◄نظريات في فلسفة التاريخ (1) ►
|
نظريات في فلسفة التاريخ
المدرسة المادية التاريخية :
ترجع
الجذور الأولى للمادية التاريخية الديالكتيكية إلى أفكار الفلاسفة
اليونانيين الأوائل الذين اعتبروا المادة أصل الطبيعة والحياة .
وتعتبر
المادية الديالكتيكية حاليا من المكونات الأساسية للنظرية الماركسية التي
شيد عليها الفيلسوف الألماني كارل ماركس تفسيره للتاريخ , وتعتمد النظرية
الماركسية في تفسير التاريخ على منهج هيغل القائم على الجدل , مع تغيير
جوهري في المضمون , فقد اعتبر كل من كارل ماركس وانجلز جدل هيغل واقفا على
رأسه بدلا من قدميه لنزعته المثالية , وقد ألبسا هذا الجدل ثوبا ماديا صرفا
، ثم طبقاه على الظواهر الإنسانية والطبيعية , قال كارل ماركس في رسالته
الموجهة إلى كوجلمان : " إن قوانين الجدل الصحيحة موجودة فعلا عند هيغل ،
لكنها في صورة مثالية , ولابد أن ننزع عنها هذه الصورة" .
لقد استفاد كارل ماركس كثيرا من الجدل الهيغيلي لذلك نجد انجلز يقول: "
لولا هيغل لما كانت هناك اشتراكية علمية " وقد اعترف ماركس نفسه بفضل هيغل
عليه ، إذ صرح في كتابه الرأسمالية قائلا : " إنني لست سوى تلميذ لهذا
المفكر العملاق – يقصد هيغل ـ " وهذا ما جعل ويل ديورانت يقول : "
لقد فقس هيغل بيضة الاشتراكية" .
لقد قرأ كارل ماركس جدلية هيغل فأعجب بها , لكنه وجدها مثالية تتحدث عن
صراع الأفكار ، فأخذ الفكرة وغير ميدان الصراع قائلا : إنه بين طبقات
المجتمع , فلئن عارضت الماركسية هيغل في المذهب المثالي فإنها تبنت منهجه
الجدلي في تأسيس المذهب المادي ، وأقامت منهجه على قدميه بعد أن كان
واقفا على رأسه ، كما صرح بذلك مؤسسا النظرية .
فقد
قال ماركس في المقدمة الثانية من كتابه الشهير الرأسمالية : إن طريقتي
الديالكتيكية لا تختلف عن الطريقة الهيغيلية من حيث الأساس فحسب ، بل هي
ضدها تماما , فقد اعتبر كارل ماركس أن الديالكتيك عند هيغل يسير على رأسه ،
ويكفي إعادته على قدميه لكي نرى له هيأة معقولة تماما , فماركس حسب انجلز
جرد الطريقة الديالكتيكية من زينتها المثالية , كناية عن نقل الفلسفة من
مثالية إلى مادية ، ومن الصراع الفكري إلى الصراع الطبقي , فإذا كان هيغل
قد أصر على أن كل ما يحصل من تغيير في العالم المادي الحقيقي إنما هو
انعكاس لا إرادي لتقدم وتطور روح العالم , نجد ماركس يبين أن المثل الأعلى
للأفكار عند بني الإنسان إنما هي نتاج البيئة الاقتصادية المادية ..
أن هيغل يعتقد أن حركة التاريخ التي يجسدها باسم الفكرة هي مبدعة الواقع
الذي ليس إلا الصورة الظاهرة للفكرة , أما أنا فأعتقد أن على العكس تماما
أن حركة التاريخ ليست سوى انعكاس حركة الواقع , وبذلك تكون الماركسية قد
عبرت جسر الهيغيلية وفلسفتها في المعرفة وتفسير التاريخ , إذ أعلنت أن صراع
المتناقضات لا يحصل في عالم الأفكار كما ادعى هيغل ، وإنما في عالم أحوال
الناس الواقعي بواسطة ما يحصل في الكيان الاقتصادي للمجتمع .
خلاصة
القول والكلام أن الماركسية أخذت الديالكتيك أو الجدل الهيغيلي (تطور
الفكر من قضية إلى نقيضها إلى قضية تركيبية من النقيضين ، لكنها مخالفة
لهما ) ونقلته من مجال الفكر إلى مجال المادة , التي أضحت الأساس , قال
انجلز : إن العالم المادي الذي نحن ندركه بحواسنا ، والذي نحن جزء منه هو
الحقيقة الوحيدة , وليس المادة من إنتاج العقل ، بل إن العقل ما هو إلا
أسمى إنتاج للمادة.
التفسير المادي للتاريخ :
يعود الفكر المادي التاريخي إلى فلسفة كارل ماركس التي أسس عليها حتمياته
المعروفة في التغيير الاجتماعي والاقتصادي , وهي فلسفة حاولت أن تبرهن على
فساد النظام الرأسمالي , وبشرت بسقوطه وحتمية انهياره ، وتنبأت بالشيوعية
في مجتمع الإنسانية المقبل بلا طبقات ، والذي تتحقق فيه السعادة الكاملة ,
وتعتبر المادية أن تاريخ المجتمع منذ أن وجد حتى الآن هو صراع طبقات ،
كانت تقف موقف المعارضة الدائمة لبعضها ، وتقوم بحرب لا انقطاع لها ,
فتاريخ كل ما يوجد على الأرض حتى الآن – من مجتمعات – إنما هو
تاريخ كفاحات طبقية ، ووسائل الإنتاج هي الحكم الفصل الحقيقي الذي كان يقرر
مصير هذه المجتمعات , فالإنتاج وما يصحبه من تبادل المجتمعات هو أساس كل
نظام اجتماعي ، وفي كل مجتمع ظهر في التاريخ نجد أن توزيع المنتجات وما
يلزمه من تقسيم المجتمع إلى طبقات يعينه الإنتاج وطريقة وكيفية تبادله ،
فحسب هذه النظرية نرى أن الأسباب النهائية لكافة التغيرات الاجتماعية
والثورات السياسية يجب البحث عنها ( … ) في التغيرات التي تطرأ على
أسلوب الإنتاج والتبادل .
فالمادية التاريخية إذن تجعل أسلوب إنتاج الحاجات المادية أساسا للتطور ،
وتجعل صراع الطبقات سبيل هذا التطور , فالمجتمع البشري مجتمع متطور ,
والعامل المسير المحتم لهذا التطور هو التغيير الذي يحدث في وسائل الإنتاج ,
والذي يعين نوع العلاقات الاقتصادية في كل مرحلة من المراحل , وهذه
العلاقات الاقتصادية تحتم بدورها نوعا من الأوضاع الاجتماعية والعقائد
الدينية والمذاهب الأخلاقية .
فالمؤرخون الماركسيون يقيمون تفسيراتهم على العامل الاقتصادي وحده ,
فالوضع الاقتصادي لشعب ما هو الذي يحدد بدوره وضعه السياسي , بمعنى أن
الاقتصاد السياسي الأكثر إنتاجية في وقت معين ينتصر على الأنماط الأخرى
لتنظيم الإنتاج , وهذا التفوق التقني أو الإنتاجي يتغير عبر الزمن ,
فالمادية التاريخية إذن تقرر أن أسلوب إنتاج الحاجات المادية كالغذاء
والمسكن وأدوات الإنتاج هي القوة الأساسية التي تحدد شكل المجتمع , وتقرر
تطور المجتمع من نظام إلى آخر ، ويقصد بأسلوب الإنتاج جماع القوى المنتجة ،
وهي أدوات النتاج – من يشتغلون عليها بخبراتهم – العلاقات
الإنتاجية أي علاقة الناس فيما بينهم أثناء سير الإنتاج .
فلسفة التاريخ عند كارل ماركس :
التاريخ البشري عند كارل ماركس ليس في النهاية سوى صراع طبقات , تفوز فيه
الطبقة التي تنسجم مع تطور وسائل الإنتاج والعلاقات الاقتصادية الناشئة
عنها ( … ) ويظل هذا الصراع قائما إلى أن تفوز طبقة العمال , فتزيل
الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج , فيتساوى الناس المساواة الاقتصادية التامة
, وهي في نظرهم المساواة الحقيقية , ويصبحون بذلك كلهم طبقة واحدة, وتذهب
بذلك أسباب الحروب ، وتنتشر ألوية العدل والإخاء والسلام .
فكل
شيء في نظر ماركس يتضمن نقيضه , بحيث كل شيء يهدم نفسه , وهذا هو التصور
العام لمبدأ النقيض , ولكن كارل ماركس يستخدمه للتدليل على وقوع انهيار
الجماعات التي قامت على الرأسمالية , فالجماعات السابقة عليه ، وهي
الملكيات المطلقة والوراثيات والطبقية والإقطاعية والزراعية انهارت في رأي
الماركسية , لأنها تضمنت عنصر النقيض , وعلى هذا الأساس ستنهار الرأسمالية ،
وتتحول إلى النقيض ، وهي الاشتراكية ذات الطبقة الواحدة.
وبتطبيق
هذا الأسلوب في البحث نرى أن التاريخ عند الماركسيين قد مر بعدة تطورات
ومراحل , ابتداء من الشيوعية البدائية الجماعية إلى نظام الطبقات , متمثل
في انقسام المجتمع إلى سادة وعبيد في العصور القديمة , والى سادة إقطاعيين و
أقنان في العصر الإقطاعي ، وإلى رأسماليين وعمال أجراء في العصر الحديث ،
وإن هذا التطور يتجه بفعل القوانين التي تتحكم فيه إلى نظام جديد ، تزول
فيه المصالح الاقتصادية المتضاربة.
فالعالم كله عند كارل ماركس قد مر بمراحل أربعة , وما زالت أمامه أخرى .
المرحلة الأولى : هي مرحلة الشيوعية الأولى أو المشاعية البدائية , حيث
كان كل ما على الأرض لكل من عليها , لذا لم ينشب صراع لعدم وجود الملكية
الخاصة *.
والمرحلة الثانية : هي مرحلة الرق ، فبعد أن اخترع الإنسان بعض
الأدوات انتقل من الشيوعية الأولى إلى عهد الرق , حيث انقسم البشر إلى
أحرار وعبيد ، واشتعل الصراع بينهما , ثم بفعل تطور جديد في وسائل الإنتاج
تحول إلى المرحلة الثالثة ، وهي مرحلة الإقطاع , التي تميزت بمعرفة الإنسان
للزراعة , والتوسع فيها , فانقسم المجتمع إلى رجال إقطاع وعبيد الأرض ,
فالإقطاعي يملك الأرض ومن عليها من إنسان وحيوان ونبات , فإذا باع أرضه
تبعها كل من عليها ، فكان الصراع محتدا بين سادة الإقطاع والفلاحين **, ثم
بفعل اكتشاف وسائل إنتاج جديدة تحولت بعض المجتمعات من الزراعة إلى الصناعة
,فدخلت بذلك المرحلة الرابعة ، وهي مرحلة الرأسمالية التي انقسم فيها
المجتمع إلى رأسماليين (أرباب رءوس الأموال ) وهم قلة , وعمال وهم كثرة .
ويرى
ماركس أن الصراع سيحتدم بين الفريقين , وسينتهي بانتصار العمال ، وعندها
سيتحول المجتمع نحو المرحلة ، وسينتقل بانتصار العمال ، وعندها سيتحول
المجتمع نحو المرحلة الأخيرة ، وسينتقل إلى الشيوعية حيث تنعدم الطبقات ,
وهنا سيتوقف الصراع ، وتحل الخلافات عن طريق الود والحوار , فتنتفي
الحاجة للدولة والجيش والشرطة وسائر وسائل القهر !*** لأن عهد الاستغلال قد
ولى وانتهى ,لأن المجتمع بلا طبقات ستصبح معه الدولة من حيث إنها سلطة
منظمة غير لازمة !..
لكن هذا في المنطق السليم أمر مستحيل ، فالأولى أن تستمر الدولة وتتقوى
حتى تمنع عودة الرأسمالية من جديد ، ففي غياب الدولة تبقى الفرص سانحة
لعودة البرجوازية ، كما أن تشعب المشاكل وتناميها يستلزم بقاء الدولة
لتطبيق القوانين وتنظيم المجتمع ، وإلا عمت الفوضى ، وانتشرت الاضطرابات ..
وفي رؤية ماركس هذه يتسم المجتمع الشيوعي لا بغياب السلطة فقط , ولكن
أيضا كما تشير كلمة شيوعي إلى الإحساس المشترك والقوي بالمشاعية .
لقد
قصد ماركس بالشيوعية أن تكون هناك حياة بلا تمايز, ففي كتابه الأيديولوجية
الألمانية عبر عن رؤيته للمجتمع الشيوعي على أنه مجتمع لا يستحوذ فيه أحد
على مجال النشاط , فالإنسان الشيوعي يستطيع أن يفعل شيئا اليوم وآخر غدا ,
أن يقتنص في الصباح , ويصيد بعد الظهيرة , ويربي الماشية في المساء .
في هذا المجتمع المستقبلي لن يكون لكائن بشري السلطة في أن يحدد لغيره ماذا يفعله.
وهكذا
أغلقت الماركسية ملف الصراع الذي استمر آلاف السنين بانتصار موهوم ، وحلم
مثل السراب , حيث ستنهار الرأسمالية أخيرا ، وتتحول إلى النقيض ، وهي
الاشتراكية ذات الطبقة الواحدة , حيث ستسود المشاعية كصيغة للتنظيم
الاجتماعي في المستقبل ، كما سادت في الماضي السحيق ، وستتلاشى الدولة
التي كانت أداة للسيطرة والقهر.
ولعل
ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن ماركس لم يصف هذه الحياة المستقبلية
للشيوعية بأي استطراد , كما أن عدم تحقق أول مجتمع اشتراكي بأوروبا يعد
برهانا على خطأ التنبؤ التاريخي الماركسي ، فالتطور الذي عرفته أوربا أدى
إلى تقوية النظام الرأسمالي أكثر مما سبق ، وأصبح العمال الأوربيون
أنفسهم إحدى ركائز هذا النظام ، وجزءا منه ، فبعد وفاة كارل ماركس عرفت
أوربا تقدما في التعليم والتكنولوجيا والثقافة الإنسانية ، فقد اتسعت
المبادئ الحقوقية ، وتغيرت طبيعة التركيبة الطبقية للمجتمع الأوروبي،
فأصبحت الطبقة البروليتارية طبقة أخرى تتمتع بكثير من الحقوق والامتيازات ،
فقد اختفت ساعات العمل الطويلة ، وارتفعت الأجور، وتحسنت الأحوال
التأمينية ، واختفت حدة التناقضات الطبقية ، وتغيرت أشكال الصراع تماما ،
حتى إن الصراع الطبقي بالمفهوم الماركسي لن يعود له ظهور مجدد في المستقبل
الأوروبي ، كما أنه حتى الأحزاب التي تبنت شعارات الماركسية والمساواة
عندما كانت خارج الحكم انتقلت مباشرة إلى الهرمية بعد الاستحواذ على السلطة
, وهذه معضلة تنظيمية تفسر التباين بين الشيوعية المساواتية التي وصفها
ماركس والشيوعية السلطوية التي جربها السوفيات وشعوب أخرى .
بعض الانتقادات الموجهة إلى المادية التاريخية :
يؤخذ على أفكار هذه المدرسة وأصحابها (..) التفسير التعسفي للمادة
التاريخية (..) فعلى الرغم مما تناولته المادية التاريخية عند كارل ماركس
من قضايا مثل الحتمية التاريخية ، والتطور التاريخي ، والصراع الطبقي بهدف
دراسة علمية للتاريخ إلا أن نظريته في تفسير التاريخ جاءت بعيدة عن علمية
التاريخ , حيث أهملت العوامل القومية والعقائدية والمذهبية والنفسية
والروحية وغيرها .
فالصواب
عند تفسير التاريخ الإدراك أن تاريخ الإنسان تكونه عوامل كثيرة ليس
الاقتصاد إلا عاملا واحدا منها , فهناك أشياء كثيرة في التاريخ غير العامل
الاقتصادي , فالإنسان لا يقصر حياته على أن يحبو على بطنه , فهناك أشياء
تحفز الإنسان للعمل ، والتي هي غير الاقتصاد بتاتا .
لقد
بالغت الماركسية في إعطاء الاقتصاد الدور المسيطر في حركة التاريخ (..)
وتجاهلت التأثيرات الروحية الكبرى في الانتفاضات الاجتماعية ، وبالأخص إذا
كانت الأيديولوجيات الدينية هي المحرض الأول , لذلك نجد مثلا البروفيسور دي
.ايج كول الذي يعد من أشد الناس احتراما للماركسية يرفض أن يعترف بالعامل
الوحيد الذي يقرر الكيان الاجتماعي لأية أمة ، إذ يقول في كتابه " معنى
الماركسية : " ٌلقد أظهرت بحوث علم الإنسان (الانتربولوجية) أشكالا
حضارية مختلفة جدا لا يمكن أن تفسر قط تفسيرا اقتصاديا محضا (..)أن الأساس
الاقتصادي للمجتمع عامل واحد فقط من عوامل تصوير الشكل العام للحضارة "
لذلك لا يجب تفسير التاريخ على أساس مبدأ واحد (..) وإنما على أساس عدد من
العوامل المعقدة المتشابكة التي تتداخل معا .
كما يؤخذ على المادية التاريخية أنها تعتبر الإنتاج وحده هو الذي يحدد شكل
العلاقات بين الأفراد , وأن قوانين الصراع الطبقي ونمو التشكيلات
الاجتماعية والاقتصادية هي فقط القوانين الحقيقية التي تحكم مسيرة التاريخ ,
فجميع الدوافع السيكولوجية في حركة التاريخ تدعمها في الباطن الأحوال
المادية .
يعد
ماركس مثالا للقائلين بالحتمية التاريخية , وأخذ بعلة واحدة في تفسير
التاريخ هي النمط الاقتصادي السائد في المجتمع , وحاول أن يفسر من خلاله
أنماط الحياة الأخرى السائدة فيه ، وعلاقة ذلك بالإنتاج , وما يؤدي إليه من
تطور حتمي نحو طور معين من أطوار الحضارة الإنسانية .
كما
أن أصحاب هذه المدرسة لم يأخذوا التاريخ كنموذج يستنبطون منه قانون حركته ,
وإنما اختاروا بضع مراحل وأحداث هي التي وجدوا فيها مصداق كلامهم ،
وأهملوا الباقي ، حيث ركزوا على التاريخ الأوربي .
كما أن قضايا عديدة تظل محل تساؤل فيما يخص تحكم وسائل الإنتاج في
علاقات المجتمع , فعند ماركس مثلا أن القبائل الرحل التي تعيش على الصيد لا
تحترم المرأة ، وتنظر إليها نظرة احتقار ؛ لأنه لا فائدة منها في الصيد(
… ) لكن لما أخذ الشعب بالزراعة ارتفعت مكانة المرأة ، وازداد دورها
الاجتماعي..وأخذ الرجال ينظرون إليها نظرة احترام وتقدير, إن السبب الرئيسي
لهذا التغير الجذري سببه اقتصادي , لكن ما هو مسجل عندنا أن شعوبا عديدة
كانت تمتهن الزراعة لم تحترم نساءها (..) قدامى الألمان والرومان مثلا
وغيرهم.
لقد حاول كارل ماركس أن يصوغ القوانين الاجتماعية على غرار القوانين
الطبيعية (..) وكان في ذهنه هدف واحد (..) وهو أن يبرهن بطريقة ما على أن
أسلوب الإنتاج في الحياة المادية هو الذي يعين الطابع العام لطرق الحياة
الاجتماعية والسياسية والروحية , وعلى هذا الأساس فإن التاريخ الإنساني هو
تاريخ الصراع الناشب بين الطبقات الاجتماعية (..) وأن الحالة الاقتصادية هي
التي تحدد بصفة قاطعة النظم الأخلاقية والدينية والاجتماعية والسياسية.
فرغم
اعتبار الجهود الرامية لإرضاء الحاجات المادية (..) هي عوامل أساسية في
التاريخ الإنساني , إلا أن التصور بأن جميع وجوهها محددا في النهاية بهذه
الاحتياجات وطرق إرضائها قد حورب , ويمكن أن يحارب على أساس من وقائع
التاريخ نفسه , فإذا كانت نظرية هيغل القائلة بأن الفكر أساس كل ما هو
موجود (..) وأن العقل الإنساني يتحرك دائما متقدما نحو الأمام ليصل إلى
العلم المطلق , قد بلغت القمة في التجريد (..) فإن الماديين الذين انتقدوا
مذهبه (..) ذهبوا في تفسيرهم مذهبا خالصا , وهكذا انتقلوا من النقيض إلى
النقيض , ووقعوا في مبالغات كثيرة غير منطقية , فبدلا من أن يقوم ماركس
بتعديل وضعية الرجل الهيغيلي الذي يمشي على رأسه , فقد أخطأ المحاولة ،
وجعل الرجل المسكين يمشي على بطنه على معدته .
العامل الديني في التفسير المادي للتاريخ :
التفكير المادي لا يؤمن إلا بالمحسوس , ويستبعد الغيبيات من مجال بحثه ,
ولا يسلم أصلا بوجودها , يقول انجلز :" إن العالم المادي الذي ندركه
بحواسنا ، والذي نحن جزء منه هو الحقيقة الوحيدة " ٌ.
ولقد
ظهر المنهج المادي كرد فعل للمنهج الروحي المستمد من المسيحية ، والذي يحط
من قيمة المادة ، ويعلل الحوادث والإسبال بالمشيئة الإلهية وحدها , في حين
أن المادية ترجع كل شيء حتى الدين والأخلاق والفكر والفلسفة والثقافة
والقانون إلى انعكاسات للأحوال الاقتصادية والمصالح الطبقية (..) فتاريخ
ارتقاء المجتمعات (..) هو قبل كل شيء ارتقاء الإنتاج , فالمادية تهتم
بتفسير الأحداث تفسيرا ماديا ينكر الدين ، بل تعتبر الدين في التاريخ وسيلة
تبنتها الأقلية لتستغل الأغلبية ، وذلك بتحويلهم إلى ما في الحياة
الآخرة من سعادة وجزاء حسن **** .
فالماركسية تنكر الغيبيات ، وتنكر الحياة الأخرى فهي لا تقر بوجود الله ،
لا كخالق ولا كعناية في التاريخ , فما الدين والإيمان (..) إلا وهما شكل
على مر التاريخ وسيلة تبنتها أقلية الناس لاستغلال الأكثرية , فالدين يثني
انتباه الأكثرية عن هدفها ، ويبعدها عن مشاكل الحياة ، وعن المصير الحالي
إلى مصير ما بعد الموت , لأنه يمنيها بالثواب والسعادة العلوية الأبدية
في حياة الخلد الدائمة ، بينما تدير الأقلية الشئون الدنيوية ، وتتمتع
بالوفرة التي ينتجها عمل الأكثرية , فالدين إذن من بقايا النظم الاستغلالية
البالية , ولونا من ألوان الخداع صنعته بعض الناس ليستعبدوا به كل الناس
(..) ومن واجب الشيوعيين أن ينبذوه ، ويتحللوا من قيوده ، ويبرؤون من كل
آثاره ؛ لأنه يحول بين الناس وبين نضالهم لنيل حقوقهم ، فقد زعم ماركس أن
الدين أفيون الشعوب , وهو يخفي وراء قشرة أيديولوجية الاستغلال الطبقي
لصالح الفئة الحاكمة , لذلك فعندما تقوم الثورة ، ويحطم العمال النظام
الرأسمالي ، ويتحقق الفردوس الأرضي ، فلا مكان للروح في مثل هذا المجتمع ,
وليس هناك حياة أخرى ، ولا عالم روحي ؛ لأن الإنسان خاضع للضرورات المادية ,
وأما الآداب والأخلاق فليس لها مصدر علوي , وإنما هي وسيلة لحفظ المجتمع .
وتعد الماركسية الديانات الحديثة جميعها والكنائس وكل أنواع المنظمات
الدينية آلة لرد الفعل البرجوازي الذي يستهدف الاستغلال ضد مصالح الطبقة
العاملة , يقول ميخائيل باكونين في كتابه" الله والدولة" من أجل تقدم
الحرية وجب نبذ الاعتقاد في الله ، أما انجلز فيقول في كتابه ضد دهرنك ليس
الدين سوى انعكاس خيالي وهمي في أذهان الناس من القوى الخارجية التي تسيطر
على حياتهم اليومية , وهو انعكاس تتخذ فيه قوى هذا العالم شكل قوى ما فوق
الطبيعة ، أي أن القوى الأرضية تتخذ شكل قوى فوق أرضية (..)
هذا
يعني أن ما أسميناه انعكاسا لواقع معين قد انفصل عن أصله الواقع ؛ حتى
أصبح في ذهن الناس عالما آخر في استقلال تام عن قاعدته ؛ ليعود بدوره
للتأثير في هذا الأساس كقوى مجردة عاقلة (..) وأصبح المخلوق الآلهة تتحكم
بمصائر الخالقين , وفي كتاب أرسله لينين إلى الكاتب الروسي ماكسيم نموركي
يقول لينين : إن البحث عن الله لا فائدة منه ، ومن العبث البحث عن شيء
غير موجود , وبدون أن نزرع لا نستطيع أن نحصد ، وليس لك إله لأنك لم تخلقه
بعد , والآلهة لا يبحث عنها ، وإنما تخلق ..
كما يقول لينين نفسه في فصل عن الدين والاشتراكية ما يلي : الدين يعلم
هؤلاء الذين يكدحون طول حياتهم في الفقر والاستسلام والصبر في هذه الدنيا ,
ويغريهم بالأمل في المثوبة بالعالم الآخر .
فالإلحاد
إذن جزء طبيعي من فلسفة الماركسية ، وهو شيء لا ينفصل عنها , فهو ليس إلا
انعكاسا لعجز البشر الطبيعي والاجتماعي , فدائما كان هناك وفي جميع الطبقات
أناس يشكون في إمكانية الخلاص المادي (أي بالنضال الطبقي المكشوف )
فيبحثون عن الخلاص الروحي كبديل للخلاص المادي , يبحثون عن السلوان الذي
يحفظهم من اليأس , هذا السلوان الذي لم يجدوه في الفلسفة (..) بل وجدوه في
الدين , إن الفرد الفاشل الذي لا يستطيع حل مشاكله المتعاقبة قد يلجأ إلى
الخمرة أو المخدرات أو الانتحار أو التصوف .
ويزعم أصحاب التحليل المادي أن انتشار الأديان مرتبط بالظروف المادية التي
عاش فيها الإنسان الأول ، فيقولون : إن الإنسان الفطري في العهد البدائي
كان يقف عاجزا أمام الظواهر الطبيعية كالرعد والفيضانات وغيرها ، وكان
ذلك قبل خمسين أو أربعين ألفا من الأعوام (..) فالطبيعة متقلبة بين خيرها
وشرها ، والإنسان ضعيف (..) في الجسم والعقل ، ولا يقدر دائما على قهر
القوى الطبيعية الجبارة ، ولا حتى على فهمها , إنه يحبها ويخافها ، ومن هنا
نشأ الدين , قام على الخوف من الظواهر الطبيعية الرهيبة ، كما عبر
الفيلسوف ديموقريط , فجهل الإنسان بأسباب الظواهر الطبيعية يجعله يردها إلى
إرادة عليا , فيسعى إلى كسب عطفها ، والتماس أسباب الزلفى إليها بتقديم
القرابين ، واصطناع ألوان شتى من العبادات ، ومن ثم نشأ الإيمان بالقوى
الغير المنظورة ، وعبادة تلك القوى(..) لكن نظام الرأسمالية الجاثم على
صدور الناس يستطيع أن يسلط على الإنسان الفقر والبطالة (..) فتجد
الرأسمالية نفسها مضطرة إلى الاستعادة بالقوى الغير المنظورة ، أي بقوة
الله ؛ لأنها مضطرة إلي التبرير إلى إقناع الآخرين بما هي نفسها غير مقتنعة
به ، الدوغما الدينية (أي التعاليم الدينية بعد تحجيرها ) وهذا الإيمان
يلاءم الطبقة المستغلة , إذ يصرف جموع الشعب عن الكفاح في سبيل السعادة
الدنيوية ، ويجعلها تتعلق بأوهام البعث , ويغري الناس بان يشتغلوا بالعبادة
, ويخضعوا للطبقة المستغلة , ويتقبلوا النظام الرأسمالي على أنه نظام لا
مفر منه ، وقضاء لا مرد له , ومن شان الطبقة البرجوازية أن تؤيد الروح
الدينية لتضمن سيطرتها على الطبقة العاملة ، وتتلاعب بوعي الجماهير ..
ويبقى السؤال الذي طرحه العديدون هو أنه إذا كان الدين مجرد انعكاس
للظروف المادية التي يعيش فيها الناس كما تقول الماركسية , فلا مجال لأكثر
من دين واحد في وقت واحد ، ولكننا نجد أن الإسلام والمسيحية والهندوكية ،
وعشرات الأديان الأخرى تسيطر على عقول ناس يعيشون في نفس الظروف الاقتصادية
, كما أنه ألا يمكن اعتبار الماركسية نفسها فكرة دينية باعتبار أن الفكرة
الدينية تتدخل إما بطريقة مباشرة وإما بطريقة غير مباشرة بواسطة بديلاتها
اللادينية نفسها.
فإذا
كانت الماركسية رفضت الدين كوحي الهي فإنها صاغت دينا أرضيا يخضع للمزاج
البشري على المستويين الفكري والتطبيقي , ولاشك أن الفلسفة الماركسية تمثل
هنا الدين الأرضي ، حيث تحول إنجيل يسوع المسيح إلى إنجيل ماركس ، وتحولت
المطامح التواقة إلى ملكوت الرب الإله إلى مطامح متشبثة بالفردوس الأرضي
الذي لم يتحقق , ألم تدفع فكرة ماركس المؤمنين بها إلى التضحية في سبيلها ،
وبالتالي فإن قانون الفكرة الدينية ينطبق على الشيوعية إذن , فحيثما زالت
فكرة الله من التقويم الاجتماعي والسياسي فإنه تحل محلها أفكار أخرى ، وقيم
مغايرة ، مثل فكرة الدولة ، أو قيمة المجتمع ، أو فكرة الشيوعية ، وتسمى
بالديانات البديلة .
كما أنه ألا يمكن اعتبار الماركسية نفسها نتاج الظروف الاقتصادية التي
عاشتها أوروبا , فإذا كانت الكنيسة قد تحالفت مع البرجوازية , فإنها لم
تعد خلاصا روحيا لأولئك الفقراء أصحاب الطبقة العاملة , فاتجهوا لاعتناق
الماركسية باعتبارها سلوانا تمنيهم بمستقبل أفضل ، وبفردوس أرضي يتساوى
فيه الجميع , وبذلك تكون الماركسية قد حلت محل الدين ، لكن بصفة مغايرة
وبديلة .
ــــــــــــــ
الهوامش :
*
كان ماركس ومن تبعه من الشيوعيين لا يفهمون طبيعة النفس البشرية ، وأنها
ليست اجتماعية كاملة ، وإنما تجنح إلى الذاتية وحب التملك ، كما كان يجهل
أن قصة النزاع بين البشر قديمة ، ونشأت مع ابني آدم أبو البشرية ( قابيل
وهابيل ) وبالتالي استحالة تطبيق مفهوم الاشتراكية بالطريقة التي فهموها .
إدارة الموقع .
**
هو يختصر بذلك تاريخ البشرية الذي يمتد ملايين السنين في الحقبة التي ساد
فيها الإقطاع ، ويحسب أن البشرية كانت تتطور نحو الأسوأ دائما ، مع إن
تاريخ البشرية كان يتأرجح بين الصلاح والفساد ، يطرأ الفساد فيأتي الأنبياء
فيعودوا بالبشرية لطور الصلاح بعد تطهيرها من المعاندين ، ثم يموت النبي
فينسى الناس رسالته مع مرور الوقت ، وهكذا تتكرر التجارب .. إدارة الموقع
***
هذا الكلام المعسول الذي خضع به الشيوعيون السذج في العالم لينضموا إليهم ،
وخاصة من المسلمين الذين فطروا على تصديق كل ما يقال لهم ، وانتهت
الشيوعية ، ولم تحقق مما قالوا شيئا ، بل غلبت الرأسمالية وجشعها ؛ لأنها
لم تجد المعارض لها ذي الأسس السليمة . إدارة الموقع
****
لم يكن ماركس أو أي من الشيوعيين قد اطلع على سير الأنبياء الذين أرسلهم
الله لإصلاح البشرية ، وإنما على سير أحبار ورهبان هيمنوا على الناس فعلا
في الغرب ، وهم الذين وصفهم الله في القرآن بقوله : " إن كثيرا من الأحبار
والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل .." لذا كان في اتهامهم بمحاولة
سيطرة القلة على الأغلبية تحت ستار الدين بعض الصحة ، وكان على من صدقوا
مقولة : إن الدين أفيون الشعوب في عالمنا الإسلامي أن يعرفوا أنه ليس الدين
الذي شرعه الله لخلقه ، وإنما الذي ابتدعه القساوسة ليتألهوا به على الناس
..
منقول للفائدة
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire