الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

samedi 22 juin 2013

حقوق الإنسان وحرياته في الإسلام

القسم الأول: حقوق الإنسان وحرياته في الإسلام
الفصل الأول
حول مفاهيم الحرية في الغرب:
ليس اال هنا بحثاً فلسفياً حول مفهوم الحرية، فإن مثل هذا البحث العقلاني في ماهية الحرية
للبرهنة على وجودها لم يكد ينتهي إلاّ إلى نفيها واعتبارها وهماً شأن البحث في ماهية الإنسان أو عقله أو
روحه، ليس من شأنه إلاّ الإفضاء إلى العجز والتردي في الخلط والتناقض، وما لا طائل وراءه بسبب عدم
تأهل أدوداتنا المعرفية لإدراك الماهيات( 1). وحتى في الحالات التي خيل فيها لبعض التيارات الفسفية أا
تمكنت فلسفياً من الوصول إلى نتائج ايجابية في بحثها الحرية من خلال انصرافها عن البحث العقلي ارد
والتركيز على الحالات الوجدانية والأفعال الحرة فقد كانت الروح العدمية هي المسيطرة غالباً على تلك
الفلسفات، حيث صورت الإنسان الحر كائناً معزولاً قلقاً محطماً، لا يرى سبيلاً إلى حريته غير تحطيم كل
.( الروابط والقيم التي تشده إلى غيره، مما لم يبق معه معنى لوجوده الحر غير الانتحار والعبث( 2
غير أن البحث في الحرية ما لبث أن غادر الميتافيزيقا واتجه إلى مجالات تمكن فيها الرؤية بشكل واضح مثل
اال الأخلاقي والقانوني والسياسي، فانصب البحث على علاقة الإنسان بالمؤسسة السياسية والاجتماعية
والاقتصادية... أي على جملة حقوقه... وأصبح الحديث عن الحريات بالجمع بدل المفهوم الفلسفي
"الحرية". لقد غدت الحرية بذلك هدفاً لنضال الشعوب المستضعفة والطبقات المضطهدة والضمائر الطيبة
أكثر منها مادة لتأملات المفكرين، اللهم إلاّ أن يكونوا مفكرين سياسيين وقانونيين يضبطون مجالات
الحرية في إعلانام لحقوق الإنسان وفي الدساتير ولدى حديثهم عن نشأة الدولة... وعن جملة الحقوق
والخدمات التي عليها توفيرها وضماا للمواطن حتى يحقق شخصيته المادية والمعنوية، ويشارك في إدارة
الشؤون العامة، ويحدد مصيره بعيداً عن كل إكراه من خلال امتلاكه لجملة من الإمكانات أو القوى أو
الحقوق، مثل حقه في التفكير والاعتقاد والتعبير والاجتماع والعمل والتنقّل والعبادة والتملك ... مما
1) أكدت أبحاث الفيلسوف الألماني كانط، ومن قبله بوقت طويل أبحاث ابن خلدون عجز العقل عن إدراك حقائق الأشياء، ودعوما إلى )
قصر عمله على عالم الظواهر. انظر
Emanuel Kant, Critique de la raison pure, préface de Ch. Serrus, Presses universitaires de France, Paris, 1971,et
.(1959- يرجع الى فصل إبطال الفلسفة من "المقدمة"لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1956
2) تمثّل الوجودية الملحدة مع سارتر وكامو خير نموذج لهذه الحرية العدمية، ويحلل الفيلسوف الكبير روجيه غارودي ظاهرة العزلة هذه التي )
يعيشها الإنسان المعاصر، فيقول :" والإنسان في مجتمعاتنا الأوروبية محكوم عليه بالعزلة والانفراد عن باقي الناس بفردانية لا تزال تتفاقم منذ
عصر الفاتحين حتى الانحطاط الأخير للجماهير المنعزلة بسبب اتساع المنافسات". انظر: روجيه غارودي، وعود الإسلام (بيروت : الدار
العلمية).
طفحت به إعلانات حقوق الإنسان منذ القرن الثامن عشر وحتى هذا القرن حيث غدت الوثيقة الموسومة
بالعالمية لحقوق الإنسان تمثّل انجيل الحريات العامة ، تنهل من ينبوعها وتحلي ا دساتيرها معظم دول
العالم كشهادة على انتمائها إلى عالم الحريات والديمقراطية وإن تكن موغلة في الإستبداد.
تقويم: ولقد أخذ على جملة هذه الحقوق أو الحريات بأا شكلية أو سلبية تعطي الإنسان إمكانات نظرية
دون أن تمكنه من وسائل بلوغها أو تحميه من القهر. من حقه أن يفكّر ويعبر ويمتلك، وينتقل، ولكن أنى
له ذلك ما دامت الثقافة والثروة والسلطة تحتازها قلة قليلة من المواطنين، مساوية له نظرياً في تلك
الحقوق،ومتفوقة عليه في كل شيء في الواقع.
ويؤكد هذا النقد هجومه على هذه الحريات التي كثيراً ما تنعت بأا برجوازية حكر على الفئة المحظوظة،
من خلال التذكير بالملابسات التاريخية التي حفت بولادة هذه الإعلانات العامة لجقوق الإنسان والمواطن،
وتتعلق أساساً بالصراع الذي دار بين الطبقة الجديدة (التجار وأرباب الصناعة) من جهة وملوك الإطلاق
والإقطاع والكنيسة من جهة أخرى، فناسب مصالح الطبقة الجديدة المناداة بحقوق للإنسان مستمدة من
طبيعته كإنسان لا سلطان عليها لملك أو رجل دين، أو إله... كما ناسب إزالة سلطان الكنيسة الدعوة
إلى أوطان قومية تقوم فيها المواطنة على أساس لا صلة له بالدين إن لم يكن مناوئا له... وأن تزال جملة
الحواجز التي فرضتها الطبقات القديمة على أعمال التجارة والصناعة، حتى أن برتراند راسل الفيلسوف
الشهير عرف الحرية بأا غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات( 3). والدولة نفسها في هذه الرؤية، كما
سنرى ليست سوى شركة أنشأها الأفراد لصيانة تلك الحقوق والحريات، الأمر الذي يجعل طرح قضية
الحرية على هذا النحو " ينطوي على نظرة فردية هي في جوهرها سلبية تماماً، إا النظرة التي بكل ما
تحمله من التقليد الليبرالي لا ترى في الحرية إلاّ إمكانية مقاومة الفرد لمتطلبات الجماعة أو امكانية بقائه
بعيداً عن متناول السلطة( 4)، أي جورها.
إن تصور الفعل الحر على أنه الفعل الخالي من الإكراه يؤكد الطبيعة السلبية الميكانيكية للحريات الفردية.
ذلك أن عوائق الإرادة الحرة ليست كلها خارجية، فمنها ما هو ذاتي- ولعله الأهم سواء أكان عائداً إلى
سيطرة الاندفاعات والنزوات أم إلى غياب الوعي ونقص المعرفة، فضلاً عن أن الإكراه يمكن أن يتخذ
صوراً شتى قد تبلغ من الدقة والدهاء والخفاء في ممارسة عمله انعدام شعور الضحية به، وهو ما يحصل
فعلاً في مجتمعات "الديمقراطيات الشرقية" وحتى والغربية، من سيطرة للدولة أو للمؤسسات الرأسمالية على
. 3) عبد الوهاب الكيالي [وآخرون]، موسوعة السياسة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979 )، ج 2، ص 244 )
. 4) جان وليام لايبار، السلطة السياسية، ترجمة الياس حنا ، ط 3 (باريس؛ بيروت" منشورات عويدات، 1983 )، ص 104 )
أدوات الاتصال والتعليم والتثقيف، مما يجعل لها نفوذا عظيماً على عقول الجماهير وتكييف أذواقها، بما
يكفل الأمن وإدارة اللعبة السياسية في دائرة من النخبة والمصالح لا تبرحها. وليست الحملة العالمية التي
تديرها المؤسسات الأمريكية وأتباعها هذه الأيام على ما تسميه الخطر الأصولي بما مكّنها من نحت أو
حفر صورة موحدة محددة المعالم في الرأي العام الغربي وحتى العالمي للعربي وللمسلم على أنه إرهابي
متوحش خطر على الحضارة، إلاّ مثالاً واحداً على أساليب الإكراه المعاصر التي تمارسها الدولة الحارسة
للديمقراطية ولحقوق الإنسان!! الأمر الذي يؤكد غلبة الشكلانية والسلبية والخواء على هذه الحقوق
والحريات التي يتحدث عنها الاعلان، وذلك في غياب أساس فكري متين ثابت يقوم عليه البناء العام
للحرية ولحقوق الإنسان... تسنده ضمانات قانونية واجتماعية. ورغم أن الرأسماليين اضطروا مدفوعين
اجس الثورة الاشتراكية وضغوط الحركة النقابية إلى أن يكسوا مواثيق حقوق الإنسان بما يستر العورة
من الضمانات الاجتماعية بالقياس إلى ما هم فيه مترفون من العيش، فإنه مهما بقيت موازين القوى هي
المحدد للحقوق والحريات رغم التشدق بالحقوق الطبيعية، فليس هناك ما يمنع من التراجع عن تلك
التنازلات في صورة تغير موازين القوى لصالح المترفين والصقور – وذلك ماشرع في التحقق فعلاً- بفعل
انحسار المد الماركسي ونفوذ النقابات.
ويبقى النقد الماركسي – على قدر إصابته في تعرية الحريات والحقوق والديمقراطية الغربية- نقداً جوهره
الهدم والنفاق. فقد تركّز نقده الحريات الفردية على شكلانيتها بسبب عريها من ضمانات التحقق، وهي
وذلك راجع الى احتياز الثروة في يد الرأسماليين، الأمر الذي يجعل آلة الدولة في خدمة مصالحهم، وأنه لا
سبيل إلى الحريات السياسية ما لم تنتزع الملكية الخاصة، وتنتقل إلى الجماعة، فتسقط بتلقائية عجيبة كل
أسباب الاستعباد بل تسقط الدولة ذاا وتتلاشى لانعدام مبرر وجودها، وهو القمع خدمة للملكية
الخاصة!! ذلك ما بشرت به النظرية ،أما الذي حدث، وكان ينبغي أن يحدث وقد تحققت مقدمات الحلم
أو "الأتوبيا" بانتزاع الملكية من أيدي الرأسماليين والإقطاعيين منذ ما يزيد عن النصف قرن... الذي
حدث أنه ولئن تحقق للسوفيات وأمثالهم نسبياً إطعام الجائعين، وتحقيق الحد الأدنى -في أمثل الحالات-
من ضمانات البقاء، فلقد كان الثمن الذي دفعته الشعوب المبتلاة، من أرواحها وحرياا وكرامتها
باهظاً... إذ السلطة لم تتلاش ولا هي اتجهت في طريق التواري، بل قد عظمت وتضخمت وأحاطت
بالفرد المسكين من كل جانب، كيف لا وقد احتكرت وسائل البطش والإغواء: السلطة والثروة والإعلام
والثقافة دون منازع؟ الأمر الذي هيأ لها اال فسيحاً لفرض نظريتها في الحرية، وعلى الأصح غياب
الحرية، ولك أن تقول في الاستبداد والاحتناك( 5). وذلك ما يكشف عن أن السند الأساسي للحريات
السياسية الاجتماعية في الغرب الرأسمالي أو الاشتراكي ليس الإيمان بالإنسان فرداً أو جماعة كقيمة مطلقة
تمثل مصدراً لحقوق وحريات، فكل ما حبر في ذلك لا يعدو حلماً رومنطيقياً لما سمي بعصر النهضة
الأوروبية. إن الفكر الغربي في جوهره واتجاهه العام لا يقر بغير المادة وحركتها- مما يجعل هذا الكائن
المسمى إنسانا لا يعدو أن يكون لحظة متقدمة في حركة تطور المادة إنه ظاهرة وليس ماهية( 6). والنتيجة
أن المحدد الأساسي بل الوحيد للحريات والحقوق لا الله ولا الطبيعة الإنسانية ولا الحق الأزلي –كما ذكر
إنما هو إله آخر يسمى موازين القوى... القوة والسيطرة ، الثروة... ذلك معبود -Engles انغلز
الغرب ومصدر قيمه. وعبثاً يحاول المستضعفون والمعذبون في الأرض أن يقنعوا جلاديهم بمختلف أسمائهم
أن يجودوا عليهم –باسم الميثاق العالمي وحقوق الإنسان ومختلف المواثيق الدولية وبيانات الأمميات- ببعض
حق. فكل ذلك محض خداع النفس. السبيل الوحيدة التي يفقهوا: موازين القوى، وهي اليوم لصالحهم،
ولكنها قابلة للتعديل( 7) وليس في هذا بخس للجهود التي تبذلها القوى الحرة والمنظمات الإنسانية في الغرب
لصالح ضحايا القمع، بل إن تقديرنا لها كمسلمين عظيم، ونحن وإياها في جبهة واحدة ضد قوى الهيمنة
في بلادهم وبلادنا، ولكن تأثيرها في البيئات الغربية لا يزال محدوداً، وموازين القوى ليست بعد لصالحها.
وحتى في اللحظات التي يقر فيها الغربي الحاكم للإنسان من حقوق وقد يتحمس في الدفاع عنها، ويعقد
االس والهيئات القضائية والإدارية والإعلامية والاقتصادية لصيانتها، ويثور لانتهاكها، فهو غالبا يناور.
فما يدعوه بالإنسان ليس هو في صورته المثلى غير المواطن. وفي صورته الواقعية لا يكاد يتجاوز كثيرا
الطبقة المحظوظة، وهو ما يجعل إعلانات حقوق الانسان التي تحلّى ا وتدبج توطئات الدساتير أقرب الى
الايهام، إذ المقصود بالكاد يكون المواطن." إن كلمة إنسان هنا محشورة حشراً في غير موقعها، حشر
السليم في الأجرب، إلاّ أن يضاف إليها الفرنسي أو الانكليزي أو الغربي عامة، أي المواطن وهو سقوط
في التكرار المضلل. وحتى هذا الإنسان المواطن لا يحمل تكريماً في ذاته، لأنه إنسان، وإنما تكريمه في انتمائه
لنسق تاريخي واجتماعي وثقافي معين اسمه "الوطن" أو" الطبقة" أو"الجنس" الأوروبي"، " إن الإنسان في ما
وقد ورد في التفسير: لأستولين عليهم بالإغواء . ، لاحتنكن ذريته إلا قليلاً  : 5) توعد الشيطان آدم وذريته في صورة التمكن منه قائلا )
. انظر: محمد حسن الحمصي، تفسير مفردات القرآن، ص 289
6) انظر الدراسة الجيدة المتأنية التي قام ا محسن الميلي للفكر الغربي، في: محسن اليلي، العلمانية أو فلسفة موت الإنسان (قرطاج : مطبعة )
.( تونس، 1986
7) الغرب المقصود هو هذه الفلسفة المادية وما تولّد عنها من علاقات تقوم على القوة والسيطرة والمنفعة والرفاء، ومن نظام دولي يقوم عل ى )
الهيمنة وب خيرات الضعفاء وتدمير ثقافام، ولا يعني عامة لا الشعوب الغربية بعامة، فهي الأخرى الضحية الأولى لتلك الفلسفة والقيم
والتنظيمات القهرية.
يسمى بعلوم الإنسان في الغرب مجرد ذرة اجتماعية، وليس حقيقة متعالية متفردة بخصوصيات أخلاقية.
فليس للإنسان طبيعة، وإنما له تاريخ، ففي الإنسان لا توجد دوافع نفسية ثابتة، اللّهم إلا دافع الجنس
.( والأكل، ليس في طبيعة الإنسان خاصيات أولية مشتركة بين الناس، لأنه ليس للإنسان طبيعة"( 8
فعن أي إنسان يتحدث هؤلاء " إنه إنسان اللاوعي عند فرويد، وإنسان الجنون عند فوكو، وإنسان البيئة
عند البيئويين، وإنسان الجماعة لدى علماء الاجتماع.. إنه علاقات اجتماعية تحددها وسائل الإنتاج. إن
العلوم الإنسانية لا تدرس الإنسان بألف ولام التعريف، وإنما تدرس جوانب من الإنسان في وقت معين.
ولكن الإنسان من حيث هو وحدة متكاملة غائب من هذه العلوم... إنه غياب الإنسان في علوم
الإنسان.. فهل نتحدث عن علوم لا إنسانية.."إن العالم بدون إله أو عالم بروموثيوس المحارب لله.. وهو
،( الأساس الذي استقرت عليه الحضارة المادية في الغرب، هو كما يقول غارودي:" العالم بدون إنسان"( 9
- وإن جانباً كبيراً من الإنتاج الأدبي في الغرب.. وبعض مسالك الشباب في انتفاضة( 1968 في باريس)
وانتفاضات السودفي أمريكا والفئات المهمشة في ضواحي باريس ولندن ... ليست إلا بعض مظاهر
لتمرد الإنسان الغربي على هذه الحضارة ينتظر أن تتنامى وتتفاقم، بما لا يكاد يبقى من أساس قيمي يمكن
أن تستند إليه مواثيق الحقوق والحريات في الغرب غير جملة من الملابسات والأنسجة التاريخية والاجتماعية
والثقافية والمصالح قد تكون طبقة أو جنساً أو وطناً، مهما بلغ اتساعها وإنسانيتها لا يمكن أن تتجاوز
المركزية الغربية، حيث لا إله غير المادة، ولا سلطان لغير القوة، وحيث يباح للأمير المكيافيلي أن يسخر
كل شيء ويفعل كل ما يقدر عليه من أجل المحافظة على سلطانه وتوسيعه ودعمه بما في ذلك الله والدين.
ولا يكاد يخرج مفهوم الحضارة المسيحية اليهودية، وهي الوجه الآخر الأضعف للحضارة الغربية في
تصوره عن الإنسان وقيمه وحريته عن هذا الإطار السلطوي الاستغلالي. إا الى حد كبير حضارة
السامري الذي يجسد الإله في عجل ذهبي يعبد، وحضارة الإمبراطور الوثني قسطنطين الذي دخل
المسيحية، لا ليخضع لها، بل ليوظفها مستفيداً من التصور الوثني الإغريقي الذي صاغه اليهودي بولس
الرسول، وتأسست عليه كنيسته حليفة الاباطرة منذ قسطنطين الإمبراطور( 10 ) وذلك رغم الجهود التي بذلها آباء الكنيسة
لتحريرها من تراث قسطنطين تراث محاكم التفتيش وخدمة الاستعمار(انظر عمر فروخ التبشير والاستعمار)
وذلك عودا الى روح المسيح عليه السلام نصير المستضعفين.
.138- 8) المصدر نفسه، ص 134 )
.138- 9) المصدر نفسه، ص 134 )
10 ) ومن هذه الثنائية الوثنية الفصل بين الدين والسياسة الذي أقرته الكنيسة الرومانية لتتيح لقيصر سلطة مطلقة في تصريف الشؤون متحرراً )
. من سلطة الله مقابل ما يتيحه لرجال الدين من منافع. انظر غارودي في وعود الإسلام، ص 81
ونحن هنا نتحدث عن التوجه العام الذي لا يفتئت على وجود قوى تحررية في الغرب، تكافح ضد هيمنة
المؤسسة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية، من أجل نمط آخر للعلاقات الدولية ذات طابع
إنساني. ومع كل ذلك تظل فكرة حقوق الإنسان تمثل تطوراً مهماً في الحضارة البشرية هي أثر للتراث
الديني والإنساني، ولكن لا يكاد يبرز لها أثر في التنظيم السياسي الاقتصادي الغرب وفي العلاقات الدولية.
الفصل الثاني
التص  و  ر الإسلام  ي للحرية و  حق  وق الإنسان
تمهيد
إذا كانت إعلانات حقوق الإنسان عن الحريات في إطار الفلسفة المادية والمذهب الراسمالي مجرد كفالات
للبرجوازية ضد الإقطاع والبابوية قد تكشفت في النهاية عما تنطوي عليه زيف وعن محدودية أثرها في
الحد جشع الاقوياء وإمعام في ب جمهرة المستضعفين حتى من شعوم فضلا عن غيرها وفي التدمير
المتفاقم لمقومات الحياة المادية والروحية والاجتماعية زيفها وجزئيتها، وجاءت المذاهب الاشتراكية لتفضح
شكلانيتها مؤكدة على الحقوق الاجتماعية لتفرض هي بدورها طواغيت أخرى على الإنسان( 11 )، فإن
تصور الإسلام للحرية لا ينطلق من طبيعة للإنسان تنبثق عنها بذاا حقوق طبيعية كما ادعى الفكر
الغربي- وإنما الحقيقة التي ينطق باسمها كل شيء في هذا الكون: إنه الله خالق هذا الكون ومالكه، وهو
أعلم بمخلوقاته، فهو المشرع الأعلى والآمروالمستحق وحده للعبادة والخضوع والطاعة والإستخلاف
والجزاء والعقاب ،وإن الإنسان خص من دون الكائنات بالاستخلاف بما استحفظ عليه من أمانات العقل
والإرادة والحرية والمسؤولية والمنهج الإلهي المنظّم لحياته، و آيات التسخير والتكريم وتحميل الأمانة أو
الأمانات للإنسان تدور حول المعاني المتقدمة بما يؤكد المساواة بين الناس في أصل الخلق والكرامة وأمام
القانون ويحرض على رفض الطغيان ومقاومته بكل الوسائل المتاحة إلى درجة الإقدام على خطر الموت
شهيدا وذلك ما حدا بعلماء الإسلام الى تلخيصه بأنه ثورة تحررية شاملة ضد كل الصور المادية والمعنوية
لتسلط الانسان على أخيه ( 12 )، إلا أنه ما ينبغي أن يفهم من الحرية هنا معناها المتداول أا مجرد إذن أو
إباحة، فليس وارداً في منطق الحق أن تتلخص رسالة الإسلام التحررية التي حملها إلى البشر من أول
الخليقة آلاف من الأنبياء والرسل فضلاً عن خلفائهم، في الإعلان العام للناس: أن الله إذ كرمكم دون كل
مخلوقاته بحرية وإرادة تخولكم أن تفعلوا ما شئتم وتتحملوا مسؤولية أفعالكم، فإنه لا يحب لكم ولا
يرضىأن أن تفعلوا ما تشاؤون!! ،كل، فإن شعار تلك الرسالة على النقيض من ذلك تماماً؛ إن الله
خالقكم ينهاكم أن تتبعوا أهواءكم وجهالاتكم ويأمركم أن تتبعوا – عن وعي وإرادة وقصد خالص الى
طاعة مولاكم ومحبته- النهج الذي ارتضاه لحياتكم، ففيه وحده سعادتكم ورقيكم في الدنيا والآخرة ،
وفي التنكّب عنه الشقاء الأيدي ، ولكنكم أحرار في أن تستجيبوا لنداءات العقل والفطرة فتؤمنوا بربكم
11 ) حسن الترابي، من محاضته حول:" الحرية والوحدة"،: اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، [د.ت.أ]. )
12 ) لعل أول من أطلق هذا التعريف للإسلام العلاّمة المودودي وتبعه الشهيد سيد قطب. )
وتطيعوه وأن تنظّموا حياتكم الخاصة والعامة وفق شريعته فتفوزوا برضى خالقكم ومحبته وبالسعادة في
الدنيا والآخرة ، أو أن تعرضوا عن صوت العقل والضمير متبعين أهواءكم وإغراءات الشيطان بما
يعرضكم لغضب ربكم والشقاء في الدنيا والآخرة.قال تعالى:" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن
شاء فليكفر"الكهف.وقال سبحانه:"فمن اتبع هداي فلا يظل ولا يشقى.ومن أعرض عنذكري فإن له
معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى"طه.
إن الحرية في التصور الإسلامي أمانة، أي مسؤولية، وعي بالحق والتزام به،وإخلاص في طلبه وتضحية من
أجله تبلغ حد الاستشهاد . نعم إن الحرية بالمعنى التكويني هي إباحة واختيار أو هي فطرة، فقد اختصنا
الله بخلقة تملك القدرة على فعل الخير والشر والسير في أكثر من اتجاه... وكانت تلك مسؤولية، أما بالمعنى
الأخلاقي أو التشريعي فهي "تكيف" حسب عبارة الأصوليين. الحرية: أن نمارس مسؤوليتنا ممارسة
إيجابية، أن نفعل الواجب طوعاً... بإتيان الأمر واجتناب النهي، فنستحق درجة الخلفاء وأولياء الله
الصالحين... وتدور جملة مواقف مفكري الإسلام حول الحرية حول هذا المعنى...ولعل أفضل من بلور
مفاهيم الحرية في الإسلام من المفكرين الإسلاميين المحدثين العلامة المغربي العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن
عاشور والعلامة الشيخ علال الفاسي والمفكر السوداني حسن الترابي، والفيلسوف محمد إقبال والمفكر
الجزائري مالك بن نبي، والأستاذ محمد فتحي عثمان، فذهب الأستاذ الفاسي إلى أن الحرية "جعل قانوني
وليس حقاً طبيعياً، فما كان الإنسان ليصل إلى حريته لولا نزول الوحي... وأن الإنسان لم يخلق حراً،
وإنما ليكون حراً" بقدر خضوعه لشرع الله ، إن الحرية كدح ونضال في طريق عبودية الله وليست انطلاقاً
لم يكن الذين  حيوانياً. ولقد تعجب الأستاذ الفاسي كيف أن علماء الإسلام لم يتفطنوا في آية البينة
13 ) إلى هذا المعنى اللطيف: أنه لا سبيل إلى الانفكاك ) كفروا من أهل الكتاب منفكين حتى تأتيهم البينة
والتحرر إلا بمنهج العبودية لله، منهج التكاليف، الأمر الذي يجعل الحرية خلقاً ذاتياً تتجلى آثاره في أعمال
الإنسان الصادرة عن شعوره بالتكليف. إن الإنسان الجدير بصفة الحر هو المؤمن بالله.. وأن التكليف هو
أساس الحرية وعلامتها."مقاصد الشريعة الاسلامية"
وإلى قريب يذهب الأستاذ الترابي "إلى أن الحرية هي قدر الإنسان الذي تميز عن كل مخلوق سواه فسجد
لله طوعاً إذ لم يجعل الله في تركيبه ما يجبره على الإيمان، ولا سمح له أن يجبر غيره على الإيمان. إن الحرية
ليست غاية بل وسيلة لعبادة الله، وأن هذه العبودية لا تثير شعوراً باانبة، لأن المؤمن يعبد الله بدافع المحبة
. 13 ) القرآن الكريم، سورة البينة، الآية 1 )
والإجلال واستشعار النعمة الدافعة إلى الشكر، الأمر الذي يجعل الحرية الوسيلة والثمرة لعبادة الله. ولئن
كانت الحرية في وجهها القانوني إباحة فإا في وجهها الديني طريق لعبادة الله، فواجب على الإنسان أن
يتحرر لربه، مخلصاً في اتخاذ رأيه ومواقفه، وهذه الحرية في التصور الإسلامي مطلقة لأا سعي لا ينقطع
نحو المطلق.. وكلما زاد إخلاصاً في العبودية لله زاد تحرراً من كل مخلوق في الطبيعة... وحقق أقداراً أكبر
من درجات الكمال الإنساني"( 14 )."إن الإسلام -كما يقول الشيخ عباسي مدني- إذ يرفض القسر
والإكراه، فقد قرر الحرية والإختيار لأن الحرية عنده تبدأ من ضرورة إخلاص العبودية لله وحده الذي
يقتضي عدم الخضوع لغيره ابتداء من نفسه التي لا يطيعها في معصية الله إذ الحرية تبدأ من قدرة التحكم
في النفس وأهوائها والتزامها اتباع الشرع حتى لا ترغب إلا فيما يتفق مع ما جاء به الشرع حتى يصبح
الإنسان في غنى عن الوازع الخارجي".
وإذا تقدمنا صوب المعاني التشريعية من أجل وضع إطار قانوني لحريات الإنسان أو لواجباته( 15 ) وجدنا
مفكري الإسلام المعاصرين يكادون يجمعون على تزكية الإطار الأصولي الذي وضعه العلامة الشاطبي في
الموافقات( 16 ) والمتلخص في اعتبار أن غاية الشريعة هي تحقيق المصالح الكبرى للبشرية، والتي صنفها إلى
ضروريات وحاجيات وتحسينات، وقد حدد الصنف الأول في جملة من المقاصد، حفظ الدين والنفس
والعقل والنسب والمال، على اعتبار أن الدين إنما جاء لتحقيق الحياة وما تتحقق به من وسائل، وحفظ
العقل وما يتعلق به من تعليم وحرية وتفكير وتعبير، وفي حفظ النسب وما يقتضيه من حق في أقامة
أسرة... وفي حفظ المال وما يترتب عنه من حقوق اقتصادية واجتماعية.. إلى جانب ما يقتضيه تحقيق
المقاصد الحاجية والتحسينات من حقوق الإنسان فضلاً عما يقتضيه كل ذلك من إقامة نظم للجماعة
المسلمة، من قبيل أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما يحمله ذلك المسلم من واجبات أو تكاليف
يطلق عليها في الفقه الدستوري: الحريات السياسية . ولقد أضاف إليها بعض العلماء مقاصد أخرى
كالكرامة والحرية والعدالة"مقاصد الشريعة الاسلامية"(ابن عاشور). فالحرية في الإسلام ليست فحسب
حقا للإنسان بل هي واجبة عليه ومنحة الله الكبرى له، وإحدى المقومات الجوهرية لتكريمه والأمانة التي
ناءت بحملها السموات والارض:" إنا عرضنا الأمانة على السموات والارض فأبين أن يحملنها وأشفقن
منها وحملها الانسان"الأحزاب،.إا هذه الطاقة الحيوية الجبارة. ولأن حقوق الإنسان وحرياته وواجباته
متفرعة عن حق لله سبحانه في طاعة الانسان له باعتبار الإنسان مخلوقا لله مستخلفا عنه، بما يفرض عليه
14 ) الترابي، الحرية والوحدة. )
15 ) يلخص مالك بن نبي في مقارنته بين الإسلام والديمقراطية، الأول في أنه جملة واجبات والثانية أا جملة حقوق، انظر رسالته : مالك بن نبي، الإسلام والديمقراطية، )
. ترجمة راشد الغنوشي ونجيب الريحان، مطبعة قرطاج . تونس، 1983
. 16 ) أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، بيروت، دار المعرفة د. ت. ج 2، ص 5 )
وقد اختار عن وعي وحرية وإرادة أن يومن ذه الحقيقة ،فلا يخضع إلا لله حيث يملك وعيا وحرية، وأنه
ليس حرا في التخلي عن حريته أو إهدار نفسه أو إهلاك ماله لأن حريته كما حياته ملك لله.
أولاً: العقيدة أساس حقوق الإنسان في الإسلام
إذا كانت الديمقراطية أو حقوق الإنسان تستند في الغرب –في الظاهر على الأقل- إلى شخصية الإنسان
الفرد، وارتبطت نشأا بالصراع بين الكنيسة وحكم الملوك الإطلاقي من أجل تقييد سلطاا أو انتزاعها
جملة وردها إلى الشعب، مصدراً وحيداً لها، الأمر الذي طبعها بطابع الفردية والروح القومية واللادينية
والشكلانية، فإن الأمر يختلف في البلاد الإسلامية التي لم تعرف هذه اانية أو الانفصال بين الحكم وبين
الأمة غالباً حتى في أزمنة الجور بسبب ما ظلت تمارسه الشريعة من تقييد لسلطان الحكام- على الاقل- في
مسألتين هامتين، هما: سلطة التشريع وفرض الضرائب، حيث لا يمكن للحاكم أن يستن من التشريع ما
يخالف الدين، ومن ذلك عدم قدرته على تجاوز المقادير التي حددا الزكاة( 17 ) الأمر الذي جعل اانبة
بين الحكم والأمة في التجربة الاسلامية- حتى في أسوإ صورها- لا تتم على النحو الذي حصل في حكم
الإطلاق في أوروبا،فظلت تطلعات الفرد واتمع في الإصلاح وحتى الثورة لم تنقطع ولا هي تتخطى
حدود الشريعة، ومثلها الأعلى عهد النبوة والخلافة الراشدة نموذجها الأرقى للتطبيق، فكانت قيم ومثل
الإصلاح أو الثورة إنما تستمد من الإسلام وتجربته التاريخية النموذجية للتطبيق، فما شعر المصلحون
والمفكرون –قبل زمن التحكم الاستعماري واستفحال الغزو الثقافي في حياة المسلمين - بحاجة في
جهودهم الإصلاحية إلى غير نفض غبار التجربة والممارسة عودا إلى الينابيع. وما كانت م حاجة إلى
وضع مواثيق لحقوق الإنسان والمواطن ما دام يقينهم تاما واعتقادهم راسخا بأن الصورة الأمثل للإنسان
فرداً أو جماعة قد تضمنها الكتاب العزيز، وجسدا تجربة التطبيق الإسلامي في العصر الأول . ولكن،
ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومع امتداد الهجمة العسكرية والفكرية على العالم الإسلامي
أرضاً وموارد ومعتقدات، بدأ المسلمون يتطلعون في احتشام وحذر إلى الغربيين، يتحسسون مصادر قوم
وعظمتهم مستمدين منها عناصر إحياء وشحذ للجسم الإسلامي المنهك. فكان من ذلك الدعوة في مصر
وتونس وتركيا وسواها لإدخال أجزاء من النظام الدستوري والإداري والقضائي الغربي، على اعتبار أن
( مكافحة العدو تفتقر إلى النسج على منواله( 18 ) وأن أهم أسباب تخلف المسلمين عدم رعاية الحقوق ( 19
ولم يكن أمام الحركات الوطنية التي قادت الكفاح ضد الغزاة الغربيين في ظل أوضاع التجزئة التي
. 17 ) الترابي، الحرية والوحدة، ص 9 )
. 18 ) خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تحقيق منصف الشنوفي، تونس، الدار التونسية للنشر، 1972 ، ص 27 )
. 19 ) من تقريض الشاعر قبادو للكتاب، المصدر نفسه، ص 248 )
فرضوها على الأمة وتبلور خلالها مفهوم غربي جديد للأمة مرتبط بالإقليم أو اللغة... لم يكن أمامها،
وقد تمكنت بفعل تحريك العاطفة الدينية واستنفار الشعور بالخطر على الإسلام، غير مد اليد إلى دساتير
الغرب تنسج على منوالها لوائح ودساتير تحدد طبيعة الحكم ومؤسساته وحقوق الأفراد في ظله، مما لا
يكاد يكون له أدنى أثر في التطبيق العملي الذي كان قد تمحض للاستبداد،فلم يكن لشعارات التحديث
الدستورية من هدف عند الحكام غير استرضاء الخارج،إذ الشعوب لم تكن هناك، بل كانت أميل للشك
في اصلاحات تمليها الاساطيل وتتحدث لغة غريبة بلا تاريخ.ولذلك لم يكن عسيرا على الحاكم" الحداثي"
المستبد المتحرر من سلطان الشريعة تعطيل تلك الاصلاحات التجميلية عند أول فرصة يتراخى فيها
الضغط الخارجي، أو افراغها من كل محتوى تحرري يحد من سلطته المطلقة التي استمرأها.
ولقد كان لموقف المحاكاة الشكلية لمظاهر من النمط الغربي المتغلب وثقافته، الذي وقفته النخبة القيادية
لحركات الاستقلال مفهوماً واضحاً، باعتبار أن هذه النخبة في معظمها قد تربت في المدرسة الغربية
فأشبعت إعجاباً بثقافة المتغلب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تكن حركة مقاومة الغرب قد قامت
على أساس تجديد إسلامي حقيقي يستمد من الإسلام قيم التحرر يعبئ ا الجماهير، ويبلور أساليب
للتطبيق الإسلامي المعاصر في ظل أوضاع جديدة، إذ كان الخط السائد لدى مفكري الإسلام هو الدفاع
عن الإسلام المعاصر تجاه الهجمة الشرسة التي يتعرض لها. فلم يكن أمام تلك النخبة القيادية -والحديث
هنا عن المخلصين لا عن العملاء- من سبيل غير المحاكاة للشكل الغربي للحياة وإكساء نمط الإستبداد
الموروث به.
مع أنه مما ينبغي ملاحظته أن عملية إدخال التنظيمات أو الدساتير في القرن الماضي إلى عدد من اتمعات
الإسلامية، مثل مصر وتونس وحاضرة الخلافة، قد مثلت بدايات خطيرة لاختراق اتمعات الإسلامية من
طرف الدول الغربية، وذلك رغم أن هدف المصلحين كان تقييد سلطة الحكام، ولم يحصل شيء من
ذلك، وإنما الذي حصل هو اختراق اقتصادي وثقافي، تطور إلى احتلال مباشر، وتواصل ذلك الاختراق
واتسع وتعمق، فاتسمت عهود الاستقلال باستبداد لم تجد معها الوثائق الدستورية الشكلية شيئاً في الحد
منه، بسبب ثقل مخلفات الانحطاط في الداخل، وضغوط الخارج الرهيبة وعدم تبلور إجماع وسط النخبة
حول نمط الحكم بسبب ما أحدثه الغزو الثقافي من تمزقات واستقطابات داخلها بين قديم وحديث وبين
يسار ويمين ، الأمر الذي شل طاقات الجماهير وأورثها الحيرة وصرفها عن السياسة جملة صوب همومها
الذاتية المحضة.
الفكر الإسلامي الحديث:
ولقد أمكن للفكر الإسلامي مع وبعد حركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وخير الدين التونسي،
والثعالبي،ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وشكيب الدين أرسلان وأمثالهم، من أن يتقدم شوطاً في
تعرية النموذج الحضاري الغربي وبيان غثه من سمينه وما يصلح لنا مما لا يصلح وفضح ضروب نفاقه
واستبداده من ناحية، ودفع الشبهات عن الاسلام وحضارته وإبراز البديل الإسلامي في تنظيم الحياة على
مستويات الفرد واتمع،ولم ير حرجاً في تقنين الشريعة، معتبراً ذلك مسألة تنظيمية شكلية والقبول
بآليات التنظيم الدمقراطي في تنظيم الشورى على اعتبار دولة الاسلام دولة مدنية من كل وجه ولا علاقة
لها بحكم رجال الدين الحكم الثيوقراطي .. ومما يدخل في هذا التقنين الصياغات التي قدمها إسلاميون
لحقوق الإنسان وحرياته العامة والخاصة، وقد بينوا مواطن اللقاء والاختلاف، بينها وبين الميثاق الغربي أو
العالمي لحقوق الإنسان، وكشفوا أن مواطن اللقاء هي الاوسع حتى وإن اختلفت الأصول التي تستمد
منها الحقوق والواجبات في الإسلام عن مثيلاا في المنظومة الغربية( 20 ). فعلى حين يؤكد مفكرو الإسلام
أن الإيمان بالله هو أساس ومعين الحقوق والواجبات( 21 )، ذلك أن حقوق الإنسان وحرياته وواجباته هي
فروع لتصوره الكوني ولمنزلته في الكون باعتباره مستخلفا عن الله والغاية من وجوده؛ مقابل ذلك يؤكد
الغربيون استنادها إلى الطبيعة. ومن ثم لا عجب أن بدت في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ملامح من
العلمانية أو الدين البشري القائم على أولوية الإنسان في الوجود وقيامه بنفسه مصدراً لكل حق وتشريع
وشرود تصرفات الأفراد والجماعات والدول عن كل قيمة خلقية ومثل أعلى لكبح جنوح الإندفاعات
ونزوعات العظمة والإستعلاء،وذلك رغم تعدد المرجعيات الفكرية والدينية لواضعي الوثيقة الأممية
واشتراك متدينين مسلمين وغير مسلمين الى جانب علمانيين في إعداد الوثيقة الاصلية،بما ظلت معه
المرجعية غائمة ... على حين يؤكد التصور الإسلامي ارتباط كل قيمة واستنادها إلى المصدر الذي تستمد
منه الموجودات وجودها والغاية منه ومنهاج سيرها (الشريعة)، وأن الإنسان مستخلف قد كرمه خالقه
بالعقل والإرادة والحرية وإرسال الرسل لإعانته على استبانة طريق الحق والتدرج في طريق الكمال، من
خلال التزامه بالشريعة أو قانون الله، والتي قد حددت في صيغتها النهائية التي جاء ا النبي العربي محمد
صلى الله عليه وسلم الإطار العام لحياة الإنسان فرداً وجماعات، تاركة له ضمن ذلك الإطار مجالات
واسعة هي مناطق فارغة(حسب مصطلح الشهيد محمد باقر الصدر-فلسفتنا-) مطلوب منه ممارسة
خلافته من خلال ملئها فيتحقق الجمع بين الحرية والالتزام والوحدة والتعدد بين الإيمان بالله سبحانه
20 ) انظر على سبيل الثمال: الس الإسلامي الوروبي، معد، البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام، باريس، الس الإسلامي الأوروبي 1410 ه / 1981 م، )
والوثيقة النهائية لندوة حقوق في الإسلام المنعقدة في الكويت، كانون الأول/ديسمبر 1980 م.
. 21 ) أحمد الكاتب، آلية الوحدة والحرية في الإسلام، سلسلة نحو حضارة إسلامية، الولايات المتحدة، 1405 ه، ص 119 )
وضرورة أن يكون الإنسان في علاقة دائمة معه وبين الإعتراف بشخصية الإنسان وفعله الحر ومسؤوليته ،
إذ المرفوض هنا هو على حد سواء فكرة استقلال الإنسان واستغناؤه عن الله وهي جوهر الحداثة
الغربية من ناحية وفكرة الحضارات الشرقية القديمة التي تدور حول فناء الإنسان في الحقيقة الكلية من
ناحية أخرى، وهما يلتقيان رغم تناقضهما الظاهري في الفلسفة الحلولية التي تسقط الحواجز بين الإنسان
والله والطبيعة،فتسود نسبية القيم ويغرق الكل في الكل، فمايبقى من حاجز ولا تحديد موضوعي لما هو
خير وما هوشر للعابد والمعبود ..وتكون الإباحية المطلقة التي ترجمتها في الحضارة الاسلامية مقالات غلاة
الصوفية مثل مقالة الحجاج "ما في الجبة إلا الله ..سبحاني سبحاني .." أو مقالة ابن عربي :"أضحى قلبي
قابلا كل صورة.."وفي الادب ترجمتها إباحيات أبي نواس . وفي الفكر الغربي ترجمتها العلمانية الجزئية
وأخطر منها العلمانية الشاملة.(انظركتابات عبد الوهاب المسيري ومنها موسوعته حول العلمانية
واليهودية أو بحثه المختصر في مجلة إسلامية المعرفة العدد 5 سنة 1996 بعنوان : الفكر الغربي مشروع
ورقة نقدية .أو كتابه حول العلمانية الجزئية والعلمنانية الشاملة).
بينما يبرز الانسان في التصور كائنا متميزا مكرما يحمل مسؤولية قيادة مركبته وتحديد مصيره وفق الخطة
الإلهية لحياته" وهديناه النجدين"البلد. إنه كائن مكلف،حامل للامانة، عبد لله . وبقدر ما يكون أداؤه
أفضل في القيام بالتكاليف –أي الواجبات الشرعية- وإمعانه أكبر في العبودية لله ومحبته، بقدر ما يمتلك
حرية أكبر إزاء ذاته والطبيعة والكائنات من حوله.
إن الحقوق هنا تغدو واجبات مقدسة، فلا حق لعبد الله المستخلف أن يفرط أو يتهاون فيها. إا ليست
ملكاً له، بل الله سبحانه مالكها الأوحد، والإنسان مستخلف فيها مطلوب منه التصرف في تلك الوظيفة
وفقاً لإرادة المالك. فمحافظة الإنسان على حياته وتوفير مقومات بقائها بدل القضاء عليها أو الانتقام
منها أو احتقارها أوتجهيلها، واجب شرعي، وكذا رفض الاستعباد ومقاومة الطواغيت والكفاح من أجل
الحرية والعدل والتقدم وسعادة البشرية، ليست حقوقاً بل واجبات يثاب على فعلها ويعاقب على تركها.
وهكذا تكتسب الحقوق في التصور الإسلامي قدسية وثباتا يمنعان التلاعب ا من خلال إغراقها في
النسبية وازدواجية المعايير، من طرف حزب أو برلمان أو حاكم يثبتها حينا ويلغيها أو يعمل فيها تعديلا
كيف يشاء،أحيانا أخرى، وذلك ما دام مصدرها الله، فتظل تمثّل سلطة توجيهية إلزامية للأفراد
والمؤسسات وتترجم في ضوء ذلك عبر الاجتهاد المتجدد حسبما الحال والزمان مناهج حياة وأنماط تفكير
وآدابا وفنونا ودساتير محددة وأعرافا مرعية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى تصبح مدافعة العدوان عن الجماعات المومنة ا واجباً شرعياً تستخدم فيه
كل ضروب المقاومة الممكنة حتى إعلان الجهاد وطلب الاستشهاد ، الأمر الذي يجعل الإيمان بالله خير
ضمان لحقوق الإنسان وصون حرياته بسبب تعالي مصدرها عن الغرض وطابعها الانساني وثباا وتأبيها
عن التوظيف وقدسية لدفاع عنها.
وإذا كانت التجارب البشرية قد أثبتت "أن الإنسان لا يعيش من غير أن يتخذ لنفسه إلهاً ( 22 وأن في
النفس البشرية جوعة لا يسدها غير الإقبال على الله – كما ذكر ابن القيم-، فإن استناد حقوق الإنسان
إلى خالق الإنسان:
.( - يعطيها من جهة، قدسية تخرج ا عن سيطرة ملك أو حزب يتلاعب ا كيفما شاء( 23
- يجعلها أمانة في عنق كل المؤمنين، يحاسبون على الذود عنها وإقرارها في دنيا الناس ومدافعة الطواغيت
عنها. على اعتبار ذلك واجباً دينياً يثاب على فعله ويعاقب على تركه.
- يعطيها أبعادها الإنسانية بمنأى عن كل الفوارق الجنسية والإقليمية والاجتماعية، إذ أن الله رب العالمين
وليس لقوم أو أمة وحسب.
- يعطيها شمولاً وإيجابية تخرج ما عن الشكلانية والجزئية، لأن الله خالق الإنسان وهو أع لم
بالحاجات الحقيقة لمخلوقاته.
-  يعزز سلطة القانون الحامي لتلك الحقوق بسلطة الضمير الديني المتمثل في شعور المؤمن برقابة
الله الدائمة.
- وارتباط الحق بالشارع الحكيم لا يضيق من فرص ظهورسلطة مطلقة أو ثيوقراطية، فليس في الإسلام
كهنوت يملك أن يحلل أو يحرم، وإنما الذي يحل ويحرم هو الله الذي لا يجابي ولا يتحامل، وهو الغني عن
العالمين الذي لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، مما يعطي الحقوق صفة العدل المطلق ويجند كل مؤمن
للدفاع عنها كلما انتهكت، سواء كان العدوان موجها إليه شخصياً، أو إلى غيره، مؤمناً أو كافراً،
فالظلم واجب دفعه، والمعروف واجب تحقيقه ، فالإسلام ثورة عقلية وروحية واجتماعية دف إلى تحرير
اتمعات الإنسانية من الطغيان، والإيمان بوحدة الإلاه والإستماع إلى صوت الحق ومقاومة كل سيطرة
على الأجسام والأرواح، إنه يحبذ كل ثورة تقضي على التحكم في العقول والأشخاص (حتى ) باسم
الدين فلا يمكنن إلا أن نكون في مقدمة الثائرين على كل نظام كهنوتي أيا كانت مستنداته ، فالإستبداد
. 22 ) فتحي عثمان، أصول الفكر السياسي الإسلامي، ط 2 بيروت، مؤسسة الرسالة، 1984 ، ص 149 )
23 ) مما يلاحظ حول تطور أساليب القمع في الأنظمة العربية أنه في خط مواز لتصاعد القمع وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان، تنافست هذه الأنظمة في التبشير بقيم )
الديمقراطية وحقوق الإنسان واستحداث وزارات واصطناع مؤسسات لحقوق الإنسان على أنقاض المنظمات الأصلية، كما حصل في تونس ,أمثالها وكان إعلان الحرب
على الأصولية والإسراف في استخدام كلمات الديمقراطية وحقوق الإنسان وتنظيم انتخابات ينافس فيها الزعيم الاوحد نفسه ،كافية لتبرير القمع والانفر اد بالسلطة
وتدمير مؤسسات اتمع المدني،وإنقاذ ماء وجه القائمين على الديمقراطيات الغربية لمواصلة دعمهم السخي لاسوإ الانظمة انتهاكا لحقوق الانسان .
هو الإستبداد وأسوأه ما تبرقع بالقداسة. ومعلوم أنه ليس في الإسلام سلطة تحتكر تفسير النص الديني
وتنطق باسم السماء وإنما" وأمرهم شورى بينهم" 38 الشورى.
ثانياً: الإطار العام لحقوق الإنسان في الإسلام
الإنسان في الإسلام مستخلف عن الله، وضمن عهد الاستخلاف –الشريعة الإسلامية- تتنزل جملة
حقوقه وواجباته. ويتم التوفيق والتلازم بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة، إذ قد تضمن كل حق للفرد
حقاً لله، أي حقاً للجماعة، مع أولوية حق الجماعة كلما حدث التصادم. وإذا كان الإسلام إنما جاءت
شرائعه لرعاية مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وهي مصالح متدرجة من الضروري إلى التحسيني الكمالي،
كان من الطبيعي أن تعتبر تلك المصالح هي الإطار العام الذي تنظم داخله مسالك الأفراد وتمارس فيه
الحريات الخاصة والعامة. وكان مبحث المقاصد الشرعية الذي اختطه بتوفيق العلامة المغاربي أبو اسحق
الشاطبي في رائعته الموافقات قد حظي كما تقدم بقبول لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين كأساس
.( وإطار لنظرية الحقوق والحريات العامة والخاصة في التصور الإسلامي( 24
ومعلوم أن أبا إسحاق الشاطبي في تتبعه كليات الشريعة وجزئياا قد كشف عن نظرية المصلحة العامة
فوجدها مرتبة في ثلاثة مستويات: سمي المستوى الأول، المصالح الضرورية التي يدخل الفساد والشقاء على
حياة الناس باختلالها، وهي خمس؛ حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب. ولقد فرضت الشريعة
لكل منها شرائع تنشئها وتحفظها، واستنت شرائع أخرى لدرء الاختلال عنها. الثاني، المصالح الحاجية
وقد قصد منها إلى رفع الضيق عن حياة الناس المؤدي إلى الحرج والمشقة. الثالث: المصالح التحسينية؛
وهي جملة من العادات الحسنة ومكارم الأخلاق كأخذ الزينة والنوافل. وترتيب تلك المقاصد مهم إذ
يجعل بينها تفاضلاً يفرض التضحية بالأدنى في سبيل رعاية الأعلى كلما وقع تناقض: فستر العورة من
الشرائع التحسينية، ولكن إذا اقتضى حفظ الدين أو النفس الكشف عنها في حالة التعرض للمرض لإجراء
عملية جراحية أو مغالطة العدو في حالة الخطر على الدين كان الكشف هو المقصد الشرعي المقدم،
وحفظ المال وهو من متعلقات حق التملك مقصد من مقاصد الشريعة، ولكن حفظ الدين وحفظ
النفوس مقدمان عنه فيضحى به من أجلهما عند الاقتضاء.
وهكذا تضع نظرية المقاصد الشرعية بيد المسلم ميزاناً يزن مسالكه، وسلماً من القيم تنتظم على درجاته
وتنظم بحسب أولوياته مختلف شرائع الإسلام كبيرها وصغيرها، وتدي به حريته وتتحدد حقوقه
24 ) بين يدي ثلاثة مؤلفات معاصرة هامة تناولت مسألة الحقوق والحريات العامة في الإسلام في إطار نظرية المقاصد لدى الشاطبي وهي: مقاصد الشريعة الإسلامية )
ومكارمها،علال الفاسي،والحريات العامة لعبد الحكيم حسن العيلي،وأصول الفكر السياسي الإسلامي لفتحي عثمان.
وواجباته. ولقد طور مفكرو الإسلام وعلماؤه المعاصرون هذه النظرية وبنوا عليها فقها في الأولويات
والموازنات والضرورات .
إن أحداً لا يستطيع التعرض لمواطن في دولة الاسلام ما تصرف ضمن حقوقه، غير مخل بالمصلحة
العامة.وعلى كل، فنظرية الحرية في الإسلام تقوم على إطلاق حرية الفرد في كل شيء ما لم تتصادم بالحق
.( أو بالمصلحة العامة، فإن تعدت أصبحت اعتداء يتعين وقفه وتقييده( 25
وفي هذا الإطار سنلقي نظرة عامة على عدد من الحريات الفردية والعامة في الإسلام مقارنة بمثيلاا من
الميثاق المعروف ب"الميثاق العالمي لحقوق الإنسان".
-1 حرية المعتقد وآثارها:ويقصد ا حق الفرد في اختيار عقيدته بعيداً عن كل إكراه. ولقد ذهب
الأصولي الكبير العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور إلى أن من أصول الشريعة حرية الإعتقاد، فمنعت كل
وسائل الإكراه. وفي الوقت نفسه لم تدخر وسعاً في التأكيد على ضرورة إظهار الحق وإقامة العقيدة
وتحميل الأفراد والجماعة مسؤولية صيانتها والدفاع عنها، ومنع الفتنة عن معتنقيها ولو باستعمال القوة،
والاجتهاد في إحباط مخططات خصومها. فكان من أعظم مقاصد الجهاد حماية حرية المعتقدات والتعدد
الديني ومنع الإكراه. قال تعالى:" الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.ولولا دفاع
الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا"الحج 39
26 ) تمثل قاعدة كبرى من ) لا إكراه في الدين  : ويذهب كثير من كتب التفسير والفقه إلى اعتبار آية
قواعد الإسلام، وركناً عظيماً من أركان سماحته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح
لأحد أن يكره أهله على الخروج منه، ومن أجل ضمان عدم الإكراه أوجب الإسلام على المسلمين
التمكن من القوة للقيام في وجه من يحاول فتنتهم عن دينهم وأمر المسلمين أن يعتمدوا في دعوة خصومهم
.( أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة لتبيين الرشد من الغي( 27
إن الله تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار . لإن في القهر
فمن شاء فليؤمن ومن شاء  : والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان. ونظير هذا قوله تعالى
28 )، كما ذهب إلى ذلك الرازي( 29 ). وإذا كان الاعتقاد محله القلب، فالإكراه فيه ممتنع أصلاً . ) فليكفر
فضلاً عن مصادمته التصور الإسلامي العام حول التكليف وتحميل الأمانة... إلى عدد كبير من النصوص
. 25 ) نديم الحسن، فلسفة الحرية في الإسلام، ص 313 )
. 26 ) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 256 )
27 ) محمد عبده ومحمد رشيد رضا، تفسير المنار، 1376 ه، ومحمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية للنشر. )
. 28 ) القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية 29 )
.16- 29 ) فخر الدين محمد بن عمر الرازي، التفسير الكبير، مفاتيح الغيب، ط 2، بيروت، دار الكتب العلمية، 1955 ، مج 7، ص 15 )
والوقائع التي أكدت مسؤولية الإنسان وحريته واختياره مسؤولية ينتفي بالإخلال ا تفرد الإنسان
ومسؤوليته، ولا يبقى بعدها من مبرر للثواب والعقاب ما انتفى الابتلاء والاختبار. وإن ما دار من جدل
حول نسخ هذه الآية العظيمة أو نسخ سواها من الآيات الناطقة بحرية الإنسان والتي تجاوزت مائة
وخمسين آية، في محاولات بائسة لسلب الانسان جوهر هويته ووجوده :الحرية، وإفراغ رسالة الاسلام من
مضامينها التحررية، وإن يكن ذلك دفاعا بائسا عن حرية الارادة الالهية المطلقة، نسخ تلك النصوص
والاعتبارات الشرعية العظمى بآيات الجهاد قد أثبت التحقيق المعاصر بطلانه، وقد بلغ أمر تأكيد
الإسلاميين، وخاصة من المعاصرين، على قاعدة أن الحرية هي الأصل والأساس للاعتقاد إلى حد الذهاب
بآية البقرة على الضد مما حملت عليه من نسخها آيات الجهاد، أا قد نسخت آيات القتال من أجل عدم
إكراه أحد على الإسلام( 30 ). قلت إن التحقيق المعاصر قد أعرض عن الغلو والشطط في هذا الجانب أو
ذلك، مؤكداً على أصالة المفهومين وانسجامهما في التصور الإسلامي:لحرية مقصدا والجهاد أداة لحمياا،
وقاتلوهم حتى  : إذ لا تصان –غالباً- حرية ضعيف، وذلك ما أكده صاحب المنار في تفسيره لقوله تعالى
31 ) أي حتى يكون الإيمان في قلب المؤمن آمناً من زلزلة المعاند. فالدين لا يكون خالصاً لله ) لا تكون فتنة
إلا إذا كفت الفتن عنه وقوي سلطانه حتى لا يجرؤ على أهله أحد( 32 ) ومصداق ما لحق ويلحق كل يوم
بالمسلمين من عنف ونكال من خصومهم، ولا يزالون م يقاتلوم لفتنتهم عن دينهم ومنعهم من الدعوة
لا  إليه لما ضعفت شوكتهم ودالت دولتهم( 33 ). واعتبر صاحب تفسير الميزان (مفسر شيعي معاصر) أن
34 ) هي أهم الآيات الدالة على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والدم، ولم ينتشر بالإكراه ) إكراه في الدين
.( والعنوة، على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المسلمين وغيرهم، أن الإسلام دين السيف( 35
36 ) "وليس يعقل في شيء أن ) لا إكراه في الدين  : أما سيد قطب فكان رأيه مبيناً حاسماً في تفسير الآية
دعوة الإسلام التي كافحت لفرض حرية الاعتقاد، ولاقى أهلها الأهوال، وهم قلة مستضعفة في مكة، من
طرف قوى الضلال والشرك التي عابت على المسلمين مخالفتهم دين الآباء والأجداد، ولم تدخر وسعاً في
اضطهاد المسلمين ومنعهم من حقهم في الاختيار، ليس جائزاً في منطق العقل والأخلاق أن ينتصب هؤلاء
. 30 ) ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج 3، ص 26 )
. 31 ) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 193 )
. 32 ) محمد عبده ورشيد رضا، تفسير المنار، ج 3، ص 439 )
33 ) تسجل تقارير الأمم المتحدة أن حوالي نصف المبعدين من أرضهم في العالم مسلمون مع أن المسلمين لا يمثلون سوى خمس سكان العالم.. وهل عرف التاريخ لمأساة )
فلسطين والبوسنة نظيراً؟
. 34 ) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 256 )
. 35 ) أية الله محمد حسن الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسة الأعلمي، 1972 )
. 36 ) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 256 )
في الغد وقد مكن لهم في الأرض جلادين سفاحين يسومون أصحاب العقائد الأخرى العسف والهوان
لحملهم على خلاف ما يعتقدون. فكيف يعقل أن يحصل ذلك؟ بل شواهد التاريخ بعد أدلة العقل والنقل،
متظافرة على أن أهم غايات الجهاد الإسلامي كسر شوكة الطواغيت وإبطال سحرهم وبطشهم وترك
الناس بعد ذلك وما يدينون ... ما سالمونا وتركوا فتنتنا عن ديننا والتظاهر علينا بعدونا. ولا غرو بعد
ذلك أن كانت أرض الإسلام أرض الحرية الدينية التي فاء إلى ظلها أبناء كل الطوائف المضطهد ة من
طرف أهل دينها. فما استقر لها مقام ولا ازدهر لها كيان، إلا في ظل حماية الإسلام شأن كثير من الفرق
المسيحية واليهودية التي التجأت إلى أرض الإسلام، وكثير منها لا أثر لها اليوم في غير بلاد الإسلام، فقد
.( استأصلتها الكنائس الكبرى( 37
ولذلك لا عجب أن عد مفكرو الإسلام حرية الاعتقاد "أسبق الحريات العامة لأا بمثابة القاعدة
.( والأساس"( 38 ) وأا "أول حقوق الإنسان"( 39
فما هي الآثار القانونية لمبدأ حرية الاعتقاد في اتمع الإسلامي؟
أ- المساواة قاعدة التعامل في اتمع الإسلامي
ولا داعي حسب هذا التصور الذي قدمنا لأعمال النسخ في القرآن في آيات الحرية الناهية عن الإكراه، أو
في الآيات الآمرة بالقتال، وذلك إذا انطلقنا من الآيات النافية للإكراه متجهة إلى الناس جميعاً، ما لم
يرفعوا السلاح في وجوه المسلمين عدواناً وظلماً، ويمنعوا الدعوة إلى الإسلام. فإذا فعلوا ذلك كان مجال
.( عمل آيات القتال منعاً للفتنة، وهي اضطهاد الناس لأجل دينهم حتى يتركوه( 40
وهكذا تكون النصوص الآمرة بقتال الكافرين أو "الناس" عموماً يراد ا الخصوص، مثل مقاتلة مشركي
العرب، كما قال بعضهم، أو المعتدين على المسلمين وأوطام، ما لا يدع أي مجال للإكراه على العقيدة،
وهو أمر لم تنقله لنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل النقل قد تظافر على قيام علاقات المسالمة
بين النبي صلى الله عليه وسلم وطوائف من أهل الديانات الأخرى، كاليهود والنصارى وطوائف
المشركين من سكان المدينة الذين مثلوا عند قيام دولة الإسلام في المدينة مع المؤمنين أمة سياسية واحدة،
كانوا يتمتعون فيها بحقوق المواطنة التي فرضت عليهم واجبات، كالدفاع عن المدينة، وعدم التواطؤ مع
العدو مقابل تمتعهم بالحرية الدينية والحماية. بل قد قامت أحلاف ومعاهدات بين دولة المدينة وطوائف
. 37 ) سيد قطب، في ظلال القرآن، ط 9، القاهرة، بيروت، دار الشروق، 1980 ، مج 1 )
. 38 ) محسن الميلي، العلمانية أو فلسفة موت الإنسان، مطبعة تونس قرطاج ، تونس, 1986 ، ص 38 )
. 39 ) قطب، نفس المصدر ، مج 1 )
. 40 )الميلي، نفس المصدر ، ص 391 )
من مشركي العرب، وليس من شيمة الإسلام الغدر، ولذلك اتفق الفقهاء على أن الذمة تعطى لطوائف
من غير المسلمين، أي حق المواطنة في الدولة الإسلامية، وإنما اختلفوا في النوع؛ فمنهم من قصرها على
اليهود والنصارى ومنهم من أضاف الصابئة واوس، ومنهم من عممها لتشمل كل طالب لها، وإن يكن
عابد وثن، كما هو رأي المالكية( 41 )، وذلك ما التزم بمقتضى المواطنة، شأنه شأن المسلمين، فإنما المساواة
هي قاعدة التعامل في اتمع الإسلامي.قال الامام علي(رض)الخليفة الراشد لثالث عن حقوق المواطنين
غير المسلمين في دولته" فإنما أعطوا الذمة(أي الجنسية) ليكون لهم مالنا وعليهم ما علينا "، ولا ترد
الاستثناءات إلا في حدود ضيقة هي من مقتضيات النظام العام أو هوية اتمع ونوع القيم العليا التي
تحكمه. وليس مصطلح "أهل الذمة" نفسه لازم الاستعمال في الفكر السياسي الإسلامي ما تحقق الاندماج
بين المواطنين وقامت الدولة على أساس المواطنة، أي المساواة حقوقاً وواجبات( 42 ). وبسبب أصالة قيمة
حرية الاعتقاد وثمرا القبول بالتعدد الديني فقد تعايشت في ظل كل اتمعات الاسلامية على مر التاريخ
كل المعتقدات التوحيدية وحتى الوثنية في وئام وسلام وبرئ عموم تاريخ الاسلام مما تلطخت حضارات
الامم الاخرى قديمها وحديثها من تطهير عرقي وإبادة جماعية.ولذلك لا عجب أن توفرت دار الاسلام
على أقدم بيع اليهود وكنائس النصارى وحتى المعابد الوثنية التي تمتعت وأهلها بحماية شرائع الا سلام
السمحاء. كما حفلت دار الاسلام بتعايش مختلف المذاهب الاسلامية – عدا حوادث استثنائية مثل فتنة
خلق القرآن، إذ مسائل الاعتقاد وتفسير النصوص الدينية شأن من شؤون الجماعة عائد اليها فلا تتدخل
فيه. ولذلك كان تقاتل المسلمين لا على الدين وإنما على السلطة.
ب- حرية ممارسة الشعائر الدينية
كفل الإسلام لأهل كل عقيدة إقامة المعابد وإقامة الشعائر ا في حدود رعاية الرأي العام، والذوق العام
للأغلبية تطبيقا لمبدإ الحرية الدينية وعدم الإكراه ، ولقد كانت وصايا الخلفاء للقادة والعسكريين صارمة
في أن يتركوا العباد وما نذروا أنفسهم له فتعايش أهل كل الديانات حتى الوثنية مع المسلمين تحت حكم
41 ) قد بلغ خصوم الإسلام والجهلة به حداً بالغاً في استغلال مفهوم الذمة للتشويه، حتى أن دائرة المعارف الإسلامية، ج 9، ص 391 ، نصت تحت كلمة الذمة بقلم )
المستشرق ماكدونالد "أن أهل الذمة لا يعدون مواطنين في الدولة الإسلامية، وإن كان المسلمون قد جنحوا إلى ترك كل جماعة غير إسلامية تحكم بنفسها بإشراف
رئيسها.. الذي هو حلقة الاتصال بين الجماعة وبين الحكومة" وجارى الغربيين في حملة التشويه هذه باحثون عرب مثل مجيد خدوري في كتابه: الحرب والسلم في شرعة
الإسلام، بيروت، الدار المتحدة للنشر، 1973 ، ص 237 . وفي شأن موقف المذهب المالكي، تحقيق محمد أحمد ولد مادي الموريتاني (الرياض، مكتبة الرياض،
. 1398 ه، مج 1، ص 479
42 ) انظر: راشد الغنوشي، حقوق المواطنة، موقع غير المسلم في الدولة الإسلامية، ، دار الصحوة ، تونس 1988 . وفي ذات الموضوع كتب تحمل العنوان نفسه، )
منها: أبو الأعلى المودودي، حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية، بيروت، دار الفكر، عبد الكريم زيدان، أهل الذمة، بيروت، مؤسسة الرسالة، د. ت. سليم العوا،
حقوق أهل الذمة، القاهرة. ويوسف القرضاوي، غير المسلمين في اتمع الإسلامي، القاهرة، مكتبة وهبة، 1977 . وانتهى زيدان والعوا إلى أن ما تحقق في مجتمعاتنا بين
المواطنين على اختلاف ديانام وقيام الدولة على أساس المواطنة ينفي استمرار الحاجة إلى مفهوم "أهل الذمة" وحتى إلى المصطلح ذاته... فالأصل هو المساواة بين
المواطنين، ونحن نؤكد هذا التوجه في قيام الدولة الإسلامية على أساس المواطنة وما تقتضيه من مساواة
الإسلام، غير أنه لماّ تحولت موازين القوى لغير صالح المسلمين كان مآلهم ومساجدهم التنكيل والإبادة
غالبا، قديما وحديثا(ما حل بمسلمي البوسنة وكوسوفا وسط اروبا وما حل بأهل الشيشان من حرب
تطهير عرقي وديني شاهد) وكذا فشو العداء للاسلام (الاسلاموفوبيا) بسبب عدم الإعتراف بالإسلام من
طرف تلك الديانات والتسليم من طرفها بالتعدد الديني، خلافا للدين الإسلامي الذي أسس لمبدأ الحرية
الدينية والإختلاف في المعتقد مع دعوته أبداإلى توحيد الله وعدم الإشراك به دونما إكراه ...
ج- حرية التعبير دفاعاً عن العقيدة أو دعوة إليها أو نقداً لها:
لقد قدم الأنبياء عليهم السلام نماذج رائعة من الحوار الرفيع مع خصومهم في استمالتهم للإسلام ودحض
الحجج المخالفة، من أجل إرساء الاعتقاد على أساس متين من البرهان، ولنا اليوم ونحن نعي ش صراعاً
عقائدياً أن نستهدي بالمناظرات التي دارت بين إبراهيم عليه السلام وبين طاغية بلاده، وبينه وبين أبيه .
وكذا سائر الأنبياء، وصولاً إلى النبي الخاتم، وكيف عالجوا عليهم السلام حجج خصومهم بالحسنى بعيداً
عن المهاترات والمشاحنات التي تردى إليها الجدل الفكري والسياسي اليوم. وسارت على هديهم الحياة
الفكرية في عهد الصحابة والتابعين، وفي عصور الإسلام الزاهرة حيث كانت تتم المناظرات داخل الفرق
الإسلامية، أو بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، بمن فيهم الزنادقة، في بلاطات الملوك أو في
المساجد، لا سلطان عليها لغير الحجة والبرهان فكان ذلك تعبيراً واضحاً على تسامح الإسلام، وعلى
المنزلة العليا التي أولاها للعقل وللعلم والحرية. حتى ذهب العلامة الشهيد د. إسماعيل الفاروقي أستاذ علم
الأديان المقارنة بجامعة "تمبل" الأمريكية في بحثه الهام عن حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلا مية أن
للذمي –أو المواطن غير المسلم في الدولة الإسلامية- الحق في إذاعة قيم هويته في وسطه الخاص، أو في
الوسط العام بشرط عدم انتهاك الشعور العام للمسلمين، فإنه لا جدال في أن له الحق في أن يعبر عن رأيه
في الإطار القانوني الذي يخضع له الجميع، وفي الحدود التي لا تحرج مشاعر الأغلبية التي احترمت ابتداء
حق الأقلية في أن تعبر عن رأيها. وإذا كان من حق بل من واجب المسلم أن يعرض دعوته على مواطنه
غير المسلم، فإن لهذا الأخير الحق نفسه، وإذا كان هناك من خشية على إيمان المسلمين، فليس أمام هؤلاء
من علاج إلا التعمق في إيمام، أو نشدان ذلك من سؤال علمائهم، وأنه مع التقدم الحديث لوسائل
الاتصال، لن يكون من الممكن الاحتجاب والعزلة التامة، فالمناقشات المضادة سوف تصل بأية وسيلة،
.( وأسلوب الحماية الوحيد ضد أية مناقشة هو تقديم مناقشة أخرى أفضل وأكثر تقلاً وصحة( 43
. 43 ) إسماعيل الفاروق، حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، المسلم المعاصر، العدد 26 )
ولقد كان أبو الأعلى المودودي رائد فقهاء القانون الدستوري الإسلامي المعاصر واضحاً جداً وحاسماً في
تقرير حرية غير المسلم، يقول: "سيكون لغير المسلمين في الدولة الإسلامية من حرية الخطابة والكتابة
والرأي والتفكير والاجتماع ما هو للمسلمين سواء بسواء، وسيكون عليهم من القيود والالتزامات في
هذا الباب ما على المسلمين أنفسهم. فسيجوز لهم أن ينتقدوا الحكومة وعمالها، حتى رئيس الحكومة
نفسه ضمن حدود القانون. سيكون لهم الحق في انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين من الحق في نقد
مذاهبهم ونحلهم. ويجب على المسلمين أن يلتزموا حدود القانون في نقدهم هذا كوجوب ذلك على غير
المسلمين، وسيكون لهم الحرية كاملة في مدح نحلهم وإن ارتد –أي المسلم- فسيقع وبال ارتداده على
نفسه، ولا يؤخذ به غير المسلم، ولن يكره غير المسلمين في الدولة الإسلامية على عقيدة أو عمل يخالف
.( ضميرهم، وسيكون لهم أن يأتوا كل ما يوافق ضميرهم من أعمال ما دام لا يصطدم بقانون الدولة"( 44
ومعنى كل ذلك الاعتراف بتعدد الهويات الثقافية داخل اتمع الإسلامي وتفاعلها بحرية، ليشترك الجميع
على اختلافهم في صنع الحضارة الإسلامية( 45 ) بعيداً عن أيدلوجية الهيمنة والدمج للدولة الغربية.
د- مسألة الردة :
الردة هي الكفر بعد الإسلام عن وعي واختيار، وذلك بالإنكار وما شاكله لما هو ثابت في الإسلام من
عقائد وشعائر... كالنيل من مقام الألوهية، أو النبوة، أو استباحة المحرمات، أو جحود الفرائض... إلخ.
ولقد نصت آيات الكتاب على استبشاع هذه الجريمة في مواضع كثيرة وتوعدت مقترفها بأشد العذاب،
دون نص على عقوبة محددة في الدنيا، غير أن السنة نصت على القتل [من بدل دينه فاقتلوه] ( 46 )، وأجمع
الأصحاب رضي الله عنهم على قتال المرتدين، ولم يختلف أهل العلم في اعتبار الردة جريمة غير أن
جمهورهم ذهب إلى قتل مرتكبها، وخالفهم البعض في ذلك.
والخلاف دائر حول مسألتين: هل الردة جريمة سياسية تمثل في الخروج عن نظام الدولة، وبالتالي يترك
للإمام معالجتها بما يناسبها من التعازير –أي الجرائم غير المنصوص على عقوبة معينة فيها- أم هي جريمة
عقيدية تدخل ضمن جرائم الحدود التي هي حق الله فلا مناص للإمام من إقامة الحد فيها؟.
وبتعبير آخر: هل حرية الاعتقاد التي كفلها الإسلام المعطاة في الابتداء لغير المسلم تبقى له بعد دخوله، فلا
.( يؤخذ بارتداده، كما لم يؤخذ بعدم إيمانه قبل دخوله؟ ( 47
. 44 ) أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهدية في السياسة والقانون والدستور، بيروت، دمشق، دار الفكر، 1964 ، ص 316 )
، 45 ) يقول المطران جورج خضر، "أنا في قلب هذه الحضارة التي ازدهرت بانطلاقة الإسلام وترعرعت في دياره" انظر: جورج خضر، المسيحية العربي والغرب، السنة 1 )
. العدد 2، صيف 1986 . نقلاً عن: وجيه كوثراني، المسألة الثقافية في لبنان، الخطاب السياسي والتاريخ، بيروت، منشورات بحسون الثقافية، 1984
46 ) أخرجه البخاري. )
. 47 ) محمد سليم غزوري، الحريات العامة في الإسلام، ص 95 )
الرأي الأول: وجهة نظر القائلين بقتل المرتد حداً :
اتفق الجمهور على قتل المرتد، واعتبار ذلك حداً. واختلفوا هل تترك له فرصة للتوبة أم لا؟ فذهب البعض
إلى أنه يقتل دون استتابة. وذهب أغلبهم إلى أنه يستتاب، واختلفوا في الطريقة مرة أو مرتين أو 3 مرات
(وهو قول مالك وأبو حنيفة) أم شهرا, أم هو يستتاب أبداً كما يقول النخعي؟
واختلفوا في المرتدة: هل تقتل كالمرتد؟ لأن موجب القتل هو تغيير الدين. وذلك هو رأي الشافعي, أم لا
تقتل, وإنما تعزر بالحبس أو الضرب, إلى أن تتوب أو تموت؟ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ى
.( عن قتل العسيف والمرأة والذرية. وقال يوم فتح مكة لما شاهد امرأة مقتولة [ما كانت لتقاتل ] ( 48
وعندهم أن حكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر الأصلي لا يقتل هو أن الإرتداد خروج فرد فرد أو
جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه كأنما يطعن في صدقية هذا
الدينوعدم صلاحيته وهذا تعريض بالدين يفضي إلى انحلال الجامعة فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد
حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه وليس ذلك من
الإكراه في الدين لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديام والدخول عنوة في الإسلام
.
الرأي الثاني:الردة جريمة سياسية تعزيرية: إذا كان أهل الرأي الأول يعتبرون الردة حداً , ذا عقوبة
مقدرة باعتبارها حقاً لله فلا يجوز إلا إنفاذها لما تشكله من خطر بالغ على اتمع، فلا عفو فيها ولا
شفاعة, فإن فريقاً كبيراً من المحدثين رأوا فيها جريمة سياسية تتمثل في الخروج المسلح على حكم شرعي
بما يجعلها تعزيرية أي جريمة غير مقدرة عقوبتها متروكا تقديرها للإمام أو القاضي. ويستدلون على ذلك
بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عفا لدى دخوله مكة عن قوم ارتدوا وتوعدهم بالقتل؛ منهم عبد الله
بن ابي السرح الذي كان من كتبة الوحي, ثم ارتد فقبل فيه شفاعة عثمان، بينما امتنع عن العفو عن
آخرين مما له دلالة واضحة على أن الردة جريمة تعزيرية, لأن الحدود لا تجوز فيها الشفاعة، وأن الذين
قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان بسبب جرائم أخرى استلزمت قتلهم. ويستشهد على ذلك
بعدم قتل عمر بن الخطاب لأبي شجرة مكتفياً بطرده. ويؤول أصحاب هذا الرأي قتل أبي بكر للمرتدين
بخروجهم المسلح ضد نظام الدولة, وديدهم للكيان الإسلامي الوليد فكان عمله سياسة لا ديناً. ولو
كان الأمر متعلقاً بحد من حدود الله ما خفي على معظم الصحابة حتى احتاج معهم أبو بكر لجهد كبير
من أجل إقناعهم بسياسته, حتى اقتنعوا. ويستدل أصحاب هذا الرأي لتأكيد موقفهم، على أمر النبي صلى
48 ) رواه مالك في المدونة الكبرى. )
الله عليه وسلم بقتل المرتد وفعله لذلك, إنما صدر منه عليه السلام من موقع ولايته السياسية على المسلمين
لا من موقع النبي المبلغ, وأن احتجاجه على قتل المرأة بأا ما كانت لتقاتل, يحمل دلالة واضحة على أن
علة قتل المرتد ليست تغيير الدين وإنما ديد النظام العام، ولذلك اقترنت دعوة قتل من بدل دينه بالخروج
عن الجماعة، بما يومئ الى المعنى السياسي:التمرد المسلح، فيترك أمر تحديد العقوبة للإمام على ضوء ما
تشكله الظاهرة من خطر على الكيان السياسي للأمة. وهو كيان يختلف عن الكيان السياسي الغربي من
حيث علاقته بالدين. في النظام الغربي يعتبر الدين من الناحية القانونية على الأقل, مسألة شخصية لا
علاقة لها بالنظام العام الذي يتكون من مسائل الجنسية والولاء للوطن وصيانة أسراره تساوقاً مع الديانة
المسيحية التي تركت الشؤون العامة لقسطنطين, واكتفت برعاية المسائل الشخصية. أما الإسلام فهو
عقيدة ونظام حياة. مما يجعل كل عمل منظم داخل اتمع الاسلامي يستهدف تقويض بناء الإسلام يمثل
عدواناً على النظام العام، والعقيدة جوهره، شأن مبادئ الديمقراطية ومقومات الهوية في الأنظمة الليبرالية
أو العقيدة الماركسية في الأنظمة الشيوعية. ومن ثم كان على الحكومة في الدولة الإسلامية أن تقوم على
حراسة الدين وصيانته، فتقدر مدى الخطورة على نظام الدولة في كل حركة جماعية منظمة تستهدف
بنيان الاسلام وبالخصوص إذا توسلت بظرائق العنف، لتعالجها بما يناسب من السياسيات.
ونحن نرجح الرأي الثاني الذي يستشف من موقف الاحناف الذين اشترطوا في المرتد الذكورة باعتبار
الانثى ليست مظنة حمل السلاح . وذهب إليه كثير من المحدثين مثل الإمام محمد عبده، والشيخ عبد
المتعال الصعيدي، وعبد الوهاب خلاف، وأبي زهرة، والشيخ عبد العزيز شاويش. ومن رجال القانون
الدستوري فتحي عثمان، ود. عبد الحميد متولي، وعبد الحكيم حسن العيلي، ود. حسن الترابي، ود .
محمد سليم العوا. وخلاصته: إن الردة جريمة لا علاقة لها بحرية العقيدة التي أقرها الإسلام, وأا مسألة
سياسية قصد ا حياطة المسلمين, وحياطة تنظيمات الدولة الإسلامية من نيل أعدائها, وأن ما صدر من
النبي عليه السلام في شأن الردة إنما هو باعتبار ولايته السياسية للمسلمين. وبذلك تكون عقوبة المرتد
تعزيراً لا حداً. وأا جريمة سياسية تقابل في الأنظمة الأخرى بجريمة الخروج بالقوة على نظام الدولة
ومحاولة زعزعته, وتعالج بما يناسب حجمها وخطرها من معالجات. إذ يختلف الأمر كما لاحظ د. عبد
الحميد متولي بين ردة نصراني قد اسلم من أجل الزواج بمسلمة, ثم رجع إلى دينه لما تصرمت العلاقة ,
وبين حالة أو ظاهرة وراءها تخطيط وتنظيم واستعداد للانقضاض المسلح لتغيير نظام الدولة... فرق بين
آحاد من الناس تز عقائدهم بفعل ظروف طارئة أو تأثير غزو ثقافي, فيعالج الأمر بما يناسبه من توعية
وتربية وتحصين، وبين تبشير منظم ومخطط لنسف الإسلام ودولته، وبالتالي، فرق في المعالجة ولابد بحسب
.( اختلاف الأحوال( 49
تنبيه هام:
إنه من المفيد بصدد الحديث عن الردة لفت النظر إلى ما دار من خلاف بين المذاهب الفقهية حول تحديد
طبيعة المرحلة السابقة عن الردة: إذا كانت الردة هي الخروج من الاسلام بعد اعتناقه عن وعي واختيار
فهل تنطبق هذه الحالة على الصبي الذي ولد لأبوين مؤمنين حتى إذا بلغ سن الاختيار اختار غير الإسلام
ديناً, فهل يعتبر مرتداً؟ وهل تطبق هذه الصورة على كثير ممن تربوا في أرض الإسلام وورثوا عن آبائهم
صوراً محنطة ومهزوزة من التدين لم تصمد طويلاً في خضم الصراع العقائدي؟ هل يصح نعت هؤلاء
بالمرتدين ؟ وهل يصلح لعلاج مثل هذه الحالات تطبيق حد الردة عليهم كما ذهب إلية جمهور
الفقهاء...؟ أم مطلوب علاج ذو طبيعة ثقافية تربوية؟
في خصوص المسألة الأولى:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الصبي محمول على دين أبويه فهو مسلم إذا كانا مسلمين، فإذا بلغ سن
الرشد كافراً فهو مرتد. وذهب الشافعي إلى أن الصبي لا دين له وإنما يعتد بدينه ببلوغه سن التكليف ،
فإذا اختار الإسلام ثم تركه كان مرتدُا. وهو تصور أكثر تساوقاً مع القواعد العامة للشريعة (لا تكليف
إلا بشرط العقل) فكيف يحكم بإسلام الصبي قبل البلوغ اللهم إلا بنوع من التجوز؟ إذ الطفولة مرحلة
تربية وإعداد ويئة لتقبل التكاليف الشرعية وليست مرحلة تكليف حتى يعتد ا في الحكم، ولا شك أن
معظم المهتزة أو الفاسدة عقائدهم، وكانوا الوسط المناسب لاستقطاب الأحزاب الشيوعية والعلمانية من
أبناء المسلمين، إنما هم ضحايا إعداد عقيم، وتربية تقليدية فاشلة وثقافة إسلامية جامدة، وتدين محنط
ومنحط مكّن لغزو مسلح بثقافة علمية معاصرة مشحونة بقيم الكفر والتمرد من اكتساح هذا الحطام من
البشر الذي خلفه العزو الفكري وراءه؟ أليس أكثرهم ضحايا جيل استخلفه الغزو الثقافي واقتطعه من
الأمة اقتطاعاً في عصر ركودها واشتغال علمائها بالتفاهات والخلافات المذهبية؟.أليسوا هم أحوج الى
موقف المربي الطبيب، منهم الى عمل القاضي؟. لقد فشلت أسرنا ومدارسنا ومساجدنا خلال مرحلة
طويلة لا تزال ذيولها ونتائجها السلبية متواصلة، فشلت في انجاز مهمة التواصل الثقافي بين أجيال الأمة
لولا ما يسر الله على يد حركة التجديد الاسلامي من انجازات هامة في استنقاذ الأجيال الجديدة، ولن
نخلص من هذه القطيعة من طريق سل سيف القانون، وإنما بالتخطيط المحكم للعودة إلى إنجاز ما فشل
49 ) عبد الحميد متولي، أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، مظاهرها، أسباا، علاجها، القاهرة، الإسكندرية، المكتب المصري الحديث للطباعة والنشر، )
.1970
جيل الآباء وأرباب الأسر والشيوخ والأئمة والمدرسة والإعلام والفن في إنجازه، وهو التربية والتثقيف عن
طريق تحرير الإسلام من براثن الانحطاط والتغريب، وبلورة ثقافة إسلامية معاصرة مرتبطة موم الجماهير،
مسلحة بإبداعات العصر، تضفي على الأرض صبغة السماء، وتكتشف فيها الأمة ذاا، وترى خلالها
حلول مشاكلها وآمالها.
ذلك هو التحدي المطلوب من جيلنا مواجهته من أجل القضاء على آثار الحملة الصليبية الجديدة التي كان
نصيب مغربنا منها فادحاً. إنه التحدي الكبير الذي ما ينبغي أن نشتغل عنه بغيره. فلنجعل الأولوية في
عملنا لمهمة المثقف والعالم والمربى، لا القاضي أو السياسي. إن قضية الحرية السياسية والفكرية أولوية
الأولويات، ومنها ينطلق البناء الجديد. وأن النصر في المعركة الثقافية هو النصر الحقيقي، ولقد تمكنت
الحركة الإسلامية الى حد كبير من ميش مشروع التغريب رغم امتلاكه أجهزة الدولة العملاقة. و"أنه
إذا كان علينا أن نقيم اتمع الإسلامي المنشود على مراحل، فليكن دخولنا على المرحلة الأولى من باب
الحرية والديمقراطية، الذي أزعم أن اجتيازه بنجاح هو المعيار الحقيقي لاختيار مصداقية أي نظام سياسي
يعلن عن انتمائه للإسلام. من شأن ذلك أن يبدد المخاوف لدى أمثالنا ممن يعتبرون الحرية وجهاً آخر
.( للتوحيد"( 50
-2 حرية الذات البشرية وحق التكريم الإلهي :
لم يكتف الإسلام بإقرار حق الإنسان في الحياة والحرية وسلامته الشخصية( 51 )، بل اعتبر ذلك واجباً
مقدساً على الجماعة والفرد، انطلاقاً من مبدأ استخلاف الإنسان وتكريمه، الإنسان كائن مستخلف عن
الله، أي نائب عنه في الحكم بين الخلق بالعدل، فكل من قام في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه فهو
خليفة الله( 52 ). هذا الإنسان قد كرمه الله في السماء بذكره في الملأ العلى وأسجد ملائكته المقربين له، فلا
عجب أن يكرمه في الأرض بما وهبه من عقل وإرادة ونطق، وما سخر له في هذا الكون من طاقات، وما
أنزل عليه من هداية رسله وكتبه( 53 ). روى الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من شيء
أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم] قيل يا رسول الله ولا الملائكة؟ قال: [ولا الملائكة. الملائكة مجبرون
بمنزلة الشمس والقمر]( 54 ). ويترتب على تكريم الإنسان حفظ حياته من الاعتداء من طرفه أو من طرف
50 ) فهمي هويدي . )
51 ) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق ومراجعة محمود شاكر، 15 ج، القاهرة، دار المعارف، 1374 ه - )
1378 ه.
52 ) الس الإسلامي الأوروبي، معد، البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام. )
. 53 ) عثمان، أصول الفكر السياسي الإسلامي، ص 137 )
. 54 ) ابن كثير، نقلاً عن: المصدر نفسه، ص 198 )
،(56) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) ( 55 )، (ولا تقتلو أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً  غيره
وذلك بحفظها من كل ما يعرضها للخطر والانتقاص كالجوع والمرض والتشرد والتعذيب أو المهانة
والسخرية والاستبعاد والإنتقاص وسوء الظن والتجسس والغيبة وسائر أنواع الظلم. إن للإنسان كرامة
يستحقها بصفته الإنسانية يقطع النظر عن جنسيته ولونه ومعتقده، وسائر الاعتبارات الاجتماعية، وهي
كرامة تلازمه حياً وميتاً أيضاً، فذاته مستحقة للتكريم في حياته وبعد موته؛ جاء في الحديث: إن جنازة
مرت على النبي صلى الله عليه وسلم فوقف، فقيل له إا جنازة يهودي، فقال النبي : [أليست نفساً ]
57 ). الاعتداء على الإنسان ميتاً كالاعتداء عليه حياً. والإنسان برئ حتى تثبت إدانته من طرف سلطة )
قضائية مستقلة. ومنع التعذيب مطلقاً "إن الله يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا" وسيأتي
الحديث عن موضوع التعذيب وتحريمه مطلقاً.
وصان الإسلام الحياة الخاصة للإنسان فمنع سوء الظن به، أو التجسس عليه، وجعل لمسكنه حرمة عظيمة
58 )، وصان عرض الإنسان، فسن عقوبة القذف لمن ينال من أعراض ) فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم 
الناس، وى عن تتبع عورام واغتيام.
ولقد ضرب القرآن أمثلة رائعة في تقديره لملكة الفكر وحرية التعبير من خلال دعوة العقل للنظر في كل
شيء، ومن خلال أمثلة الحوار الرائع الذي كان يديره الأنبياء مع أقوامهم وحتى مع الطغاة منهم، التي
كانت تبرز بجلاء اعتماد حجة العقل إماماً هادياً من طرف الأنبياء مقابل اعتماد القوة سلاحاً ائياً يلوذ
إليه الطغاة دائماً كلما أعيتهم الحيلة وأعجزهم الروغان. ولقد كان إيراد القرآن الكريم في مواطن كثيرة
الحوار بين الله سبحانه وملائكته وأنبيائه مشحونا بدلالات تقديس حرية التعبير والرأي، وكذلك الحوار
بين الله سبحانه وعدوه إبليس اللعين فحتى صوت الشيطان لم يقع كبته ومنعه من الإدلاء بحجته والدفاع
عن وجهة نظره، بل أسمع القرآن صوته وحجته بأبلغ بيان في مواطن كثيرة من القرآن.
وتظهر قيمة الرأي في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وكيف وهو النبي اُلمبلغ اتسع صدره
عليه السلام للآراء المخالفة، بل كان يحرض أصحابه تحريضاً على أن تكون لهم آراؤهم واجتهادام
المستقلة: [لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس]. ولذلك لا عجب أن كون النبي صلى الله عليه
وسلم مدرسة عظيمة لتخريج الرجال العظام في كل مجالات الحياة، فانطلقت في سنوات معدودات من
الصحراء ادبة أضخم وأروع ثروة أو ثورة حضارية.. وكانت كل المدارس الفكرية والسياسية في
. 55 ) القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 33 )
. 56 ) المصدر نفسه، سورة النساء، الآية 29 )
57 ) نقلاً: عثمان، أصول الفكر السياسي الإسلامي. )
. 58 ) القرآن الكريم، سورة النور، الآية 28 )
الإسلام تجد لها صاحباً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إماماً متبعاً ومرشداً هادياً وأساسا تبنى
عليه، من أهل العلم والاجتهاد أو من أهل الحرب والشجاعة أو من أهل الحكم والقيادة ،أو من أهل
الثراء والانفاق ، أو من أهل الزهد والتقلل والثورة على الترف، أو من أهل الادب والشعر ..لم يكن
نسخا متطابقة مكرورة، قد تفرق فيهم ما اجتمع في القدوة الحسنة"وإنك لعلى خلق عظيم" القلم.
ولقد ظل الإسلام أبدا يرفع لواء التحدي في وجه الأفكار المضادة له داعياً إياها إلى الحوار الجاد واثقاً من
قوة منطقه من جهة، ومن توافق البشرية مع ذلك المنطق، حتى أنه لو خلي بينها وبينه في جو من الحرية
والنزاهة لما وجدت سبيلاً لغير اعتناقه. إن التحدي الإسلامي في الدعوة إلى المناظرة ظلت تحمله آيات
(59) صريحة في الكتاب العزيز لها وقع كبير في نفوص المؤمنين، منها (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
فقام في كل جيل ومع تجدد كل ابتلاء على المسلمين رجال أفذاذ يواجهون بالحجة والبرهان التحديات
المتجددة، ويؤدون للحق الشهادة. وعلى كثرة المناظرات بين علماء الإسلام ورموز المذاهب المضادة لم
يسجل التاريخ أن مسلماً هزم في مناظرة حرة. وكان المطلب العزيز لصاحب الدعوة الأول صلى الله علي
في مواجهة معانديه:الحرية [خلوا بيني وبين الناس] ولا يزال مطلب خلفائه الدعاة نفسه في كل مكان
دون أن يظفروا غالبا بغير القمع وتكميم الافواه وتزييف الانتخابات،بذريعة رفض الاعتراف بجزب ديني.
ولذلك لم يكن عجباً أن وجدت في ظل الفضاءات الحرة التي فتحها الاسلام حيثما حل كل الأفكار
والنحل سبيلها للتحاور والتثاقف والابداع. وكان طلب العلم في هذه البيئة فريضة وحقا، وكان للبحث
60 ). إن الإسلام لم يفرض على ) قل انظروا ماذا في السموات والأرض  : العلمي شأن عظيم لا قيد عليه
حرية الفكر قيوداً من خارجها، المهم أن لا تنقض الحرية نفسها فتغدو سبيلاً لإثارة النعرات العصبية
والعرقية، أو مدخلاً للإثارات الغريزية أو هدما لأسس اتمع ذلك أن الحرية قيمة إنسانية عليا وهي تفقد
معناها إذا انفصلت عن قيم الحق والخير والجمال والعدالة. إذ لا حرية لظالم ولا نون "فلا ضرر ولا
61 )...ذلك أن قيمة الحرية تتجدد بمقدار ما تمنح الحياة من قوة ) فلا عدوان إلا على الظالمين  ضرار" و
( وطمأنينة واستقرار وإيمان وعدل ورقي( 62
-3 حرية الفكر والتعبير
. 59 ) المصدر نفسه، سورة البقرة، الآية 111 )
. 60 ) المصدر نفسه، سورة يونس، الآية 101 )
. 61 ) المصدر نفسه، سورة البقرة، الآية 193 )
62 ) محمد حسين فضل الله، مفهوم الحرية في الإسلام، مقال تم توزيعه دون تاريخ. )
كان طبيعياً لدين أهل الإنسان لمنزلة الخليفة لله بما وهبة من عقل وإرادة وحرية أن لا يكبل هذه الطاقات،
بل المناسب أن يطلقها ويحررها ويجتهد في تحريضها على الحركة والنشاط، مكتفياً بالتوجيه والتسديد،
تاركاً له أمر تحديد مصيره وتحمل مسؤوليته. وبلغ تقدير الإسلام فكر الإنسان وحريته اعتبار التفكير
فريضة. كيف لا وقد أناط ذه الوظيفة مهمة التقرير في أخطر القضايا المصيرية، مثل مسألة المعتقد وما
يتعلق به من مسالك وأعمال ومصائر؟ ولذلك لا تمل آيات الكتاب تبدأ وتعيد في التحريض على التفكير
وحرية الرأي وترشيد العقل وحمله على عدم اتباع الأوهام، والسير مع عامة الناس، واتباع الآباء
والأجداد، وحجزه عن مذهبات العقل مثل المسكرات والمفترات، ومنعه من الخضوع لمختلف ضروب
الاستبداد والتسلط( 63 )، ولقد كان لحرية الرأي في الحضارة الإسلامية دور كبير في الإرتقاء ذه الحضارة
وازدهارها والدعوة إلى الإسلام والمحافظة عليه ( 64 )، وأكثر من ذلك كان لحرية الرأي مساهمة عظيمة
في وحدة الأمة الإسلامية والنأي ا عن الحروب الدينية وحروب الابادة والتطهير العرقي كما حصل في
حضارات أخرى بسبب التعصب والإنغلاق واحتكار تمثيل المقدس والنطق باسمه كما فعلت اليهود
والنصارى، على حين اعترف الاسلام بمبدإ التعدد الديني وجعل الاجتهاد متاحا لكل مسلم بقدر علمه.
-4 الحقوق الاقتصادية :
حق الفرد في التملك من الحقوق الأساسية التي نصت عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وكثير من
الدساتير، على اعتبار ذلك حقاً طبيعياً للفرد. أما الإسلام فهو وإن أباح للفرد الامتلاك وفق تصور معين
وشروط، فإنه لا يعتبر التملك حقاً طبيعياً، لأن الملك كله لله( 64 )، فكل ما يتعلق بالملكية، من طرق
الحصول عليها والتصرف فيها ونوع ما يمتلك وزوالها، لا يتم شيء من ذلك إلا وفقاً للشريعة، ولذلك
لم تقم الملكية في التاريخ العربي الإسلامي حتى بدايات التغلغل الاستعماري في القرن التاسع عشر، على
أساس نمط الملكية الجرمانية الفردية التي تحدث عنها ماركس باعتباره نموذج الملكية في النمط الحضاري
الأوروبي، ولم تعتبر الملكية الفردية ملكية مطلقة يحق للمالك التصرف فيها كما يشاء بيعا وتوريثا وحتى
تدميرا كما تنص أصول القانون الروماني ، إن ألوان الملكية التي عرفتها بلاد الاسلام إنما قامت على أساس
التصرف والاستخلاف؛ خلافة الإنسان للأرض ومسؤوليته في إعمارها واعتبارها جسر العبور إلى الآخرة
. فملكية الإنسان هي ثمرة لاستخلافه عن الله . وذلك يعني أن المالك الحقيقي الأصلي هو الله تعالى ،
63 ) يقول المفكر المغربي المهدي المنجرة: ليس في الإسلام حدود للتعبير عن الرأي، وأتحدى أي عالم كيفما كان أن يعطي تفسيراً واحداً بأن الإسلام قد جاء بحدود )
. للتعبير عن الرأي، فالتعبير عن الرأي مضمون ما دام لم يمس حقاً من حقوق إنسان آخر.. انظر: المهدي المنجرة، التغيير قائم لا محالة وثمنه باهظ القدس، العدد 1135
64 ) د.عبد ايد النجار :حرية الراي ودورها في الحضارة الاسلامية )
. 64 (مكرر)علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 258
وأن ملكية الإنسان هي استخلاف أو ملكية انتفاع، فليس له التصرف في العين إلا وفق إرادة مالكها ،
فإذا أساء التصرف انتزعت منه. ( 75 ) . ولأن الحقوق أو التكاليف الشرعية بحكم أن الإنسان اجتماعي
بطبعه إنما تجري في وسط اجتماعي معين، كان طبيعياً أن ينظر إليها في اتمع على أا وظائف
اجتماعية( 65 )، تحفظ كيان اتمع وتعمل على نموه ورقيه وأمنه، فإن خرجت عن هذه الاعتبارات فغدت
عامل خلل في التوازن الاجتماعي، وعنصر هدم وعامل إعاقة أو باعث أحقاد، كان من حق اتمع أن
يفرض عليها من القيود ما يناسب عودها للقيام بوظيفتها الاجتماعية.
ومن تلك الوظائف التي جعلت لها الملكية الفردية: توزيع السلطة في اتمع على كل أفراده من خلال
امتلاكهم جزءاً من الثروة، الأمر الذي يعطي الحرية السياسية والشورى مضموناً اجتماعياً، على حين يمثل
تركز الثروة في يد طبقة معينة، أو في يد الدولة نفسها أساساً للطغيان وتسلط من يملك على من لا يملك
عن طريق تحكمه في حاجياته الأساسية، فتأتي الزكاة لتمثل الحد الادنى ضمانا وأساسا للمشاركة
السياسية:الشورى. من هنا اختلف النموذج الإسلامي عن النماذج السائدة في الغرب، سواء أكانت
اشتراكية تستهدف تجريد الأفراد من الثروة واحتناكها في يد الدولة، أو كانت رأسمالية تتجه إلى احتناك
الثروة في يد القلة. على حين يتجه النموذج الإسلامي إلى توزيع الثروة على أكبر عدد ممكن، على نحو
يغدو الجميع مالكين، وبالتالي مشاركين في السلطة وفي التقرير، مما يجعل لحريتهم وقيامهم بواجب الرقابة
على السلطة وعلى اتمع كله عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سنداً قوياً. ولذلك لم يكن
إن قارون  عجباً أن ندد الإسلام بالترف والسرف والتبذير واكتناز المال واعتبره أساساً للبغي والكفر
66 ) كلا )... كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة
كي لا يكون  67 ) واعتبر هدفاً أساسياً لنظرية التوزيع منع تركز المال ) إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى
68 ). إنه بدون الاشتراك في امتلاك مصادر الثروة الأساسية "الناس شركاء في ) دولة بين الأغنياء منكم
ثلاث"، لا يكاد يبقى معنى للقيم العليا التي حرص الإسلام على قيامها أساساً للمجتمع الإسلامي :
المساواة، الأخوة، العدل، الشورى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كل الذي يتبقى عندئذ يعد طلاء
الشعارات والأماني، وهو التسلط في شكل من أشكاله.
إن التملك أساس لإذكاء الحوافز الذاتية للفرد وتنشيط ملكاته لما فطر عليه الفرد من ابتغاء حثيث لنيل
مطالبه وحقه في امتلاك ثمار عمله. ولقد حاولت عبثاً المذهبيات الخيالية إنكار هذه الفطرة في الإنسان،
. 65 ) مصطفى كمال وصفي، الملكية في الإسلام، ص 73 )
. 66 ) القرآن الكريم، سورة القصص، الآية 76 )
.7- 67 ) المصدر نفسه، سورة العلق، الآيتان 6 )
. 68 ) المصدر نفسه، سورة الحشر، الآية 7 )
واضطرها قانون الفطرة في النهاية إلى الإفلاس، والعودة إلى الاعتراف بالحوافز الذاتية والملكية الفردية
ذاا. إن الملكية الفردية في الواقع هي اعتراف للفرد في حقه بالتمتع بثمار جهده إلا ما تعلق بحق الجماعة،
أو تنازل عنه بمحض إرادته ذلك أنه ولئن أقر الإسلام للفرد بحقه في التملك في إطار نظرية الاستخلاف،
فإن طبيعته الاجتماعية تقتضي أن تكون مصلحة الجماعة أولى بالاعتبار عند التناقض من مصلحة الفرد،
ولا تؤتوا  وأن يمارس الفرد وظيفة الاستخلاف عن الله في إطار استخلاف أكبر هو استخلاف الجماعة
69 ) وذلك ) السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً
هو ما ذهب إليه معظم المفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين انعقد إجماعهم أو كاد على النظر للملكية
الفردية على أا وظيفة اجتماعية( 70 )، ينتفع الفرد ويتصرف وفق مصلحة الجماعة، وذلك ما يعطي شرعية
لحق السلطة الإسلامية ممثلة الجماعة في رسم سياسة اجتماعية واقتصادية عامة ملزمة للمالكين والأفراد،
وفي تحديد الملكية، وفي تأميم بعض الثروات والمصالح. وذلك كلما اختل التوازن في اتمع دون أن يلغي
ذلك ائياً المصلحة العامة للمجتمع وفي إطار الدستور الإسلامي، وهو حاكم على اتمع كله سلطة أو
أفراداً. والملاحظ هنا أن الملكية في التجربة الإسلامية تعددت أشكالها، وأن الملكية الفردية في تاريخ
المسلمين قد غطت جزءاً محدوداً وحسب من ملكية الأرض. وليس اال متاحاً لتفصيل القول في مسألة
أشكال الملكية وسيأتي ذلك، وإنما حسبنا هنا أن نؤكد الحق الشرعي للفرد في التملك ضمن مصلحة
الجماعة وفي حدود الشريعة، ثمرة لحقه في العمل وامتلاكه ثمار عمله في إطار نظرية الاستخلاف، دون أن
يغيب عنا أبداً أن القصد من الملك هو حفظ التوازن الاجتماعي بما يعينه من تحريم وجود طبقات مبنية
على التفاوت في الثروة وأخرى على عصبيتها الجاهلية وفخرها بالأنساب( 71 ). ولقد ورد في الدستور
. 69 ) المصدر نفسه، سورة النساء، الآية 5 )
70 ) من أولئك: سيد قطب ومصطفى السباعي ,أبو زهرة وعبد القادر عودة وعلال الفاسي والبهي الخولي ومصطفى كمال وصفي ومالك بن نبي ومنير شفيق وغيرهم )
.( كثير. وخالف هذا التيار الواسع أبو الأعلى المودودي وعبد السلام العبادي وصالح كركر. انظر: نظرية القيمة (قرطاج: مطبعة تونس، 1968
71 ) كشف البحث التاريخي الاجتماعي بما لا يدع مجالاً للشك أن المسلمين لم يعرفوا نمط الإقطاع الذي عرف في التاريخ الأوربي، وأن الملكية الشعبية في أشكال مختلفة )
هي التي كانت سائدة وليست ملكية الأفراد ولا ملكية الدولة، وأن ذلك يمثل عنصر قوة للمجتمع. من ذلك مث ُ لا أنه حتى سنة 1840 كانت 75 % من الملكيات في
الدولة العثمانية ملكيات وقفية وقد غطت الأحباس في تونس ثلث الملكية ويقترح منير شفيق من أجل إبقاء جماعة المسلمين قوية عدم تسليم الدولة كل مراكز القوة،
وأنه لا بد من إعادة التنظيم الشامل لأشكال الملكيات التي عرفتها التجربة الإسلامية التاريخية وفي مقدمتها الملكية التي تشرف عليها المؤسسات والنقابات والبلديات
والعائلات واالس القروية الشعبية. انظر:منير شفيق، التسيير الذاتي في التجربة التاريخية للمجتمعات العربية الإسلامية/ ص 88 . ويمكن إضافة المعاهد العلمية ومراكز
البحوث والمؤسسات الصحية والإعلامية والأحزاب ونوادي الشباب.. كل ذلك من أجل تقوية سلطة اتمع المدني والتمكين لنظام الشورى الشعبية من أسباب القوة
والفاعلية والقدرة على التصدي لكل تطلعات السلطة نحو التغول.. ومنع ربط مصير اتمع بالسلطة كما قد حصل في ظل حكم التغريب، على حين كان اتمع
الإسلامي قائماً بأهم وظائفه التعليمية والصحية والمعيشية حتى في أشد حالات فساد السلطة. أما اليوم في زمن تغول السلطة واحتكارها لكل وسائل القوة فقد تضاءلت
أمامها سلطة اتمع والفرد وتعلق مصيره ائياً بمدى صلاح أو فساد السلطة. ورغم أن التجربة الإسلامية قد عرفت" الإقطاع" إلا أنه مختلف تماماً عن الإقطاع في
التجربة الأوربية إذ الأصل أن رقبة الأرض ملك لله والناس يملكون حق الانتفاع وفق الشريعة، وحتى عندما تصرفت الدولة في الأرض باعتبارها مالكة للرقبة فقد فعلت
ذلك باعتبارها ممثلة للجماعة التي تمتلك حق الانتفاع. أما الأراضي الوقف فلم تكن تملك منها لا حق الرقبة ولا الانتفاع، إذ ينتفع ا حسب شروط الواقف، وكذلك
كانت أراضي القبائل مشاعة بينهم
التونسي حق الملكية بشكل غامض سائر الحقوق التي وردت في الدستور، وهو غموض أثبتت التجربة أنه
لا يعبر عن مرونة، بقدر ما يتيح إمكانات لطغيان السلطة وتلاعبها بحقوق المواطنين وحريام . ورد في
الفصل 14 حق الملكية مضمون ويمارس في حدود القانون ، وهي صيغة اتسعت لأشد الاختيارات
الاقتصادية تناقضاً، فمن اشتراكية الستينيات إلى رأسمالية السبعينيات الغالبة.
-5 الحقوق الاجتماعية
المقصود بالحقوق الاجتماعية ما يحتاجه الفرد في حياته المعيشية، وتوفير الوسائل الصحية والاجتماعية له.
وهي حقوق لم تكن موضوع اهتمام الدساتير الغربية ومواثيق حقوق الإنسان، إلا في وقت متأخر نتيجة
ضغط النظريات الاشتراكية والمنظمات النقابية وطرداً لشبح الثورة الماركسية، على حين نجد هذه الحقوق
أصيلة في التصور الإسلامي والتطبيق عن تقديم نمط من العلاقات الاجتماعية يحقق المساواة والعدالة
والشورى في حياة الناس المعيشية. وأهم الحقوق الاجتماعية التي ينص عليها في الدساتير: حق العمل، حق
الرعاية الصحية، حق كفالة العيش الكريم.
أ - حق العمل
يلخص الأستاذ العقاد ديموقراطية الإسلام الاجتماعية في جملة واحدة "الإسلام يبطل حق الاستغلال
ويقدس حق العمل، ولا تحتاج الديموقراطية إلى أكثر من هاتين القاعدتين لكي تستقر عليها أحسن
قرار"( 72 ). أبطل الإسلام أسباب الكسب غير المشروع عن طريق الغ ش، أو السرقة، أو الربا، أو
الإحتكار، ومنع كنز المال حتى تكون وسائل الكسب رائجة بين الجميع مؤدية لوظيفتها في توفير الكفاية
للجميع، ومقابل ذلك قدس الإسلام العمل وحث عليه واعتبره المصدر الأساسي للملكية"ومن أحيى أرضاً
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض  .(73) فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه  ،" مواتاً فهي له
،( 74 ).وفي الحديث: "إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة"( 75 ) وابتغوا من فضل الله
،( و"ما أكل أحدا طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده"( 76
بل اعتبره ضرباً من ضروب الجهاد في سبيل الله "إن كان يسعى على نفسه ليكفيها عن المساءلة ويغنيها
عن الناس فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعافا ليغنيهم ويكفيهم فهو في
. 72 ) عباس محمود العقاد، الديموقراطية في الإسلام(القاهرة: [دار المعارف]، 1971 )، ص 62 )
. 73 ) القرآن الكريم، "سورة الملك"، الآية 15 )
. 74 ) المصدر نفسه، "سورة الجمعة"، الآية 10 )
75 ) رواه الطبراني. )
76 ) صحيح البخاري. )
سبيل الله، وإن يسعى تفاخراً وتكاثراً فهو في سبيل الشيطان"( 77 ). وأهوى النبي صلى الله عليه وسلم على
.( يد عامل قد علتها ندوب شديدة من أثر العمل يقبلها( 78
وكما حث على العمل وقدسيته نفر من التبطل وعيش العالة، حتى ولو ظهر في شكل التفرغ للصلاة
والذكر وعاب حالة المذلة والاستكانة وتكفف الناس؛ فالعمل الشريف أياً كان نوعه يزين المؤمن ولا
يشينه، ويكرمه ولا يهينه" "لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره
فيبيعها فيكف الله وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"( 79 )، فكيف يرضى من تشربت
نفسه عزة الإسلام أن يمد يده لغير خالقه، وفيه عين تطرف ورجل تسعى؟ وليس التسول على أبواب
المساجد وعلى قارعة الطرقات وهو إهانة بالغة لنمط التربية والتنظيم في اتمع وإهدار للكرامة- الشكل
الوحيد أو أبغض أشكال التسول الفردي والجماعي لروح الإسلام- فالارتزاق عن طريق التحيل أو عن
طريق الاستدانة سواء مع نية الوفاء، وأفدح منها مع عدمها، وهو وافر الحدوث في حياتنا الاجتماعية،
أمر ابشع من أشكال التسول التقليدي، وأشد بشاعة من ذلك هدر كرامتنا ورهن حريتنا لمختلف دول
الكفر الشرقية والغربية عن طريق ما يسمى بالقروض والمساعدات. إا مذلة لا يمكن لنفس ذاقت لحظة
طعم الإيمان أن تستسيغها. إن المسلمين يربون على حكمة يعلمها الكبار للصغار أبد الدهر "الدين هم
بالليل وذل بالنهار" وبلغ من أمر تبغيض النبي صلى الله عليه وسلم الدين لأمته أنه كان في فترة إذا مات
الرجل سأل: "أعليه دين؟" فإن قالوا نعم، قال: "صلوا على صاحبكم وإلا صلى عليه". كل ذلك للقضاء
على الجذور الفكرية والتربوية للبطالة ونقل اتمع المسلم إلى حالة عامة مستمرة من التعبئة والاستنفار
والامتلاء بروح العزة الإسلامية والتكريم الإلهي للإنسان مما لا يتحقق إلا بالعمل. وقد اقترنت الدعوة في
الإسلام للعلم والإيمان بالدعوة إلى العمل، فكثرت الفعال وتضاءلت الأقوال. من مأثورات ابن الخطاب
رضي الله عنه"رحم الله امرءاً أمسك فضل القول وقدم فضل العمل".
 واجب الدولة في يئة العمل للقادرين: ليست الدولة الإسلامية مجرد حارس للحدود أو شرطياً
للدفاع عن مصالح فئوية، وإنما وظيفتها الرئيسية إقامة العدل، وأبسط معاني العدل الذي لا معني للعد ل
بدونه توفير حد الكفاف للجميع كخطوة لتحقيق الكفاية، وإلى أن يتوفر ذلك الحد المتقوم بغذاء وسكن
وكساء ودواء فلا حرمة لمال، بل تستباح الأموال الخاصة والعامة في سبيل ذلك، ولو أدى الأمر إلى قتال
المانعين لأم بغاة( 80 ). وليس العمل الأول للدولة تقديم الهبات للمحتاجين كلا، وإنما توفير الأعمال،
77 ) رواه الطبراني. )
. 78 ) محمد الغزالي، الإسلام والمناهج الاشتراكية(القاهرة:[د. ن. ، د. ت.])، ص 82 )
79 ) صحيح البخاري. )
80 ) أبو محمد علي بن أحمد بن حزم، المحلى(طهران: [د. ن. ، د. ت.]). )
سواء عن طريق الجهد التربوي الإعلامي لإزالة العوائق النفسية ورفع مكانة العمل، وأنه ميزان التفاضل
بين الناس، أو عن طريق إتاحة أدوات العمل للقادرين، استناناً بأول رئيس لدولة الإسلام، رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين كان يحث على العمل ويوفر أدواته للمحتاجين ويتابع نشاطهم حتى يطمئن إلى
نجاحهم واعتمادهم على أنفسهم، ولا يلجأ إلى تقديم المعونات العينية إلا في حالة العجز الكامل عن
العمل.
وليست الزكاة نفسها وهي أهم مورد لمؤسسة الضمان الاجتماعي في الدولة الإسلامية تقدم للمحتاجين
هبات عينية تظل أيديهم ممدودة إليها مدى الحياة، كلا ... فإن ذلك لا يكون إلا في حالة نادرة، وإنما
تقدم إليهم بحسب أوضاعهم واختصاصام أدوات عمل(ورشات، ومصانع، وقطع أرض، ورؤوس أموال
... الخ) وتتولى مؤسسة الزكاة مساعدم وتقديم النصح لهم حتى يستووا على سوقهم، فما يلبثون طويلاً
.( حتى يتحولون إلى ممولين لصندوق الزكاة( 81
وإذا كانت الأعمال في الإسلام هي أسباب الأموال، فإن نموذج العلاقات الاجتماعية الذي تسعى قيم
الإسلام إلى إرسائه هو-كما قدمنا- يتمثل في أن يكون كل إنسان مالكاً جهده، عاملاً في ملكه، سواء
كان ملكاً فردياً أو جماعياً، لا أجيراً في ملك غيره. فنظام الأجرة في الإسلام نظام استثنائي وليس نظاماً
أصيلا وإنما الأصل "الأرض لمن يزرعها"( 82 ) وقس على ذلك. ولكن التنظير الفقهي أعطى مسائل
الإجارة والمغارسة والمزارعة أهمية لا تعبر عن واقع العلاقات الاقتصادية الذي كان يقوم في الصناعة على
ورشات الحرف حيث يقل عدد الصناع، وسرعان ما يتحولون إلى مالكين لورشام فكأن فترة الإجارة
هي مجرد فترة تدريب وليس وضعاً دائماً. وكان يقوم في الزراعة على الملكية العامة في شكل أرض
خراجية، أو أحباس أو أراضي عروش، والنظام السائد فيها هو نظام المشاركة، وليس نظام الأجرة، هو
81 ) انظر في ذلك الدراسة القيمة التي مثلت إضافة حقيقية في الفكر الإسلامي: يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، ط 6(بيروت: مؤسسة الرسالة، 1989 ). وانظر أيضاً: )
محمود أبو السعود، فقه الزكاة المعاصر(الكويت: دار القلم).
في دولة المدينة وضوح الخطة الإسلامية في القضاء علي النظام العبودي وعلى كل ما ابتدعت  82 ) مما يستوقف المتتبع لنمط العلاقات الاجتماعية الذي أرساه النبي )
عهود الجهالة من أساليب لابتزاز جهود العاملين كالربا والاحتكار والاستيلاء على أرض الله وتسخير خلق الله للعمل فيها مع سلبهم النصيب الأوفى من جهودهم. ولولا
ومن بعده خلفائه ضد هذا النظام لتحول المهاجرين ومن بعدهم سائر الشعوب التي استهوا عدالة الإسلام إلى أقنان لدى طبقة إقطاعية محدودة العدد .  ثورة النبي
ولكن التطبيق الإسلامي في الصدر الأول كان على وعي تام بعمق مفهوم العدالة المتضمن في عقيدة الإسلام(لا إله إلا الله) والذي تبلور في المبدأ الاقتصادي الذي سنه
من كانت له أرض فليزرعها أو ليهبها أخاه ولا يكرها] حديث صحيح، [من أحي أرضاً مواتاً فهي له] والغريب أن التنظير الفقهي-بشكل عام- انحرف عن ]  النبي
لليهود إثر الهزيمة التي حاقت م على إثر خيانتهم بالبقاء على الأرض التي كانت ملكاً لهم يزرعوا  هذا في التوزيع، وتوقف فقط عند حادثة خيبر حيث سمح النبي
مقابل خراج للدولة. التقط الفقه هذه الحادثة فأخرجها عن إطارها الجزئي وطابعها المؤقت ليتخذها أساساً لنظام الإجارة على مختلف أشكاله، معرضاً عن جملة المبادئ
نظام التوزيع وليس فيها الإيجار القاعدة بل الاستثناء. ورغم أن المذهب المالكي والظاهري بشكل خاص قد تصديا لكثير م ن ضروب  الواضحة التي أرسي النبي
الاستقلال مثل كراء الأرض بجزء مما يخرج منها كالربع والنصف والخمس إلا أن هذا النظام عرف طريقة إلى التجربة الإسلامية.
الانتفاع من خلال العمل المباشر في الأرض، أما رقبة الأرض أي مليكتها الأصلية فكأن معظمها ملكاً
عاماً للأمة.
وربما ساهمت نشأة الفقه في المدن وليس في الأرياف في إعطاء أحجام كبيرة لعلاقات الأجرة بسبب
انتشار أعمال البناء والكتابة والأعمال المنزلية(خدمة المنازل) وهي خاصة بالمدن وتندر بالأرياف، حيث
تعمل العائلات لنفسها لا لغيرها. ولكن لأن حالة الأجرة-كنظام استثنائي- لا يمكن التخلص منها جملة-
فستبقى أعمالا لا مناص فيها من نظام الأجرة فقد اهتم ا الإسلام وأحاطها بجملة من التشريعات،
وبث جملة من القيم الخلفية التي تمنع هذه العلاقة من أن تجور على طرفها الأضعف وهو الأجير فتحوله إلى
عبد. وفي هذه الحالة لم يكتف الإسلام باعتماد نظام التعاقد كأساس لإقامة العدل رغم أن التعاقد
يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود  ، يفترض-وفي العادة- حرية المتعاقدين، الأمر الذي يقتضي الوفاء
83 ). إلا أن ذلك ليس حكماً مطلقاً، فقد تختل الأوضاع الاجتماعية اختلالاً لا يصادر إرادة طرف من )
أطراف التعاقد فلا يبقى له من حرية الإرادة إلا الشكل. ولأن الإسلام لم يأت من أجل إرساء عدالة
شكلية، بل هو يصر على الجهاد من أجل إقامة عدالة حقيقية، فإنه لم يأبه بكل تعاقد يقوم على غبن أحد
طرفيه، ولذلك اشترط في حال اختلال التوازن لفائدة أحد المتعاقدين أن يكون الطرف الأضعف لا
84 ). فإذا حصل العكس كان للطرف ) وليملل الذي عليه الحق  الأقوى هو الذي يملي شروط العقد
.( الضعيف أن لا يفي بمقتضياته( 85
ومن حق العامل أن يتولى عملاً مكافئاً له، موفراً له كفايته. روى الإمام أحمد بن حنبل أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: [ومن ولى لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليست له امرأة فليتزوج، أو ليست
له دابة فليتخذ دابة]، وذلك يقتضي أن لا توزع الأعمال إلا على أسس واضحة تتحقق فيها المساواة مثل
: الكفاءة والقدرة. ومن جهة أخرى فقد أوجب الإسلام على العامل الإخلاص والاتقان: يقول النبي
"إن يحب الله إذا عمل أحدكم أن يتقنه" رواه أبو يعلي، ويقول: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"
في الصحيح.
ب- الرعاية الصحية:
. 83 ) القرآن الكريم، "سورة المائدة" الآية 1 )
. 84 ) المصدر نفسه، "سورة البقرة" الآية 282 )
85 )تقدم هذه الآية أساساً متيناً للتعاقد في اتمع الإسلامي، كما تمثل قاعدة كبرى يمكن أن يتأسس عليها عمل النقابات في نضالها ضد الملاك المتسلحين من الناحية )
النظرية بمبدأ حرية التعاقد، وهو مبدأ يصبح فارغ المحتوى دون شروط التكافؤ... خير من تناول هذا الموضوع منطلقاً من آية البقرة الشهيد عبد القادر عودة. انظر كتابه
. الشهير: عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي(الإسكندرية: دار نشر الثقافة، 1949 )، ج 1
ومن الحقوق الاجتماعية للمواطن في دولة الإسلام: الرعاية الصحية فكان اهتمامه صلى الله عليه وسلم
بالغاً بالطب الوقائي من نظافة واعتدال وبعد عن النجاسات والمسكرات وأشكال التبذير والفساد، فأمر
بأسباب القوة، ونفر من الضعف وأسباب الهلاك "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل
خير"( 86 )، وحث على الرياضة، وأوجب طلب العلاج عند المرض، ونفر من السمنة والبطنة( 87 )، ورخص
في اجراء التعديلات المناسبة على الشعائر التعبدية بما يتناسب و الأوضاع الصحية، وأوجب على الدولة
توفير العلاج للمحتاجين من رعاياها مسلمين وغيرهم، ولذلك لم يكن عجباً أن سبقت ا لحضارة
.( الإسلامية إلى إقامة جهاز صحي ممتاز من مستشفيات وصيدليات ومختبرات( 88
( كما حث الإسلام على زيارة المرضى، واعتبر ذلك حقاً من حقوقهم.. "ويعوده إذا مرض"( 89
ج- بناء الأسرة:
ومن الحقوق الاجتماعية حق بناء الأسرة بناء على أن الزوجية قانون كوني، وهي بالنسبة إلى المؤمنين
عبادة تعدل نصف الدين لما لها من أثر فعال في توازن الشخصية وتطورها، كما أا الإطار الذي لا بديل
عنه للمحافظة على النوع ورقيه ونموه. ولذلك أحاط الإسلام هذه المؤسسة بعناية تشريعية بالغة حددت
حقوق وواجبات كل طرف فيها على أساس المساواة والتكامل- لا التماثل- فما لهذا إلا ويكافئه واجب
90 ). والزواج عقد مكارمه وميثاق غليظ ومؤسسة خطيرة ) ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف  على ذلك
ذات علاقات متشابكة ودقيقة، الأمر الذي يفرض استحالة نجاحها في حال قيامها على المصالح والنزوات
العابرة، ولذلك أقامها الإسلام على التراضي والاحترام المتبادل والمعاني الإنسانية الثابتة، كالإيمان
والإحسان والصبر والمودة والعدل، وعمل على الإطاحة بكل الاعتبارات العرقية والطبقية التي تقوم
حواجز بين البشر تمنعهم من التعاون والاقتراب تحقيقاً لهدف الإسلام في عودة البشرية كلها، كما بدأت
91 ). ولأن الزواج يحتل ) يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة  أول مرة عائلة واحدة
هذه المكانة في الإسلام، فقد رغب فيه وأوجبه في حالات كثيرة، وفرض على الدولة المسلمة أو الجماعة
وأنكحوا(أي زوجوا) الأيامى منكم (الفقيرات) والصالحين من عبادكم وإمائكم  تيسير أسبابه للجميع
.(92) إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله
86 ) رواه الحاكم. )
87 ) من الكتابات الجيدة التي صدرت في تونس حول هذا الموضوع: الطاهر المغربي، نظم التغذية في الإسلام(تونس). )
والخلافة الراشدة، وفي ما بعد أيضاً: مصطفي السباعي، من روائع حضارتنا(بيروت: المكتب الإسلامي).  88 ) وقائع كثيرة تشهد على ذلك في عصر النبي )
89 ) صحيح البخاري. )
. 90 ) القرآن الكريم، "سورة البقرة" الآية 228 )
. 91 ) المصدر نفسه، "سورة النساء" الآية 1 )
. 92 ) المصدر نفسه، "سورة النور" الآية 32 )
والزواج المبكر من سياسة الإسلام،صونا لطاقة الشباب أن تتبدد ولكيان اتمع أن ينخره الفساد، بما
يجعل دعوات تاخير الزواج ضربا من الافساد في الارض وإشاعة للفواحش. لقد حث الإسلام على
انتشار النوع البشري تحقيقاً لمضمون خلافة الإنسان، وهو عمارة الأرض،، بما يجعل جريمة كبرى دعوات
تحديد النسل والتشجيع على الاجهاض بدوافع اقتصادية أنانية واحتكار الوجود ومنعه على الآخرين
بضرب من ضروب الوأد السافر أو الخفي سواء أكانوا وهم يدبون على الأرض أم كانوا نطفا في أرحام
93 ). إن للمسلم ) ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاكبيراً  أمهام
الحق الكامل في اختياره شريك حياته، بل قد يصل الأمر إلى الوجوب مع خشية الفتنة [من استطاع منكم
الباءة فليتزوج]. وإذا كان الزواج للفرد حقاً فعلى اتمع واجب السعي لتيسيره لل رجال والنساء
94 )، ولم ) وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله 
يفرض من القيود على الزواج بين مختلف فئات اتمع وأجناس البشر غير ما يتعلق بالمعتقد حرصاً على
الانسجام ودوام العشرة من جهة وعلى صيانة الأمن العام والنظام العام للمجتمع الإسلامي، فكل علاقة
في اتمع من شأا أن تنال من ذلك الأساس أو دده كان منعها أمراً محتوماً، ومن ذلك منع الزواج
بالزناة والفسقة والملحدين وأعداء الإسلام عامة، والرخصة للرجال في الزواج من المحصنات( 95 ) من أهل
الكتاب المستمسكين بخلق دينهم ، تيسيرا للتعريف بأنوار الاسلام في صفوفهم. غير أنه لا مجال في هذه
الرخصة للمسلمات بحكم أن غير المسلم يهوديا أو نصرانيا أو غيره لا يبادل المسلمة الاعتراف بدينها كما
تعترف بدينه فتكون معرضة للفتنة في دينها وأبناؤها معرضين للضياع لا سيما مع ما معتاد من طاعة المراة
لزوجها ومن انتقالها إلى بئته ونشأة الأبناء بحسب الدين السائد في تلك البئة، الأمر الذي يجعل من اقتران
هذه المسلمة بكافر خطراً على دينها وعلى أبنائها. وأوجب الإسلام رعاية الأمومة والطفولة؛ فخص عمر
بن الخطاب كل رضيع بنفقة، وأوجب النفقة للأمهات،
كما هو نص القرآن، بما يؤسس لواجب الدولة في رعاية الامومة والطفولة أساس اتمع السليم القوي
المستقيم، كما سياتي
د- حق التعلم والتربية
93 ) المصدر نفسه، "سورة الإسراء" الآية 31 . انظر في تفسير الآية الدال على تحريم سياسة تحديد النسل في كل أشكاله كتب العلامة المودودي في : فكرة تحديد )
.( النسل(بيروت: دار الفكر)، والحكومة الإسلامية(بيروت: دار الفكر، 1977
وانظر أيضاً مقررات المؤتمرات الإسلامية التي حرمت تلك السياسة واعتبرا خطة يهودية إمبريالية للحد من انتشار الإسلام. وللشيخ الفاضل بن عاشور فتوى في السياق
نفسه حرمت هذه السياسة الخبيثة.
. 94 ) القرآن الكريم، سورة النور، الآية 32 )
95 ) والمقصود بالمرأة التي تستقذر الزنا وتتعفف عنه وتراه مخلاً بالشرف. أما التي تأتيه أو لا تراه ذميمة حتى وإن لم تفعله فلا تصلح لزواج المسلم، مسلمة كانت أم )
كافرة.استثنى الس الاروبي للاتفاء المرأة التي تسلم ويظل زوجها على دينه فلها البقاء في عصمته رجاء اهتدائه وحفظا للاسرة، وذلك ما لم يكن مجاهرا بعدائه للاسلام.
حث الإسلام على العلم وجعل للعلماء مكانة عالية وأوجب على الجاهلين أن يتعلموا، وعلى العلماء أن
يعلموا، وعلى الدولة أن تيسر الظروف المناسبة لذلك، حتى أنه يمكن اعتبار الإسلام أول مذهب في
التاريخ قال بإلزامية التعليم"العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"( 96 ). وجاءت الحضارة الإسلامية لتحقق
هذا المبدأ في الواقع فشهد مؤرخو الحضارة أن قرطبة- مثلاً- أول مدينة في الإسلام حققت القضاء التام
على الأمية( 97 ). وتم ذلك دون ارهاق لميزانية الدولة، فلقد تكفلت الثقافة الإسلامية التي ربطت بين العلم
والإيمان، وبين الدنيا والآخرة اعتماداً على مبدأ استخلاف الإنسان بتأسيس المؤسسات الشعبية العلمية
والصرف عليها من الأوقاف. فكانت مؤسسات التعليم والإقتصاد والتشريع مستقلة عن الدولة تمام
الاستقلال، وجزء من بنية اتمع المدني، مع ملاحظة أن التربية في الإسلام لا تتجه إلى الأطفال فحسب،
وإنما إلى اتمع كله، وأن التعليم الأساسي لا يقتصر على تعليم المهارات الثلاث : القراءة والكتابة
والحساب، وإنما يتجاوز ذلك إلى مجال القيم والتنشئة عليها، إذ لا خير في علم لا يتبعه عمل صالح يعين
على رقي الفرد والجماعة، وعلى تحصيل السعادة في الدنيا والآخرة من خلال التسخير والارتقاء بالطاقات
.( المادية والروحية للكبار والصغار، للرجال والنساء وفق المنهج الإلهي للفوز بمرضاة الله( 98
ه- حق الضمان الإجتماعي
لم تتضمن الدساتير وقوانين حقوق الإنسان في الغرب مفهوم الضمان الإجتماعي إلا في وقت متأخر،
وتحت ضغط الواقع. ولم يتعرض الدستور التونسي مثلاً في بابه الأول(أحكام عامة ) لغير الحريات
التقليدية(حرية التفكير والتعبير والتنقل) مكتفياً بالإشارة إليها في التوطئة بصيغة لا تتضمن أي التزام
بضمان الحقوق الاجتماعية للمواطن من تعليم وصحة وعمل وأسرة. أما غير القادر على العمل أو الذي
لا يكفيه عمله لتوفير العيش الكريم فمسكوت عنه. تأمل في هذه الصيغة جيداً لتدرك أا مجرد إعلان
قناعة عن "إن النظام الجمهوري خير كفيل لحقوق الإنسان وإقرار المساواة ولتوفير أسباب الرفاهية بتنمية
الاقتصاد واستخدام ثروة البلاد لفائدة الشعب وأنجح أداة لرعاية الأسرة وحق المواطنين في العمل والصحة
والتعليم"( 99 ) إنه مجرد إعلان قناعة وتزكية للنظام الجمهوري، ولا يشكل أي التزام، وإلا لبرز ذلك في
باب الأحكام العامة مع بقية الحقوق والحريات. بينما الدساتير الغربية المعاصرة وإعلانات حقوق الإنسان
فضلاً عن دساتير البلاد الاشتراكية قد تضمنت ذلك بوضوح؛ فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
96 ) رواه ابن ماجه. )
. ( 97 ) سيغريد هونكة، "شمس العرب تسطع على الغرب" رابطة العالم الإسلامي، السنة 10 ، العدد 8(تشرين الثاني/نوفمبر 1972 )
98 ) انظر على سبيل المثال: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحفة المودود بأحكام المولود(بومبي: الجامعة الهندية العربية، 1961 )، وأبو الفرج عبد الرحمن )
. ( بن علي بن الجوزي، لفتة الكبد في نصيحة الولد، تعليق مروان قباني(بيروت: المكتب الإسلامي، 1982
99 ) تونس، دستور الجمهورية التونسية (تونس: المطبعة الرسمية، [د. ت.])، التوطئة. )
على "حق الإنسان في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته وفي تأمين
.( معيشته في حالة الباطلة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة"( 100
ولقد كانت هذه الإعلانات المعاصرة – وهي ثمرة ضغوط أكثر منها ثمرة اعتراف بكرامة الإنسان –
متأخرة جداً في الفكر والممارسة عن الإسلام نظرية وممارسة. فلقد أقام الإسلام مجتمعه على أساس
101 )، وفي ) إنما المؤمنون إخوة  الأخوة والمساواة والعدالة وما يقتضيه ذلك من تعاون وتضامن وإيثار
الحديث: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله]، ويعلن ابن حزم في المحلي تعليقاً على هذا
الحديث الصحيح يقول فيه: "من تركه يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه "، إن
الأخوة ليست مجرد عاطفة ولكنها عقد تكافل تعاون وتآزر، وهو عقد طرفه الأساسي الأمة ممثلة في
وأولوا  مستويات متراتبة تبدأ بالأسرة حيث أوجب على أفرادها التكافل في الإرث والوصية والنفقة
103 )، وفي ) والجار ذي القربة والجار الجنب  102 )، ثم أهل الجيرة ) الأرحام بعضهم أولي ببعض
الحديث: [ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه]، [ليس منا من بات شبعان وجاره جائع
وهو يعلم]. ثم يأتي أهل الحي ثم اتمع كله عن طريق الزكاة وهي فريضة ملزمة ثم النفقة التطوعية "في
المال حق سوى الزكاة"، وفي الصحيح يرسم النبي القائد نموذجاً تمع مؤمن صغير كيف يتعامل مع
الأزمات الاقتصادية: [نعم القوم الأشعريون كانوا إذا أرملوا في الغزو أو قل طعامهم بالمدينة جعلوا ما
كان عندهم في ثوب وأحد وقسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم]. وصيغة الوصف النبوي لهذا
اتمع ناطقة بتحبيذه، والرغبة للمسلمين وللبشرية جمعاء أن تتأسى به في تجسيد الأخوة وقهر الأنانية
ومغالبة الأزمات. ويتجاوز النبي القائد هذه الصيغة التي تعتمد الإيحاء إلى الإعلان العام المباشر ذي الصيغة
التشريعية" من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل مال فليع به على من لا
مال له". وينقل أبو سعيد الخدري راوي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في أصناف المال
ذكر، وللمسلم المعاصر أن يعدد من صنوف البيوت والسيارات والمصانع والحقول... الخ، حتى رأينا أنه
لا حق لأحد منا في فضل. ولقد تقدم حديث النبي صلى الله عليه وسلم [من كانت له أرض فليزرعها أو
ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه]، وليس له أن يمسكها أكثر من ثلاث سنوات إذ "ليس لمحتجز حق
بعد ثلاث سنوات"، كما ورد في حديث أخر. ولقد تشبع خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ذه الروح
الاجتماعية الإنسانية فمنع ابن الخطاب أن يتحول الفاتحون إلى إقطاعيين، فقرر منع توزيع أرض الفتوح
. 100 ) فتحي عثمان، أصول الفكر السياسي الإسلامي، ص 294 )
. 101 ) القرآن الكريم، "سورة الحجرات" الآية 10 )
. 102 ) المصدر نفسه، "سورة الأنفال" الآية 75 )
. 103 ) المصدر نفسه، "سورة النساء" الآية 36 )
على الفاتحين وجعلها ملكاً عاماً للمسلمين إلى يوم القيامة( 104 ). ومع ذلك تبين له في أواخر أيام حكمه
وجود تفاوت عزم على قضاء عليه، فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال
الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين". وكان الخليفة الثائر علي بن أبي طالب واضح الرؤيا في تحليله
لمشكل الفقر، أنه ثمرة لأنانية الأغنياء"ما جاع الفقراء إلا بمنع الأغنياء".
وإذا كان غبار التاريخ المتطاير من حمأة الحضارات الفارسية والرومانية القائمة على الإقطاع والاستقلال
قد غشي كثيراً أو قليلاً أنوار العدالة والإنسانية التي أشعت ا نصوص الكتاب والسنة وتجربة التطبيق
النموذجي في الصدر الأول للإسلام، فخالطت تلك الأنوار الساطعة ظلمات الجاهلية وتأثر التنظير الفقهي
بذلك قليلاً أو كثيراً، فإن تاريخ الإسلام لم يخل من اددين الثائرين الذين كسروا أطواق التاريخ ونفضوا
غباره المتراكم فاتصلوا بالنبع الصافي وأطلقوا أنواره مجدداً. وكان أشهر أولئك علامتنا المغربي الثائر الفقيه
السلفي ابن حزم الذي لا يشك أحد في تمسكه الحرفي المتشدد بظواهر النصوص. وكان ذلك كافياً لو
صح تحليل خصوم السلفية ليجعل من ابن حزم أكثر فقهاء الإسلام رجعية وجموداً وخصومة لحقوق
المستضعفين من الرجال والنساء، ولكن الواقع يشهد بعكس ذلك تماماً لدرجة أن رافعي لواء التحرر من
سلطان النصوص لحساب العقل – وذلك شرط التحرر والتقدمية عندهم – إذ التقدم بزعمهم والمنهج
النصي (أو السلفي) نقيضان لايجتمعان. ولا يكادون يعثرون خلال تنقيبهم في التراث على مواقف تحررية
في مجال الاقتصاد أو المرأة والفن وغيرها أعمق وأجلى وأغزر من مواقف الموغلين في السلفية أمثال ابن
تيمية وابن القيم، وابن حزم، وهو زعيم المنهج السلفي بلا منازع... وكان على هؤلاء أن يذعنوا
،( للحقيقة التي كشف عنها تاريخ الحضارة الإسلامية، تلك التي أعلن عنها الفكر الإسلامي المعاصر ( 105
ألا وهي أنه لا تجديد إلا في إطار السلفية. المقصود أنه انطلاقا من الاعتزاز بالذات الحضارية للأمة
والاطمئنان الكامل إلى دينها وتراثها...فإنما انطلق تاريخنا من النص المقدس، فلا تجديد فلا تجديد حقيقياً
إلا في إطاره وانطلاقاً منه. بل إنه التجديد في كل حاضرة كان ذا المعني سلفياً، أي عودة إلى الجذور
انطلاقاً منها من أجل تخطي الحاضر الهابط نحو مستقبل أفضل مع ملاحظة أن السلفية هنا تعني التمسك
بنصوص الإسلام ومقاصده في مواجهة محاولات العبث العلماني، وليست بحال رفض التجديد ورفض
مقاصد الشريعة، مع التنبيه أيضاً أن السلفية لئن احتلفت محمولاا فهي تلتقي في إعلاء مرجعية الوحي
كتابا وسنة على كل مصدر آخر للمعرفة والالزام. وعدا ذلك فالسلفية أنواع( 106 ). لنقرأ بانتباه، ونحن
104 ) أبو عبيدة، كتاب الأموال، ويعقوب بن إبراهيم أبو يوسف، كتاب الخراج(بولاق: المطبعة السلفية، 1352 ه). )
.( 105 ) انظر على سبيل المثال: منير شفيق، أطروحات علمانية(تونس: دار البوارق)، ومحسن الميلي، ظاهرة اليسار الإسلامي(قرطاج: مطبعة تونس، 1985 )
106 ) يقول عبد الاله بن كيران: "إن الوهابية ليست إلا سلفية من بين سلفيات أما بالنسبة إلينا فالسلفية هي النظر الموضوعي في نصوص الإسلام". نقلاً عن: )
Francois Burgat .ed., L’Islamisme au Maghreb: La Voix du sud, les Ariques (Paris: Kartala, 1988) ,p. 33.
بصدد تقرير حق الضمان الاجتماعي في الإسلام، هذا النص الرائع للثائر السلفي ابن حزم" وفرض على
الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات م ولا
في سائر أموال المسلمين م فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء والصيف
بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والشمس وعيون المارة. ومن كان على فضلة، ورأى أخاه جائعاً
عريان فلم يغثه فما رحمه بلا شك"، بل يفرض ابن حزم على الجائع أن يأخذ ما يسد به حاجته، ولو مع
.( استعمال القوة( 107
ويصل الفقيه السلفي ابن تيمية(في كتابه الحسبة في الإسلام) إلى النتيجة نفسها انطلاقاً من النصوص "إذا
قدر أن قوماً إلى السكن في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكاناً يأوون إليه إلا ذلك البيت، فعليه أن يسكنهم
وكذلك إذا احتاجوا إلى أن يعيرهم ثياباً يستدفئون ا من البرد أو إلى آلات يطبخون ا أو يبنون أو
يسقون يبذل هذا مجاناً وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلواً يسقون به أو قدراً يطبخون فيها أو فأساً يحفرون
به فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة؟". فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره. والصحيح وجوب
بذل ذلك مجاناً إذا كان صاحبها مستغنياً عن تلك المنفعة كما دل عليه الكتاب والسنة، وقال تعالى :
.(108) فويل للمصلين. الذين هم عن صلام ساهون. والذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون 
وأن مسؤولية الفرد على إخوانه تصل إلى حد مقاضاته إذا فرط ولم يقم بحاجتهم مع القدرة، يذكر الفقيه
المالكي الدردير" يضمن من ترك تخليص مستهلك(أي هالك) من نفس أو مال قدراً على تخليصه بقدرته
.( أو جاهه أو ماله فيضمن من النفس الدية وفي المال القيمة"( 109
وأن تفرد الإسلام بجعل ضمانه الاجتماعي شاملاً للغارمين حتى تسدد ديوم وتفرج كروم، وللرقيق
حتى يتحرروا، ولأبناء السبيل من المسافرين والمنقطعين مهما كانت ثروام في بلدام التي يقيمون فيها،
كما تفرد الإسلام بجعل التزامات الدولة الاجتماعية شاملة لولاية الأطفال القصر الذين لا أولياء لهم
ومراقبة أولياء هؤلاء إن وجدوا، وتزويج من لا أولياء لهم أو لا مال لهم ولقد اتخذ الخليفة عمر بن
الخطاب دار السويق فجعل فيها الدقيق والسويق والتمر والزيت وما يحتاج إليه المحتاج.
107 ) قال ابن حزم: "من عطش فخاف الموت فرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده، وأن يقاتل عليه، ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميته أو لحم خنزير وهو يجد طعاماً )
فيه فضل عن صاحبه، لأنه فرض على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير، وله أن يقاتل عن ذلك فإن قتل(الجائع )
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى  فعلى قاتله القود(أي القصاص) وإن قتل(المانع)فإلى لعنة الله، لأنه منع حقاً وهو طائفة باغية... قال تعالى
ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق، انظر: ابن حزم، المحلى. ... أمر الله
.7- 108 )القرآن الكريم، "سورة الماعون" الآيات 4 )
. 109 ) أحمد بن محمد الدردير، الشرح الكبير على متن خليل، وعثمان، أصول الفكر السياسي الإسلامي ، ص 300 )
واضح عمق وأصالة الضمان الاجتماعي على صعيد التطور والتطبيق في الإسلام، وواضح كذلك طابع
التفرد في هذا التصور من حيث ارتباط تلك الحقوق بتكريم الله للإنسان باستخلافه له، ومن حيث تعدد
مؤسسات ذلك الضمان: الأسرة، الجوار، الحي، أو العشيرة، اتمع، الدولة... وذلك وفق تصور الإسلام
لعلاقة الفرد واتمع بالدولة، إن عقيدة التحرر والعبودية لله وهي أساس التصور الاجتماعي الإسلامي
تأبى حصول وضع اجتماعي تتغول فيه الدولة ويتضاءل الفرد واتمع تجاهها فيرتبط مصير اتمع كله
بتلك المؤسسة أو الشخص أحياناً(الدولة). إن الإسلام يحرص، كما سنرى، على تحقيق قدر كبير من
الاستقلال للفرد واتمع عن السلطة في الدولة الإسلامية، وذلك من خلال التكريم الإلهي للإنسان بما
يكسبه حقوقاً ويفرض عليه واجبات لا سلطان لأحد غير الله عليها، ومن خلال حرصة على إقا مة
المؤسسات الشعبية المستقلة عن السلطة، كالأسرة والعشيرة وأهل الحي ومؤسسة التعليم والتعبد، كاسد
وأنواع كثيرة من المؤسسات الاجتماعية الشعبية التي يمولها الشعب عن طريق مؤسسة الأوقاف على نحو
يتحقق معه قدر كبير من الاستقلال للأمة عن الحكومة، وخاصة في عهود فسادها. وأن أشد ما نكبنا به
الغزاة الغربيون بهم جزءاً كبيراً من المؤسسات الشعبية وتدميرهم البنية التحتية تمعنا، حتى إذا ورثهم
المستعمرون الجدد في عهد (الاستقلال) استكملوا الغزو، وأتموا السيطرة والاستيلاء على ما تبقى من تلك
البنية التحتية فارن الفرد واتمع لأهوائهم وتقلبام، فح إذا صحوا، وقليلاً ما هم فاعلون، ومرض
بمرضهم الدائم، ومع ما أحدثوه من تدمير لبنية اتمع الصالح تسلط الدولة تراهم لا يستحون من ما
يسمونه (اتمع المدني) لإخفاء طبيعة التسلط المهيمنة على هذه اتمعات.
إن الإسلام يسعى جهده لضمان حرية الناس وإخلاصهم عبوديتهم لله، ومن وسائله منع احتكار سلطة
الحكم أو سلطة المال في يد فئة قليلة، بل قد يسعى إلى توزيعها على أوسع نطاق ممكن حتى ينحصر
تدخل الدولة المباشر في أضيق نطاق ممكن (أنا ولي من لا ولي له) أي حيث يعجز اتمع ويختل توازنه .
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ورد في الدستور الإيراني وهو في عمومه مسعى جيد لصيغة اجتماعية إسلامية معاصرة، تجلت فيها أبعاد
الضمانات الاجتماعية الإسلامية وسبل الوصول إليها واضحة، شتان ما بينها وبين الدساتير الغربية
والشرقية أو ذيولها. فقد ورد فيه(من أجل ضمان الاستقلال الاقتصادي للمجتمع واجتثاث جذور الفقر
والحرمان، وتوفير كافة متطلبات الإنسان في طريق التكامل والنمو مع حفظ حريته، يقوم اقتصاد جمهورية
إيران الإسلامية على أساس القواعد التالية:
-1 توفير الحاجات الأساسية للجميع: السكن والغذاء واللباس والصحة والعلاج والتربية والتعليم
والإمكانات لتشكيل الأسرة.
-2 توفير فرص وإمكانات العمل للجميع دف الوصول إلى مرحلة انعدام البطالة، ووضع وسائل
العمل تحت تصرف كل من هو قادر على العمل ولكنه فاقد لوسائل العمل بصورة تعاونية عن
طريق الإقراض بلا فائدة أو أي طريق مشروع آخر بحيث لا ينتهي إلى تمركز وتداول الثروة بين
أفراد ومجموعات خاصة وبحيث لا تتحول الحكومة معه إلى رب عمل كبير ومطلق.
ورد في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، وهو أحدث صياغة اجتماعية للنظرية الاجتماعية
الإسلامية، ما يلي:
"لكل شخص الحق في اختيار أي عمل يرغب فيه ولا يتعارض مع الإسلام والمصالح العامة وحقوق
الآخرين، والحكومة مسؤولة عن توفير فرص العمل للجميع.
"إن حق التمتع بالضمان الاجتماعي في مجالات التقاعد والبطالة والشيخوخة والعجز عن العمل، وفقد
القيم والانقطاع في الطريق والحوادث والطوارئ والخدمات الصحية والفلاحية والرقابة الصحية في صورة
التأمين أو غيره، وهو حق عام.
"والحكومة مسؤولة أن تعمل وفق القوانين ومن العائدات العامة والعائدات العامة والعائدات الناتجة عن
المساهمة الجماهيرية على توفير الخدمات والضمانات المالية السابقة الذكر لكل فرد من أبناء الشعب.
"الحكومة مسؤولة عن توفير وسائل التربية والتعليم ااني لكافة أبناء الشعب حتى اية المرحلة الثانوية،
وعن وسائل التعليم العالي بصورة مجانية حتى الوصول إلى الاكتفاء الذاتي. "إن امتلاك المسكن المناسب مع
الحاجة، وهو حق كل فرد وعائلة إيرانية، والحكومة مسؤولة أن تمهد الأرضية لتنفيذ هذه المادة مع رعاية
.( الأولوية للذين هم أحوج إلى المسكن، وبالخصوص القرويين والعمال( 110
واضح من خلال المقارنة تواضع الأبعاد الاجتماعية في الدستور التونسي بالقياس إلى عمق واتساع ذلك
الحجم في التصور الإسلامي، كما تجلى في الكتاب والسنة والفقهاء اددين، أو كما تجلى في إحدى
صور التطبيق المعاصر للإسلام، كما وردت في الدستور الإيراني، الأمر الذي جعل التونسيين ونظراءهم
يستغربون قصور دساتيرهم عن ركب البشرية الزاحف تجاه تأصيل مبادئ العدالة والمساواة. أليس مخجلاً
لنا ترددنا حتى الآن في إقرار مبدأ إجبارية التعليم في المرحلة الابتدائية والثانوية، وإقرار حق كل مواطن في
العمل والضمان الاجتماعي؟ وبدل ذلك يشتغل المترفون في بلادنا سكان القصور بنقد (التطرف الديني)
. 110 ) عباس محمود العقاد، الديموقراطية في الإسلام(القاهرة: [دار المعارف]، 1971 )، ص 62 )
لإشغال المستضعفين في أحزمة الفقر حول المدن، ومناطق الحرمان في الشمال الغربي والجنوب، عن حمل
الإسلام سلاحاً لاسترداد حقوقهم المغتصبة، وكرامتهم المهدورة، وتأديب الطغاة الغاصبين، وتوفير
مناخات الأمن والتضامن الوطني والحرية والعفة والكرامة، حتى تنطلق الطاقات المعطلة.
-6 الحق في قضاء عادل:العدل في الاسلام هو نظام الكون والنظام الذي ارتضاه الله لعباده وأرسل من
أجل إقامته بين خلقه رسله. قال تعالى"والسماء رفعها ووضع الميزان ألاّتطغوا في الميزان وأقيموا الوزن
بالقسط ولا تخسروا الميزان"الرحمن 6و 7.وقال تعالى"لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب
والميزان ليقوم الناس بالقسط"الحديد 24 .والعدل قيمة مطلقة لا يحد منها أي اعتبار من قرابة أو دين أو
مصلحة أو أي عائق من صداقة أو عداوة. والنصوص في ذلك متظافرة، بما وجه المسلمين الى انتاج ثرورة
قانونية عظيمة لضبط قانون العدل في شتى ضروب المعاملات، كما أبدعوا نظاما قضائيا اشترطوا لتوليه
شروطا عالية من العلم والخلق والنزاهة، فتمتع القضاة بمكانة اجتماعية سامقة وبمستويات علمية رفيعة
وباستقلالية كبيرة، ولم يكن حتى أصحاب السلطان في حصانة من صولة القضاء في عصر النبوة والخلفاء
الراشدين، ثم تولت القوة السافرة استثناءهم وبالخصوص إذا تعلق الامر بمن ينازعهم سلطام. أما بقية
االات فقد ظلت كلمة القاضي فيها لا ترد. وربما لم يشهد هذا القطاع تدهورا كما هو عليه الامر في
ظل الانظمة التي اغتربت بقوانينها وأنماط إعداد قضاا عن تراث الاسلام الزاهر في هذا اال، وذلك
رغم كل دعاوى استقلال القضاء، وفصل السلطات،فقد استتبع لسلطان التنفيذ كما لم يحصل في تاريخ
الاسلام وحتى في ظل الاحتلال الاجنبي.
-7 حق الامان أو اللجوء السياسي:
وهو حق تكفله الدولة الإسلامية لكل إنسان بقطع النظر عن جنسه وملته هو استنجاد بالمسلمين وطلب
الأمان عندهم فالواجب على الدولة الإسلامية تمكينه من هذا الحق وحمايته حتى يقرر العودة إلى وطنه أو
إلى مكان آخر وذلك مقتضى آية التوبة " وإن أحد من المؤمنين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم
أبلغه مأمنه ذلك بأم قوم لا يعلمون " (التوبة) يقول المفسر ابن كثير : إن من قدم من دار الحرب إلى
دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام
أو نائبه أمانا أعطي أمانا ما دام مترددا في دار الإسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه.
ويقول صاحب الظلال " إن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار
والأمان ، إن هذا الدين إعلام لمن لا يعلمون وإجارة لمن يستجيرون حتى من أعدائه الذين شهروا عليه
السيف وحاربوه وعاندوه".
إنه في جو الأمن والعدل الذي يوفره اتمع الإسلامي للمضطهدين من كل جنس وملة تنمو فرص الحوار
والإطلاع المباشر على الحقيقة الإسلامية ، وهكذا يكون الإسلام قد سبق نظريا وعمليا إلى إقرار ما
يعرف اليوم بحق اللجوء السياسي الذي نص عليه ميثاق جينيف للأمم المتحدة والملفت للنظر أنه على
حين كانت اتمعات الإسلامية في عصر الإزدهار الحضاري الإسلامي تزدحم بعدد كبير من النخب
المثقفة الأجنبية وبالأقليات الدينية المضطهدة من طرف الكنائس الكبرى في بلادها فإن اتجاه النخب
الفكرية والجماعات السياسية المضطهدة بما في ذلك الجماعات الإسلامية في أيامنا هذه إنما هو إلى غير
البلاد الإسلامية وبالذات إلى بلاد الحضارة الغربية ما له دلالة قاطعة أن أهم خاصية للحضارة أا فضاء
وساحة للحرية والأمن والإبداع والت سامح والتعايش بين المختلفين ، يستوي في ذلك أن تكون مسلمة
أم كافرة ن مقابل ذلك يبرز التخلف واضح القسمات ، ضيقا في النظر وانعداما للتسامح وعجزا عن
تحمل الإختلاف والتعامل والتعايش معه سواء صدر عن مسلمين أم عن كافرين، وأغرب من ذلك أن
دول التخلف المنسوبة للإسلام لم تكتف بخنق الحرية والأحرار في مواطن سيادا بل هي قد ضاقت
بالحرية خارجها فلاحقت الناجين من عذاا بما يذكر بسوابق الجاهلية العربية في ملاحقتها لمهاجري
الصحابة إلى الحبشة وكان يحكمها ملك عادل كما وصفه الرسول عليه السلام... إنه التخلف.
والخلاصة: أن الاسلام الذي هو في جوهره رسالة لاقامة العدل وتحرير للبشرية من كل ضروب الطغيان،
ومسعى حثيث لا يفتر لتحقيق مصالح العباد حفظا لما يتقوم به وجودهم ويقتضيه تدرجهم في معارج
التحضر من صون للدين وللانفس وللعقول وللاعراض وللاموال ورعاية للعدل والتحرر، لا يسعه إلا
أن يسعد ويرحب بما ارتقى اليه وعي البشرية، إذ اعترف لجنس الانسان بصرف النظر عن كل اعتبار
آخر بحقوق مشتركة متساوية من الكرامة وما يتفرع عنها من حقوق وحريات ممثلة في إلاعانات حقوق
الانسان وما انبثق عنها من عهود دولية ومواثيق، يسعد ويرحب باعتبار ذلك بعض ما تتشوف رسالته
اليه ، بما يجعل اتحاه التوافق بين تلك الاعلانات والعهود مع قيم ومبادئ الاسلام هو الاتجاه العام
والاختلاف هو الاستثناء رغم اختلاف المنطلقات والنتائج أحيانا، ولا يسوؤه في هذا الصدد أشد من
التباين الفاضح بين جمال هذه الاعلانات وبشاعة التطبيقات، فليست شريعة حقوق الانسان والقانون
الدولي على ما فيهما من نقص ما يحكم العلاقات بين الدول وعلاقة كل دولة بشعبها وإنما شريعة
الاستحلال والذرائع والانتهاز والغش وحتى قانون الغاب، وذلك أثر من آثار الفلسفات المادية التي تصبغ
المناخ الثقافي العام
.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire