الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

dimanche 28 octobre 2012

 من ينتقد النهضة ولماذا؟


     إذا كانت أغلب القوى العلمانية تعاني من “رُهاب الإسلام السياسي” باعتباره وجودا غير سويّ في الحقل السياسي الذي لا يمكن أن يُدار إلا بالتمييز الفلسفي والقانوني المؤسساتي بين النّصابين السياسي والديني بالمعنى
“الحصري”
الذي انحدر إلينا من النموذج اليعقوبي الفرنسي،
 فإنّ أغلب النهضويين يعانون هم أيضا من “رُهاب العلمانية”
باعتبار أنهم لا يتمثّلون صراعهم مع الدولة زمن بن علي أو قبله على أساس أنه “صراع تأويلات” يجمعها المشترك الإسلامي،
 بل باعتباره صراعا بين تأويل إسلامي”مقاصدي”
و جملة من”الإسقاطات” الحداثوية التي فرضتها الدولة الوطنية في إطار عملية التحديث”القسري” والفوقي للمجتمع.
ولعلّ الفارق بين الرّهابين هو أنّ الأوّل يشتغل عن طريق المقايسة والاستباق (باعتبار النهضة لن تختلف في شيء عن طالبان أوالقاعدة أو الصومال أو السعودية، أو باعتبار أنها في أحسن حالاتها لن تستطيع تجاوز التسييجات المذهبية المتحكمة في العقل السياسي الإسلامي ما قبل الحداثي) بينما يشتغل الثاني عن طريق الذاكرة الحية للأجساد والأرواح التي اكتوت بنار “الحداثة” خاصة في مظهرها الأمني-
الاستخباراتي
 الذي جعلهم لا يُفلتون من
“التنّين”
 الدولاني حتى إن نجوا من السجون أو خرجوا منها إلى السجن الأكبر( الحرمان من أبسط الحقوق المدنية،
 سياسة التجويع
وهشاشة الوضع المادي،
 المراقبة الإدارية والتفنّن في نسف الكرامة الإنسانية،
الاغتراب و الشعور بالمطاردة و”قابلية القمع”
 القادم من كل الجهات عموديا وأفقيا
-أي من الآخر ومن السلطة-،
 و شرعنة الوضع
”السامري”
 الذي تجاوز مستوى الحدث الفردي إلى مستوى الواقعة الجماعية الممتدة في الزمن والمكان، الذي يصل إلى حدّ الهوس المرضي رغم بعض أسبابه الواقعية المؤكّدة).
وأكاد أجزم أنه لا يمكن فهم الواقع السوسيو-ثقافي في تونس بعد الثورة وما يحكمه من اصطفافات و صراعات إلا إذا ما تمّ تدبّره من منظور تعدّد العوامل التفسيرية،تلك العوامل التي تفيض عن “الأحداث” المباشرة والدوافع”العقلانية” للفعل أو لردّ الفعل، لترتبط بسلطة الذاكرة والمخيال والتجارب الفردية والتضامنات”الجماعية”
 التي يحكمها السعي إلى تحقيق” الإشباع النفسي”
 أكثر مما تخضع إلى سلطة الإقناع العقلي وآليات التفكير “الصوري”.

        مبدئيا، يمكننا الحديث عن وجود ثلاثة نماذج مثالية-بالمفهوم الفيبري-
 تنتمي إليها كل الانتقادات الموجّهة إلى النهضة، ولكنها بالطبع لا تحضر بالضرورة”صافية” في أي خطاب، بل تتداخل وتتفاعل مع غلبة أحدها على الآخر تبعا لمواقع التلفظ وغاياتها النهائية.
 وهذه النماذج المثالية هي :1
-النقد السياسي البراغماتي:
 وهو نقد قد يصدر من المواطن غير المنتمي سياسيا كما يمكن أن يصدر عن النخبة السياسية إذا ما أدارت الصراع من خلال محاورة النهضة (باعتبارها النواة الصلبة للترويكا)
 في طبيعة أدائها السياسي المرتبط باستحقاقات الثورة وبانتظارات المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية.
 ورغم قيمة هذا النقد “في ذاته” فإنه لا يكتسب قيمته”التداولية”
 إلاّ من خلال ربطه بخلفية المتلفظ و طبيعة علاقاته التوافقية أو العدائية بالنهضة.
 فالإحصاء والحدث والرقم لا يدل هنا “بذاته” بل هو دال “فقط” عند ربطه بالغايات المفترضة من حضوره في المشهد العام.
2- النقد الشرعي المذهبي:
 وهو نقد يأتي أساسا من يمين النهضة
 (أي من السلفيات بأنواعها ومن حزب التحرير)
ولكنه قد يأتي من بعض أجنحة النهضة التي تجد صعوبة في “التأصيل الشرعي” بعض مواقف “الحركة”، وهؤلاء النهضويون إمّا أن يكونوا من المناضلين القدماء الذين عجزوا عن تمثّل المراجعات التي قامت بها حركتهم وإمّا أن يكونوا من القواعد الشبابية ذات التكوين”السلفي”
 (وهي قواعد يمكن نعتها بأنها “شبه سلفية” أو سلفية غير مكتملة بحكم غلبة التأثير الوهابي الفضائي عليها، بل حتى بحكم استحالة الفصل بين الخطابين الإخواني والوهابي في الكثير من الاختيارات الفقهية)
3-النقد العقائدي الايديولوجي:
 وهو نقد يأتي من التيارات السياسية العلمانية الليبرالية والقومية واليسارية.
 وبالطبع فإنّ النقد في هذا المستوى يتوجّه إلى اختيارات فكرية واقتصادية وقيميّة كبرى هي مناط الاختلاف بين هذه التشكيلات السياسية العقائدية والنهضة.
 وتكمن صعوبة التمييز بين هذه الخطابات في أنها تتحالف واقعيا ضد النهضة لتُكوّن نوعا من الجبهة الميتا-ايديولوجية التي تذوب فيها اختلافاتها الجذرية بين الأعداء “نظريا”
 (يمين ليبرالي/يسار ماركسي //// دعاة القومية العربية/ دعاة الدولة القطرية…)،
 فعداوة “الرجعية الدينية” ومحاربتها مقدّمتان
-في هذا التحالف-
على سائر التناقضات”الهامشية” ضمن العائلة الحداثية الكبرى.

        لا يمكن فهم الانتقادات الموجّهة للنهضة من خلال المبدأ النيتشوي المعروف، ذلك المبدأ الذي يٌميّز بين قيمة الخطابات انطلاقا من طبيعة “القوّة” التي تثوي خلفها وليس فقط انطلاقا من استقراء ملفوظاتها.
لكننا كذلك لا يمكن أن نفصل ذلك النقد عن “الدوافع النفسية” فضلا عن القناعات العقلية للمتلفّظ به.
 فقد ينتقد النهضوي حزبه انطلاقا من نظام توقّع تمّ الانزياح عنه سياسيا أو شرعيا ولذلك فهو ينتقد”اللامعيارية” وغياب المبدئية في الأداء السياسي، ولكنه لا يخفي تضامنه مع هذا الكيان الحزبي في مواجهة “الآخر” سواء أكان آخرا إسلاميا أم آخرا علمانيا ، وقد ينتقد الوطني الصادق النهضة لأنها ابتعدت عن منظورات الثورة واستحقاقاتها ولذلك فهو ينتقد فاعلا سياسيا رئيسيا “خان” مستضعفي الدواخل وسعى إلى إعادة إنتاج نفس اختيارات النظام السابق مع شرعتنها بمفردات دينية، وقد ينتقد اليساري الاستئصالي النهضة لأنها تنتمي إلى زمن ثقافي آخر يجوز “جَبّه” بالسجون أو بالمقاصل أو بتجفيف المنابع في نسختها النيو-دستورية ولذلك فهو في أغلب الأحيان موظّف في “قلم” نداء تونس” وحلفائهم الموثوقين.
 وقد ينتقد السّلفي النهضة لأنها تقف في “برزخ” ملتبس بين دار الإسلام و دار الكفر وتمنع “دين الحقّ” في نسخته الوهابية من احتكار المنابر الدينية ولذلك فهو يحاول “شيطنة” النهضة وتفسيقها أو تكفيرها إن لزم الأمر. وقد ينتقد التجمعي المتنكّر بغطاء دستوري النهضةَ لأنها قد تقوم يتفكيك المركّب الأمني-المالي -الجهوي الحاكم منذ الاستقلال، أو قد تقوم بمحاسبته ولو بعد حين، ولذلك فإنه يدفع إلى الحوار العام بفرضية تبدو عبثية ولكنها أكثر عقلانية مما نتصوّر،ألا وهي “حلّ” أحزاب الإسلام السياسي والعودة إلى “التجانس العلماني” القسري السائد زمن بن علي بقيادة “الأب الدستوري” المنقذ للجمهورية الثانية الباجي قائد السبسي.

         ما بين من يطالب النهضة بالعودة إلى أفق الحراك الثوري و مراجعة اختيارتها وتحالفاتها واستراتيجياتها في التعامل مع باقي القوى الوطنية ومطالبها المشروعة، وبين من يطلب -صراحة أو على استحياء- من الثورة بأن تحثّ الخطى نحو ورثة التجمع والانقلاب على كل أنماط الشرعية بدعوى حماية النموذج المجتمعي التونسي، يوجد الكثير من مواضع التلفّظ النقدي الموجّه ضد النهضة.
 وهي مواضع قد يكون من الخطأ الفادح ألاّ تعمل على الإنصات إليها ومحاورتها بحثا عن صيغ توافقية تجنّب البلاد “كارثة” إكتمال الثورة المضادة وعودة نداء “التجمع”إلى مركز الحقل السياسي، وعندها لن يكون حتى طريق البوعزيزي كافيا للتخلّص من كابوس القوى النيو-تجمعية وحلفائها من القوى الانتهازية في أقصى اليسار الاستئصالي وأقصى اليمين من وكلاء الرأسمالية المتنفذة زمن بن علي بالإضافة إلى “الوسط” الإسلامي المدجّن منذ عهد البايات والقادر على توفير الغطاء”الديني” لهذه التشكيلة المافيو-سياسية.

       لا شكّ أنّ الكثير من المخاوف المتبادلة بين الفاعلين الجماعيين الأساسيين (سياسيا ومدنيا) هي مخاوف مشروعة، ولكنها أحيانا مخاوف مبالغ فيها وذات طبيعة رهابية-مخيالية أكثر ممّا تحاول أن تُظهره مصطلحاتها المعقلنة ظاهريا.
 فالنهضويون في أغلبهم يعانون من “ازدواجية نفسية” أصلية ambivalence تجاه الحركات العلمانية وتجاه قوانين الحقل السياسي المتحكم فيها.
فالعلمانية هي في مظهر منها لا تنفصل عن عملية التحديث كما لا تنفصل عن الدولة المدنية التي هي مطلب كل التونسيين بمعان مختلفة، وهي شرط “ضروري”لاعتراف القوى الوطنية والإقليمية والدولية بالفاعل السياسي الإسلامي(ممّا جعل الشيخ راشد –مثلا- يقبل بأطروحة المرحوم عبدالوهاب المسيري حول العلمانية الجزئية”الدينية” وصراعها مع فلسفات العلمانية الشاملة”اللادينية” بالأساس).
 ولكنّ نفس تلك العلمانية هي “الخارج المطلق ” –حسب تعبير جاك درّيدا- أي هي الغيرية المطلقة وغير القابلة للتجاوز، وذلك سواء بالنسبة لأغلب قواعد النهضة أو بالنسبة لبعض رموزها القيادية التي لا تستطيع إدارة الصراع إلا باعتباره صراعا بين حق “شرعي” وباطل”علماني"،الأمر الذي جعل تأصيل الشيخ راشد للعلمانية عملا لا أهمية له في منظورات القواعد التي أُشربت كره العلمانية لأسباب معقّدة يطول شرحها. ولكنّ “ازدواجية” النهضة النفسية في علاقتها بالعلمانية يقابلها ويؤجّجها “رُهاب الإسلام السياسي” الذي يسكن أغلب نخبنا العلمانية.
 فإحساس النهضة بأنها مستهدفة بصورة منهجية و بأنها غير معترف بها في الحقول السياسي والمدنية والإعلامية بصورة طوعية ونهائية (رغم الاعتراف بوجودها “القانوني”)
يجعلها تدير علاقاتها بالنخبة بتوجّسٍ كبير، خاصة وأنّ الكثير من مكوّنات تلك النخبة السياسية لم يكن غريبا عن الآلة القمعية الأمنية-الحزبية التي أدار بها بن علي
الهولوكست الإسلامي
 في بداية التسعينات من القرن الماضي.
 وهو ما يجعلنا نرى أنّ ازدياد منسوب التوتّر في علاقة النهضة بباقي الفاعلين الجماعيين بعد ظهور
“نداء تونس”
 لا يعود إلى قدرة هذا التنظيم النيو-تجمعي على منافسة الحركة في استقطاب التجمعيين وبقايا النظام البائد مثلما تذهب إلى ذلك بعض التحاليل السياسية، بل إلى ما يمثّله هذا التنظيم من خطر على “وجود” الإسلاميين ذاته داخل الحقل السياسي.

        إذا كان التجمع قد كرّس العداء بين الإسلام والعلمانية -لأنّ سلوكه المافيوزي-الأمني قد تمّ تمثله من طرف الإسلاميين باعتباره تجسيدا لتلك العلمانية في علاقتها الصدامية بالإسلاميين-، فإنّ نداء تونس قد عمل على أن تطفوَ على سطح الوعي الإسلامي تلك المخاوف التاريخية من التحالف الدستوري-اليساري الذي كان النواة الصلبة للدولة ولأدواتها الدعائية والأمنية والثقافية وما مارسته على النهضة من استهداف منهجي زمن بن علي. فعندما تعمل الكثير من النخب المعارضة (في يسار المشهد السياسي والمدني والإعلامي وفي يمينه)على أن يكون “الموقّت” النهضوي مجرّد معّقفتين بين الزمن التجمعي بمركبه الأمني-المالي-الجهوي وبين الزمن النيو-تجمعي ذي الغطاء الدستوري باعتباره مركز المعارضة ونواتها الصلبة رغم أنه ليس إلا التعبيرة الإيديولوجية عن مصالح نفس المركب الحاكم قبل 14 جانفي، فإنها بذلك تعمل على تقوية المخاوف الإسلامية من أي تحالف “علماني” قد يقوم ضدّها، لأنه لن يُنظر إليه على أنه تحالف”تكتيكي” يمسّ موازين القوى المتحكمة في الحقل السياسي،بل على أسا أنه “صراع وجود” سيخرج الإسلاميين من وضعية المشارك في السلطة إلى وضعيته البدئية باعتباره جسد السلطة وموضوع استبدادها الأساسي. ولكنّ تشديد القوى العلمانية على الطابع المؤقت للسلطة التأسيسية(ونواتها النهضوية) يعكس هو الآخر مخاوف مشروعة من أن يتحوّل هذا المؤقّت إلى قوّة مهيمنة دائمة تمنع تداول السلطة بالأشكال الديمقراطية العادية وتُغري بعض المتطرّفين إلى الانقلاب على المسار التأسيسي من أساسه…وهو ما يجعلنا نتساءل-في نهاية هذا التحليل- عن التطمينات السياسية – القائمة على مراجعات فكرية و ضمانات مؤسساتية- التي نجحت النهضة في تقديمها إلى تلك النخب من حيث دورها في حكم الجمهورية الثانية والمشاركة الفاعلة في تكريس اختياراتها “المدنيةط النهائية ، ولكننا نتساءل أيضا عن التطمينات التي قدمتها النخب العلمانية للنهضويين باستحالة عودتهم إلى دائرة الاستهداف الدولاني الممنهج و بحتمية استمرارهم شريكا أساسيا في إدارة المراحل القادمة من تاريخ تونس.
 


عادل بن عبد الله
المصدر :
http://adel-ben-abdallah.blogspot.fr/2012/08/blog-post_3085.html


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire