الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

vendredi 30 août 2013

الزمخشري الموحِّد، المفسر المظلوم

الزمخشري الموحِّد، المفسر المظلوم

 يقول السيوطي في العالِم الشامخ >محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الزمخشري< (ت835هـ): >كان واسع العلم، كثير الفضل، غاية في الذكاء، وجودة القريحة، متفنِّناً في كل علم، معتزلياً قوياً في مذهبه، مجاهراً به حنيفياً<(1) وقد عرَّضه اعتزازه باعتناقه للمذهب الاعتزالي ـ والصراع الفكري والعقدي بين أهل السنة والمعتزلة ـ لألسنة بعض علماء المذهب السني خاصة، فجرَّحوه في عقيدته بسبب تأويله العقلي لآي متشابه في القرآن الكريم، تأويلاً لا يساير تفسيرهم لمعاني أساليبها، دون التعمق في البحث عن دلالتها البلاغية· وهذا التجريح القاسي هو الذي دفعني إلى قراءة بعض انتقاداتهم لطريقة فهمه لبعض الآي المتشابه، وهي طريقة تعتمد التأويل الذي يبنيه على التحليل اللغوي والبلاغي والأسلوبي، ومبدأ >القرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً<· فقد لاحظ عليه أولئك العلماء أنه يلوي أعناق الآيات الكريمة لاستخراج معان تنسجم مع مذهبه الاعتزالي، وتخالف ما يرونه صواباً· وليس الهدف من هذه الدراسة الموجزة الدخول في متاهة النقاش الفلسفي والكلامي والأصولي والسياسي الذي دار بين الفكر الاعتزالي والسني خاصة، والخوض في منهج التفسير عند الزمخشري، ومنهج التفسير عند المناهضين له من علماء السنة، أو التطرق لموضوع التأويل وآلياته وحدوده، لأنها قضايا شائكة سال بموجبها مداد أقلام كثيرة، ولا تتبُّع المواطن التي تعرض فيها تفسيره آيات قرآنية للنقد المجرِّح لعقيدته، لكن الهدف هو النظر بتأن وموضوعية وتغليب هدفه الأسمى من منهجه في التأويل، في فريق من علماء أهل السنَّة، ولم يستجب له تصورهم الذي يستبعد إمكان التوفيق بين المعنى السطحي للأساليب التي صيغت بها تلك الآيات الكريمة، وبين الفهم العميق لدلالة أسلوبية بنائها اعتماداً على شواهد من القرآن الكريم نفسه، إذ سأحاول أن أوضح ـ حسب فهمي المتواضع، لأن الظليع لا يبلغ شأو الضليع ـ ما أظنه مجانبة لفهم مقاصد >الزمخشري< البعيدة من هذا التأويل·
 التأويل عند الزمخشري
 إن المقام لا يتسع إلا لإيراد أمثلة قليلة من الانتقادات التي وجهت لما فسر به >الزمخشري< ـ مثلاً ـ قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة· إلى ربها ناظرة· ووجوه يومئذ باسرة· تظن أن يُفعل بها فاقرة) القيامة: 22 ـ 25، إذ يقول: >تنظر إلى ربها خاصة، لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول··· (وإلى الله المصير) آل عمران:28··· فاختصاصهم بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه: محال، ومن ثمَّ وجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص، وإلى أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، تريد معنى التوقع والرجاء<(2)·
 علَّق عليه >أحمد بن المنير< ـ الذي دأب على تتبع ما اعتبره من مزالق بدع >الزمخشري< ومزلات الشبهة ـ بقوله: >ما أقصر لسانه عند هذه الآية فكم له يدندن ويطبل في جحد الرؤية··· وما يعلم أن المتمتع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرف عنه طرفه···<(3)·
 ويقول الصابوني: >أي تنظر إلى جلال ربها<، وفي الهامش: >هذا هو مذهب أهل السنَّة· ويقول عن المعتزلة: وأولوا الآية >ناظرة< بمعنى منتظرة تنتظر ثواب ربها، وهذا باطل لأن نظر بمعنى انتظر يتعدى بغير حرف الجر<(4)، وأورد البخاري في كتاب >التوحيد<: >إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر<(5)·
 إن منهج >الزمخشري< في تفسير بعض الآي المتشابه التي يعجز العقل البشري المحدد الإدراك، يطغى عليها محاولة استبعاد كل ما سيجر خيال غير العلماء المؤمنين، إلى تصور ما نزَّه الله تعالى عنه نفسه، لذلك يمكن القول: إنه لم يتجاهل منطوق الحديث الشريف المخبر بتحقق رؤية الله تعالى في الآخرة، وإنما أظنه اعتبره تحفيزاً للمسلمين على التقوى، من دون أن يفتح لهم >الزمخشري< مجال البحث عن تصور مَّا لذات الله عز وجل، مما سيؤدي إلى إخراجهم من دائرة الإيمان، فكأني به يقابل معنى الآية الكريمة (إلى ربها ناظرة) بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) الأنعام:103، الذي فسره بقوله: >المعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه، لأنه متعال أن يكون مبصراً في ذاته، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلاً، أو تابعاً كالأجسام والهيئات)(6)، فكأني به انتقل به فكره إلى السياق المرتبط بالآية الكريمة الموالية لها والمقابلة لمعناها: (وجوه يومئذ باسرة تظن أن يُفعل بها فاقرة)· أي وجوه عابسة كالحة تتوقع أن تحل بها داهية عظمى تقصم فقار الظهر· فظن أن هناك تقابلاً بين >تظن< الدالة على التوقع وبين >ناظرة< الدالة على التوقع والانتظار كذلك· إن هذا الخلاف الحاد بين الإمام >أحمد بن المنير الإسكندري< ومن سلك مهيعه وبين >الزمخشري< مبني على الاختلاف بين منطلقين:
 المنطلق الأول:
فكر يرى أن عقل العلماء المؤمنين بالله ووحيه وكل ما لازمه، يمكنهم إدراك كنه الأساليب القرآنية، في حدود قدرات العقل البشري، إدراكاً قادراً على نفي كل ما نُزِّه عنه الحق سبحانه وتعالى من صفات، وأفعال، وذلك بتأويل ما تتضمنه آيات قرآنية كريمة مما يبدو في الظاهر، وعلى المستوى السطحي للمعنى، أنه يجعل غير المالكين لآليات التفسير القوي إيمانهم، وبخاصة العامة، تتيه عقولهم ويسرح خيالهم لتصور تلك الصفة التي وصف الله بها نفسه الجليلة، تصوراً خاضعاً لما يقتضيه عجز عقل الإنسان وخياله عن اختراق الملكوت الأعلى·
 المنطلق الثاني:
فكر يرى أن العقل عليه أن يؤمن بتلك الصفات كما وردت في الأسلوب القرآني دون أن يتجاوز ظاهرها إلى محاولة تأويلها، بحثاً عن معنى عميق يحمل العقل والخيال على صرف المعنى الظاهر لتلك الآية عن تصور ما الله عز وجل منزَّه عنه· لذلك نجد ما أورده منتقدو تفسيره >ناظرة< يعتمد الحديث الشريف الوارد في الصحيحين، وفي كون >ناظراً< لا يمكن أن يكون معناه منتظراً، لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرت·
 مفهوم الإعجاز القرآني
 لكن >الزمخشري< اتجه فكره رأساً إلى غير العلماء المؤمنين، الذين سيحملهم النظر إلى الله تعالى إلى تخيل ما لذاته جل وعلا، لأنهم ليس لديهم العلم القادر على استيعاب قوة الإعجاز القرآني، وعمقه وعظمته، فآثر أن يفسِّر لهم ناظراً بالانتظار، على الرغم من كونه يعلم أن >ناظراً< بمعنى ينتظر لا يتعدى باللام، وإنما يتعدى بنفسه على التوقع· إضافة إلى تشبُّع فكره بأسلوب الحجاج وكل وسائل الإقناع الرامية إلى توحيد الله تعالى وتنزيهه عن ما يمكن أن يتسرب إلى خيال غير العلماء المؤمنين، الذين يهديهم علمهم المقرون بقوة إيمانهم إلى أن يجول فكرهم وخيالهم في ما يليق بالملكوت الأعلى حسب طاقتهم البشرية التي تصطدم بحجب هذا الملكوت·
 ويقول >الزمخشري< في تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)البقرة:51: >إن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم، وأن الله بريء منه رداً لاعتقاد الكفرة القائلين: لو شاء الله ما أشركنا، ونفياً لوهم من عسى يتوهم عند إسناد المد إلى ذاته لو لم يضف الطغيان إليهم ليميط الشُّبَه ويقلعها ويدفع في صدر من يلحد في صفاته· ومصداق ذلك أنه حين أسند المدَّ إلى الشياطين، أطلق الغي ولم يقيِّده بالإضافة في قوله: و(إخوانهم يمدونهم في الغي) الأعراف:202 (7)، ويعقب عليه الإمام >أحمد الإسكندري< بقوله: >كل فعل صدر عن العبد له اعتباران: إن نظرت إلى وجوده وحدوثه وما هو عليه من وجوه التخصيص، فانسب ذلك إلى قدرة الله وحده وإرادته لا شريك له· وإن نظرت إلى تميزه عن القسر الضروري فانسبه في هذه الجهة إلى العبد، وهي النسبة المعبَّر عنها شرعاً بالكسب في أمثال قوله تعالى: (فبما كسبت أيديكم) الشورى: >30<(8) الناظر في تفسير هذه الفئة من أهل السنَّة لدلالة القضاء والقدر التي >تعتبر أساس الخلاف الحاد بينهم وبين المعتزلة، سيلاحظ اعتماد >أحمد الإسكندري< نظرية الكسب التي يبدو لي أنها تتقاطع مع مبدأ العدل عند المعتزلة، الذين لا ينكرون خلق الله تعالى للقبح، وإنما يتم إتيانه بالإقبال عليه عن طواعية، وهو ما جنح إليه تفسير منتقد >الزمخشري< لقوله تعالى: (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) البقرة:15· وفي هذا المنحى يفسر >الزمخشري< قوله تعالى: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون) البقرة:52، بقوله: >إرادة أن تشكروا النعمة في العفو عنكم<(9) ينتقده >أحمد الإسكندري< بقوله: >أخطأ في تفسير (لعل) بالإرادة، لأن مراد الله تعالى كائن لا محالة، فلو أراد منهم الشكر لشكروا ولابد ، وإنما أجراه >الزمخشري< على قاعدته الفاسدة في اعتقاد أن مراد الرب كمراد العبد، منه ما يقع، ومنه ما يتعذَّر، تعالى الله عن ذلك، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن··· >أي< لتكونوا على رجاء الشكر لله عز وجل ونعمه، فينصرف الرجاء إليهم وينزه الله تعالى<(10)· حينما انطلق >الزمخشري< من كونه تعالى إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، فإنه قد خلص إلى أن الله عز وجل عفا عنهم كي يشكروا، غير أنه قرن العفو عنهم بالتوبة عن الشرك المتمثل في اتخاذهم العجل إلهاً، واعتباره الفظتين >حين تبتم< محذوفتين في الأسلوب القرآني بحجة قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء:84، فهل يعقل أن ينزل عقل الزمخشري وإيمانه وعلمه إلى مستوى الكفر فيعتقد أن مراد الرب كمراد العبد، منه ما يقع ومنه ما يتعذر، وهل هذا العالم الذي ألهمه الله تعالى القدرة على إدراك أسرار لطيفة تضمنتها أساليب قرآنية، تناقلها عنه المفسرون، بالإحالة عليه، ومن دونها أحياناً، توحي بدفاعه المستميت، وبجميع الوسائل عن وحدانية الله وعزته وجبروته وعدله··· يمكن أن يتصور في حقه أنه يسوِّي في الإرادة بين العبد وربه، لقد ربط >الزمخشري< العفو بالشكر، فالعاصي إذا شعر العفو واتعظ يشكر ربه·
 التركيز على الهدف
 وفسر قوله تعالى: (لا يُسأل عما يفعل) الأنبياء:23، بقوله: >إذا كانت عادة الملوك والجبابرة ألا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم·· تهيباً وإجلالاً، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم ـ كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بألا يسأل عن أفعاله، مع علم استقر في العقل من أن ما يفعله كله مفعول بدواعي الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ: ولا فعل القبائح<(11)، قال >أحمد بن المنير<: >سحقاً لها من لفظة ما أسوأ أدبها مع الله تعالى، أعني قوله: دواعي الحكمة، فإن الدواعي والصوارف إنما تستعمل في حق المحدثين<(21)، فهل دلالة >دواعي الحكمة< و>ولا يجوز عليه الخطأ، ولا فعل القبائح< توحي بسوء الأدب مع الله تعالى؟ أليست دلالتها هي صورة أخرى لمعنى قوله تعالى: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلاَّم للعبيد) آل عمران:182، أي اعتبارها معاني تنزه الله تعالى عن كل الصفات التي لا تليق بذاته تعالى عنها علواً كبيراً، فمثلاً معظم الآيات القرآنية التي وردت فيها لفظة >حكيم< تكون هذه اللفظة مقرونة بقوله تعالى: >عزيز<، مما جعل >الزمخشري< يفسر قوله تعالى: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيِّنات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) البقرة:209، بقوله: غالب لا يعجزه الانتقام منكم >حكيم< لا ينتقم إلا بحق، مما يدل على أن الزمخشري يسعى في كل معنى يفسر به بعض صفات الله تعالى إلى التركيز على ما تهدف إليه مقتضيات وحدانية الله تعالى من تنزيهه جل وعلا عن كل ما سيخلق تصوراً ما لصفاته الجليلة التي وصف بها نفسه، تصوراً يحكمه عقل الإنسان، وخياله العاجز عن اختراق حجب الملكوت الأعلى، اعتماداً على التفسير السطحي الساذج للآيات الكريمة المتضمنة لها· مَنْ تتبع تأويل >الزمخشري< للآيات الكريمة، وبخاصة المصنفة من الآي المتشابه، يدرك أنه يراعي في تفسيره هذا حال مخاطبيه الذين لا يمتلكون قوة الفهم والتمييز التي يمتلكها العلماء المؤمنون، فعمد إلى بناء خطاب تحكمت في بنائه الدراسة البلاغية و>الأسلوبية< للبنية التركيبية للآيات القرآنية الكريمة، مستغلاً ما سماه البلاغيون القدامى بالتوسع أو العدول، وسماه الأسلوبيون بغير المألوف، أو الانزياح، كأسلوب المجاز والإيجاز بالحذف، والتقديم والتأخير، وسماه >الزمخشري< في مقدم >الكشاف< بعلمين مختصين بالقرآن هما >علم المعاني< و>علم البيان<، لكي يصرف تصورهم الساذج والبسيط عن تخيل ما نزَّه الله تعالى عنه نفسه من الصفات التي يحرم على المؤمن أن يمر بذهنه تصورها، بحيث إذا قرأوا ـ مثلاً ـ قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) الفتح:10 أن لا يُصرف خيالهم غير القادر على اختراق الحجب إلى تخيل ما يشبه اليد البشرية، وهو ما يتعارض مع وحدانية الله تعالى الدالة على تنزهه عن كل ما لا يليق بذاته، ففسر ذلك >الزمخشري< بقوله: >يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين: هي يد الله، والله تعالى منزَّه عن الجوارح وعن صفات الأجسام، وإنما قرر أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما<(13)·
 التأويل محاولة لفهم الأسرار
 وفي قوله تعالى: (ولو شاء الله لهداكم أجمعين) النحل:9 (14) يقول: >قسراً وإلجاء< لكن من اختلف مع تفسيره هذا يقول: >فإن ذهبوا إلى تأويل الهداية بالقسر والإلجاء، فما كأنهم إلا يحرفون الكلم من بعض مواضعه< >وذلك أن المعتزلة أوجبوا على الله الصلاح، وهداية الكل صلاح، فظاهر الآية يخالف مذهبهم··· وأهل السنَّة لم يوجبوا على الله شيئاً، وكل ما أراده الله لابد من وقوعه<(15) إن المنصف الذي يفهم القرآن من خلال دلالة أسلوبيته العميقة، وليس من خلال المستوى السطحي للتعبير، لا يمكن أن يتهم >الزمخشري< بكون أراد بقوله >قسراً وإلجاء< تصور وجود قوة تجبر الله جل وعلا على هدايتهم، أو عدم هدايتهم، وإنما يؤكد >الزمخشري< لمن يحتاج إلى تأكيد، أن الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، كما أن المعتزلة حين فسروا الأمر بوجوب الصلاح على الله، يستحيل أن يقصد >الزمخشري< ـ وهو من أقطابهم ـ وجود قوة تفرض على الله الصلاح، وهداية الكل التي هي صلاح، وإنما يعتبر فعل الله تعالى للصلاح أمراً مقطوعاً به، لأنه تعالى ليس بظلاَّم للعبيد· فـ>الزمخشري< يلوي أعناق الآيات الكريمة في خطابه التأويلي الذي لا أظن أن من تعمَّق في ما يوحي به تفسيره من قوة الإيمان المبنية على علم واسع بعلوم القرآن والحديث والبيان العربي··· سيتهمه بالتطاول على انفراد الله تعالى بتأويل الآي المتشابه في القرآن، بل بفهم كنه كلامه عز وجل، وإنما اتخذ هذا العالم الفذ التأويل وسيلة لمحاولة فهم بعض الأسرار الخفية في الأساليب القرآنية وصوره البيانية في حدود قدرات العقل البشري، وهذا ما جر عليه انتقادات اعتبرت علمه فاسداً، فجرَّحت عقيدته، لتقديم فهم يناسب القدرة العقلية للقارئ، يمكِّنه من وقاية خياله من تخيُّل ما لا يليق بذات الحق سبحانه، فدافع بهذا المنهج في التفسير عن ترسُّخ وحدانية الله جلَّ وعلا في ذهن المسلم وخياله وقلبه، دفاعاً جرَّه إلى انتقاد من يخالفه من وجهة نظره التي اتخذت التأويل وسيلة لتوحيد الله تعالى·
 وقال >الزمخشري< في قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم) النساء:17(16)، من تاب الله عليه إذا قبل توبته وغفر له، يعني إنما القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء<(17) انتقده >أحمد بن المنير السني< بقوله: >إن إطلاق مثل هذا من قول القائل: يجب على الله كذا· مما نعوذ بالله منه ـ تعالى عن الإلزام والإيجاب رب الأرباب ـ لا كالقدرية الذين يزعمون أن العبد خلق لنفسه التوبة بقدرته وحوله، يستوجب على ربه المغفرة بمقتضى حكمته التي توجب عليه ـ على زعمهم ـ المجازاة على الأعمال إيجاباً عقلياً<(18) فهل يحق لمن اطلع على منهجية >الزمخشري<، في الدفاع عن وحدانية الله تعالى، وتنزيهه عن كل صفات المخلوقات، بجميع الوسائل الإقناعية والحجاجية والتأويلية··· أن يتهمه بكونه يقصد بقوله: >إنما القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء< قياس الخالق عز وجل على المخلوق؟، ويتخذ ذريعة لذلك الفهم السطحي لمعنى الوجوب الدال على أن >الزمخشري< استنتجه من صيغة >على< الـمُشعرة بالوجوب، فإذا تجردنا من الحكم المسبق على فكر هذا العالم الفذ، المرتبط بأسباب ودوافع مختلفة، فإننا سنفهم من قوله: >واجب على الله تعالى< أنه يقصد تحقيق وعد الله جل وعلا الذي لا يخلف الميعاد، فعندما يقبل التوبة من عبده يغفر له محققاً بذلك وعده، إذ لا ينبغي أن ننسب إليه عز وجل الوجوب الدال على النقص والضعف اللذين يعتبران من خصائص المخلوقات·
 اتهام ظالم
 فعلى الرغم من كوني لا أزكي على الله أحداً، لأن الله أعلم بالسرائر والنيات، إلا أنني عندما أنعمت النظر في بعض المعاني التي استنبطها الزمخشري من القرآن الكريم، منها ما يعد أسراراً لطيفة، تناقلها عنه المفسرون ـ حتى الذين انتقدوه ـ فإنه تبيَّن لي أنها إشرقات أمده بها الله عز وجل ليبرز جزئية من الإعجاز البلاغي الذي هو إعجاز بالمعاني، بحيث لا يمكن الفصل بين الأساليب البلاغية ومعانيها ودلالاتها ـ والذي انفرد به كتاب الله تعالى، ولن يدرك كل ما فيه من نور وأسرار أبداً، لأنه معجزة فريدة بعدم انقضائها كما انقضت المعجزات السابقة، وجدت نفسي أمام عالِم اعتبر القرآن الكريم >عربياً غير ذي عوج، مفتاحاً للمنافع الدينية والدنيوية، مصداقاً لما بين يديه من الكتب السماوية، معجزاً باقياً كل معجز على وجه كل زمان<، إمام مسلم مؤمن بوحدانية الله وعدله إيماناً راسخاً جعله يخشى أن يفسَّر الأسلوب الذي صيغ به بعض الآي المتشابه تفسيراً سطحياً لا يساعد غير العلماء المؤمنين على بقاء توحيدهم لله تعالى صافياً من شوائب التهيؤات والتصورات التي يسهم ضعف العقل البشري ومحدودية خياليه في رسم ملامحها الخيالية، فتجده كلما ورد أسلوب قرآني يوحي ظاهره بما يمكن أن يجسِّم الله تعالى في عقل العامة وضعاف العلم والإيمان، فإنه يلجأ إلى التأويل الذي قد يلاحَظ عليه أحياناً أنه لا يتقيد ببعض الضوابط اللغوية والنحوية التي توجه تفسيره، كما تقدم، وليس معنى هذا أن كل آرائه في هذا الباب تتسم بالصواب القطعي، ولكنه اجتهد اجتهاداً تحكمه مقصدية التوحيد والتنزيه والتعظيم··· فعلى العلماء الذين جرَّحوا إيمانه، فقسوا عليه قساوة أدت إلى التلويح بفساد عقيدته، ظانين أنهم أعلم منه في ما استدركوه عليه، فإنهم ـ وهم يعلمون أنه لم يصرح بالكفر أو الشرك، وهم أعرف الناس بقيمة تفسيره ـ كان الأجدر بهم ألا يتهموه بالسقوط في المهاوي والمهالك التي يسقط فيها الكافر والمشرك، فيُترك أمره لله تعالى، لأن اتهام >الزمخشري< بفساد العقيدة المفضي إلى الكفر ظلم صُراح له، كان عليهم أن يبقى اختلاف الرأي في منأى عن تجريح العقيدة·
 فحتى الحدود تُدرأ بالشبهات، كما في الحديث الذي روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهو: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: >ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلُّوا سبيله، فإن الإمام يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة<(19)
 الهوامش
 1 ـ بغية الوعاة 2/729·، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، الطبعة الثانية 1979م، دار الفكر·
 2 ـ الكشاف: 4/649 ـ 650·
 3 ـ المرجع نفسه 4/649·
 4 ـ صفوة التفاسير 3/487، وانظر اللسان·
 5 ـ صحيح البخاري 4/372، مكتبة الوحدة العربية، ط1، 2000م·
 6 ـ الكشاف: 2/52·
 7 ـ الكشاف: 1/76·
 8 ـ الكشاف: 1/76·
 9 ـ المرجع نفسه: 1/142·
 10 ـ المرجع نفسه: 1/142·
 11 ـ الكشاف: 3/105 ـ 106·
 12 ـ المرجع نفسه: 3/108·
 13 ـ الكشاف: 4/326·
 14 ـ الكشاف: 2/572 ـ 573·
 15 ـ المرجع نفسه: 2/573·
 16 ـ المرجع نفسه: 1/6·
 17 ـ المرجع نفسه: 1/478·
 18 ـ المرجع نفسه: 1/1/471·
 19 ـ رواه الترمذي في سننه، رقم الحديث: 1344،
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire