الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

jeudi 11 octobre 2012

نظريات في فلسفة التاريخ

◄نظريات في فلسفة التاريخ (1) ►





1 -   المدرسة المثالية الديالكتيكية :
تعتبر المثالية مدرسة مهمة في تفسير التاريخ العالمي , وإن كانت   جذورها الأولى   تعود إلى الفيلسوف   اليوناني أفلاطون , فإن شروطها كحقل معرفي متميز قد توفرت مع اكتمال الفلسفة الغربية التقليدية مع نسق هيغل ومثاليته المطلقة .
هذا الفيلسوف الألماني الكبير هو الذي بلور الديالكتيك في معارف أساسية ، وقال عنه كارل ماركس :إنه بالذات أول من قدم تصورا واعيا شاملا للأشكال العامة للحركة في الديالكتيك .
والديالكتيك كما هو معروف dialectic   كلمة مشتقة من لفظة يونانية  dialoquesto وتعني التقاء الناس للمحاورة , ولما كانت الغاية من الحوار هي الإقناع , ولا إقناع بدون برهان, اعتبر الديالكتيك فن البرهان , والحوار هنا يعني المناقشة , باعتبار أن المناقشة التي قد تتم بين شخصين يبحثان عن الحقيقية في موضوع معين , تظهر وجهات نظر معينة غير أن كلا من المتحاورين يحاول تدريجيا أن يفهم رأي زميله ثم ينتهي الاثنان إلى الاتفاق على نبذ أفكارهما الجزئية ، وقبول نظرة جديدة أوسع وأرحب ، وهكذا ينتهي التعارض الأول إلى التوفيق في مركب أعلى .
وقد ظهرت معالم التفكير الديالكتيكي في الفلسفة اليونانية القديمة عند هيراقليطيس (..) إلا أن الديالكتيك كمنهج فلسفي لدراسة الظواهر عامة بدا مع جورج هيغل (1770-1807) الذي لم ينفِ تأثر منهجه بفلسفة هيراقليطيس , فذلك ما يعترف به صراحة ، فهو يقول : لن تجد عبارة قالها هيراقليطيس إلا واحتضنتها في منطقي ، ولعل هذا ما جعل ديورانت يقول : إن هيراقليطيس هو هيغل اليونان  ، وإن كان الجدل أو الديالكتيك كما سبق طريقة خاصة في البحث ، وأسلوبا في المناظرة , فقد حوله هيغل إلى شيء جديد , إذ أصبح طريقة لتفسير الواقع ( ) فالتناقض ليس بين الآراء فقط ، بل هو ثابت في صميم كل واقع وحقيقة , فأقام منطقا على هذا الأساس ، وجعله تفسيرا للمجتمع والتاريخ والدولة .
ويعتبر هيغل أن الفكر يتطور من قضية إلى نقيضها إلى قضية تركيبية من النقيضين ، لكنها مخالفة لهما , وهكذا تستمر الحال حتى تصل الفكرة إلى المطلق الذي يخلو من الصراع والتناقض , ولقد اعتمد هيغل على أن الفكر يسير دائما على هذا المنوال ، فهو يبدأ بقضية موجبة يعارضها في الحال نقيضها ، ثم تظهر فكرة أوسع تجمع بينهما في مركب واحد ، غير أن هذا المركب يثير بدوره نقيضا جديدا ، وتتكرر العملية ذاتها من جديد , ومن الأمثلة التي يضربها هيغل لتتضح فكرته أن الله عند المسيحيين- يمثل اللامتناهي ، والإنسان يمثل المتناهي (نقيض) والسيد المسيح في رأيه يجمع بين الفكرة والنقيض فهو إله إنسان في الوقت نفسه ,وهذا مثال آخر يضربه , فعهود السلطة المطلقة (فكرة) يعقبها عهود فوضى (نقيض) ومن الفكرة إلى النقيض يأتي عهد دستوري (لكنه ليس النقيض المنطقي ).
وبالتحام الديالكتيك بالمثالية التي تعطي الأولوية للفكر أصبح هيكل الركن الأساس في فلسفة التاريخ , هذه الفلسفة التي عكف على دراستها العديد من الباحثين ، فاختلفوا في تقديرهم لها اختلافا واسعا ، حتى إن واحدا منهم ، وهو وليم ولاس شبه اختلافهم فيها باختلاف المفسرين في شرح الكتاب المقدس , فهذه الفلسفة هي التي أثرت في البرجماتية و الوضعية والواقعية الجديدة والمثالية والمادية معا .
المنهج التاريخي عند هيغل :
إذا كان التاريخ كما يراه هيغل هو الحياة في امتدادها الزمني على الأرض فإن التاريخ الحقيقي لا يبدأ إلا مع ظهور الوعي ، وبالتالي فإن المجتمعات الأولى التي كانت تعتمد على الأساطير لا تكون جزءا من تاريخ الإنسان , لذلك فحص هيغل المناهج التاريخية المختلفة ، وحصرها في ثلاثة أشكال : التاريخ الأصلي ، والتاريخ النظري ، والتاريخ الفلسفي .
والمقصود بالتاريخ الأصلي ذلك التاريخ الذي يكتبه المؤرخ وهو يعيش الأحداث , ويضرب هيغل أمثلة كثيرة لهذا اللون من الكتابة التاريخية ، منها عند اليونان مثلا : هيرودوت وتوكيدار   واكسنفون ، فهم جميعا عاشوا الأحداث التي كتبوها , واللون الثاني من الكتابة التاريخية يسميه بالتاريخ النظري ، والسمة الأساسية التي تميزه أن المؤرخ لا يعيش الأحداث التي يرويها , وإنما هو يجاوز العصر الذي يعيش فيه إلى عصر آخر , ويروي أحداثا لم يشهدها ووقائع لم يعشها أصلا (..) فيقوم بجمع المادة التاريخية وتصنيفها , وتبدو في هذا النوع طريقة المؤرخ وأسلوبه في عرض الوقائع ..
والنوع الثالث هو التاريخ الفلسفي ، ويقصد به هيغل دراسة التاريخ من خلال الفكر , لأن التاريخ هو تاريخ الإنسان والفكر جوهري بالنسبة إليه ، فهو الخاصية التي تميزه عن الحيوان , ثم يعلن عن الشرط الأول الذي يجب مراعاته في فلسفة التاريخ ، وهو: أن نتبنى بأمانة كل ما هو تاريخي , يعني أن لا نقحم أفكارا واختراعات ذاتية في أحداث التاريخ كما فعل اليهود مع أنفسهم ، بادعائهم أنهم شعب الله المختار , تعلموا من الله مباشرة ، ومنحهم الله معرفة تامة بجميع القوانين الطبيعية وبالحقيقة الروحية , بل يتمادون فيزعمون أن الله تحدث إلى آدم بالعبرية لكي تصبح لغتهم بدورها لغة الله المختارة ، ومن الروايات الخرافية أيضا ما كان يزعمه اليونان القدماء من أن الآلهة أثينا هي التي شيدت مدينتهم (..) فهذه الروايات والأقاصيص الخرافية ( ) يخترعها المؤرخون ، ويقحمونها في أحداث التاريخ .
فلسفة التاريخ عند هيغل :
تقوم فلسفة التاريخ عند المؤرخ والفيلسوف الألماني جورج فريدريك هيغل على فكرة أن الأحداث التاريخية تكمن وراءها إرادة مخططة , ومن ثم فهي ليست وليدة الصدفة  ، وأن الفكر أساس كل موجود , والآراء والأفكار النابغين في غرب أوروبا ابتدءا من القرن الثالث عشر الميلادي ,كما أن الثورة الفرنسية الكبرى التي اشتعلت منذ 1789,إنما قامت متأثرة بأفكار و أراء   المفكرين الفرنسيين الذين يمثلون عصر التنوير العقلي ,أمثال فولتير ومونتسكيو وديدرو وجون جاك روسو .
فالعقل عند هيغل يحتل مكانة كبيرة , فهو يحكم التاريخ عن طريق الفكر ؛ لأن التاريخ هو تاريخ الإنسان , والفكر جوهري بالنسبة إليه ، فهو الخاصية التي تميزه عن الحيوان , والفكرة الأساسية لعلم التاريخ عند هيغل أنها سلسلة من تطور الوعي بالحرية , وهو تطور منطقي قائم على مفهوم التقدم نحو النظام والمعقولية والحرية .
فتاريخ العالم إذن مسار تكافح فيه الروح لكي تصل إلى وعي بذاتها , أعني لكي تكون حرة , فيكون مضمون الفلسفة الهيغيلية أن التاريخ تجل وتجسد للفكر , وأن الأفكار هي العامل الحاسم في توجيه التاريخ ، وتسييره ودفعه إلى الإمام , وبالتالي فالفكر هو التاريخ ، والتاريخ هو الفكر مجسدا في الإنسان ، ولهذا فمن الطبيعي أن تكون نهاية التاريخ هي نهاية الفكر ، ونهاية الفكر هي نهاية التاريخ , ولما كان الإنسان كائنا عاقلا مفكرا يكتسب مع الزمن معارف ومهارات مختلفة يسعى لتحقيق الاستقلالية والحرية , اعتبر هيغل صيرورة الزمن تتجه من الأدنى إلى الأكثر كمالا , واعتبر تاريخ العالم ما هو إلا تقدما نحو الشعور بالحرية , ذلك أن الإنسان بممارسته للحرية ,كحرية الاختيار يشعر بوجوده الروحي , ولذلك ربط هيغل بين الحرية والعقل برباط وثيق ، حيث اعتبر الحرية ماهية العقل , وأصر أن ما يحدث من تغير في العالم المادي الحقيقي إنما هو مجرد انعكاس لا إرادي لتقدم وتطور روح العالم  , والروح عند هيغل هنا تعني العقل أو الفكر الذي يسيطر على الكون أو يحكم العالم , ويرى هيغل أن كل عهد يأتي أرقى من العصر الذي سبقه ، وأن بروز المجتمع الحر هو نهاية التاريخ.
ونتيجة للجانب المثالي في نظرية هيغل فقد كثر أنصاره , وقدموا تعريفات عدة للتاريخ من واقع هذه النظرية , ومن هؤلاء المؤرخ الإنجليزي ه.ج.ويلز الذي ذكر أن تاريخ الإنسانية يكمن في التاريخ الجوهري للأفكار.
نهاية التاريخ عند هيغل  :
يتضح من خلال القراءة المتأنية لنظرة هيغل التاريخية أنه كان   من أوائل من تصوروا أن للتاريخ نهاية يقف عندها , فتكون فكرة نهاية التاريخ لفوكوياما فكرة قديمة اصطبغت   بحلة جديدة , فإذا كان فوكوياما يتصور أن آخر مرحلة إنسانية يقف عندها العالم هي مرحلة الرأسمالية والديموقراطية الحالية , فإن هيغل قد تصور نهاية للعالم قبله , لذلك فليس الحديث عن فلسفة نهاية التاريخ شيء جديد , بل هو شيء يتجدد بين وقت وآخر عند كل مفصل أو منعطف تاريخي , فقد سبق لهيغل أن أشار إليه عندما اعتقد أن التاريخ قد أنهى تحققه ، ووصل إلى محطته الأخيرة عند تشييد الدولة البروسية , فالصعود والانحدار المكون لحركة التاريخ الصاعدة من أمة إلى أمة تقف عند الدولة البروسية ..
والتاريخ عندها يقف لأنها القمة , فهي تجسيد للمطلق ولروح الحرية والألوهية , وبذلك مجد هيغل القومية الألمانية ورسالة الشعب الألماني تجاه العالم , فكانت فلسفته أوضح تعبير أيديولوجي عن البرجوازية الألمانية , والواقع أن الظروف التي عاشتها ألمانيا أثرت في عواطف هيغل،  حيث كان يرى وطنه مشتتا وموزعا بين الإقطاعيين ومهددا من القوى الخارجية , وقد أثرت أفكاره في بعض المتطرفين الذين نادوا بتفوق العنصر الألماني على باقي العناصر الأخرى ، ودعوا إلى التوسع الإقليمي , لذلك يؤخذ على هيغل (..) تمجيده للحضارة الجرمانية ، وكانت دعوته تلك هي البداية الأولى للشعور الألماني بالتعالي والتفوق والعنصرية التي جلبت الكوارث فيما بعد على الألمان والبشرية جمعاء .
النظرية العنصرية في التاريخ :
لقد كان تمجيد هيكل للحضارة الجرمانية البداية الأولى للشعور الألماني بالتعالي والتفوق على الأجناس الأخرى ، هذه الفكرة التي سيطورها أدولف هتلر (1889-1945 ) القائد الألماني وزعيم الحزب الاشتراكي الوطني   الذي اشتهر بالحزب النازي   في كتابه كفاحي ، وهي تقوم على فكرة ساذجة في الأصل   ، فكرة تفوق الجنس الآري الجرماني على باقي الأجناس التي أنجبتها الطبيعة  "ًالشعب الآري فوق الجميع  لذلك يجب الحفاظ على نقاوتها ، وقد منع هتلر زواج الألمان من الأجناس الأخرى ؛ حتى لا يختلط دمهم النقي بدمائهم الفاسدة   " ..
وقد أدت هذه الأفكار العدوانية الرهيبة فيما بعد إلى حد إلغاء حق الشعوب الأخرى في الوجود عبر تصفيتها ومحاولة إفنائها , فانطلقت عمليات الموت الجماعي التي قتل فيها عدد كبير من اليهود والسلاف أثناء الحرب العالمية الثانية ,فقد قامت النازية وكل فكرة عنصرية مشابهة على أن البشر لم يخلقوا من نفس واحدة ,بل خلق قسم منهم وضيعا منحطا ، والآخر نقيا متفوقا بطبيعته البيولوجية , وهذه النظرية العنصرية ظهرت في أوروبا ، وانتشرت بشكل فظيع , ودافع عنها الكثيرون , وهي نظرة أيديولوجية بحتة (مركزية الحضارة الأوربية ) تستخرج من مسيرة الإنسانية خطا تطوريا ممتازا هو الخط اليوناني فالروماني فالأوروبي (..) فاغلب الدراسات الأوربية التقليدية تبدأ قصة الحضارة من اليونان .
نخلص إلى القول : إن هناك العديد من المؤرخين الغربيين الذين ادعوا تأثير جنس بشري له خصائص معينة في صناعة التاريخ, إذ لم يتردد البعض في الزعم بأن الجنس الأوروبي هو أفضل الأجناس على الإطلاق , وأن باقي الأجناس الأخرى أقل قدرة في صناعة التاريخ , فقد كتب جوينو مثلا أن التفاوت العنصري كاف لتفسير مصائر الشعوب , حيث تستطيع الأجناس الراقية إحراز التقدم في الوقت التي تظل فيه أجناس أخرى كالهنود الحمر الأمريكيين مثلا محكومة اجتماعيا وثقافيا بميراثها العنصري ، ونجد نظرة أخرى أكثر تطرفا ، وهي تعبير آخر على وجه العنصرية المتأصلة لدى بعض الأوروبيين ، حيث كتب رينان   ما يلي "جنس واحد يلد السادة والأبطال هو الجنس الأوروبي , فإذا نزلت بهذا الجنس النبيل إلى مستوى الحظائر التي يعمل بها الصينيون والزنوج فإنه يثور , إن الحياة التي يتمرد عليها عمالنا يسعد بها صيني أو فلاح من جنس آخر " .
هذه النظريات العنصرية ليس لها أساس من الصواب من وجهة النظر الانتروبولوجية ، فليس هناك أجناس راقية وأجناس غير راقية ,كما ليس لها أي صحة من الناحية العلمية ، وقد انتقدها الباحثون والعلماء والمؤرخون في العصر الحديث ، واعتبروها نظرة عنصرية مغلوطة , فالمدنية لا تتوقف على جنس دون آخر , فقد تظهر في هذه القارة أو تلك ، وقد تنشأ في هذا اللون من البشرة أو ذاك.
نظريات في فلسفة التاريخ
المدرسة المادية التاريخية :
ترجع الجذور الأولى للمادية التاريخية الديالكتيكية إلى أفكار الفلاسفة اليونانيين الأوائل الذين اعتبروا المادة أصل الطبيعة والحياة .
وتعتبر المادية الديالكتيكية حاليا من المكونات الأساسية للنظرية الماركسية التي شيد عليها الفيلسوف الألماني كارل ماركس   تفسيره للتاريخ , وتعتمد النظرية الماركسية في تفسير التاريخ على منهج هيغل القائم على الجدل , مع تغيير جوهري في المضمون , فقد اعتبر كل من كارل ماركس وانجلز جدل هيغل واقفا على رأسه بدلا من قدميه لنزعته المثالية , وقد ألبسا هذا الجدل ثوبا ماديا صرفا ، ثم طبقاه على الظواهر الإنسانية والطبيعية , قال كارل ماركس   في رسالته الموجهة إلى كوجلمان   : " إن قوانين الجدل الصحيحة موجودة فعلا عند هيغل ، لكنها في صورة مثالية , ولابد أن ننزع عنها هذه الصورة" . 
لقد استفاد كارل ماركس كثيرا من الجدل الهيغيلي لذلك نجد انجلز يقول: " لولا هيغل لما كانت هناك اشتراكية علمية " وقد اعترف ماركس نفسه بفضل هيغل عليه ، إذ صرح   في كتابه الرأسمالية  قائلا : " إنني لست سوى تلميذ لهذا المفكر العملاق – يقصد هيغل ـ " وهذا ما جعل ويل ديورانت يقول : "   لقد فقس هيغل بيضة الاشتراكية" .
لقد قرأ   كارل ماركس جدلية هيغل فأعجب بها , لكنه وجدها مثالية تتحدث عن صراع الأفكار ، فأخذ الفكرة وغير ميدان الصراع قائلا : إنه بين طبقات المجتمع , فلئن عارضت الماركسية هيغل في المذهب المثالي فإنها تبنت منهجه الجدلي في تأسيس المذهب المادي ،    وأقامت منهجه على قدميه بعد أن كان واقفا على رأسه ، كما صرح بذلك مؤسسا النظرية .   
فقد قال ماركس في المقدمة الثانية من كتابه الشهير الرأسمالية  : إن طريقتي الديالكتيكية لا تختلف عن الطريقة الهيغيلية من حيث الأساس فحسب ،  بل هي ضدها تماما , فقد اعتبر كارل ماركس أن الديالكتيك عند هيغل يسير على رأسه ، ويكفي إعادته على قدميه لكي نرى له هيأة معقولة تماما , فماركس حسب انجلز جرد الطريقة الديالكتيكية من زينتها المثالية , كناية عن نقل الفلسفة من مثالية إلى مادية ، ومن الصراع الفكري إلى الصراع الطبقي , فإذا كان هيغل قد أصر على أن كل ما يحصل من تغيير في العالم المادي الحقيقي إنما هو انعكاس لا إرادي لتقدم وتطور روح العالم , نجد ماركس يبين أن المثل الأعلى للأفكار عند بني الإنسان إنما هي نتاج البيئة الاقتصادية المادية ..
أن هيغل يعتقد أن حركة التاريخ التي يجسدها باسم الفكرة هي مبدعة الواقع الذي ليس إلا الصورة الظاهرة للفكرة , أما أنا فأعتقد أن على العكس تماما أن حركة التاريخ ليست سوى انعكاس حركة الواقع , وبذلك تكون الماركسية قد عبرت جسر الهيغيلية وفلسفتها في المعرفة وتفسير التاريخ , إذ أعلنت أن صراع المتناقضات لا يحصل في عالم الأفكار كما ادعى هيغل ، وإنما في عالم أحوال الناس الواقعي   بواسطة ما يحصل في الكيان الاقتصادي للمجتمع .
خلاصة القول والكلام أن الماركسية أخذت الديالكتيك أو الجدل الهيغيلي (تطور الفكر من قضية إلى نقيضها إلى قضية تركيبية من النقيضين ، لكنها مخالفة لهما ) ونقلته من مجال الفكر إلى مجال المادة , التي أضحت الأساس , قال انجلز : إن العالم المادي الذي نحن ندركه بحواسنا ، والذي نحن جزء منه هو الحقيقة الوحيدة , وليس المادة من إنتاج العقل ، بل إن العقل ما هو إلا أسمى إنتاج للمادة.
التفسير المادي للتاريخ :
يعود الفكر المادي التاريخي إلى فلسفة كارل ماركس التي أسس عليها حتمياته المعروفة في التغيير الاجتماعي والاقتصادي , وهي فلسفة حاولت أن تبرهن على فساد النظام الرأسمالي , وبشرت بسقوطه وحتمية انهياره ، وتنبأت بالشيوعية في مجتمع الإنسانية المقبل بلا طبقات ، والذي تتحقق فيه السعادة الكاملة , وتعتبر المادية أن تاريخ المجتمع منذ أن وجد حتى الآن   هو صراع طبقات ، كانت تقف موقف المعارضة الدائمة لبعضها ، وتقوم بحرب لا انقطاع لها , فتاريخ كل ما يوجد على الأرض حتى الآن – من مجتمعات – إنما هو تاريخ كفاحات طبقية ، ووسائل الإنتاج هي الحكم الفصل الحقيقي الذي كان يقرر مصير هذه المجتمعات , فالإنتاج وما يصحبه من تبادل المجتمعات هو أساس كل نظام اجتماعي ، وفي كل مجتمع ظهر في التاريخ نجد أن توزيع المنتجات وما يلزمه من تقسيم المجتمع إلى طبقات يعينه الإنتاج وطريقة وكيفية تبادله ، فحسب هذه النظرية نرى أن الأسباب النهائية لكافة التغيرات الاجتماعية والثورات السياسية يجب البحث عنها ( … ) في التغيرات التي تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل .
فالمادية التاريخية إذن تجعل أسلوب إنتاج الحاجات المادية أساسا للتطور ، وتجعل صراع الطبقات سبيل هذا التطور , فالمجتمع البشري مجتمع متطور , والعامل المسير المحتم لهذا التطور هو التغيير الذي يحدث في وسائل الإنتاج , والذي يعين نوع العلاقات الاقتصادية في كل مرحلة من المراحل , وهذه العلاقات الاقتصادية تحتم بدورها نوعا من الأوضاع الاجتماعية والعقائد الدينية والمذاهب الأخلاقية .
فالمؤرخون الماركسيون يقيمون تفسيراتهم على العامل الاقتصادي وحده , فالوضع الاقتصادي لشعب ما هو الذي يحدد بدوره وضعه السياسي , بمعنى أن الاقتصاد السياسي الأكثر إنتاجية في وقت معين ينتصر على الأنماط الأخرى لتنظيم الإنتاج , وهذا التفوق التقني أو الإنتاجي يتغير عبر الزمن , فالمادية التاريخية إذن تقرر أن أسلوب إنتاج الحاجات المادية كالغذاء والمسكن وأدوات الإنتاج هي القوة الأساسية التي تحدد شكل المجتمع , وتقرر تطور المجتمع من نظام إلى آخر ، ويقصد بأسلوب الإنتاج جماع القوى المنتجة ، وهي أدوات النتاج – من يشتغلون عليها بخبراتهم – العلاقات الإنتاجية أي علاقة الناس فيما بينهم أثناء سير الإنتاج .
فلسفة التاريخ عند كارل ماركس :
التاريخ البشري عند كارل ماركس ليس في النهاية سوى صراع طبقات , تفوز فيه الطبقة التي تنسجم مع تطور وسائل الإنتاج والعلاقات الاقتصادية الناشئة عنها ( … ) ويظل هذا الصراع قائما إلى أن تفوز طبقة العمال , فتزيل الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج , فيتساوى الناس المساواة الاقتصادية التامة , وهي في نظرهم المساواة الحقيقية , ويصبحون بذلك كلهم طبقة واحدة, وتذهب بذلك أسباب الحروب ، وتنتشر ألوية العدل والإخاء والسلام .
فكل شيء في نظر ماركس يتضمن نقيضه , بحيث كل شيء يهدم نفسه , وهذا هو التصور العام لمبدأ النقيض , ولكن كارل ماركس يستخدمه للتدليل على وقوع انهيار الجماعات التي قامت على الرأسمالية , فالجماعات السابقة عليه ، وهي الملكيات المطلقة والوراثيات والطبقية والإقطاعية والزراعية انهارت في رأي الماركسية , لأنها تضمنت عنصر النقيض , وعلى هذا الأساس ستنهار الرأسمالية ، وتتحول إلى النقيض ، وهي الاشتراكية ذات الطبقة الواحدة.
وبتطبيق هذا الأسلوب في البحث نرى أن التاريخ عند الماركسيين قد مر بعدة تطورات ومراحل , ابتداء من الشيوعية البدائية الجماعية إلى نظام الطبقات , متمثل في انقسام المجتمع إلى سادة وعبيد في العصور القديمة , والى سادة إقطاعيين و أقنان في العصر الإقطاعي ،   وإلى رأسماليين وعمال أجراء في العصر الحديث ، وإن هذا التطور يتجه بفعل القوانين التي تتحكم فيه إلى نظام جديد ، تزول فيه المصالح الاقتصادية المتضاربة.
فالعالم كله عند كارل ماركس قد مر بمراحل أربعة , وما زالت أمامه أخرى .
المرحلة الأولى : هي مرحلة الشيوعية الأولى أو المشاعية البدائية , حيث كان كل ما على الأرض لكل من عليها , لذا لم ينشب صراع لعدم وجود الملكية الخاصة *.
والمرحلة الثانية : هي مرحلة الرق  ، فبعد أن اخترع الإنسان بعض الأدوات انتقل من الشيوعية الأولى إلى عهد الرق , حيث انقسم البشر إلى أحرار وعبيد ، واشتعل الصراع بينهما , ثم بفعل تطور جديد في وسائل الإنتاج تحول إلى المرحلة الثالثة ، وهي مرحلة الإقطاع , التي تميزت بمعرفة الإنسان للزراعة , والتوسع فيها , فانقسم المجتمع إلى رجال إقطاع وعبيد الأرض , فالإقطاعي يملك الأرض ومن عليها من إنسان وحيوان ونبات , فإذا باع أرضه تبعها كل من عليها ، فكان الصراع محتدا بين سادة الإقطاع والفلاحين **, ثم بفعل اكتشاف وسائل إنتاج جديدة تحولت بعض المجتمعات من الزراعة إلى الصناعة ,فدخلت بذلك المرحلة الرابعة ، وهي مرحلة الرأسمالية التي انقسم فيها المجتمع إلى رأسماليين (أرباب رءوس الأموال ) وهم قلة , وعمال وهم كثرة .
ويرى ماركس أن الصراع سيحتدم بين الفريقين , وسينتهي بانتصار العمال ، وعندها سيتحول المجتمع نحو المرحلة ، وسينتقل بانتصار العمال ، وعندها سيتحول المجتمع نحو المرحلة الأخيرة ، وسينتقل إلى الشيوعية حيث تنعدم الطبقات , وهنا سيتوقف الصراع ،  وتحل الخلافات عن طريق الود والحوار , فتنتفي الحاجة للدولة والجيش والشرطة وسائر وسائل القهر !*** لأن عهد الاستغلال قد ولى وانتهى ,لأن المجتمع بلا طبقات ستصبح معه الدولة من حيث إنها سلطة منظمة غير لازمة !..
  لكن هذا في المنطق السليم أمر مستحيل ، فالأولى أن تستمر الدولة وتتقوى حتى تمنع عودة الرأسمالية من جديد ، ففي غياب الدولة تبقى الفرص سانحة لعودة البرجوازية ، كما أن تشعب المشاكل وتناميها يستلزم بقاء الدولة لتطبيق القوانين وتنظيم المجتمع ، وإلا عمت الفوضى ، وانتشرت الاضطرابات ..
 وفي رؤية ماركس هذه يتسم المجتمع الشيوعي لا بغياب السلطة فقط , ولكن أيضا كما تشير كلمة شيوعي إلى الإحساس المشترك والقوي بالمشاعية .
لقد قصد ماركس بالشيوعية أن تكون هناك حياة بلا تمايز, ففي كتابه الأيديولوجية الألمانية عبر عن رؤيته للمجتمع الشيوعي على أنه مجتمع لا يستحوذ فيه أحد على مجال النشاط , فالإنسان الشيوعي يستطيع أن يفعل شيئا اليوم وآخر غدا , أن يقتنص في الصباح , ويصيد بعد الظهيرة , ويربي الماشية في المساء .
في هذا المجتمع المستقبلي لن يكون لكائن بشري السلطة في أن يحدد لغيره ماذا يفعله.
وهكذا أغلقت الماركسية ملف الصراع الذي استمر آلاف السنين بانتصار موهوم ، وحلم مثل السراب , حيث ستنهار الرأسمالية أخيرا ، وتتحول إلى النقيض ، وهي الاشتراكية ذات الطبقة الواحدة , حيث ستسود المشاعية كصيغة للتنظيم الاجتماعي في المستقبل ، كما سادت في الماضي السحيق   ، وستتلاشى الدولة التي كانت أداة للسيطرة والقهر.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن ماركس لم يصف هذه الحياة المستقبلية للشيوعية بأي استطراد , كما أن عدم تحقق أول مجتمع اشتراكي بأوروبا يعد برهانا على خطأ التنبؤ التاريخي الماركسي ، فالتطور الذي عرفته أوربا أدى إلى تقوية النظام الرأسمالي أكثر مما سبق ، وأصبح العمال الأوربيون   أنفسهم إحدى ركائز هذا النظام ، وجزءا منه ، فبعد وفاة كارل ماركس عرفت   أوربا تقدما في التعليم والتكنولوجيا والثقافة الإنسانية ، فقد اتسعت المبادئ الحقوقية ، وتغيرت طبيعة التركيبة الطبقية للمجتمع الأوروبي، فأصبحت الطبقة البروليتارية طبقة أخرى تتمتع بكثير من الحقوق والامتيازات ، فقد اختفت ساعات العمل الطويلة ، وارتفعت الأجور، وتحسنت الأحوال التأمينية ، واختفت حدة التناقضات الطبقية ، وتغيرت أشكال الصراع تماما ، حتى إن الصراع الطبقي بالمفهوم الماركسي لن يعود له ظهور مجدد في المستقبل الأوروبي ، كما أنه حتى الأحزاب التي تبنت شعارات الماركسية والمساواة عندما كانت خارج الحكم انتقلت مباشرة إلى الهرمية بعد الاستحواذ على السلطة , وهذه معضلة تنظيمية   تفسر التباين بين الشيوعية المساواتية التي وصفها ماركس والشيوعية السلطوية التي جربها السوفيات وشعوب أخرى .
بعض الانتقادات الموجهة إلى المادية التاريخية :
يؤخذ على أفكار هذه المدرسة وأصحابها (..) التفسير التعسفي للمادة التاريخية (..) فعلى الرغم مما تناولته المادية التاريخية عند كارل ماركس من قضايا مثل الحتمية التاريخية ، والتطور التاريخي ، والصراع الطبقي بهدف دراسة علمية للتاريخ إلا أن نظريته في تفسير التاريخ جاءت بعيدة عن علمية التاريخ , حيث أهملت العوامل القومية والعقائدية والمذهبية والنفسية والروحية وغيرها .
فالصواب عند تفسير التاريخ الإدراك أن تاريخ الإنسان تكونه عوامل كثيرة ليس الاقتصاد إلا عاملا واحدا منها , فهناك أشياء كثيرة في التاريخ غير العامل الاقتصادي , فالإنسان لا يقصر حياته على أن يحبو على بطنه , فهناك أشياء تحفز الإنسان للعمل ، والتي هي غير الاقتصاد بتاتا .
لقد بالغت الماركسية في إعطاء الاقتصاد الدور المسيطر في حركة التاريخ (..) وتجاهلت التأثيرات الروحية الكبرى في الانتفاضات الاجتماعية ، وبالأخص إذا كانت الأيديولوجيات الدينية هي المحرض الأول , لذلك نجد مثلا البروفيسور دي .ايج كول الذي يعد من أشد الناس احتراما للماركسية يرفض أن يعترف بالعامل الوحيد الذي يقرر الكيان الاجتماعي لأية أمة ، إذ يقول في كتابه "   معنى الماركسية   : " ٌلقد أظهرت بحوث علم الإنسان (الانتربولوجية) أشكالا حضارية مختلفة جدا لا يمكن أن تفسر قط تفسيرا اقتصاديا محضا (..)أن الأساس الاقتصادي للمجتمع عامل واحد فقط من عوامل تصوير الشكل العام للحضارة " لذلك لا يجب تفسير التاريخ على أساس مبدأ واحد (..) وإنما على أساس عدد من العوامل المعقدة المتشابكة التي تتداخل معا .
كما يؤخذ على المادية التاريخية أنها تعتبر الإنتاج وحده هو الذي يحدد شكل العلاقات بين الأفراد , وأن قوانين الصراع الطبقي ونمو التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية هي فقط القوانين الحقيقية التي تحكم مسيرة التاريخ , فجميع الدوافع السيكولوجية في حركة التاريخ تدعمها في الباطن الأحوال المادية .
يعد ماركس مثالا للقائلين بالحتمية التاريخية , وأخذ بعلة واحدة في تفسير التاريخ هي النمط الاقتصادي السائد في المجتمع , وحاول أن يفسر من خلاله أنماط الحياة الأخرى السائدة فيه ، وعلاقة ذلك بالإنتاج , وما يؤدي إليه من تطور حتمي نحو طور معين من أطوار الحضارة الإنسانية .     
كما أن أصحاب هذه المدرسة لم يأخذوا التاريخ كنموذج يستنبطون منه قانون حركته , وإنما اختاروا بضع مراحل وأحداث هي التي وجدوا فيها مصداق كلامهم ، وأهملوا الباقي ، حيث ركزوا على التاريخ الأوربي .
  كما أن قضايا عديدة تظل محل تساؤل فيما يخص تحكم وسائل الإنتاج في علاقات المجتمع , فعند ماركس مثلا أن القبائل الرحل التي تعيش على الصيد لا تحترم المرأة ، وتنظر إليها نظرة احتقار ؛ لأنه لا فائدة منها في الصيد( … ) لكن لما أخذ الشعب بالزراعة ارتفعت مكانة المرأة ، وازداد دورها الاجتماعي..وأخذ الرجال ينظرون إليها نظرة احترام وتقدير, إن السبب الرئيسي لهذا التغير الجذري سببه اقتصادي , لكن ما هو مسجل عندنا أن شعوبا عديدة كانت تمتهن الزراعة لم تحترم نساءها (..) قدامى الألمان والرومان مثلا وغيرهم.
لقد حاول كارل ماركس أن يصوغ القوانين الاجتماعية على غرار القوانين الطبيعية (..) وكان في ذهنه هدف واحد (..) وهو أن يبرهن بطريقة ما على أن أسلوب الإنتاج في الحياة المادية هو الذي يعين الطابع العام لطرق الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية , وعلى هذا الأساس فإن التاريخ الإنساني هو تاريخ الصراع الناشب بين الطبقات الاجتماعية (..) وأن الحالة الاقتصادية هي التي تحدد بصفة قاطعة النظم الأخلاقية والدينية والاجتماعية والسياسية.
فرغم اعتبار الجهود الرامية لإرضاء الحاجات المادية (..) هي عوامل أساسية في التاريخ الإنساني , إلا أن التصور بأن جميع وجوهها محددا في النهاية بهذه الاحتياجات وطرق إرضائها قد حورب , ويمكن أن يحارب على أساس من وقائع التاريخ نفسه , فإذا كانت نظرية هيغل القائلة بأن الفكر أساس كل ما هو موجود (..) وأن العقل الإنساني يتحرك دائما متقدما نحو الأمام ليصل إلى العلم المطلق , قد بلغت القمة في التجريد (..) فإن الماديين الذين انتقدوا مذهبه (..) ذهبوا في تفسيرهم مذهبا خالصا , وهكذا انتقلوا من النقيض إلى النقيض , ووقعوا في مبالغات كثيرة غير منطقية , فبدلا من أن يقوم ماركس بتعديل وضعية الرجل الهيغيلي الذي يمشي على رأسه , فقد أخطأ المحاولة ، وجعل الرجل المسكين يمشي على بطنه على معدته   .
العامل الديني في التفسير المادي للتاريخ :
التفكير المادي لا يؤمن إلا بالمحسوس , ويستبعد الغيبيات من مجال بحثه , ولا يسلم أصلا بوجودها , يقول انجلز :" إن العالم المادي الذي ندركه بحواسنا ، والذي نحن جزء منه هو الحقيقة الوحيدة  " ٌ.
ولقد ظهر المنهج المادي كرد فعل للمنهج الروحي المستمد من المسيحية ، والذي يحط من قيمة المادة ، ويعلل الحوادث والإسبال بالمشيئة الإلهية وحدها , في حين أن المادية ترجع كل شيء حتى الدين والأخلاق والفكر والفلسفة والثقافة والقانون إلى انعكاسات للأحوال الاقتصادية والمصالح الطبقية (..) فتاريخ ارتقاء المجتمعات (..) هو قبل كل شيء ارتقاء الإنتاج , فالمادية تهتم بتفسير الأحداث تفسيرا ماديا ينكر الدين ، بل تعتبر الدين في التاريخ وسيلة تبنتها الأقلية لتستغل الأغلبية ،   وذلك بتحويلهم إلى ما في الحياة الآخرة من سعادة وجزاء حسن **** .
فالماركسية تنكر الغيبيات ، وتنكر الحياة الأخرى فهي لا تقر بوجود الله ، لا كخالق ولا كعناية في التاريخ , فما الدين والإيمان (..) إلا وهما شكل على مر التاريخ وسيلة تبنتها أقلية الناس لاستغلال الأكثرية , فالدين يثني انتباه الأكثرية عن هدفها ، ويبعدها عن مشاكل الحياة ، وعن المصير الحالي إلى مصير ما بعد الموت   , لأنه يمنيها بالثواب والسعادة العلوية الأبدية في حياة الخلد الدائمة ، بينما تدير الأقلية الشئون الدنيوية ، وتتمتع بالوفرة التي ينتجها عمل الأكثرية , فالدين إذن من بقايا النظم الاستغلالية البالية , ولونا من ألوان الخداع صنعته بعض الناس ليستعبدوا به كل الناس (..) ومن واجب الشيوعيين أن ينبذوه ، ويتحللوا من قيوده ، ويبرؤون من كل آثاره ؛ لأنه يحول بين الناس وبين نضالهم لنيل حقوقهم ، فقد زعم ماركس أن الدين أفيون الشعوب , وهو يخفي وراء قشرة أيديولوجية الاستغلال الطبقي لصالح الفئة الحاكمة , لذلك فعندما تقوم الثورة ، ويحطم العمال النظام الرأسمالي ، ويتحقق الفردوس الأرضي ، فلا مكان للروح في مثل هذا المجتمع , وليس هناك حياة أخرى ، ولا عالم روحي ؛ لأن الإنسان خاضع للضرورات المادية , وأما الآداب والأخلاق فليس لها مصدر علوي , وإنما هي وسيلة لحفظ المجتمع .
وتعد الماركسية الديانات الحديثة جميعها والكنائس وكل   أنواع المنظمات الدينية آلة لرد الفعل البرجوازي الذي يستهدف الاستغلال ضد مصالح الطبقة العاملة , يقول ميخائيل باكونين في كتابه"   الله والدولة"  من أجل تقدم الحرية وجب نبذ الاعتقاد في الله ، أما انجلز فيقول في كتابه ضد دهرنك ليس الدين سوى انعكاس خيالي وهمي في أذهان الناس من القوى الخارجية التي تسيطر على حياتهم اليومية , وهو انعكاس تتخذ فيه قوى هذا العالم شكل قوى ما فوق الطبيعة ، أي أن القوى الأرضية تتخذ شكل قوى فوق أرضية (..)
هذا يعني أن ما أسميناه انعكاسا لواقع معين قد انفصل عن أصله الواقع ؛ حتى أصبح في ذهن الناس عالما آخر في استقلال تام عن قاعدته ؛ ليعود بدوره للتأثير في هذا الأساس كقوى مجردة عاقلة (..) وأصبح المخلوق الآلهة تتحكم بمصائر الخالقين , وفي كتاب أرسله لينين إلى الكاتب الروسي ماكسيم نموركي يقول لينين   : إن البحث عن الله لا فائدة منه ، ومن العبث البحث عن شيء غير موجود , وبدون أن نزرع لا نستطيع أن نحصد ، وليس لك إله لأنك لم تخلقه بعد , والآلهة لا يبحث عنها ، وإنما تخلق ..
كما يقول لينين نفسه في فصل عن الدين والاشتراكية ما يلي : الدين يعلم هؤلاء الذين يكدحون طول حياتهم في الفقر والاستسلام والصبر في هذه الدنيا , ويغريهم بالأمل في المثوبة بالعالم الآخر .
فالإلحاد إذن جزء طبيعي من فلسفة الماركسية ، وهو شيء لا ينفصل عنها , فهو ليس إلا انعكاسا لعجز البشر الطبيعي والاجتماعي , فدائما كان هناك وفي جميع الطبقات أناس يشكون في إمكانية الخلاص المادي (أي بالنضال الطبقي المكشوف ) فيبحثون عن الخلاص الروحي كبديل للخلاص المادي , يبحثون عن السلوان الذي يحفظهم من اليأس , هذا السلوان الذي لم يجدوه في الفلسفة (..) بل وجدوه في الدين , إن الفرد الفاشل الذي لا يستطيع حل مشاكله المتعاقبة قد يلجأ إلى الخمرة أو المخدرات أو الانتحار أو التصوف .
ويزعم أصحاب التحليل المادي أن انتشار الأديان مرتبط بالظروف المادية التي عاش فيها الإنسان الأول ، فيقولون : إن الإنسان الفطري في العهد البدائي كان يقف عاجزا أمام الظواهر الطبيعية كالرعد والفيضانات وغيرها   ، وكان ذلك قبل خمسين أو أربعين ألفا من الأعوام (..) فالطبيعة متقلبة بين خيرها وشرها ، والإنسان ضعيف (..) في الجسم والعقل ، ولا يقدر دائما على قهر القوى الطبيعية الجبارة ، ولا حتى على فهمها , إنه يحبها ويخافها ، ومن هنا نشأ الدين , قام على الخوف من الظواهر الطبيعية الرهيبة ، كما عبر الفيلسوف ديموقريط , فجهل الإنسان بأسباب الظواهر الطبيعية يجعله يردها إلى إرادة عليا , فيسعى إلى كسب عطفها ، والتماس أسباب الزلفى إليها بتقديم القرابين ، واصطناع ألوان شتى من العبادات ، ومن ثم نشأ الإيمان بالقوى الغير المنظورة ، وعبادة تلك القوى(..) لكن نظام الرأسمالية الجاثم على صدور الناس يستطيع أن يسلط على الإنسان الفقر والبطالة (..) فتجد الرأسمالية نفسها مضطرة إلى الاستعادة بالقوى الغير المنظورة ، أي بقوة الله ؛ لأنها مضطرة إلي التبرير إلى إقناع الآخرين بما هي نفسها غير مقتنعة به ، الدوغما الدينية (أي التعاليم الدينية بعد تحجيرها ) وهذا الإيمان يلاءم الطبقة المستغلة , إذ يصرف جموع الشعب عن الكفاح في سبيل السعادة الدنيوية ، ويجعلها تتعلق بأوهام البعث , ويغري الناس بان يشتغلوا بالعبادة , ويخضعوا للطبقة المستغلة , ويتقبلوا النظام الرأسمالي على أنه نظام لا مفر منه ، وقضاء لا مرد له , ومن شان الطبقة البرجوازية أن تؤيد الروح الدينية لتضمن سيطرتها على الطبقة العاملة   ، وتتلاعب بوعي الجماهير ..
 ويبقى السؤال الذي طرحه العديدون هو أنه إذا كان الدين مجرد انعكاس للظروف المادية التي يعيش فيها الناس كما تقول الماركسية , فلا مجال لأكثر من دين واحد في وقت واحد ، ولكننا نجد أن الإسلام والمسيحية والهندوكية ، وعشرات الأديان الأخرى تسيطر على عقول ناس يعيشون في نفس الظروف الاقتصادية , كما أنه ألا يمكن اعتبار الماركسية نفسها فكرة دينية باعتبار أن الفكرة الدينية تتدخل إما بطريقة مباشرة وإما بطريقة غير مباشرة بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها.
فإذا كانت الماركسية رفضت الدين كوحي الهي فإنها صاغت دينا أرضيا يخضع للمزاج البشري على المستويين الفكري والتطبيقي , ولاشك أن الفلسفة الماركسية تمثل هنا الدين الأرضي ، حيث تحول إنجيل يسوع المسيح إلى إنجيل ماركس ، وتحولت المطامح التواقة إلى ملكوت الرب الإله إلى مطامح متشبثة بالفردوس الأرضي الذي لم يتحقق , ألم تدفع فكرة ماركس المؤمنين بها إلى التضحية في سبيلها ، وبالتالي فإن قانون الفكرة الدينية ينطبق على الشيوعية إذن , فحيثما زالت فكرة الله من التقويم الاجتماعي والسياسي فإنه تحل محلها أفكار أخرى ، وقيم مغايرة ، مثل فكرة الدولة ، أو قيمة المجتمع ، أو فكرة الشيوعية ، وتسمى بالديانات البديلة .
كما أنه ألا يمكن اعتبار الماركسية نفسها نتاج الظروف الاقتصادية التي عاشتها أوروبا , فإذا كانت الكنيسة قد تحالفت مع البرجوازية , فإنها لم تعد خلاصا روحيا لأولئك الفقراء أصحاب الطبقة العاملة , فاتجهوا لاعتناق الماركسية   باعتبارها سلوانا تمنيهم بمستقبل أفضل ، وبفردوس أرضي يتساوى فيه الجميع , وبذلك تكون الماركسية قد حلت محل الدين ، لكن بصفة مغايرة وبديلة .
ــــــــــــــ
الهوامش :
* كان ماركس ومن تبعه من الشيوعيين لا يفهمون طبيعة النفس البشرية ، وأنها ليست اجتماعية كاملة ، وإنما تجنح إلى الذاتية وحب التملك ، كما كان يجهل أن قصة النزاع بين البشر قديمة ، ونشأت مع ابني آدم أبو البشرية ( قابيل وهابيل ) وبالتالي استحالة تطبيق مفهوم الاشتراكية بالطريقة التي فهموها . إدارة الموقع .
** هو يختصر بذلك تاريخ البشرية الذي يمتد ملايين السنين في الحقبة التي ساد فيها الإقطاع ، ويحسب أن البشرية كانت تتطور نحو الأسوأ دائما ، مع إن تاريخ البشرية كان يتأرجح بين الصلاح والفساد ، يطرأ الفساد فيأتي الأنبياء فيعودوا بالبشرية لطور الصلاح بعد تطهيرها من المعاندين ، ثم يموت النبي فينسى الناس رسالته مع مرور الوقت ، وهكذا تتكرر التجارب ..  إدارة الموقع
*** هذا الكلام المعسول الذي خضع به الشيوعيون السذج في العالم لينضموا إليهم ، وخاصة من المسلمين الذين فطروا على تصديق كل ما يقال لهم ، وانتهت الشيوعية ، ولم تحقق مما قالوا شيئا ، بل غلبت الرأسمالية وجشعها ؛ لأنها لم تجد المعارض لها ذي الأسس السليمة  . إدارة الموقع
**** لم يكن ماركس أو أي من الشيوعيين قد اطلع على سير الأنبياء الذين أرسلهم الله لإصلاح البشرية ، وإنما على سير أحبار ورهبان هيمنوا على الناس فعلا في الغرب ، وهم الذين وصفهم الله في القرآن بقوله : " إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل .." لذا كان في اتهامهم بمحاولة سيطرة القلة على الأغلبية تحت ستار الدين بعض الصحة ، وكان على من صدقوا مقولة : إن الدين أفيون الشعوب في عالمنا الإسلامي أن يعرفوا أنه ليس الدين الذي شرعه الله لخلقه ، وإنما الذي ابتدعه القساوسة ليتألهوا به على الناس ..
  منقول للفائدة
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire