخ ليس من مقاصد القرآن، وأن التمسك به خطر أي خطر على النبي عليه السلام وعلى القرآن..).

ويقول في كلام أخطر من هذا بعد ذكر قوله تعالى:"وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا … الآية " [الفرقان: 5] يقول (55):

(وإذا كان القرآن لا ينفي ورود الأساطير فيه وإنما ينفي أن تكون هذه الأساطير هي الدليل على أنه من عند محمد عليه السلام وليس من عند الله، إذا كان هذا ثابتاً فإنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير، لأنا في ذلك لا نقول قولاً يعارض نصاً من نصوص القرآن..).

وهذا أيضاً هو الذي أسس لقول طه حسين في كتابه: في الشعر الجاهلي الذي قال فيه: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا أيضاً، ولكن ورود هذين الإسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي … ) (56).

وهكذا يصبح مجال تأويل وإنكار ما جاء في القرآن ليس مجالاً فقط لهؤلاء العقلانيين، بل صار فعلهم منهجاً يعمل به ويستدل له حتى المحسوبين على غير التيارات الإسلامية والذين لا يعلمون عن أصول الشريعة، مثل طه حسين ومن احتذى حذوه، والله المستعان.

رابعاً: موقفهم من أخبار الغيب وعلامات الساعة وأخبارها

ومن ذلك:

1.    عقيدتهم في نزول عيسى عليه السلام:

وهي عقيدة مستقرة عند أهل السنة جاءت فيها الأحاديث المتواترة معنوياً كما قال ابن كثير رحمه الله (57):  والأدلة عليه من الكتاب والسنة الصحيحة، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء منهم السفاريني رحمه الله (58).

أما أصحاب المدرسة العقلية المعاصرة فردوا ذلك:

فمحمد عبده إمام المدرسة يقول (59):

إن في حديث الرفع والنزول لعيسى عليه السلام آخر الزمان تخريجان:

(أحدهما أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي لأنه من أمور الغيب والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي…، وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس).

ويقول محمود شلتوت (60): (ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وإنه حي إلى الآن فيها وأنه سينزل آخر الزمان إلى الأرض).

ويقول عبد الوهاب النجار (61):

عن الأحاديث الواردة في شأن رفع عيسى ونزوله آخر الزمان:

(كل تلك الأخبار لا يمكن أن تنهض بإنشاء عقيدة، إذا خالفها إنسان وحاد عن الاعتقاد لها برئ من الإسلام وبرئ الإسلام منه).

وكذلك الدكتور الترابي يقول عن نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان (62):

(أنها تتعارض مع العقل، والعقل يقدم على النقل عند التعارض).

2.    وعن عقيدتهم في الدجال:

وهي عقيدة مجمع عليها عند أهل السنة، قال الإمام النووي (63):

الإيمان بها: (هو مذهب جميع المحدثين والفقهاء والنظار خلافاً لمن أنكره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة …).

ويذكر ابن كثير تواتر الأحاديث فيها (64).

ورشيد رضا يرى (65): أن أحاديث الدجال مشكلة، وأنها متعارضة تعارضاً يوجب إسقاطها) و (أن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها) (66).

3.    وعن عموم أشراط الساعة:

(لم يكن يثق الإمام محمد عبده إلا بأقل القليل مما روي في الصحاح من أحاديث الفتن) نقل ذلك عنه السيد رشيد رضا (67).

4.    وعن النفخ في الصور:

يقول محمد عبده (68): والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق فإذا هم قيام ينظرون …).

ويقول السيد عبد القادر المغربي (69):

(والنفخ في الصور في لسان الشرع قد يكون تمثيلاً وتصويراً لبعث الأموات وانبعاثهم من أرماسهم بسرعة تحكي سرعة المجتمعين وقد هتف بهم من بوق عظيم).

5.  وتورط أيضاً في تأويل بعض أشراط الساعة الدكتور القرضاوي، فقال في شأن بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح روما (70):

(ظني أن هذا الفتح سيكون بالقلم واللسان لا بالسيف والسنان …).

وعن نطق الحجر والشجر قال (71):

(فهل ينطق الشجر والحجر بلسان المقال أو ينطقان بلسان الحال بمعنى أن كل شيء سيكون في صالح المسلمين).

والدكتور القرضاوي أوجب الإيمان والتسليم بأحاديث الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها (72)، فليته سلم بهذه الأخبار أيضاً.

ولكل من رموز مدرسة التفسير العقلية تأويله في أحداث يوم القيامة مثل انشقاق السماء ودك الأرض والجبال ورجف الأرض وتسجير البحار ونشر الصحف وغير ذلك، محاولين تقريب أمر البعث إلى عقولهم ومحاولة جعلها أموراً تقوم على الأصول العلمية التي يرونها ويزعمونها (73).

خامساً: عقيدتهم في الولاء والبراء وتقارب الأديان

قد قرر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كفر اليهود والنصارى كما في قوله: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ …" [البينة: 6].

وروى مسلم رحمه الله: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:

(والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) (74).

ودين الإسلام هو خاتم الأديان، وناسخ لها جميعاً ولا يقبل الله من أحد سواه، على هذا إجماع علماء الأمة والحمد لله. قال الله تعالى: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [آل عمران:85].

أما أهل وحدة الوجود قديماً وحديثاً، والماسونيون الجدد ومن تأثر بهم، فإنهم يرون أن الملل الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلام إنما هي بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين، وأن كلها يوصل إلى الله تعالى، وتأثر بهذه الدعوة العقلانيون المعاصرون الذين يحكمون العقل في عقيدتهم قبل النص، فقال جمال الدين الأفغاني مثلاً (75):

(إن الأديان الثلاثة كلها أساسها واحد، وإنما يوسع شقة الخلاف بينها اتجار رؤساء الأديان بها …).

وهذا الاعتقاد هو الذي سعى باتجاهه الإمام محمد عبده حين أنشأ جمعية سماها: جمعية التأليف والتقريب بين الأديان (76).

وهو بطبيعة الحال عملٌ يعبر عن اعتقاد.

يقول الكواكبي (77): (يا قوم وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين، أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد وما جناه الآباء والأجداد).

ويقول الدكتور الترابي  أيضاً بعد أن يطمئن مواطنيه المسيحيين على أن أصول ديننا تسعنا وتسعهم يقول (78):

(نحن وهم سواء في الإيمان بمعاني التوحيد والأخلاق والعبادة لله والمسئولية أمام الله …).

وشارك في هذه القضية وتحمس لها الشيخ أحمد كفتارو أيضاً، واجتهد في نشرها والدعوة لها من خلال المؤتمرات والمقالات في كثير من الصحف، فهو يقول (79):

(أنه لا اختلاف في الجوهر ولا تباين بين الأديان السماوية …).

وهكذا تختلط قضية التمايز بين الإسلام وغيره من الأديان عند هؤلاء، فيذهب تبعاً لذهابها التفكير في الموالاة والمعاداة بحسب الدين والعقيدة، ويمكن أن يكون الملحد أخاً لنا والعلماني عالماً من علمائنا كما ستراه في كلام بعضهم قريباً.

يقول الدكتور القرضاوي عفا الله عنه (80): نحن والعلمانيون متفقون (على احترام الأديان السماوية لغير المسلمين …).

ويقول (81): مخاطباً اليهود:

(أننا لم نحاربكم من أجل عقيدتكم اليهودية، ولا عنصريتكم السامية..).

ويا سبحان الله، إذن لماذا نقاتل اليهود ويقاتلوننا وأين تذهب تصريحاتهم في ذلك، وأين قول الله تعالى: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ " [البقرة: 120].

وانظر أسوأ من هذا الكلام في قول فهمي هويدي وهو يصف مؤتمراً عقد بين الإسلاميين والعلمانيين (82):

(الاكتشاف في الأمر أن الإسلاميين تبينوا أن العلمانيين ليسو كائنات غريبة تنفث الشر والفتنة والإلحاد).

ثم يقول عن المؤتمر (83):

(مثّل العلمانيين فيه أحد علمائنا الأجلاء هو الدكتور فؤاد زكريا..).

فمتى أصبح العلمانيون علماء أجلاء في نظر المسلمين.

ولذلك يدعو هويدي إلى إلغاء الجزية عن أهل الكتاب حين يقول (84):

(من غرائب ما قيل في هذا الصدد تعريف ابن القيم للجزية بأنها هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالاً وصغاراً، وإن هذا يتنافى مع روح الإٍسلام، ودعوته للمسامحة بين الناس جميعاً).

أما عبد الله غزالي فيشرح معنى الإسلام بقوله (85):

(الإسلام هو أن تسلم وجهك لله وأنت محسن، وأي امرئ كان هذا حاله فإنه مسلم سواء كان مؤمناً بمحمد أو كان من اليهود أو النصارى الصابئين).

ويسير في نفس السير  الدكتور محمد عمارة حين يقول (86):

(دين الله واحد وهو الإسلام "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ" [آل عمران: 19] لكن الإسلام الذي هو دين الله الواحد ليس هو فقط كما يظن البعض شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والمسلمون ليسوا فقط أتباع محمد صلى الله عليه وسلم).

وكذلك قال الدكتور العوا:

(لغير المسلمين من المواطنين من الحقوق العامة والخاصة ومن حق تولي الوظائف، مثل ما للمسلمين بلا زيادة ولا نقصان) (87) وهكذا بإطلاق.

ثم يقول عن تقسيم الدور إلى دار حرب ودار إسلام (88):

(إن الرأي الذي يرجحه الفقه المعاصر أن الاجتهاد القديم بمثل هذا التقسيم قد انقضى زمانه وأن الفقه المعاصر يجب أن يتوجه صوب واقع العلاقات الدولية المعاصرة ويجتهد في بيان الجائز منها والممنوع).

ونكتفي بما نقلنا في هذا الباب هنا، لكثرة النقول عن كثير من الكتاب الإسلاميين الذين يؤيدون هذه العقيدة اليوم عارفين بها، أو متأثرين فيها بالفكر العقلاني المعاصر والله المستعان.

يقول الترابي: (فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين… دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا نتفاهم بالفصحاء ونتراحم بالإخاء ونتواسى في الضراء ونتساوا في السراء دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط، دعونا نجتمع على كلمة سواء ألا وهي، فلتحي الأمة فليحيى الوطن فلنحي طلقاء أعزاء).

ويقول عبد الله النديم الحسني (89):

(يا بني مصر ليعد المسلم منكم إلى أخيه المسلم تأليفاً للعصبية الدينية وليرجع الاثنان إلى القبطي والإسرائيلي  تأييداً للجامعة الوطنية وليكن المجموع رجلاً واحداً، يسعى خلف شيء واحد هو حفظ مصر للمصريين …).

أما حسن صعب فيقول (90):

(امتازت علاقة محمد بالمسيحيين العرب بالصداقة لا بالعداوة…، والصداقة المسيحية الإسلامية لازمة لسلم العالم وللتفاهم الإنساني الحقيقي).

ويقول فهمي هويدي (91):

(تحتاج قضية المسلمين والناس إلى قدر من المصارحة، وقدر أكبر من المراجعة والتصحيح، إذ ليس صحيحاً أن المسلمين في هذه الدنيا صنف متميز ومتفوق من البشر لمجرد كونهم مسلمين، وليس صحيحاً أن الإسلام يعطي أفضلية للمسلمين ويخص الآخرين بالدونية وليس صحيحاً أن ما كتبه أكثر الفقهاء في هذا الصدد هو دين ملزم وحجج لا ترد، إنما هو اجتهاد يصيب ويخطئ…

إن دعاوى التميز على الآخرين وتكريس هذا التميز من جانب الفقهاء إنما تستخدم لغة ليست مقبولة ديناً فضلاً عن أنها لغة باتت محل إدانة في هذا العصر..).

وهذا كلام واضح في المطالبة بإلغاء تميز دين الإسلام وأهله، وتقرير بأن المسلمين وغيرهم سواسية.

فأين قوله تعالى:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران: 110].

ويقول د. حسن الترابي (92): (علينا أن نعيد تصنيف التقسيمات السابقة للأديان ونضعها في إطار معادلة جديدة، دينيون وغير دينيين..).

ثم يتابع بقوله: (فالدين عالمي والله للجميع، والله لم يرسم الحدود الطبيعية السياسية لأن الأديان جميعها عالمية..).

سادساً: الموقف من حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام ونقلته إلينا رضي الله عنهم والتشكيك في منهج المحدثين:

وهو باب يطول الحديث فيه لكثرة خوض العقلانيين فيه وكلامهم عنه وإتيانهم بأصول جديدة في هذا الباب.

1.    خذ مثلاً لذلك بتقسيمهم الحديث إلى تشريعي وغير تشريعي:

ومن زعمائهم في ذلك السيد أحمد خان الذي كان يرى أن من السنة ما هو أحاديث خاصة بالأمور الدينية وهي الملزمة، وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية وهي ليست ملزمة للمسلمين ولا داخلة في مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم (93).

ويقول الدكتور محمد سليم العوا، وهو يعلق على حديث [ أنتم أعلم بأمور دنياكم ] (94):

(لو لم يكن غير هذا الحديث الشريف في تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعاً لازماً وقانوناً دائماً لكفى..).

وسبق هؤلاء الدكتور شلتوت حين قال (95) بعد تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، وبعد تقسيم السنة غير التشريعية يقول: (وكل ما نقل من هذه الأنواع ليس شرعاً يتعلق به طلب الفعل أو الترك، إنما هو من الشئون البشرية التي ليس مسلك الرسول فيها تشريعاً ولا مصدر تشريع..).

والدكتور عمارة كذلك ممن يرى أن من السنة ما هو غير تشريعي، فيقول عن هذا النوع بعد ذكره النوع الأول (96):

(والسنة غير التشريعية وهي تتعلق باجتهاد الرسول في فروع المتغيرات الدنيوية سواء في السياسة أو الحرب أو المال، وكل ما يتعلق بإمامته للدولة الإسلامية أو بقضائه في المنازعات أو … الخ كلامه).

2.     وكذلك مواقفهم من أحاديث الآحاد وأحاديث الصحيحين:

والحق أن لهم موقف مخزٍ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا به كثيراً من سنته وشريعته مرة بوصفها أحاديث آحاد ومرة بأنها لا توافق العقل.. وثالثة بالقدح في نقلتها إلينا كما سيأتي.. فليت شعري ماذا بقي من دين محمد عليه الصلاة والسلام.

يقول الشيخ رشيد رضا([1](97):

(أصول العقائد وقضايا الإيمان التي يكون بها المرء مؤمناً لا يتوقف شيء منها على أحاديث الآحاد).

والشيخ محمد الغزالي يؤيد ذلك بقوله (98):

(العقائد أساسها اليقين الخالص الذي لا يتحمل أثارة من شك، وعلى أي حال فإن الإسلام تقوم عقائده على المتواتر النقلي والثابت العقلي ولا عقيدة لدينا تقوم على خبر واحد).

ورشيد رضا أيضاً يقول (99):

(أن البخاري لا يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر…، وأن في البخاري أحاديث في أمور العادات والغرائز ليست من أصول الدين ولا فروعه…).

ويقول الدكتور الترابي (100):

(لا بد لنا أن نعيد النظر في الضوابط التي وضعها البخاري، فليس هناك داع لهذه الثقة المفرطة في البخاري).

3.    موقفهم من الصحابة ونقلة الشريعة:

منذ  عهد المعتزلة الأوائل وحملة الشريعة تشن عليهم حملات ضارية شديدة، واصلها المستشرقون ثم سايرهم عليها العقلانيون المعاصرون.

يقول محمد أبو ريّة (101):

(أن القول بعدالة جميع الصحابة وتقديس كتب الحديث يرجع إليها كل ما أصاب المسلمين من طعنات أعدائه، وضيق صدور ذوي الفكر من أوليائه، ذلك بأن عدالة جميع الصحابة تستلزم ولا ريب الثقة بما يروون، وما رووه قد حملته كتب الحديث بما فيه من غثاء، وهذا الغثاء هو مبعث الضرر وأصل الداء..).

ويندد الغزالي ببعض الصحابة وما رووه حين يقول (102):

(والواقع أن حديث سلمان (الفارسي) ليس إلا تعبيراً عن حالة نفسية خاصة ولا يعطي حكماً شرعياً عاماً..).

ويقول (103):

(والخطأ غير مستبعد على راو ولو كان في جلالة عمر..).

وكل ما سبق هو في ذكر موقفهم من السنة ونقلتها رضي الله عنهم.

سابعاً: موقفهم من الجهاد

والجهاد ركن من الدين واجب على الكفاية، به عز المسلمين وفلاحهم، وبتركه يذلون ولا ينزع عنهم الذل إلا بمراجعة دينهم.

ومن الجهاد ما هو هجومي ومنه ما هو دفاعي، لكن أصحاب المدرسة العقلية المعاصرة قصروه على جهاد الدفع فقط، ومواقفهم في ذلك أيضاً متفاوتة:

فالسيد أحمد خان كان يرى أن الجهاد لا يشرع إلا للدفاع عن النفس فقط ولا يشرع للدفاع عن الأرض أو غيرها (104).

ويقول محمد عبده (105):

(إذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي المؤمنين أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويعتدي على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الأرواح ولا لأجل الطمع والكسب).

وكأن الهدف الوحيد للجهاد هو عدم منع الدعوة.

ثم يقول: (وجملة القول في القتال أنه شرع للدفاع عن الحق وأهله، وحماية الدعوة ونشرها).

وعبد الوهاب خلاَّف أيضاً يؤيد هذا الرأي حين يقول (106):

(النظر الصحيح يؤيد أنصار السلم، القائلين بأن الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على المسالمة والأمان لا على الحرب والقتال، إلا إذا أريدوا بسوء لفتنتهم عن دينهم أو صدهم عن دعوتهم، فحينئذٍ يفرض عليهم الجهاد دفعاً للشر).

والدكتور محمد أبو زهرة يرى (107):

(أن الأصل هو السلم وأن الحرب من إغراء الشيطان).

وهو معنى قول الغزالي رحمه الله (108):

(الجهاد حق لتأمين الدعوة وهزيمة الفتانين).

والذي شرحه بعد ذلك  في كلام له طويل معناه هو ما نحن فيه.

وحسن الترابي يرى أن (109):

(القول بأن القتال حكم ماض قول تجاوزه الفكر الإسلامي الحديث في الواقع الحديث..).

وفهمي هويدي كبقية القوم يقول (110):

(منذ البداية سلّح الله المسلمين بالكلمة وكان أول ما أنزل على نبيه هو: "إقرأ" وليس (اضرب أو ابطش) …، كذلك فإن القتال في التصور الإسلامي ينبغي أن يظل منعطفاً يُكره إليه المسلمون، أو نوعاً من الهبوط الاضطراري الذي يعترض المسار الطبيعي لرحلة التبليغ الإسلامية).

ويرى محمد عمارة (111):

إن (الذين يكفون الأيدي عن قتالنا ويلقون حبال السلام إلى عالم الإسلام وأهله لا سبيل لنا عليهم..).

ويقول:

(القتال في الإسلام سبيل يلجأ إليها المسلمون عند الضرورة… ضرورة حماية الدعوة... سيان كان ذلك القتال دفاعياً تماماً أو مبادأة يجهض بها المسلمون عدواناً أكيداً أو محتملاً فهو في كل الحالات صد للعدوان… أما إذا جنح المخالفون إلى السلم وانفتحت السبل أمام دعوة الإسلام ودعاته وتحقق الأمن لدار الإسلام فلا ضرورة للحرب عندئذٍ ولا مجال للحديث عن القتال باسم الدنيا كان ذلك الحديث أو باسم الدين).

ويردد هذا الرأي أيضاً البوطي في كتابه (الجهاد في الإسلام) (112).

والزحيلي في كتابه (آثار الحرب في الفقه الإسلامي) (113).

وفتحي عثمان في (الفكر الإسلامي والتطور) (114).

وشوقي خليل في (التسامح في الإسلام) (115).

ومالك بن نبي في (الفكرة الأفريقية الآسيوية) (116).

وكتابه (في مهب المعركة) (117).

وجودت سعيد في (مذهب بن آدم الأول) (118).

وخالص حلبي في (النقد الذاتي) (119).

وغيرهم كثير.

ثامناً: العلاقة بين الدين والدولة

تقرير العقلانيين المعاصرين أن من الوحي ما هو تشريعي ملزم ومنه ما ليس ملزم، جعلهم يقفون من النصوص الشرعية في شأن الحكم وشؤون الدولة موقف المعارض والرافض.

فهذا محمد خلف الله بصراحة نادرة يرى (120):

(ضرورة انعتاق الأحكام من اسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية التي تحقق لها الحرية والتقدم المذهلين، وإن خروج المعاملات من نطاق الشرع إلى نطاق القانون قد حقق لها ألواناً من الحرية والانطلاق لم يكن لهم بها عهد من قبل).

ويقول محمد عمارة (121):

(نحن مطالبون حتى نكون متبعين للرسول بالتزام سنته التشريعية أي تفسير القرآن لأنها دين، أما سنته غير التشريعية ومنها تصرفاته السياسة والحرب والسلم والاجتماع والقضاء وما شابهها من أمور الدنيا، فإن إقتداءنا به يتحقق بالتزامنا المعيار الذي حكم تصرفه صلى الله عليه وسلم فهو كقائد للدولة كان يحكم منها على النحو الذي يحقق المصلحة للأمة، فإذا حكمنا (كساسة) بما يحقق المصلحة للأمة كنا مقتدين بالرسول، حتى ولو خالفت نظمنا وقوانينا ما روي عنه في السياسة من أحاديث لأن المصلحة بطبيعتها متغيرة ومتطورة).

ويقول د. عمارة (122):

(أن للدين مفاهيم عليا ومثلاً عليا ثم للناس أن يحددوا ويشرعوا ويطوروا حياتهم وفق المصلحة بعد ذلك).

أما محمد رضا محرم فيقول (123):

(الديمقراطية بلغة العصر والشورى بلغة الشرع.. في المجتمع المعاصر تعمل في تلك المساحة ذاتها التي يعمل فيها الاجتهاد.. أن الإسلام لم يعطنا تصوراً قياسياً لمجتمع يمكن أن نقيمه خارج الزمان والمكان، فنحن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعلم بأمور دنيانا) ….

وأمور الدنيا التي نحن أعلم بها أوسع وأعقد وأجل شأناً من تأبير النخل أو اختيار موقع نزول الجيش في موقعه، وهي الحالات التي حاول البعض أن يوهمنا أنه حدود علمنا بدنيانا).

تاسعاً: تمييع الحدود الشرعية

وهو كسابقه من المواقف الرافضة، بحجة التأويل أو كونها وردت بأحاديث آحاد أو لتغير الزمان والناس أو غير ذلك.

فهذا عبد الله العلايلي يقول (124):

(أن العقوبات المنصوصة ليست مقصودة بأعينها بل بغاياتها، واستأنست بما يروى عن علي: (ادرؤوا الحدود ولا ينبغي للإمام أن يعطلها) وليس معنى هذا الرأي أن عقوبة القطع في السرقة ليست هي الأصل وأنها لا تطبق، بل أعني أن العقوبة المذكورة غايتها الردع الحاسم، وكل ما أدى مؤداها يكون بمثابتها وتظل هي الحد (الأقصى والأقسى) بعد أن لا تفي الروادع الأخرى وتستنفذ، ومثلها الجلد في موجبه).

ثم يقول (125):

(وحق لي من بعد أن انتقل إلى المفاجأة الكبرى وهي أنه لا رجم في الإسلام كما هو مذهب الخوارج عامة ومنهم من يعتد بخلافه فقهياً. فضلاً عن أن القضية هي من باب الرواية فتصدق عليهم قاعدة يؤخذ برواياتهم لا بآرائهم، على أن ما شاع وذاع من قول بالرجم يعتمد على طائفة من الأحاديث لم ترتفع إلى درجة الحسن… والاتفاق قائم بدون منازع على أن الحديث المخالف مخالفة صريحة للقرآن لا يعتد به مهما كانت درجته).

والدكتور محمد سليم العوّا يقول مؤيداً (126):

(وبناء على ما تقدم فإننا نذهب إلى أن العقوبة التي شرعت لجريمة شرب الخمر هي عقوبة تعزيرية المقصود بها ردع الجاني عن العودة لارتكاب الجريمة …، ومن ثم فإن هذه العقوبة يمكن أن تتغير بتغير الأحوال والظروف الفردية والاجتماعية).

ويوافق على هذا الرأي الشيخ محمد أبو زهرة، وينكر حد الرجم كما نقل عنه الشيخ محمد الغزالي (127).

ويكرر هذا الرأي بأن الرجم عقوبة تعزيرية مصطفى الزرقا في فتاويه (128).

ثم يأتي القرضاوي في تعليقه على فتاوى الزرقا ويقول (129):

(إني والشيخ متفقان تماماً على هذه الوجهة).

وخالص جلبي ينقل عن صهره ومعلمه (كما يقول) جودت سعيد أنه يقول (130):

(أن فكرة قتل المرتد تخالف أصلاً عظيماً من القرآن هو: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ " [البقرة: 256].

والشيخ محمود شلتوت يحاول رد أحاديث قتل المرتد بحجة أنها أحاديث آحاد فيقول بعد استعراض كلام أهل العلم في ذلك (131):

(وقد يتغير وجه النظر في هذه المسألة إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد وأن الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم).

_____________________________________

(1) رواه البخاري برقم (7084) في كتاب الفتن باب كيف الأمر إذا لم تكن  جماعة . ورواه مسلمبرقم (1847) كتاب الأمارة باب ملازمة جماعة المسلمين عن حذيفة بن اليمان .

(2) د.محمد جوس : في مجلة (الوحدة) عدد (6) مارس 1985م . نقلاً عن كتاب تجديد الفكر الإسلامي لجمال سلطان ص45 . ط الأولى 1412هـ .

(3) د.محمد النويهي . أعمال ندوة (( أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي من 2-9 مارس 1974م.

(4) مجلة ( الآداب ) البيروتية عدد (5) مايو 1970م نقلاً عن تجديد الفكر الإسلامي ص46 .

(5) زكي نجيب محمود في كتابه ( تجديد الفكر العربي ) ص102 ط دار الشروق نقلاً عن جمال سلطان السابق ص47 .

(6) نجح هذا المؤتمر في توحيد قطاعات أصحاب الأفكار الدخيلة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من فؤاد زكريا إلى محمود العالم ، ومن زكي نجيب محمود إلى طيب تبزيني ومن محمد أحمد خلف الله إلى أدونيس وآخرين من الخليج ، وقد نجحوا في التأثير في قنوات إعلامية كثيرة وسيطروا على بعضها، ونجحوا في وضع خطة (شاملة للثقافة العربية) تنفذ من خلال قناتهم الثقافية في جامعة الدول العربية . انظر في كل ذلك تجديد الفكر الإسلامي لجمال سلطان ص36-37 .

(7) راجع المصدر السابق ص32 .

(8) د. حسن حنفي من كتاب الاجتهاد الكلامي لعبد الجبار الرفاعي ص29 ط دار

الهادي 1423هـ في حوار مع حسن حنفي .

(9) هذا هو : المهندس محمد شحرور . راجع في كل هذه الأقوال كتاب : التيارات الفكرية والعقدية في النصف الثاني من القرن العشرين إعداد محمد الخالدي ص278 وما بعدها ط دار المعالي 1423هـ .

(10) د. محمد اركون : تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، نقلاً عن : أعلام وأقزام للسيد العفاني ص136.

(11) د. محمد اركون : اليسار الإسلامي ص41 . وانظر : أعلام وأقزام للسيد العفاني ص137 .

(12)راجع الترجمة والمزيد عنه : زعماء الإصلاح ص121/138 والمجددون في الإسلام ص483-485 .

(13) انظر : أثر الفكر الغربي في انحراف المجتمع المسلم بشبه القارة الهندية للدكتور : خادم حسين بخش ص137-138 ط الأولى دار حراء 1408هـ .

(14) راجع فيما سبق نقولات الدكتور خادم بخش في كتابه : أثر الفكر الغربي في شبه القارة الهندية . ص140 وما بعدها .

(15) راجع الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار ص42 .

(16) المرجع السابق ص43 نقلاً عن العروة الوثقى .

(17) مفهوم تجديد الدين ص131 . وانظر الاتجاه العقلاني لدى المفكرين المسلمين ص166 .

(18) انظر : أثر الفكر الغربي في انحراف المجتمع المسلم في القارة الهندية ص38 فقد ذكر انتشار عقائد الشيعة في الهند .

(19)انظر أهم آراءه في أثر الفكر الغربي في القارة الهندية ص137/139 وانظر الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار ص182 ، وانظر الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين ص164 .

(20) الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية للندوي ص73 .

(21) راجع في هذا الترجيح : حقيقة جمال الدين الأفغاني د. عبد النعيم حسنين ص28/46/53 . ط دار الوفاء 1408هـ وراجع لترجمته المصدر السابق وجمال الدين الأفغاني حكيم الشرق للدكتور رحاب عكاوي ، وراجع المجددون في الإسلام ص490-495 ، والفكر الإسلام الحديث للدكتور / محمد البهي الخولي وغيرها .

(22) راجع لمعرفة ترجمته : المجددون في الإسلام للصعيدي ص530 ومنهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير ج1 ص124 .

(23) راجع حقيقة جمال الدين الأفغاني ج2ص28/46/53/56 وغيرها ، وراجع منهج المدرسة العقلية الحديثة ج1 ص75 .

[1]، 3) راجع منهج المدرسة العقلية الحديثة ص802/ والفكر الإسلامي المعاصر دراسة وتقويم تأليف غازي التوبة ص54 ط الثالثة 1977م دار القلم . وسيأتي شواهد على ذلك .

(24) اليقظة الإسلامية أنور الجندي ص132 .

(25) انظر العلمانية للدكتور سفر الحوالي ص577 .

(26) راجع للتوسع في هذا التيار : تجديد الفكر الإسلامي للأستاذ جمال سلطان 35 وما بعدها .

(27) سبق الحديث عنهم في ص وقد كتب عن هذا التحول للشيوعيين ورفعهم شعار (اليسار الإسلامي) آخرون منهم الدكتور مصطفى محمود في كتابه (أكذوبة اليسار الإسلامي) ص9 ، ط دار المعارف 1995م .

(28) انظر اليسار الإسلامي ، كتابات في النهضة الإسلامية ، العدد (1) مقال بعنوان : ماذا يعني اليسار الإسلامي ، ربيع الأول 1401هـ/1981م .

(29) راجع عن الحزب وأفكاره : الموسوعة الميسرة ج1 ص341 والاتجاه العقلاني لدى المفكرين المعاصرين ص167 .

(30)  راجع للتوسع الموسوعة الميسرة ج1 ص231 والاتجاه العقلاني لدى المفكرين المعاصرين للزهراني ج1 ص169 .

(31)  سيأتي مزيد حديث عن أفكار الدكتور الترابي بإذن الله ، وقد آثرت ألا أذكر هنا منها شيء لأن الحديث عن الجبهة وليس عن الترابي ، وقد يكون الخلاف الذي حصل بينهما أخيراً وتكوين الترابي لحزب جديد مؤشر على عدم رضا الجبهة عن مجمل أفكاره ولكننا ذكرناها هنا باعتبار التأسيس والسنوات السابقة .

(32)  الإسلام والنصرانية لمحمد عبده ص95 ، نقلاً عن المدرسة العقلية الحديثة في التفسير للرومي ص148 .

(33)  المرجع السابق ص54 .

(34)  الإسلام والنصرانية ص72/75 نقلاً عن محمد عمارة في ميزان أهل السنة ص350 . ط 1413هـ .

(35) تجديد أصول الفقه الإسلامي للدكتور الترابي ص9 ط الأولى 1409هـ الدار السعودية للنشر والتوزيع .

(36)  الدولة الإسلامية لمحمد عمارة ص16 ، نقلاً عن محمد عمارة في ميزان أهل السنة لسليمان الخراشي ص444 .

(37)  من كتاب التراث في ضوء العقل لمحمد عمارة ص270 ، نقلاً عن الخراشي ص73 .

(38)  لا أظن أن الدكتور فهمي هويدي يقصد المغالطة حينما يأخذ كلام الرازي الذي أورده شيخ الإسلام في أول كتاب ( درء تعارض العقل والنقل الذي سماه هويدي (رد تعارض العقل والنقل) ثم ينسبه إلى شيخ الإسلام عمداً . ولكن لعلّ الدكتور سمعه من غيره أو نقله عن من يدلسون في النقول عن شيخ الإسلام رحمه الله . انظر كلام شيخ الإسلام في (الدرء) ج1 ص4 من الطبعة التي حققها الدكتور رشاد سالم . وانظر كلام هويدي هذا الذي نقلناه لك في كتابه القرآن والسلطان ص49 ط الأولى من دار الشروق .

(39) كيف نتعامل مع السنة النبوية للدكتور القرضاوي ص162 . المعهد العالمي للفكر الإسلامي ط الثالثة 1411هـ .

(40)  تفسير المنار ج1 ص254 وهذا النقل وما بعده مأخوذ عن منهج المدرسة العقلية في التفسير للرومي ص620 وانظر أيضاً الفكر الإسلامي المعاصر لغازي التوبة ص46 .

(41)  تفسير المراغي ج1 ص86 .

(42)  تفسير المنار ج1 ص273 .

(43)  نقلاً عن الفكر الإسلامي لغازي التوبة ص49 .

(44)  انظر منهج المدرسة العقلية ص640 حيث نقله عن تفسير المنار ج8 ص319 .

(45)  تفسير المنار ج8 ص364 .

(46)  تجديد الفكر الديني في الإسلام ص197 .

(47)  تفسير المنار ج1 ص280 .

(48)  تفسير المنار ج1 ص284 . نقلاً عن الرومي ص455/456 .

(49)  راجع في ذلك : منهج المدرسة العقلية في التفسير ص479 وما بعدها . وراجع الفكر الإسلامي الحديث لغازي التوبة ص46 وما بعدها .

(50)  تفسير المنار ج1 ص399 .

(51)  المرجع السابق ج2 ص457 .

(52)  الفن القصصي في القرآن : محمد خلف الله ص42 نقلاً عن الرومي ص445 .

(53)  المرجع السابق لخلف الله ص179 .

(54) في الشعر الجاهلي ص26 نقلاً عن الرومي ص447 .

(55)  تفسير ابن كثير 2/417 .

(56)  انظر لوامع الأنوار البهية لمحمد بن أحمد السفاريني رحمه الله ج2 ص94 .

(57) الأعمال الكاملة لمحمد عبده ( 5/32 ) .

(58)  فتاوى محمود شلتوت ص65 نقلاً عن الاتجاه العقلاني لدى المفكرين المعاصرين ص415 .

(59)  دراسات في السيرة لمحمد سرور زين العابدين ص308 .

(60)  النووي على مسلم ج18 / ص58 .

(61)  الفتن والملاحم للحافظ ابن كثير ج1 ص106 .

(62)  تفسير المنار ج9 ص450 .

(63)  المرجع السابق ج9 ص317 .

(64)  المرجع السابق ج9 ص466 .

(65)  تفسير جزء عم للإمام محمد عبده ص6 .

(66) تفسير جزء تبارك لعبد القادر المغربي ص36 وكلاهما منقول عن منهج المدرسة العقلية في التفسير ج2 ص524 .

(67)  السنة مصدراً للمعرفة والحضارة للقرضاوي ص123 نقلاً عن تجديد في الفكر الإسلامي ص399 .

(68)  المصدر السابق ص126 .

(69)  انظر تجديد الفكر الإسلامي ص399 .

(70)  راجع لمعرفة ذلك والتوسع فيه : منهج المدرسة العقلية في التفسير للدكتور فهد الرومي ص525 وما بعده .

(71)  رواه مسلم في كتاب الإيمان باب وجوب الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة برقم (240) .

(72)  انظر الفكر الإسلامي والتطور فتحي عثمان ص246 . نقلاً عن تجديد الفكر الإسلامي د. عدنان أمامة ص403 .

(73)  عن تاريخ الأستاذ الإمام لرشيد رضا 1/817-829 . نقلاً عن د. عدنان أمامة ص403 .

(74)  من كتاب مصر الحديثة للورد كرومر ، نقلاً عن : الاتجاه العقلاني لدى المفكرين المعاصرين د. سعيد الزهراني ص504 .

(75)  الصحوة الإسلامية ص125 نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي ص408 .

(76)  الشيخ أحمد كفتارو ومنهجه في التجديد لمحمد الحبشي ص334 . نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي ص409 .

(77)  الإسلام والعلمانية ص101 .

(78)  مجلة البيان العدد (124) .

(79)  التدين المنقوص ص269 .

(80)  المصدر السابق ص273 ، نقلاً عن تجديد الفكر الإسلامي ص420 .

(81)  مواطنون لا ذميون ص131 نقلاً عن العصرانيون لمحمد الناصر ص270 .

(82)  نظرات في الدين ص16 نقلاً عن المعتزلة بين القديم والحديث ص140 .

(83) الإسلام والوحدة ص60 ، نقلاً عن محمد عمارة في ميزان أهل السنة ص371 .

(84)  الفقه الإسلامي في طريق التجديد للدكتور محمد العوا ص76 .

(85)  المرجع السابق ص197 نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي ص517 .

(86)  نقلاً عن الاتجاهات الوطنية 1/171 .

(87) الإسلام وتحديات العصر ص127 . نقلاً عن الاتجاه العقلاني ص505 .

(88) مجلة العربي عدد (267) ص49 . فبراير 1981م .

(89)  قراءات سياسية العدد 11-12 سنة 1993م . نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان أمامة ص407 .

(90)  انظر مفهوم تجديد الدين لبسطامي سعيد ص135 .

(91)  رواه مسلم في كتاب الفضائل ، باب وجوب امتثال ما قاله الرسول برقم (2363) . والنقل عن الدكتور العوا من مجلة المسلم المعاصر ص32 موضوع : السنة التشريعية وغير التشريعية .

(92)  الإسلام عقيدة وشريعة . محمود شلتوت ص500 . نقلاً عن الاتجاه العقلاني لدى المفكرين المعاصرين ص627 .

(93)  معالم المنهج الإسلامي ص115 نقلاً عن الاتجاه العقلاني ص629 .

(94)  مجلة المنار ج19 ص29 .

(95)  السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص80 ط السادسة .

(96)  مجلة المنار ج29 ص104 .

(97)  العصرانيون لمحمد الناصر ص224 نقله من كتاب مناقشة هادئة لأفكار الترابي للأمين محمد أحمد ص79 .

(98)  أضواء على السنة المحمدية لأبي ريّة ص312 .

(99)  السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص140 .

(100)  المصدر السابق ص23 .

(101) انظر العصرانيون ص75 وَ ص319 .

(102)  تفسير المنار ج2 ص215 .

(103)  السياسة الشرعية لعبد الوهاب خلاف ص84 نقلاً عن الاتجاه العقلاني ص713 .

(104)  العلاقات الدولية في الإسلام ص47 .

(105) انظر السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث ص131 . وراجع في إيضاح كلامه هذا كتابه جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج ص89،90،91،92 .

(106) الرد القويم لما جاء به الترابي والمجادلون للحاج محمد أحمد ص86 نقلته عن الاتجاه العقلاني للزهراني ص718 .

(107)  مواطنون لا ذميون ص234 .

(108)  الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية ص130 .

[1] ، 2 ، 3 ، 4 ) راجع في كل هذه النقول : التجديد في الفكر الإسلامي ص537/538 .

5 ، 6 ، 7 ، 8 ) راجع في كل هذه النقول : العصرانيون لمحمد الناصر ص323/324 .

(109)  مقال بعنوان : المعاملات بين الشرع والقانون ، الطليعة القاهرية فبراير 1976م نقلاً عن العصرانيون ص274 .

(110) الإسلام وقضايا العصر لمحمد عمارة ص25 .

(111)  المعتزلة وأصول الحكم لمحمد عمارة ص295 .

(112)  مجلة المسلم المعاصر عدد 15 رمضان 1398 مقال (بل المسلمون يمين ويسار) .

(113)  أين الخطأ لعبد الله العلايلي ص77 .

(114)  المرجع السابق وهما نقل عن (العصريون معتزلة اليوم) ليوسف كمال ص86 .

(115)  المرجع السابق ص87 .

(116)  دستور الوحدة الثقافية ص86 .

(117)  فتاوى الزرقا ص394 ، نقلاً عن تجديد الفكر الإسلامي ص502 .

(118)  فتاوى الزرقا بتعليق القرضاوي ص394 .

(119)  انظر كتاب (شخصيات وأفكار) لمجموعة مؤلفين ص219 ، طباعة مركز الراية للتنمية الفكرية .

(120)  الاسلام عقيدة وشريعة لشلتوت ص218 ، دار الشروق ، ط17 ، 1991م .
المصدر
http://islamtoday.net/bohooth/mobile/mobartBoh-86-167988.htm

samedi 23 février 2013

كتاب أوهام عذاب القبر. المعدل.؟ تأليف: المستشار والمحكم الدولي أحمد عبده ماهرالمحامي

كتاب أوهام عذاب القبر. المعدل.؟.

مُساهمة  السبت يناير 28, 2012 2:53
كتاب أوهام عذاب القبر. المعدل.؟.
تأليف: المستشار والمحكم الدولي أحمد عبده ماهرالمحامي.

تقديم :
الأستاذ الدكتور/أحمد عبد الرحيم السايح
أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر وقطر وأم القرى.

تقديم الأستاذ الدكتور/أحمد عبد الرحيم السايح
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:ـ
مما ينبغي أن نؤكد عليه: أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس متفاوتين في المواهب والعقليات، ولذلك جاءت حركاتهم في الحياة الدنيا تخضع لمعايير المواهب والمنح التي وهبها الله لهذا وذاك.
والمستشار/أحمد عبده ماهر يتمتع بمنح منحها الله إياها، ومواهب كبيرة، لذلك تجده متميزا في كلماته وما يكتب، فالفكر والكلمة حقيقتان متلازمتان في حياته، لذلك جاءت كلماته في مؤلفاته معالم مضيئة على طريق تصحيح ما أفسده الدهر من موروثات ومناهج أضرت بالعقائد، وهو يمتلك طاقات إصلاحية يبذلها دوما لأجل الأمة.
وإذا كان هناك كثير من الكُتَّاب دعوا إلى إنقاذ الأمة من وهدة التخلف وغبار الجهل، فإن المؤلف له عبقرية فذَّة في عرض مفاهيم التصحيح بما يمتلك من موهبة فريدة وعطاء متميز.
وقضية عذاب القبر لا هم للمتاجرين بالدين إلا ذكرها، وكأنها عمل إنتاجي تفتخر به الأمة، وذلك رغم تعارضها مع مبادئ الإسلام ودلالات الآيات القرءانية، لذلك جاء المؤَلَّف الماثل لاجتثاث جذور المفاهيم المغلوطة وقلع أصولها ودوافعها النفسية والفكرية، مستمدا قوته من صريح كتاب الله، وكتب المحدثين في الجرح والتعديل، مع عدم إهمال دور العقل القويم في استخراج الأدلة.
فالكتاب الماثل أداة بناء ذات فصول ثلاثة، وملحق به تخريج لبعض أحاديث من عذاب مزعوم بالقبر، سواء ما ورد منها بكتب الصحاح أو مما اشتهر القول به على ألسنة الدعاة، فضلا عن تصحيح بعض تحريفات التفسير لكتاب الله.
فالفصل الأول تحت عنوان: موت بلا عذاب بالقبر (تقديم أصولي).
والفصل الثاني تحت عنوان: من الوفاة حتى حساب الآخرة.
والفصل الثالث بعنوان: تفنيد حجج أنصار فكرة عذاب القبر.
والملاحظ أن الفصول الثلاثة تميزت بالتوثيق والتنقيب مما أعطى الدراسة قوة وعمقا.
ولعل تلك الدراسة توجد في الناس الوعي والتعريف بخطورة الاستعمال المنحرف والشاذ لبعض مقولات الأقدمين، وعلها تعيد إليهم الشخصية الإسلامية التي رباها رسول الله في الصحابة الأطهار، الذين كانوا يتفاعلون مع الكون بالقرءان، ولم يكونوا يحاولون قهر من بالكون لتأويلاتهم عن القرءان. أ.د/أحمد عبد الرحيم السايح
مقدمة المؤلف:
بسم الله الحبيب، الرحمن الرحيم الكريم، فمنذ سنوات خَلَت وأنا أُتابع وأُشارك حركة تطوير الخطاب الديني التي نحن في أمس الحاجة إليها، وذلك نظرا لما وصل إليه أمر الدَّعوة والدُّعَاة ببلادنا.
ولقد شاركت في ذلك بمؤلفات عديدة منها كُتُب:
(1) - (كيف كان خُلُقُهُ القرءان .
(2) - وإسلامنا والتراث .
(3) - و كنوز ورحمات من القرءان.
وبكثير من الخُطَب المنبرية، والمقالات التي تُرجِمَ الكثير منها إلى لغات متعددة ، ونُشرت بالعالم عن طريق أجهزة إعلامية مختلفة، وشاركت وحاضرت ببعض المؤتمرات الدولية الراعية لإصلاح الدعوة.
وأحمد الله أن وفقني برحمته للخروج من تَدَيُّن الإشراك والبدع، إلى تدين القرءان والمِنَح ، وأن هداني لمن يعينونني بقوة كي أخطو بخطوات الرشاد، وشكر خاص وواجب لقناة المحور الفضائية لإسهامها في نشر الحقائق وتنوير الشعوب، وبكل التقدير والعرفان أُقدم الفارس النبيل الذي وقف خلف هذا الكتاب وأشكره، وهو الأستاذ/عبد الفتاح عساكر، ذلك الجندي الذي تراه خلف كل الأعمال ، وكل الاجتهادات مُعينا ومؤازرا، فهو الذي بذل الجهد الأكبر في التخريج الفقهي لأحاديث عذاب القبر، كما نتوجه بالشكر للأستاذ/ إبراهيم عياد لمساهماته في التصويب اللغوي.
وعلى القارئ أن يعلم أن التخريج الفقهي للأحاديث الواردة عن عذاب القبر روعي فيه أن يكون مستمدا من كتب علماء الحديث، وتم تطبيق منهجهم بأن الجرح مقدم على التعديل، وقد يصدم القارئ من أحاديث يتناولها الناس كمُسَلَّمات يؤمنون بها بينما تُمثِّل عين الصدام مع القرءان فضلا عن فساد سندها.
والكتيب الماثل يضيف تَنَوُّعًا لمسيرة إصلاح الدعوة في أمر استفحل الاعتقاد فيه، حتى صار الناس يتعوَّذون من عذاب القبر في صلاتهم، بينما لا شرعية ولا وجود لذلك العذاب المسرحي الموهوم، وهو كتاب قد يستعصي على غير الباحثين تقدير ما به، ولقد حرصت أن يكون ما انتهيت إليه موثقا بأدلَّة من القرءان والسُّنة النبوية الصحيحة، ومن العقل، وهو إن كان صادما لمعتقدات الكثيرين إلا أن الباحثين عن الحق لابد أن يخضعوا له، بدلا من الخضوع لموروثات الإشراك بالله والعبادة بطقوس بلا علم، والتي دأبنا عليها حفاظا منا على تراث نظنه كله خيرًا ونقدسه بلا تمحيص.
ولقد دأب المسلمون على عدم التفكير فيما بثه فينا عمائم الماضي، لكننا بعد أن تعلمنا القراءة والكتابة ظللنا على معتقدنا بقصور فكرنا، حتى استيقظنا على متخصصين يقولون برضاع الكبير، وقتل المرتد، وقتل تارك الصلاة، وطهارة بول النبي، والتداوي بأبوال الإبل.
وترانا وقد تجمدنا عند رؤية الأقدمين لتفسير كتاب الله، تلك الرؤية التي شابها أخلاط من الإسرائيليات، وروايات مخالفة لكتاب الله تأثر بها المفسرون، فصرنا نُكذِّب آيات القرءان لذمة مرويات السُّنة، في الوقت الذي لا نعترف فيه لمجتهد باجتهاد، سواء أكان متخصصًا أم غير متخصص، وبرعنا في قذف المجتهدين بكل الوسائل والمَذَمَّات.
وصرنا نُمَجِّد السُّنة النبوية القولية، ونرفعها على القرءان عمليا، وإن كنا نعتني نظريا وقوليا بأسبقية القرءان، وصار تفسير أئمتنا لآيات كتاب الله يخضع لثقافتهم الروائية عن الحديث النبوي، وعظَّمنا النبي ولم نُوَقِّر الله، وصرنا فرسانا للسُّنة القولية، بينما لم نستظل بالقرءان، ولفظنا التدبر فيه، ولم يبق لنا منه إلا بعض المطالعة، نظن بها أننا على الحق، فنسأل الله أن يهدينا قبل أن نلقاه.
وتجدنا حين تبرز بيننا دراسة تتصادم مع ما ألفينا عليه آباءنا نسعى بقوة لتأكيد الزَّخَم القديم وكأنها مبارزة بين أمة بأكملها من جانب، وأحد الأصنام المنبوذة بالضفة الأخرى، لذلك كله نشب فينا فكر عذاب القبر وغيره من الخرافات، لذلك أهيب بأخوتي وأبنائي المسلمين إبان تناولهم للأمر أن يُنَفِّذُوا بعدالة وموضوعية ما أمرهم الله بقوله
((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ *)).الزمر: ١٨.
وإن ما تم بثه فينا من كوننا غير مؤهلين ـ وبالتالي غير أهل للفكر في دين الله ـ ما هو إلا نوع من تكذيب القرءان، فالله عز وجل يسَّرَ لنا القرءان، بينما نقول بصعوبته وعدم إمكان فهمه إلا لمتخصص، والله أمرنا بتدبر القرءان والتفكر والتعقل فيه، بينما نحن نمتنع لذمة مدسوسات إبليسية زرعت فينا هبوط الهمة تجاه كتاب الله.
بل رأيت الناس وهم لا يدركون أن الخطاب القرءاني للناس جميعا على اختلاف لغاتهم، فبالله عليكم إذا ما كان أهل اللغة العربية هذا حالهم... فماذا يكون حال باقي الأجناس المخاطبين بالقرءان أيضا!!، لا شك أننا بحاجة ماسة لننفض غبار الزَّخَم القديم الذي أهملنا به كتاب الله، فتركنا عقولنا نهبا لآخرين لعقود خلت، ولنتدبر جميعا بلا استثناء كتاب الله، فنحن مأمورون بذلك بلا مراء، بل يسَّرَهُ الله لنا.
ولابد من إعلاء كتاب الله وآياته على المرويات والقصص والأقصوصات التي نستقي منها أمور تديننا ، فمهما تصورنا درجة صحتها، فليس لها أن تنافس القرءان إلا عند قلوب أشركت بالله، ولنعلم أن أهل الزمن القديم كانوا رجالا لزمانهم، والله لم يجعل حقبة زمنية بغير رجال، فنحن رجال اليوم وهم كانوا أسياد الأمس وأجدادنا، ولكل منا الفرصة ليكون رجل عصره بلا تسيد أو سيادة من أحد.
المؤلف
أحمد عبده ماهر



الفصل الأول:
موت بلا عذاب بالقبر.
تقديم أصولي:






مقدمة لازمة لفهم أصول الإيمانيات:
لعل الكثيرين ـ إن لم تكن الأغلبية ـ تشغل فكرهم الدار الآخرة وما يكون فيها من أحداث، ولقد أدرك بعض الدُّعاة ولع الناس بذلك الأمر، فأفاضوا وأسهبوا واغترفوا من غث التراث وأضاعوا السمين، وصاروا يدفعون بعلوم ما أنزل الله بها من سلطان، ويزُجُّون بها في أدمغة الناس، وبات أساطين ذلك الفكر عند العامة هم أهل الدين والتدين، وأصبح من يعزف لحنًا غير لحنهم مجرما، وتراهم ينعتونه منكرًا للسُّنة أحيانا، وقرءانيا أحيانا أخرى، وهو منكر للمعلوم من الدين بالضرورة عند آخرين، لذلك ماج الناس في أوحال يقول بها بعض المتخصصين قبل العامة، ويترخصون في القذف بلا مبالاة.
وأرى من الضروري لكل مسلم أن يعلم أن الاستدلال على الأحكام الشرعية التي يجب الإيمان بها لابد أن ينبع من نص قطعي الثبوت، وإلا فكيف ستنبع أحكام يلزم الإيمان بها من خلال نصوص ظنية الثبوت؟، وهل ترك الله العقائد والإيمانيات لتفسير الفقهاء؟.
ونصوص القرءان الكريم قطعية الثبوت كلها، لكن بالنسبة لدلالة الآيات فمنها آيات قطعية الدلالة، وأخرى ظنية الدلالة، فالذين قاموا بتأويل نصوص ظنية الدلالة من القرءان الكريم وصوروها أحكاما لعذاب بالقبر، إنما خالفوا أسس الفقه والتفسير والعقيدة، فقد كان من المتعين عليهم لاستنباط أي حكم يتوجب الإيمان به، أن يكون ذلك من خلال نصوص القرءان قطعية الدلالة، وهو الأمر غير الموجود بالنسبة لعذاب القبر، وبما يمتنع معه الاستنباط.
فمن النصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، قوله تعالى:
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ*). سورة العنكبوت آية رقمSad٥٧).
فلأنه قرءان، فهو قطعي الثبوت، ولأننا على يقين بأن هناك موتًا محتمًا يليه بعث مؤكد، ففي ذلك قطعية الدلالة، فلا يماري في ذلك النص إلا كافر.
ومن النصوص قطعية الثبوت لكنها ظنية الدلالة، قوله تعالى:
((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ*)). سورة غافر آية رقم : (46) .
فهو نص قطعي الثبوت لأنه قرءان، وهو ظنِّي الدلالة لأننا اختلفنا في تأويله، فنحن لا نعلم شكل العرض ولا ما إذا كان يعني عذاب القبر أم يعني ابتلاءات دنيوية ثم يليها أشد العذاب بالآخرة، أَوَ يكون ذلك الأمر لآل فرعون فقط كما يدل بذلك النص، أم أنه ينسحب على الناس جميعا؟، ولتلك الاختلافات بيننا فهو نص ظني الدلالة، فلا يُستنبط منه حُكم إيماني مُلزم، ومثل قوله تعالى:
((إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا*)).سورة الفتح آية رقم : (10) ٠
فلا يستطيع أحد معرفة شكل ومراد كلمة يد الله، لذلك فهو نص ظني الدلالة.
أما السُّنة النبوية القولية فكلها ظنية الثبوت وظنية الدلالة، وهو ما اتفق عليه أهل العلم جميعا بلا خلاف بينهم، فيمكن العمل بها، لكن لا يمكن استخراج الإيمانيات منها، لأن الأحكام التي يجب الإيمان بها لابد أن تنبع من يقين، فلا يُستخرج اليقين من ظني أبدًا، وعلى ذلك فجميع أحاديث عذاب القبر فضلا عن كونها ملفقة على الرسول (سيأتي بيانه)، فلا يمكن الاعتماد عليها في استنباط حكم يؤمن به المرء.
ولا يقولن قائل بالقول الممجوج، بأن السُّنة القولية مُكَمِّلة للقرءان، وأن هناك أحاديث تُقرر عذاب القبر، إلا إن كان يظن النقص بالقرءان، أو يظن بأن رسول الله – عليه الصلاة والسلام - يخالف ما تنزل عليه من قرءان، وذلك ليس بتكذيب للسُّنة القولية التي يُفضل العمل بها ما لم تُخالف نَصًّا قرءانيا، وما لم تُخالف قويم العقل أو الأخلاق، كالرضاع المزعوم للرجل الكبير، أو التداوي بأبوال الإبل وغير ذلك مما علق بها.
أما السُّنة العملية الشارحة للفرائض والمُفَصِّلَة لها فهي الوجه العملي لتنفيذ كتاب الله، وهي من وحي السماء، وهي عندنا فريضة وليست سُنَّة، وهي فقط المُبينة بيقين لما أجمله القرءان بوحي من السماء، بما يعني أن الوحي في هذا الشأن تم تبيينه بالوحي.
ولست بدعا من المفكرين والباحثين أو الفقهاء الذين قالوا معي بعدم وجود عذاب القبر ولا نعيمه، وهم جمهرة، بل قال بذلك أجلَّة من علمائنا، منهم فضيلة الشيخ/ محمد متولي الشعراوي، لكن هناك من يمررون للشيخ أشياء ويطمسون أُخرى، فلقد ذكر فضيلته ذلك بمجلة حواء بالعدد 132 بتاريخ 13/2/1982 الصفحة رقم: (31) ، فقال : [إذن فلا يوجد عذاب بالقبر ولكن عرض ورؤية فقط لموقف الإنسان من عذاب أو نعيم]، كما ذكره أيضا بإصدار أخبار اليوم في كتيب باسم (الدار الآخرة)، وقال بأنه لا يوجد زمن بالقبر، وأتفق مع الشيخ في مسألة عدم وجود عذاب أو زمن بالقبر، وأختلف معه فيما انتهى إليه قوله من عرض ورؤية موقف الإنسان بالقبر، فحقيقته إنه ساعة خروج الروح يدرك الكافر حقيقة كفره وصدق رسالة النبوة.
كما ذكره الأستاذ/محمد عبد المنعم مراد بكتابه (عذاب القبر إفك وضلال مبين)، وكتاب (شفاء الصدر بنفي عذاب القبر) للدكتور/ إسماعيل منصور، وكتاب (استحالة عذاب القبر) للأستاذ/إيهاب حسن عبده، وكلها مراجع لكتابنا الماثل، لكن ماذا نقول للمصفقين الذين يحلو لهم الترويج لفكر العذاب قبل الحساب، وإنكار صريح القرءان؟!!.
إن ما ورثناه من تأويلات بعض السادة المفسرين والدُّعاة عن وجود عذاب قبر ليس إلا جهدًا بشريًا أخطأ ولم يُدرك الصواب، وأما الأحاديث النبوية الواردة بشأن وجود عذاب قبر فليس فيها حديث واحد صحيح السند رغم ورودها بكتب الصحاح (وذلك على مقياس علم الجرح والتعديل)، وذلك فضلا عن تصادم متون تلك الروايات مع نصوص آيات القرءان الكريم بما يُبطلها، ولقد تصدى كثير من علماء السُّنة لتلك الأحاديث بالتحليل واستخرجوا عللها ـ سيرد تفصيله ـ لكن الناس والدعاة يبقون دوما بأحضان ما ألفوا عليه، وما ذلك إلا من نتاج عدم القراءة، وتقديس القديم بنظرية (هذا ما ألفينا عليه آباءنا).
ولقد تنوع هجر المسلمون للقرءان، فهناك من هجر اللفظ بعدم القراءة، وهناك من هجر المعنى بعدم تدبره، وهناك من هجر الهدف القرءاني بعدم تنفيذ وصاياه وأوامره، كل ذلك فضلا عن هجر الكافرين له بوصفه كتاب عقيدة، وارتمى الجميع في أودية من كتابات البشر ورواياتهم حتى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، بالبعد عن كتاب الله، لذلك فالكتاب أداة تنبيه ضد الكفر بآياته.
بل لقد تَهَيَّج الشعور تجاه القرءان، حتى جعله الناس كتابا لاهوتيا، وجعلوه كتابا يتذكرونه بالجنائز والقبور، فلم يُحَكِّمُوه في أفكارهم وحياتهم، حتى لا تجد أحدهم إلا ينبري بالاستشهاد بالحديث النبوي في أقواله، بينما تجد آيات القرءان بعيدة عن فكره ومنواله.
وترى الناس إذا ما فكَّروا بالقرءان جعلوا من كُتُب المفسرين وسائط بينهم وبين الله، وفي ذلك تأكيد لموات القرءان في قلوبهم، بل تراهم وقد امتنعوا تقريبا عن التمحور لتدبر القرءان، بينما يتمحورون لقراءة جهد السابقين بلا فكر منهم فيه، وكأن معاني الآيات توقفت عند جهد السابقين وعقولهم، وهو الأمر الذي جعل الدرب العملي لأمة الإسلام الحالية في وادٍ ودستورها ـ القرءان ـ بوادٍٍ آخر.
وترى الناس لا تُدرك عن حياتها في عالم الذَّر شيئا، كما لا يُدركون شيئا عن حياتهم وهم أجِنَّة في بطون أُمهاتهم، لكنهم ترسموا مستقبلهم في قبورهم من خلال مرويات ما أنزل الله بها من سلطان.
ولقد تلونت بعض العقول وانتقت من كتاب الله ما يحلو لها، وتأولته على أنه عذاب قبر، وتركت بالمقابل صريح الآيات التي تؤكد عدم وجوده، فتسببوا في إضلال الأمة، بل في السقوط في هُوَّة التكذيب لكتاب الله، بل دسوا التعوذ من عذاب القبر المبتدع داخل صلوات الناس باسم السُّنة النبوية، والسُّنة بريئة من ذلك التعوذ الدخيل.
وسوف نوالي بالشرح خلال الفصل الثاني من تلك الدراسة كيف ترك مشاهير الدعاة الكثير من الدلائل الواضحة عن عدم وجود مرحلية أو زمن داخل القبور، فارتموا في أودية الوهم، حتى استفحل شرهم وانتشر كالنار في الهشيم بجسد الأمة، وسيثبت للقارئ تناقض كافة أحاديث عذاب القبر مع آيات كتاب الله، وسيتحقق الأمر من مئات الأدلة القرءانية الواضحة، وليس من خلال تأويلاتهم الفاسدة لآيتين أو ثلاث تصوروا بالوهم أنها العذاب المزعوم، وليس للنعيم المزعوم بالقبر أي دليل من القرءان، لذلك اشتهر عذاب القبر ولم يشتهر نعيمه.
السُّنة النبوية القولية وركائز الهداية:
إن الأحاديث النبوية القولية محل خلاف وجدل كبير، وهي كما يقول علماء الحديث ظنية الثبوت وظنية الدلالة، أفستُبنى العقائد والإيمانيات على أُسُسٍ ظنية من الحديث النبوي، أو على أسس تأويلية لمتأولين للآيات ظنية الدلالة بالقرءان؟.
إن فصل الخطاب في الأمر أن الحديث النبوي إن لم يتفق مع ما جاء بكتاب الله فلا يمكن الحكم بصحته حتى وإن خرج البخاري بشخصه من قبره ووقف بجانب الحديث يسانده، فقد نشأ فن تحقير ومصادمة القرءان باسم (حديث صحيح)، وهو ما لا يسمح به أي عاقل غيور على دينه، وأراه إشراكا يصاحب إيمان أولئك المخالفين للقرءان.
وبذلك المصطلح (حديث صحيح)، وببعض العلوم الوضعية، تمت الفُتيا بطلاق الهازل وزواج المازح، ومن السُّنة الصحيحة عندهم إرضاع المرأة للرجل الكبير، وأصبح للقبر عذاب وحساب منسوب للنبي وللأحاديث، وأخذ بذلك العذاب الشيخ الغزالي القديم في كتابه إحياء علوم الدين، وابن تيمية في كتابه العقيدة الواسطية.
وما أرى ذلك إلا تسلطا من الدُّعاة على عقيدة أهل القبلة، وتسلطًا أيضا على القرءان، حيث أصبح حساب الآخرة يخص الله والقرءان، وصارت الدعوة إلى الله بالقتال كما تُريد سُنَنِهم المزيفة، بدلا من الحكمة والموعظة الحسنة، وبدلا من ترك الناس من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، كما أمر الله في كتابه، وجعلوا للرِّدة حدًا يُزهقون به الأنفس بلا سند من علم قويم، والقتل عندهم لترك الصلاة، وللزنا وغيرهم، كل ذلك فعلوه باسم السُّنة النبوية البريئة منهم.
ويمكن للقارئ الذي يستطيع الخروج من شرنقة الجمود الفكري والموروثات أن يجد الحقيقة بتَعَقُّـله لآيات كتاب الله وتَفَهُّمِه وموازنته بين الأقوال، وبذلك يكون ممن نفَّذوا قوله تعالى:
((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ*)) آية رقمSad١٨.)من سورة الزمر.
فأنت دوما مُكلف بأن توازن بعقلك بين ما يُقال وما يتم النَّصب به والافتراء بالكذب أو الضلال، باسم ما يطلقون عليه أنه من الدين، وحق الاختيار والموازنة بين الأقوال أمر واجب على كل مسلم ومسلمة، مهما قلَّت درجة ثقافته.
وإياك أن تستمع لإفك بعض الدُّعاة بأن للعقل حدودًا، وأنه لا يحق لك التفكير إلا إذا درست بالأزهر وحده، فإنه إن كان الأمر كذلك فلست بمُكنَتِكَ أن تعرف أحسن الكلام من أسوأ الكلام، وبالتالي فلن تُنَفِّذ ما أمرك الله بسورة الزمر، أم تراك تتصور أن الذين سينفذون ذلك التكليف هم الأزهريون وبعض أصحاب اللِّحى فقط!؟، أو أن القرءان يتوجه بالخطاب للمتعلمين من العرب، ولا يحق للإنجليز أو الأميين أن يوازنوا بين ما يقال لهم!؟.
إنني أهيب بكل من تعلَّم القراءة والكتابة أن يرقي بنفسه فكريا من خلال تنفيذ الأمر الإلهي (اقرأ)، وليعلم المسلم أن دعوة النبي كانت عبر تلاوته للنص القرءاني بلا تَزَيُّد ، فلم يكن يشرح للمشركين الإسلام والقرءان ، بل كانوا هم يفهمونه بما يَسَّرَهُ الله للناس لفهم النص القرءاني:
((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ*)).سورة القمر الآيات رقمSad 17،22،32،40) .
وكانوا يؤمنون ، أو يعاندون الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت: ((يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ*)).سورة الأنفال آية رقم:(6) .
فهل نجحد الحق مثلهم؟.
وقرءاننا مُنَزَّل لكل البشرية، سواء أكانوا عربًا أو عجمًا، ولكل الطاقات الفكرية والثقافية، ويسره لكل هؤلاء وغيرهم، لكن الغريب أن أكثر دُعاتنا يُصِرُّون على قصور أدمغتنا حتى عن أدمغة المشركين الأجلاف أيام مهد الدعوة، وقاموا بغرس ذلك في الناس فلا تكاد تجد من يقبل دينا إلا من مُعَمَّمْ، وترى الناس تخاف أن تُفَكِّر، وهم يجعلون مرجعيتهم في تفسير القرءان للطبري والقرطبي وابن كثير وغيرهم من الأقدمين، بعد أن زينها لهم المتخصصون، رغم تيقنهم من تشبع تلك التفاسير بالإسرائيليات، وتجد الناس ترفض أخذ العلم من باحث معاصر يحدوه الإخلاص لدين الإسلام، وهو أحد أهم أسباب فساد أمرهم، وتوقف تقدمهم، ونزوح آخرين منهم إلى ديانات أخرى.
ولينظر القارئ إلى قول الشيخ شلتوت ـ يرحمه الله ـ في حكم الأحاديث النبوية بالنسبة للعقائد، فيرى فضيلته أن العقائد لا تثبت إلا بالدليل العقلي الذي سَلِمَت مقدماته، وانتهت في أحكامها إلى الحس أو الضرورة لأن العقائد مبناها اليقين، واليقين سبيله العقل والنظر الصحيح، أو الدليل النقلي وهو القرءان الكريم المحكم الدلالة، أو السُّنة الصحيحة المتواترة المحكمة في دلالتها، وذلك نادر الوجود في الأحاديث. (المرجع: رسالة الدكتوراة الخاصة بالدكتور/عبد العزيز عزت عبد الحكيم محمود وموضوعها الشيخ شلتوت ومنهجه في التفسير، وأشرف عليها الدكتور/ محمد عبد المنعم القيعي رئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين بالقاهرة عام 1989).
ويذكر الشيخ/ محمود محمد خطاب السبكي ـ يرحمه الله ـ وهو الرئيس العام الأسبق للجمعيات الشرعية بمصر، بل هو أول مؤسس لها، وأول إمام لأهل السُّنة بمصر، حيث ذكر بالجزء الأول من كتابه (الدين الخالص) بالصفحة الرابعة ما يلي: [ إن حديث الآحاد لا يكفي لتكوين عقيدة يطمئن المرء إليها ويعلق أمله يوم لقاء الله عليها، لأن رواة الآحاد ليسوا معصومين وليست أخبارهم متواترة المعنى، وهم بشر ليسوا أنبياء وبالتالي فإنه يجوز عليهم النسيان، وحينئذ لا يكون صدقهم معلوما بل مظنونا، فثبت أن خبر الواحد مظنون، ووجب أن لا يجوز التمسك به في العقائد].
إن فكرة عذاب القبر ساندها المُزَوِّرون من الأقدمين بأحاديث نسبوها للنبي الخاتم، وقالوا حديث صحيح، والذين من بعدهم تأثروا بتلك الأحاديث المزيفة لحبهم رسول الله، فتأولوا بغير حق بعض الآيات القرءانية، وتصوروها تدعم ذلك الزيف المزعوم عن عذاب القبر، وبهذا انتشر الزيف في تفسير كتاب الله أيضا.
بل سيجد القارئ تخريج الأحاديث المنسوبة زورًا للنبي، وقد وضعتها بنهاية الكتاب، واشترك في تخريج بعضها جماعة أنصار السُّنة ونَشَرَتْهَا بمجلتها المسماة (التوحيد) بالعدد الصادر في شهر شوال لعام 1430هـ (سبتمبر 2009)، تلك الأحاديث التي تتحدث عن أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وعن ضمَّة القبر، وعن تحدُّث القبر مع الميت، وجميعها معلولة السند فضلا عن المتن، وعموما فالأمر لا يحتاج لتخريج الأحاديث، لأن جميع روايات عذاب القبر مُخالِفة مُخالَفة صريحة لكتاب الله، وهو ما سنبينه بالفصل الثالث من الكتاب، فضلا عن ملحق تخريج الأحاديث بآخر الكتاب.
لكن لا يجب أن يَفْهَم القارئ أن الجماعة تتبنى رأيي في عدم وجود عذاب بالقبر، فأنا أختلف معهم في كثير مما انتهت إليه فتاويهم وأفكارهم الخاصة، وإن كنت أحمل التقدير لبعض مشايخهم وأتباعهم، وهناك تخريج أيضا لأحاديث صحيحي البخاري ومسلم من واقع كُُتُب الرجال التي وضعها أئمة أهل السُّنة، ليتضح أن الأمر كله يقع بين التدليس والإسفاف والوهم، ولعله بعض إسرائيلياتنا التي نحافظ عليها بتراثنا ولا نريد تصويبه.
أذكر ذلك من باب أمانة العرض العلمي، لذلك يكفيك أن تكون صاحب قراءة في كتاب الله، فالدين لا تُحَدِّدَه لحية السلفية، ولا عمامة أزهرية، ولا مسبحة الصوفية، ولا غيرهم من الفرق الإسلامية، إنما حدده الوحي السماوي في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتجد رواياتهم عن رسول الله وقد فاتها ما فاتها، وتناقض أولها مع آخرها، ومع القرءان، ومع هذا فهم لا ينتهون ولا ينتبهون.
وأما ما يُزَوِّرُونَهُ ثم يُتبعونه بقولهم:
((...وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ...*)).سورة الحشر آية رقم:(7) .
فما أراه إلا استغلالا لبساطة الناس وعدم اطلاعهم، مع تأويـل فاسـد لمعنى ما نزل من الحق، وتصـور منحـرف لمهمة النبي.
وأبسط ما يمكن أن نضرب به المثل في هذا الشأن ليفهمه الناس: [ أن للحكومة أن تأمر وتمنع، لكن للطبيب أن يوصي وينهى ]، فكلمة (ما آتاكم)، وكلمة (وما نهاكم) ليست أحكاما، وهي تختلف عن قوله تعالى: (إن الله يأمركم)، وقوله (ولا تقولوا)، وقوله تعالى (حرمت عليكم)، وغير ذلك من الأوامر واجبة التنفيذ، أو المنع الملزم للعباد.
معنى ذلك أن قوله تعالى: ((...وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ...*)) إنما يعني وصاياه – عليه الصلاة والسلام- ، فضلا عن أن أمر تلك الآية يحكي عن توزيع الفيء وعدم الاعتراض علي قسمة رسول الله للصحابة فيه، وهو أمر خارج الإطار الماثل، وراجع (أول ص75) من هذا الكتاب. لكن من أراد عنه المزيد، وعن معنى (وما ينطق عن الهوى)، فليرجع إلى كتابنا ( كيف كان خُلُقُهُ القرءان) فبه المزيد.
القبر وأوهامه ليست من الإيمانيات:
ومن بين ما ابتلينا به أن كل من سمع كلمة من شيخه فهو يترسم الكفر فيمن قال بغيرها، وذلك من انتشار الجهل بدين الله، وكثرة استحواذ أئمة البدع على فكر الناس، وتعطل العقل عن العمل، فالإيمانيات ذَكَرَها الله في كتابه وحددها، وليس من بينها عذاب القبر أو نعيمه، وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى:
((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ*)).سورة البقرة آية رقم:(285) .
ويقول تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا*)).سورة النساء آية رقم:(136) .
فتلكم هي الإيمانيات الواردة بكتاب الله بلا تعقيد، وليس من بينها عذاب القبر المزعوم ونعيمه المغبون.
وبالسُّنة النبوية لا ترى أثرا لعذاب القبر فيما يجب الإيمان به، ففي فهرس الترمذي - حديث رقم: (3738) . - قال: قال عمر بن الخطاب: كنا عند رسول الله – عليه الصلاة والسلام - فجاءه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى أتى النبي – عليه الصلاة والسلام- ، فألزق ركبته بركبته، ثم قال: يا محمد ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قال فما الإسلام، قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وحج البيت، وصوم رمضان. قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فإنه يراك......
وهو الأمر الذي حدد الإيمانيات تفصيلا بالقرءان وبالسُّنة، فليس من بينها عذاب القبر، فتلكم هي هداية القرءان والسُّنة في أمر حُكم عذاب القبر والإيمان به أو عدم الإيمان، وذلك حتى لا ينحرف غُرٌّ مفتون بفُتات من بعض القراءات، أو شهادة علمية حصل عليها بليل فينبري بها ويستخرج نعوتا بالكفر يهجو بها المخالفين لرأيه.
خلاصة الفصل:
لذلك يجب على المسلم أن يجعل للقرءان الهيمنة فيما يخص الإيمانيات والعقائد، ويليه السُّنة المتواترة التي ينقلها جماعة مسلمة عن جماعة مسلمة أخرى، فيستحيل على الجميع توافقهم على الكذب، حتى يكون ما يؤمن به لا جدال فيه ولا شك، وأن يستدل بعد ذلك بعقله على ما استخلصه من كتاب وسُنَّة متواترة، فالإيمان يكون بالعقل، والعقيدة يستدل بها العقل القويم من خلال الكتاب والسُّنة المتواترة، فبذلك النهج يثبت إيمان المرء من خلال مرجعية رصينة، فالسقطات تكون من خلال صاحب العقل العاطل، والسُّنة النبوية بكتب الحديث لا يصح استخراج حكم عقائدي منها وحدها، لأنها أحاديث آحاد، وقد سبق ذكر رأي أئمة السُّنة في حكم أحاديث الآحاد (راجع ص17).
فكي تقف على حقيقة أمر عذاب القبر ونعيمه لابد أن تدرس بالتمحيص أعمال الدار الآخرة وأحوالها كلها، وعليك مراجعة معاني آيات كتاب الله ومراميها بدقة، وليس كما يفعل بعض الدعاة فيقتطعون آية واحدة من سياقها، يستدلون بتأويلاتهم المنحرفة عنها لتزكية أفكارهم المريضة بداء تعظيم وتقديم الرواية على حساب الآية.
الفصل الثاني : من الوفاة حتى حساب الآخرة:
أولا:الوفاة وخروج الروح (الموت والوفاة):
يرى الكثيرون أن الإنسان يتكون من روح وجسد، ويرون أن الإنسان حين يموت تخرج روحه، فيقولون صعدت روحه إلى بارئها، وهم بذلك المفهوم يُخرجون النَّفس من حساباتهم، ومن غير المقبول أن نتصور أن النَّفس هي الرُّوح، وذلك لورود الكلمتين بالقرءان (النفس و الروح)، وكُلٍّ لها معناها المُتَفَرِّد، وإذا كان هناك فكر يرى بأن قول المولى عَزَّ وجل :
((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ*)).سورة ص آية رقم:(72) .
يعنى أن الله نفخ في سيدنا آدم من روحه سبحانه وتعالى، فإنه إفك كبير، وذلك أن المتتبع لكلمة روح هنا وبالآيات السابقة يرى بما لا يدع مجالا للشك، أنها تعني العلم والعقل والمنطق والأداء اللاإرادي لأجزاء الجسم، لكن لا تعني أبدًا أن بالإنسان روح الله سبحانه ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ فالله أزلي لا يموت، وهو الأول فليس قبله شيء ولا واحد، وليس مكونا من أجزاء (جسد ونفس وروح)، بل هو الحي الواحد الأحد جل جلاله.
لذلك لابد أن أصحب القارئ إلى قراءة بتدبر لبعض مما ورد عن النفس بالقرءان، وذلك فيما يلي:ـ
1ـ يقول تعالى:
((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ*)).سورة آل عمران آية رقم:(145) .
يعني أن النفس هي التي تموت .
2ـ ويقول تعالى:
((كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ*)).سورة آل عمران آية رقم:(185) .
فجماع البندين رقم: [1و2]. يعني أن النَّفس هي التي تموت.
3ـ ويقول سبحانه:
((وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ*)).سورة ق آية رقم:(21) .
4ـ ويقول تعالى:
((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*)).سورة الفجر آية رقم:(27-2Cool .
فجماع البندين:[ 3و4] يعني أن النفس هي التي يبشرها الله بالطمأنينة وهي التي تذهب إليه سبحانه وتعالى.
5ـ ويقول تعالى:
((وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ*)).سورة يوسف آية رقم:(53) .
فذلك يعني أن النفس هي التي تعصى، وأن من المحامد لوم الإنسان نفسه ومحاسبتها قبل لقاء الله.
6ـ ويقول جل وعلا:
((وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ*)).سورة القيامة آية رقم:(2) .
فالنفس هي التي تُعيد النَّظَر في سلوكياتها.
7ـ ويقول سبحانه:
((وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ*)).سورة التكوير آية رقم:(7) .
أي عادت النفوس للأجساد البالية عند البعث، بعد إعادة تشكيل هياكلها الجسدية ثم إحيائها بالنَّفس.
وهكذا نرى من الآيات السابقات أن النَّفس هي التي تموت، وهي التي تُبعث، وهي التي تُزوج بأجسادها يوم القيامة، وهي التي يناديها الله، وهي التي ترجع إلى الله...وهكذا.
والله خَلَقَنا من نفس واحدة، فقال:
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا*)).سورة النساء آية رقم:(1) .
والله ألهم كل نفس طريق الفجور وطريق التقوى، فقال سبحانه:
((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*)).سورة الشمس آية رقم:(7-Cool .
والنَّفْس هي التي تجعلك تتحرك الحركات الإرادية، وبغيرها تكون بلا تَعَقُّل، وإذا مات ابن آدم انسلخت منه نفسه وليست روحه، وذلك من قوله تعالى:
((اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ*)).سورة الزمر آية رقم:(42) .
ولكي يرى كل منا عمله، وتتم محاسبته، وليدرك موقفه، فإنه حين تقوم القيامة، يعيد الله له نفسه إلى جسده، حتى تعمل أجهزة الجسم وأعضاؤه، ويَحُس الإنسان ويُدْرِك، وفي ذلك يقول الله تعالى:
((وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ*)). سورة التكوير آية رقم:(7) .
أي يتم تزويج النفوس بأجسادها مرة أخرى عند البعث.
من إجمالي البيان السابق نرى أن نفسك التي بين جنبيك تحتاج منك العناية، كي تنقذها وجسدك من عذاب أليم يوم القيامة، وتستودعها نعيمًا عظيمًا وأبديًا، ولا شأن للروح بالأمر، لذلك يقول تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*)).سورة المائدة آية رقم:(105) .
أما الروح فهي الفطرة الأصلية التي فطر الله الناس عليها (خوف، فرح، معرفة فطرية للأشياء وأوصافها الأساسية)، وهي حركة الجسد غير الإرادية كالتنفس وحركة القلب، فأنت تنام ونفسك عند الله، بينما جميع أجهزتك وأعضائك الحيوية تعمل، فتلكم هي فطرة الله في جسدك، وتلك الفطرة العلمية والعملية الأساسية تُسمى الروح. والروح هي التي سببت سجود الملائكة لآدم –عليه الصلاة والسلام-، وهي من أمر الله، أي من عالم الأمر(كن فيكون)، ولا نكاد نفقه من كنهها إلا قليلا، لكن الانتباه، والاختيار، والوفاة، كل ذلك من خصائص النَّفْس.
والروح بالنسبة للإنسان كالطاقة الكهربائية بالنسبة للأجهزة الكهربائية، فهي تسري فيك لتكون جاهزا، لكنها لا تُحكم إلا من خلال مفتاح وهو النَّفس التي تجعل للإرادة كيانًا في تصرفات العبد، فيمكن للعبد أن يقطع تيار الحياة بإرادته (بنفسه) بالانتحار، يعني ذلك أن النفس لها سيطرة على الروح والجسد، وجعل الله قانون ذلك في كتاب، فيمكنك صيانة نفسك وجسدك وروحك، ويمكنك أيضا تبديد الجميع، وتلكم هي حرية الاختيار التي منحها الله لك.
بينما الروح التي يعتقد بها الناس، والتي يقول عنها ربنا سبحانه وتعالى:
1ـ ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً*)).سورة الإسراء آية رقم:(85) .
فهي كما ذكرنا القوى المحركة لا إراديا للجسد، أما قوله سبحانه: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) فهي تعني علمنا كُلَّه، سواء أكان عن الروح أو عن غيرها، فعلمنا جميعا في عمومه قليل، وليس الأمر أن الله يطرح غموضا عن الروح بذاتها.
ولكلمة الروح معان أخرى، حيث يقول المولى عز وجل:
2ـ ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ *)).سورة الشعراء آية رقم:(193-195) .
فالروح هنا جبريل.
3 ـ ويقول تعالى: ((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا *)).سورة النبأ آية رقم:(3Cool .
فيعني ذلك أن الرُّوح ستكون أحد الشهود على العبد يوم القيامة.
4ـ ويقول جل وعلا: (( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *)).سورة المجادلة آية رقم:(22)
أي أن التأييد بالروح يكون للعباد المؤمنين دون الآخرين.
ولقد قمنا بالاحتفاء باليوم الأربعين لوفاة موتانا، ظنا منا أن الأرواح تنزل إلى أفنية قبورها في ذلك اليوم، وتزيَّدَ آخرون، فتصوروا الأرواح تنزل كل يوم خميس وليلة الجمعة، وبالأعياد، على أفنية قبورها، لذلك فهم يشُدُّون الرِّحال لزيارة القبور في تلك الأزمان والأوقات، وما ذلك إلا لتغليبهم لدور الروح على دور النفس في الكيان البشري، وهو عكس الحقيقة الواردة بكتاب الله عن النفس والروح.
مرحلة خروج النفس من الجسد:
بعد أن علمنا بأن النفس هي التي تخرج من الجسد وينتج عن ذلك الموت للجسد، والوفاة للنفس، لكن يبقى سؤال: هل تخرج نفس الكافر وتغادر الدنيا كما تخرج نفس المؤمن؟، لا شك أن من عاش لدنياه بلا دين غير كمن عاش بدينه لحسن دنياه، فمن كان يعيش بالدين وللدين ويذكر الله كثيرا فإنه يكون من المبشرين المطمئنين، فتخرج نفسه وتغادر الرداء الطيني (الجسد) بسهولة وطمأنينة، وفي ذلك يقول تبارك وتعالى:
((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي*)). سورة الفجر آية رقم:(27-30) .
فتخرج روحه سهلة وفي ذلك يقول تعالى:
أما الكافر الذي لم يؤمن بالله وكتبه ورسله، فإنه يفزع ويصيح حين تحضره الوفاة، حيث يقول تعالى:
((حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*)). سورة المؤمنون آية رقم:(99-100).
وذلك لأنه لم يكن يطمئن إلا للدنيا وعناصرها، وتكون ساعة الاحتضار هي أول مراتب تذكره ما كان يقال له، ويشعر حينها بمذاق الموت، كما فعل فرعون، لكن هيهات له أن يعود، فالفرصة تكون لمرة واحدة، فذاك قوله تعالى: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا).
وفي شأن وفاة المؤمن والكافر وإخراج الملائكة للنفس من الجسد يقول تعالى:
((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا *)) .سورة النازعات آية رقم:(1-2) .
ثم يُبعثون وهم يعلمون إن كانت نُشطت نفوسهم أو نُزعت منهم، فالكافر يقول:
((قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ *)).سورة يس آية رقم:(52) .
والكافر يعرف أيضا بسوء مصيره حين يموت من الملائكة، لكنه لا يُعذب ولا يعرف تفاصيل مقعده من النار كما يزعم بذلك من زعم، وذلك من قوله تعالى:
((... وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ *)) .سورة الأنعام آية رقم:(93) . : ٩٣؛
فلذلك فهو ينادي يوم البعث ويقول: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، لأنه علم يقينا بأن القيامة العامة هي يوم الجزاء.
ثانيا: تشييع الجنازة:
لماذا قام رسول الله للجنازة؟، وهل تُكَلِّم الجنازة المُشيعين وتقول لهم (يا ويلها أين تذهبون بها)، وقولهم عن الجنازة التي تكون لأحد الصالحين فإنها تقول ـ وفق زعمهم ـ (أسرعوا بي، أسرعوا بي، والله لو علمتم ما أمامي لأسرعتم)، وجعلوا كل ذلك أحاديث ينسبونها لسيدنا النبي محمد – عليه الصلاة والسلام -.
وأسهبوا في غُسل وتكفين الميت واعتبروهما من السُّنة، وأعجب كل العجب، لكون الدَّفن والكَفَن فيه سُنَّة، وفيه فرض، وفيه واجب، وأرى كل ذلك من تعقيدات الفقهاء، ورفاهية فكرية في غير ما سبب، لكني لا أعني إلغاء التكفين والغُسل، لكن كنت أود أن يكون ذكر الأمر باقتصاد ملائم للموضوع.
وقالوا بضرورة أن تكون جُثث النساء في جانب، وجثث الرجال في الجانب الآخر، أَفَتُرى ذلك لأن الجنس موجود بالقبر في منطقهم، أم أنه نوع من الحجاب بعد الموت؟، ولست بصدد دعوة لدمج الجثث، لكني أعني أن ذلك قد يكون ثقافة تفضيل وليس علم تأصيل، ولا حرمة فيه ولا تحليل، وقد لا يكون علم بالأصل.
فطُرُق غُسل الميت وتنوع الأكفان، وإفراد أبواب بالفقه للجنائز، مع الإسهاب المُسِف في ذلك، لا يقدم في مصيره ولا يؤخر مهما فعل الورثة، فلا أرى للتعاليم الفقهية أية قيمة في ذلك الشأن، إلا في أضيق الحدود، فالناس يموتون منذ آلاف السنين قبل رسالة سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام - ، ويتم تغسيلهم وتكفينهم دون شروط واجبة ولا مستحبة، ولا تكلُّف في ذلك الأمر إلا عند الذين تصوروا ذلك علمًا وتقوى، بينما هم في رفاهية القشور الثقافية.
وقيام رسول الله – عليه الصلاة والسلام - للجنازة إنما هو قيام إجلال لقدر الله بالموت، حين معاينة رحلة النَّفس إلى مستقرها، ورحلة الجسد إلى مستقره يراه يقينا، ويراه مُنَفَّذًا، لذلك فهو يقوم وكله خشوع مناسب للمقام، لذلك فقد قام – عليه الصلاة والسلام - لجنازة يهودي...كما يروي ذلك من رواه.
لكن الجنازة لا تُكَلِّم أحدًا، وليست منوطة بالكلام أصلا، وإذا كانت تتكلم فلا يسمعها أحد، فليس ذلك إلا زراعة الوهم الذي لا فائدة منه، وهو الذي أنشأه فقهاء تزوير الأحاديث، حتى نكون جميعا مرضى بالوهم والعته، وقمنا نحن بتوريث الأجيال ذلك البََلََه على أنه أحاديث نبوية، حتى لا ينفك الناس عنه.
ثالثا: القبـر وعـذابه المزعوم:
سبق لي الكتابة عن ذلك الأمر في كتابنا: (كنوز ورحمات من القرءان)، تحت عنوان المسلم والأوهام، فيمكن الرجوع إليه، لكني سأثير الجدل العقلي والفقهي حوله في الطرح الماثل:
لقد اكتسب الكثير من الدُّعاة شُهرة بلا حق، إلا من جهل كثير من الناس، وذلك بعد أن سحقوا أهداف القرءان وآياته بتأويلاتهم عن وجود عذاب بالقبر، وجمعوا أموالا طائلة من مؤلفات لهم عن ذلك العذاب المسرحي المزعوم، وكثرت مؤلفاتهم باتجاه وجود عذاب للقبر، وانعدمت تقريبا مؤلفاتهم عن نعيم القبر، وساعد على نشر تلك الفكرة النَّكِدَة جهل المسلمين بدينهم وفقدانهم تدبر القرءان، وانعدام التفكر في دين الله، واعتماد الناس على بعض من فئة المحتكرين المسماة بالمتخصصين، مع وجود زيف بالتراث أفقد الناس اتزانهم الفكري، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تم الطعن على دين كل من ينبس ببنت شفة يقول بعدم وجود عذاب قبر، وأقام سدنة العذاب على الإنترنت الأعاجيب، فقاموا بتصوير أرض يتصاعد منها دخان، فقالوا إنه عذاب القبر، ورصدوا له الموسيقى التصويرية والتعوذ الذي يصاحبه صدى صوت لزوم الرعب والإجلال.
ومن منبري هذا، أدعو لعدة مناظرات تليفزيونية علنية عامة على الهواء مباشرة لمواجهة أساطين عذاب القبر من المتخصصين، وذلك من خلال مرجعية القرءان والسُّنة، لأُخَلِّص المسلمين من تلك الخُرافة المستنبطة بعقول خرجت عن سوية القرءان إلى بحبوحة روايات دسَّها الشيطان، وأدعو الإعلاميين بالمعاونة في الطرح الإعلامي لتلك المناظرات التي أرجو أن تُخصص لها عدَّة حلقات لتبيان حقيقة التدين والاعتقاد في ذلك الأمر، وذلك عين مهمة الإعلام لتنوير الناس حتى يفيقوا من مُخدِّر الإفك الممنهج.
ولست أدري كيف استساغوا وجود عذاب قبل الحساب؟، وما فائدة وزن الأعمال يوم القيامة؟، والله يقول:
((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ *)) .سورة الأنبياء آية رقم:(47) .
بما يعني أن العدل يكون حينها.
ولماذا ستجادل كل نفس عن نفسها يوم القيامة
((يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *)) . سورة النحل آية رقم:(111) .
أيكون بعد العذاب جدال، وهل يكون البعث فاصلاً بين عذابين؟، أهي كما يقول مذيع التلفاز (فاصل ونواصل)!!.
وما فائدة الشهود على العبد طالما تم تنفيذ العذاب مسبقا؟، ولماذا هان أمر عذاب القبر على الله فلم يُصَرِّح به فيما صرَّح؟، وهل تركه لجماعة الفقهاء فقط ليستنبطوه؟، ولماذا سُمِّيَ يوم القيامة بيوم الحساب طالما هناك عذاب قبل الحساب؟.
وماذا بشأن الصدقة الجارية؟، ألن تزيد في حسنات صاحبها بعد موته ويجري أجرها له؟، وماذا بشأن البدع وأصحابها؟، وفتنة الناس لتشخيص الله، ألن يزيد كثرة العمل بها أصحابها بعد موتهم آثاما فوق الآثام؟، فهل سيتعذبون دون أن يُستكمل حصر أعمالهم؟.
ولماذا يستثقل أصحابها أمر البعث ويقولون إنهم كانوا في حالة رُقاد؟. ((قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ *)). سورة يس آية رقمSad 52) .
إن فترة الرقاد تعني فترة غياب عن الوعي والإدراك، فهم حين يقولون بأنهم قاموا من مرقدهم فقد قاموا من سُبات لا إدراك فيه.
وآخرون يُقسمون بأن فترة القبر مرَّت عليهم، وكأنها ساعة واحدةSad( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ *)) . سورة الروم آية رقم:(55) .
أَمرَّت عليهم سنوات عذاب القبر ودهوره وكأنها ساعة واحدة؟، أم أنهم كانوا بحالة رُقاد وسُبات لا يدركون؟.
وحين تسأل الملائكة بني الإنس عـن مـُدَّة مكوثهم في الأرض فإنهم يُقَدِّرونها بيوم أو بعض يوم، وما ذلك إلا لتوقف مرور الزمن بعد الموت، وسرعته قبلها، وفي ذلك يقول تعالى:
((قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ*قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ***)). سورة المؤمنون آية رقم:(112-114).
فهل تمر سنوات العذاب سريعة على المعذبين ولا يستثقلونها؟.
وكل ذلك الزيف الذي حشوا به أدمغتنا يدحضه الله الذي لا يعاقب الناس إلا يوم القيامة، بل يؤخرهم عمدًا لذلك اليوم، وفي ذلك يقول ربنا:
((وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ*)) . سورة إبراهيم آية رقم:(42) .
فكلهم تم تأخيرهم ليوم واحد بعينه، هو يوم القيامة، وليس يوما قبله.
ولماذا يتمنى الكافر أن يكون تُرابا؟، ءَإذا ما كان يُعَذَّب في قبره أفيتمنى أن يعود مرة أخرى إلى التراب؟، أم أن أصحاب فكرة عذاب القبر سيقولون مرَّة انه عذاب بتراب القبر؟، ومرَّة أخرى يقولون بأنه عذاب بالبرزخ، ومرَّة يقولون بأنه عذاب يقع على الجسد، وآخرون منهم يقولون بأنه يقع على النَّفْس والجسد معا، وصنف ثالث يقول بأن العذاب يقع على النَّفْس فقط، ومع ذلك يتمنى الكافر أن يعود إلى التراب، بل ويكون تُرابًا:
((إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا*)). سورة النبأ آية رقم:(40) .
فيا تُرى هل بعد أن يعلم الكافر حقيقة سوء عمله يتمنى أن يعود إلى عذاب التراب، أم إلى سُبات التُراب، بل هو يريد أن ينقلب ليكون تُرابا!!، وما ذلك إلا لأنه لم يُعاين بالتراب أي عذاب.
ولماذا يتعجب من تَسَلَّمَ كتابه بيمينه من أنه نجا من عذاب الله؟، ألم يكن ينعم في قبره كما يزعمون؟، ولماذا يولول من تَسَلَّمَ كتابه بشماله ويقول بأنه لم يَدْرِ حسابه إلا يوم القيامة؟، هل عجزنا عن إدراك التناقض بين النص وبين ما نعتقد؟، ..(سيأتي تفصيل ذلك لاحقا).
ولماذا يُبَدِّل الله جلود الناس في جهنم ليذوقوا العذاب بينما لا يُبدلها في القبر؟، هـل عذاب القبر يكون بغير طريق الجلد، أما عذاب جهنم فيكون عن طريق الجلد!!، كل ذلك ستتم الإجابة عليه بالدليل من الكتاب والسُّنة الصحيحة، والعقل القويم، لأنه لا إحساس ولا عذاب ولا حساب بالقبور، اللهم إلا مجرد أوهام مزيفة على دين الله، ولا علم لمن يقولون بذلك إلا علم ترديد مغلوط التراث الذي حسبوه دينا، وما هو من الدين في شيء ولا بصيص له من علم.
رابعا:المـوتى والسمع:
ومن بين ما ابتلينا به على أيدي أدعياء السُّنة ومجانين الزيف على النبي، موضوع تصور سماع الموتى للسلام عليهم، وهناك من طوروا الموضوع، فجعلوه مناجاة للموتى، بينما يقول القرءان غير هذا، لذلك سأسرد الآيات لقوم يعقلون فقط، وذلك فيما يلي:
قوله تعالى:
((وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ*)) . سورة فاطر آية رقم:(22) .
والسمع وعدم السمع غير الصمم، فعدم السمع يعني تعطل إدراك الأصوات رغم سلامة أجهزة السمع ووجودها.
وقوله جل شأنه:
((إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ*)) . النمل آية رقم:(80) .
لكن أئمة عذاب القبر يُحددون معنى تلك الآيات أنها عن الكافرين فقط، وهو الأمر المردود عليه بأن التشبيه في البلاغة أن يُضرب المثل بشيء صادق وواضح، لموضع يشبهه ولكن أقل منه وضوحا، فالمُشبه به يكون أقوى من المشبه، فإذا ضرب الله مثلا عن الكافرين بأنهم لا يسمعون كلام الرسول، فإن المثل لابد أن يكون صادقا، والمعنى أن الكفار مثل الموتى فالصنفان لا يسمعان، ويعني ذلك أن سمع الموتى أكثر استحالة.
فهل بعد ذلك نجد من يتوهمون أن الموتى يسمعون قرع النعال والسلام، وينسبون ذلك للنبي، إني أراهم يُكَذِّبون بآيات كتاب الله لذمة الضلال والإفك، فمن العجب أن يعمل السمع دون باقي أعضاء الميت.
بل لقد جعلوا من أهل الإسلام بعضا من المجاذيب الذين يناجون من بالقبور، فلماذا لا تسألون أنفسكم عن إدراك الميتين أهو موجود في السمع فقط؟، أم هو بالبصر أيضا!، وهل هو إدراك للسلام دون باقي الكلام؟، وما فائدته لهم؟، إني أرى ذلك النهج من بقايا الوثنية التي كانت تُلبس الموتى أحلى الحلل، وتضع بجوارهم الحُلِيّ والطعام انتظارا لقيامهم من موتهم مرة أخرى بذات المكان، فما هو إلا محاولة تعظيم لدور وقيمة الجسد حتى بعد الوفاة.
إن الله يجعل برزخا (حائلاً) بين الأحياء والأموات، فلا يسمع هذا عن ذاك، ولا يشعر الأموات بالأحياء، وهو ما سنُبينه بتلك الدّراسة تحت عنوان (الموتى ـ الزمن ـ الشعور) صفحة59 من الكتاب، والله تعالى يقول:
((لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*)) . المؤمنون آية رقم:(100) .
فالذين يُسلِّمون على الموتى بزعم أن الأموات يردون السلام أو يعرفون الزائرين لهم، فهؤلاء في وهم، ولماذا لا يعمل بصر الموتى أيضا؟، بل يمثل ذلك الاعتقاد نوعا من الوثنية في بعض الأحوال.
خامسا: ينقطع الجزاء بالموت إلا من ثلاث:
وإننا نقرأ قول المولى عز وجل:
((مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ*)) . سورة فاطر آية رقم:(10) .
فذلك يعني أن الكلام الطيب يرتفع إلى الله فورا، لكن العمل الصالح يُرفع تدريجيا وبصفة مستمرة كلما أفاد الناس.
فمن أقام مسجدا، ومن أقام ملجأ للأيتام، ومن تبرع لفقير بصدقة، ومن ربَّى أولاده فأحسن تربيتهم، ومن ترك علما يُنتفع به، كل أولئك وغيرهم ممن تمنهجوا بالعمل الصالح، تصعد حسنات أعمالهم حين يقومون بها، وكلما استفاد الناس والمجتمع منها، وهو عمل يجري ثوابه حتى بعد موت صاحبه، فإن كان الميت قد قصَّر به عمله فإنه يجد ثواب صدقته الجارية يُدركه، أو علمه الذي ينتفع الناس به، يخرجه من دائرة المقصرين إلى دائرة الذين أنعم الله عليهم وهكذا، لذلك فالعمل الصالح يرتفع أثره رويدا رويدا كلما أفاد الناس.
وفي شأن توالي الحسنات، واستمرار مضاعفة الثواب، يقول الله تعالى:
((إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ*)) . سورة الحديد آية رقم:(1Cool .
ورسول الله – عليه الصلاة والسلام - يقول فيما رواه مسلم بكتاب الوصية حديث رقم: (1631):[ إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية. أو علم ينتفع به. أو ولد صالح يدعو له]، بما يعني أن الأجر يحتسب لصاحب العمل الصالح بعد موته، فكيف يُعذب بقبره ولازالت أعماله تُثْمِر، ولها فوائد للناس، وعلى أي أساس وبأي مقدار سيتنعم؟، وماذا سنفعل في حسنات صدقته الجارية أو علمه الذي ينتفع به الناس أو ولده الصالح الذي رباه فأحسن تربيته فهو يدعو له؟!.
وأصحاب البدع الذين فتنوا الناس، ومن سَنُّوا سُنَنًا سيئة عمل الناس بها، فأضرَّت العباد والبلاد، أولئك تُضاعف لهم الذُّنُوب كلما عمل الناس ببدعهم، فكيف سيتم عقابهم وما زالت شرورهم مستفحلة في الدنيا رغم موتهم؟، والله ـ تعالى ـ يقول:
((لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ*)) .سورة النحل آية رقم:(25) .
فانظر ـ رحمك الله ـ لتعبير (أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً)، إنه يعني أن الذنوب لا تكتمل إلا يوم القيامة، فهل سيتعذبون بالقبر على أشياء دون أخرى؟، وماذا يظن سدنة عذاب القبر قبل اكتمال الحساب؟، ألا يزالون مصرين على وجود العذاب المزعوم بالقبر؟.
ونعيم القبر المزعوم يجب أن يكون بقدر، فهل يكون نعيم القبر بلا حساب؟، هل يتساوى الجميع في النعيم؟، وسأضرب المثل برسول الله – عليه الصلاة والسلام - ، فإننا إن أحصينا عدد المسلمين الذين توفي عنهم رسول الله، لكان ذلك العدد هو حظّه من الثواب الذي ستتم مكافأته عليه، لكن علينا إحصاء عدد المسلمين حتى قيام الساعة لأنهم ثمرة جهده وكفاحه، فلا شك أن جزاءه سيكون أعظم، وذلكم صعود العمل الصالح رويدا رويدا.
سادسا: سـؤال الملـكين:
وسؤال الملكين الذي تأوَّل به المُفَسِّرُون قوله تعالى:
((يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء *)) . سورة إبراهيم آية رقم:(27) .
فتصوروا أنه سؤال الملكين بالقبر، فقاموا بإنشاء ازدواج في السؤال، سؤال بالقبر، وسؤال يوم القيامة، ولست أدري ما فائدة سؤال ينتهي إلى عذاب مُحَتَّم أو إلى نعيم مُحَتَّم بالقبر، وفق تصوُّر أصحاب الأوهام والعذاب؟.
إن سيدنا حزقيال لم يُسأل في قبره وقد مات مائة سنة ثم بعثه الله ليكون للناس آية، فهل هو آية منقوصة؟، إن عدم سؤاله في قبره يضع الروايات الخاصة بوجود زمن وسؤال وجواب في القبر بمأزق شديد،(راجع تخريج ذلك الحديث بنهايات الكتاب ص[135و136].
وهل تصور أصحاب مفهوم السؤال بالقبر أن إجابة الميت الذي فقد الحياة ستُغَيِّر من عمله الأسود أو الأبيض شيئا!!، هل يُمكن للفاسق أن يجيب إجابة صحيحة؟، وهل إذا أجاب إجابة صحيحة فسيتغير مصيره؟، وإذا لم يتغير مصيره فماذا يفيد السؤال؟، وهل تلك الروايات المبتدعة هي التي تُحَفِّز الناس للإيمان بالله!؟.
أعتقد أن مسرحية الأسئلة الثلاثة (من ربك ؟ ما دينك ؟ من الرجل المبعوث فيكم؟) كانت تنطلي على أبناء الأمس لكنها لا تفي بقناعة عقول أهل اليوم، وأن الأحاديث المنسوجة بشريا ومنسوبة زورًا للنبي في هذا الأمر ليست إلا تزويرًا سيحاسب أصحابه بجريمة الكذب على الله ورسوله – عليه الصلاة والسلام - ، ولابد أن الأمر عُرض على البخاري ومسلم فلم يجيزاه.
وعبارة حساب الملكين المشهورة على ألسنة الناس لا وجود لها في أرض الواقع، وما إشاعة الملكين وحسابهم ـ وفق قصصهم ـ إلا مجرد سؤال تقريري ليقرر كل ميت، [ ربَّهُ ـ ودينه ـ ونبيه]، فأين الحساب في هذا، لكن دُعاة عذاب القبر تمكنوا من إنشاء دين موازٍ لدين الله ينبثق من فقههم عن الدار الآخرة، وولعهم المسمى بعذاب القبر، وأصبح منهاجهم هو (التدين الشعبي)، فاستفحلت حكاية حساب الملكين التي لا سند لها من الواقع أو الشرع، وهو ما سيتم تبيانه.
وتبعا لخرافة السؤال بالقبر، فقد كان من الطبيعي أن ينشأ فقه التلقين للميت، وأبدع في التلقين أُناس كُلٌّ يستعرض بضاعته المنبثقة من تقوى مزيفة لا تستند إلى علم صحيح ولا فكر قويم، وآخرون يستجلبون بالتلقين أموال المكلومين من أقارب الموتى، وما التلقين إلا محض خيال من أشخاص أراهم من المرضى نفسيا، وهم في أشد الحاجة لعلاج نفسي عاجل، ولقد فتنوا الناس، وأضلوا الأمة، وهم يقومون بإسماع الميت أمورًا مضحكة، ويزعمون بأنه يسمع ويعي.
ولم يكتف أولئك المضرورون عصبيا وفكريا بذلك، بل تراهم يحملون الناس على الجلوس عند القبر بعد تمام الدفن، بزعم أن الميت يأتنس بهم ، أو قل حتى تأتنس بهم الجثة، ويقولون إن سبب ذلك الائتناس تخفيف هول سؤال الملكين للميت، ويزعمون تلك الحالة المرضية أنها حديث قولي لرسول الله – عليه الصلاة والسلام - ، بل حددوا وقتًا للمكث، وهو قدر ما تُذبح الجزور (الجمل الصغير) ويوزع لحمها.
ثم حين ينصرفون يزعمون بسماع الميت لقرع نعالهم، أرأيت الإخراج المسرحي النابع من أمراض نفسية وبدع أُلصقت بالدين وما هي منه في شيء!؟.
وبالمناسبة أذكر حديثا ينسبونه للنبي حين كانت وفاة إبراهيم نجل الرسول، حيث مات طفلا رضيعا فأورد ابن حجر بكتاب الجنائز بالحديث رقم: ( 1316 ) قوله: لما توفي إبراهيم زاد الإسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة بسنده، عن رسول الله – عليه الصلاة والسلام - وله أيضا من طريق معاذ، عن شعبة بسنده عن النبي – عليه الصلاة والسلام - حين توفي ابنه إبراهيم قوله: [إن له مُرضعًا في الجنة]، فهل يتصور أحد العقلاء أن الطفل الذي مات ولم يستكمل الرضاعة سيُعَيِّن الله له مرضعة بالجنة لاستكمال نموه؟، فما بال من مات وهو مشلول هل سيُعَيِّن الله له طبيبا بالجنة يداويه؟، وهل لذلك نجد من تصيح على ميت لها تقول: [ يا للي مُتْ ونِفْسَكْ في القرع يا حبيبي] عسى أن يعطيه الله قرعًا في الجنة.
ومسألة الاعتماد على الحديث النبوي في الإيمانيات، عارضها كثير من العلماء نظرا لظنية ثبوت الحديث النبوي مهما كانت درجة صحته (سبق بيانه بالفصل الأول)، ومع ذلك فقد استغل أصحاب الدسائس حُبنا لرسول الله، فجعلونا نستقي ديننا من الأحاديث وتوارى الاعتماد على تدبر القرءان رغم تيسير الله قراءته، وفرضية تدبره.
إن تثبيت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا يكون حال حياتهم، ويكون التثبيت بالقرءان، وليس بكتاب آخر سواه، وبالإيمان بلا إله إلا الله في الحياة الدنيا، وعناصر الإيمانيات بالحياة وردت بالكتاب والسُّنة على سبيل الحصر فلا يمكن إضافة ترهات إليها، ولا وجود لأسئلة الوهم المكذوبة التي ترويها أساطير الأولين، فالذين تصوروا التثبيت سؤالا موهوما بالقبر عليهم إعادة مراجعة كتاب الله دون أن يتأثروا بمروياتهم التي يظنونها أحاديث نبوية، فليس بالقبر سؤال ولا جواب، فضلا أن القبر من منازل الآخرة وليس من الحياة.(ورد تفنيد ذلك بالفصل الثاني ص 43 وسيرد بالفصل الثالث تحت عنوان تفنيد حُجج أنصار فكرة العذاب بالقبر ببند حججهم من القرءان تحت رقم: (5) صـ(82) وما بعدها).
سابعا: البعث وتسليم الكُتُب....
وسنتناول الأمر على وجهين:ـ
الوجه الأول: البعث:
من بين ما كشفه القرءان من زيف عذاب القبر المزعوم، ما يؤكد عدم مرحلية القبر، وفي ذلك يقول ـ تعالى ـ عن البعث:
1 ـ ((قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ*)) . سورة السجدة آية رقم:(11) .
2 ـ ويقول تعالى:
((وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ*وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ*)).سورة [ ق ] آية رقم:(19-20).
أي من الموت إلى البعث فورا بلا مرحلية.
3 ـ وقوله تعالى:
((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*)) . سورة النحل آية رقم:(32) .
فها هي الآية الثالثة تُـقرر أنه من الوفاة إلى دار السلام مباشرة، فمن يمت تقم عليه وعلى كل الخلائق القيامة العامة فورًا دون إبطاء، ودون فترة يمكث فيها بالقبر، وهو ما سيرد تفصيله تحت عنوان [الموتى. الزمن. الشعور]، فيمكن الرجوع إليه (راجع ص 59 ).
ومن دلائل عدم وجود عذاب بالقبر أنه حين البعث يحلف الكفار ويقسمون لله للدفاع عن موقفهم، أيتم ذلك القَسَم لأُناس تعذبوا أم لمن لم يعاينوا أي عذاب؟، وفي ذلك يقول سبحانه:
((يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ*)) . سورة المجادلة آية رقم:(1Cool .
ومن أدلة عدم وجود عذاب بالقبر، ما قصَّهُ الله علينا من نبأ الكافرين، حيث كانوا يُكذِّبون بالبعث وبوجود حياة أخرى بعد الموت، فلو كان النبي حدَّثَهُم عن وجود عذاب بالقبور لأنكروه أيضا، حيث يقول تعالى:
((إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ*إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ*)) . سورة الدخان آية رقم:(34-35) .
وماذا يظن أصحاب فكرة عذاب القبر في البعث؟، هل هو فترة راحة بين عذاب القبر وعذاب الآخرة؟، وهل من مات منذ عشرة آلاف سنة سابقة على القيامة، أسوأ حظا ممن مات قبل القيامة بيوم أو حتى يومها؟، أيكون في ذلك أي نوع من العدالة؟، بل لقد اكتشف في عام 2009 هيكل عظمي لإنسان كان يمشي على الأرض قبل أربعة ملايين وأربعمائة ألف سنة وأسماه العلماء آردي، وكانوا قد اكتشفوا قبلها في عام 1974 هيكلا عظميا أسموه لوسي، عمره ثلاثة ملايين ونصف مليون عام، فهل كان آردي ولوسي يتعذبان منذ ملايين السنين؟، أطرق هذا المثال الحقيقي للهياكل البشرية حتى يفيق المسلمون من النظريات الفكرية السطحية التي برعوا فيها.
الوجه الثاني: تسليم الكُتُب لأصحابها:
ومن بين الضربات القاصمة التي يوجهها القرءان لأصحاب فكرة عذاب القبر مسألة تسليم الكتب، حيث يشرح القرءان ويؤكد عدم سبق البعث بأي عذاب ولا نعيم بالقبر، ولا رؤية مقعد من الجنة ولا من النار.
وتدبر في ذلك قول ربنا، وابحث عن سر الفرحة العارمة التي تصيب الذي تَسَلَّمَ كتابه بيمينه، حيث كان يتصور أن الله مُعَذِّبَهُ، لكنه نجا بكثرة ما وجد بصحائفه من ثواب، لذلك فهو يقول:
((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ*إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ*فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ*)) . سورة الحاقة آية رقم:(19-22) .
وفرحته العارمة بعد المفاجأة، تدل على أنه لم يتنعم في قبره، ولم يسبق أن رأى مقعده من الجنة ولا من النار، أم تَرى لها تفسيرا آخر عند المضرورين نفسيا وعقليا؟،...نسأل الله لهم الشفاء.
ومن أوتي كتابه بشماله يُصرِّح حين تَسَلَّمَ كتابه بأنه لم يَدْرِ حسابه إلا يوم القيامة، وفي ذلك يقول تعالى:
((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ*يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ*)) . سورة الحاقة آية رقم:(25-27) .
إن مقاله يؤكد أنه لم يتعذب بقبره، ولم يعلم حسابه إلا يوم القيامة، ولم يسبق له أن رأى مقعده من النار بالقبر كما يزعمون، أم ترى الفوضى الفكرية يكون لها تفسير آخر وتختلس الطرق لتقويض صريح معاني القرءان واستبدالها عن طريق تأويلات بشرية لآيات ظنية الدلالة للوصول إلى معتقداتهم الشاذة.
وأصحاب الأعراف الذين قال عنهم أصحاب التفاسير إنهم الذين تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، تُرى أيعذبهم الله في القبور أم ينعم عليهم؟، أما آن لنا أن ننظر للأمور بشمولية وموضوعية؟.
وبعد ذلك تكون مرحلة المجادلة، فكلٌّ يُجادل دفاعًا عن نفسه، عسى أن يخرج إلى دائرة الأمان، وفي ذلك يقول جل وعلا:
((يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ*)) . سورة النحل آية رقم:(111) .
فإذا كان قد رأى مقعده من النار كما يقول أصحاب مسرحية عذاب القبر ففيم يكون الجدال؟!.
ومن البدهي أن يفزع أُناس لكون كل ما نقضته من فكرة تكلم الجنازة، وعذاب القبر، وغير ذلك من أعمال الدار الآخرة مذكورًا بكتاب صحيح البخاري وغيره من الصحاح على أنه أحاديث صحيحة لرسول الله، فكيف يتم تكذيب كتب الصحاح ونعتمد كتاب محام يشتغل بالقانون وليس له دراية المُحَدِّثين وعلم فقهاء الموت والعذاب؟.
والإجابة عن ذلك التعجب يسيرة، إذ كيف جعل الله من البدو رعاة الأغنام والأجلاف صحابة وفقهاء؟، وهل توقفت رحمته في الهداية عند الصحابة والأئمة الأعلام؟، وأين المتعجب من قوله تعالى بسورة البقرة:
((وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ*)) . سورة البقرة آية رقم : (282) .
بما يعني أنك كلما اتقيت الله هداك.
((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ*)) . سورة يونس آية رقم : (9) .
فأين المعاهد الدينية وكُتبها الأكاديمية من الهداية؟، إن الإيمان والتقوى هما أساس الهداية، وما المعاهد الدينية إلا عوامل مساعدة لمن أراد الهداية، وهذا هو سر هداية الصحابة ومن بعدهم ممن ساروا على نهج نبيهم، أعني بذلك أن الإخلاص في عبادة الله عمليا إنما هو أساس الهداية لمن أرادها، سواء أكان متخصصًا أم لا، وسواء أكان يعرف القراءة والكتابة أم لا، وإلا فماذا يصنع المغول وغيرهم من المسلمين من غير العرب، وهم أضعاف عدد العرب المسلمين، أليسوا بمهتدين؟!، أرى أن علينا مراجعة الكثير من توجهاتنا لتنضبط وكتاب الله.
والهداية تكمن في كتاب الله الذي تَرَكَهُ الناس ورحلوا عنه إلى السُّنة النبوية الصحيحة والسقيمة، التي لم يتعهد الله بحفظها، فقالوا بأن فقهاء السُّنة حفظوها كأفضل ما يكون الحفظ، فهم في رياح تذهب بهم بعيدا عن كتاب الله حتى ضلوا السبيل، لأنهم تركوا كلمات الله إلى كلمات غير الله:
((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ*)) . سورة الجاثية آية رقم : (6) .
وقوله تعالى:
((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا*)) . سورة النساء آية رقم : (82) .
ثامنا: الـيوم ويومـئذ:
إن القرءان حين يورد كلمة ( اليوم ) أو كلمة ( يومئذ )، فإنما يعني في غالب الأمر يوم القيامة، ولم يعن أبدًا يوم الوفاة ولا يوم النزول إلى القبر، والله ـ تعالى ـ يؤكد أن أجور الناس موكولة إلى يوم القيامة وليس للقبر، وفي ذلك يقول سبحانه:
((كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ*)) . سورة آل عمران آية رقم : (185) .
فهل يُكذب أصحاب عذاب القبر معنى: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، فهم يتصورون حدوث ذلك يوم الموت وليس يوم القيامة، وما يوم القيامة عندهم إلا مجرد استكمال لما بالقبر من نعيم أو عذاب، وأتعجب من عدم فهمهم لمعنى كلمة (وَإِنَّمَا)، إنها تفيد حصر الجزاء في يوم القيامة فقط.
إن الله يَسَّرَ القرءان للذاكرين، فلسنا بحاجة إلى فهَّامة من متخصصين، ولن نخاف تهديداتهم أننا سندخل جهنم إن لم نوقف تفكيرنا ونعتمد عليهم، إنهم يُقدِّمون لنا بضاعة البَلَه حتى نكون وذرارينا من البُلَهاء، وأرى أنه تم لهم ما أرادوا فعلا إلا من نفر منا قليل.
إن الله ـ تعالى ـ يقول:
((وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *)) . سورة البقرة آية رقم : (281) .
أيختلف اليوم الذي توفى فيه كل نفس ما كسبت من شخص لآخر؟، فأنا اليوم، وأنت غدا، وهو بعد غد؟، بينما يقرر القرءان أنه يوم واحد، هو يوم القيامة (185 آل عمران)، أم أن زيف المُتسننين وجمودهم الفكري، يطغى علينا وعلى القرءان وآياته؟؛ أم تراهم فشلوا في تبديل كلمات القرءان، فاستبدلوه بزيف في السُّنة.
ويقول جل شأنه:
((يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ *)). سورة النورآية رقم : (24-25) .
فماذا يقول المُتسننون بلا سُنَّة في قوله تعالى وتحديده ليوم القيامة لمسألة شهادة أعضاء الظالم عليه، وتوفية الناس أُجُورهم فيه؟ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) هل يحتاج الأمر لفهامة من المتخصصين أو من الملتحين؟.
وكيف سيتعذب الإنسان في قبره ولا يزال هناك تعليق للفصل بين الناس بعضهم البعض إلى يوم القيامة، فلربما تكون هناك للميت حقوق لم تُدرج له، وقد تكون عليه أوزار، ويؤكد القرءان أن ذلك الأمر يكون يوم القيامة وليس في يوم آخر، فيقول تعالى:
((اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ *)) . سورة الحج آية رقم : (69) .
أم أن مليونيرات عذاب القبر سينكرون استخدام العقل من أجل سواد أحاديث كُتِبَت بمداد الإفساد والإفك؟.
ويؤكد القرءان أن مصير الناس مؤجل إلى يوم القيامة، فيقول تعالى:
((لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ *)). سورة المرسلات آية رقم : (12-15) .
فهل مصير الناس مؤجل ليوم قبل القيامة عند أصحاب فكرة عذاب القبر ونعيمه؟، أم تراهم يكفرون بآيات كتاب الله لصالح موروثاتهم البشرية المزيفة!!، بينما الله الجليل يقول أيضا:
((وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ*)) . سورة ابراهيم آية رقم : (42) .
فما رأي سدنة عذاب القبر وأشياعهم في أن الله يؤخر الحساب إلى يوم القيامة تحديدا وليس يوما قبله كما يزعمون؟.
والناس سيختصم بعضهم البعض أمام الله يوم القيامة، فإذا تخيلنا عذاب القبر الموهوم أنه حقيقة واقعة، ففيم سيكون الاختصام أمام الله يوم القيامة؟، وفي ذلك يقول تعالى:
((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ*ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ*)). سورة الزمر آية رقم : (30-31) .
فالفصل بين الحق والباطل، وبين الصالحين في الجنة والظالمين في النار يكون يوم القيامة.
وقد عمرت سورة المرسلات بتكرار قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ)؛ فالويل يكون فقط يوم القيامة، وهو المحدد بلفظ (يَوْمَئِذٍ).
ويقـول تعالى:
((يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *)). سورة الزلزلة آية رقم : (6-Cool .
فرؤية وتحديد المصير يكون يوم القيامة، فذلك معنى كلمة (يَوْمَئِذٍ) في غالب أمر ورودها.
ويقول سبحانه: ((فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ *)) . سورة سبأ آية رقم : (42) .
فتذوق النار يكون بذلك اليوم، والتذوق أول أي أمر فيه إطعام أو تجرع، سواء أكان إراديا أم إرغاميا، ويوم الدين هو اليوم الموعود للناس جميعا، سواء أكانوا من فئة المنعمين أم من المعذبين، حيث يقول تعالى:
((يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ *)). سورة الذاريات آية رقم : (12-14) .
فلو كانوا سبق تعذيبهم ما قال لهم الله يوم القيامة:
(هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ).
ومن أدلة فساد قولهم على أن الميت يعرض عليه عمله بقبره وأنه يطَّلع على مقعده من الجنة أو النار، ما ذكرناه من تطاير الكتب وأثبتنا به عدم معرفة كل إنسان مصيره إلا بعد أن يلقى كتابه، لكن نضيف لهذه الأدلة العقلية أدلة من صريح آيات كتاب الله، حيث قرأت في كتاب الله أن العبد لا يعرف إحصاء ما عمله إلا بعد أن تُنشر الصحائف {الكتب} وذلك من قوله تعالى بسورة التكوير:
((وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ *)). سورة التكوير آية رقم : (10-14) .
ففي ذلك دليل دامغ على ترتيب الأحداث، وأن الموتى لا يعلمون حقيقة أمرهم إلا بعد أن يتسلموا الصحائف، وبعد حضور الجنة والنار.

.مستشار أحمد عبده ماهر...