الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

dimanche 19 mai 2013

الحسن والحسين
للشيخ محمد رضا


تمهيد
يدور بحث هذا الكتاب كما هو ظاهر من عنوانه على الحسن والحسين ابني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، أما الإمام عليّ فقد أفردت له كتاباً خاصاً، وقبل البدء في هذا التاريخ، رأيت أن أمهد له حتى يلم القارىء بمجمل الحوادث المهمة منذ بدء خلافة عليّ رضي الله عنه حتى يسهل تتبُّع ما فصَّلناه من كتابنا هذا.
لما بويع لعليّ رضي الله عنه بالخلافة أراد التخلص من طلحة والزبير اللذين كانا يطمعان فيها وقد كان لهما أتباع في الحجاز والعراق، فأبيا مبايعته وقامت عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين في وجه عليّ بعد أن كانت ساخطة على عثمان تطالب بدمه فانضم إليها طلحة والزبير وكانت تبغض علياً رضي الله عنه بسبب حادثة الإفك، فالتقى جيشها بجيش عليّ في 9 ديسمبر سنة 656، فهزمها في موقعة الجمل وقُتل طلحة والزبير في هذه الموقعة وأُسرت عائشة ثم سيَّرها عليّ إلى المدينة معزَّزة مكرَّمة، وبذلك انتهت أول موقعة حارب فيها المسلمون المسلمين.

واتخذ عليّ رضي الله عنه الكوفة عاصمة للخلافة بعد أن عزل ولاة عثمان ثم طالب معاوية بن أبي سفيان الذي كان وقتئذ والياً على الشام بدم عثمان وعلق قميصه الذي قتل فيه وأصابع زوجته نائلة بجامع دمشق، يريد بذلك إثارة عواطف المسلمين على عليّ وطلب منه أن يسلم إليه قتلة عثمان، وعلى ذلك اشتد النزاع بينهما، والتقى الجيشان بصفين شمال الرقة على ضفة الفرات الغربية، وكان جيش عليّ مؤلفاً من 50000 مقاتل من أهل العراق، وخرج معاوية بأهل الشام واستمرت المناوشات بينهما عدة أسابيع وكانت الموقعة الختامية في 26 يوليو سنة 657م وقائد جيش عليّ مالك الأشتر، وبينما كان هذا الجيش على وشك الانتصار، اقترح عمرو بن العاص رفع المصاحف، فرفعت على سنان الرماح ولوّح بها في الهواء أمام جيش عليّ وطلبوا تحكيم القرآن، فوقف القتال وتباحث الفريقان في هذه المسألة، واضطر عليّ إلى قبول التحكيم تجنباً لإراقة الدماء، فاختار معاوية عمرو بن العاص حكماً، واختار جيش عليّ أبا موسى الأشعري رغماً عن معارضة عليّ لهذا الاختيار لأنه كان يعلم أن أبا موسى الذي اعتزل القتال لا يصلح لهذه المهمة، وانتهى التحكيم بخلع عليّ، ولم يكن معاوية في ذلك الوقت خليفة بل كان والياً فرفعه التحكيم إلى مستوى عليّ الذي كان خليفة المسلمين، وكان قبول التحكيم نكبة على عليّ رضي الله عنه، إذ انشق عليه كثير من أتباعه لذلك وتسموا بالخوارج وناصبوه العداوة وجندوا جيشاً منهم يبلغ 4000 وحاربوه بقيادة عبد الله بن وهب الراسبي، فاشتبك القتال بالنهروان، فأبادهم عليّ ولم ينج منهم غير قليل، وأخيراً اغتيل عليّ رضي الله عنه، اغتاله خارجيّ يدعى عبد الرحمن بن ملجم.

وبعد وفاة عليّ بويع لابنه الحسن بالخلافة في العراق، لكن ما لبث الحسن أن تنازل لمعاوية تجنباً لإراقة دماء المسلمين في حرب داخلية، ولم يكن لكثرة زواجه تأثير في تنازله كما زعم فريق من المستشرقين، وكان الذين بايعوا الحسن 40000 أو نحو ذلك من أهل العراق لكنه لم يكن يثق بهم لما رأى من تفرق كلمتهم، ومع ذلك لو كان محباً للقتال لاستطاع جمع شملهم وتجنيد جيش منهم، لكنه رأى أن الحرب الداخلية تضعف المسلمين إذ قتل كثير من كبار الصحابة في موقعة الجمل وصفين بسبب النزاع على الخلافة، وأخيراً قتل أبوه غدراً فآثر اجتناب الحرب بأن ترك الأمر لمعاوية بعد أن اشترط عليه شروطاً قبل بعضها ورفض البعض الآخر وانتقل إلى المدينة تاركاً كل عداء، أما معاوية فكان لا يزال حاقداً على عليّ رضي الله عنه فأباح شتمه بالشام وأهمل احتجاج الحسن على ذلك، ثم مات الحسن رضي الله عنه مسموماً؛ سمّته امرأته جعدة لأمر لا نعلمه، وقالت الشيعة إن معاوية أغراها على ذلك ليولي ابنه يزيد الخلافة بعده وكان الحسن اشترط أن يكون هو الخليفة.
أما الحسين فإنه أبى أن يبايع يزيد بن معاوية لأنه أحق بالخلافة ولأن يزيد كان متهماً في دينه وعدله، فاعتزم المسير إلى الكوفة بعد أن أتته كتب عديدة باستقدامه لمبايعته بالخلافة، فسار ومعه نفر قليل من أهله وصحبه ولم يعبأ برأي من نصحه بالعدول عن المسير، فلما علم يزيد بذلك ولَّى عبيد الله بن زياد على الكوفة وعزل النعمان بن بشير إذ قيل عنه إنه ضعيف وعيّن ابن زياد عمر بن سعد قائداً على جيش يبلغ عدده 4000 لمحاربة الحسين، فحاربه في كربلاء وهي قرية على بُعد 25 ميلاً من شمال غربي الكوفة فقتل الحسين في هذه المعركة بعد أن جرح جراحات كثيرة وقتل من كان معه وأرسل رأسه إلى يزيد بدمشق، وصارت الشيعة بعد ذلك تحتفل باليوم العاشر من المحرم وهو يوم عاشوراء وتقيم مناحة عليه.

وعلى ذكر الشيعة نقول إن كثيراً منهم يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى في مرضه لعليّ ولم يصح ذلك من وجه يعوَّل عليه وقد أنكرت الوصية عائشة رضي الله عنها. وزعمت طائفة منهم أن النبي أوصى على إمامة عليّ بالوصف دون النص وزعموا أيضاً أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة عليّ وقالوا إن الحسن بن عليّ كان هو الإمام بعد أبيه ثم أخاه الحسين كان إماماً بعد الحسن.
ولما قُتل الحسين ندمت الشيعة وقتئذ على تقاعدهم عن نصرته ورأوا أن لا كفارة في ذلك إلا الاستماتة دون الأخذ بثأره وسموا أنفسهم التوابين وكان رئيسهم سليمان بن صرد فحارب وقتل، وقتل كثير من أصحابه عام 65هـ، ثم قام المختار بن أبي عبيد بثأر الحسين بن عليّ وقتل الذين قتلوه.

أهل البيت
أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أقرب الناس إليه، وقد خصَّهم بعطفه ورعايته، وكرَّمهم الله تعالى وخصَّهم بالطهارة وذهاب الرجس عنهم، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال سعيد بن جبير وعكرمة وابن السائب ومقاتل، هذا هو القول الأول.
والقول الثاني: أن المراد بأهل البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعليّ والحسن والحسين، قاله أبو سعيد الخدري وعائشة وأم سلمة.
ويرى فريق ثالث: أن أهل البيت هم عصبة رسول الله من المؤمنين وهم آل جعفر وآل عقيل وآل عباس.
وقال الزمخشري: إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، وقال الرستغني: والصحيح عندي، أن المراد بأهل بيته نساؤه وآله، وهو قول الضحاك، واختيار الزجاج؛ لأن اللفظ صالح لهما عام فيهما.
وسئل زيد بن الأرقم عن حديث رسول الله: ((أذكّركم الله في أهل بيتي)) من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته.

قالت عائشة رضي الله عنها: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثم جاء عليّ فأدخله معه، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة فيقول: ((الصلاة أهل البيت، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً})).
وعن أم سلمة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم عندي وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، فجعلت لهم خزيرة فأكلوا وناموا وغطى عليهم عباءة أو قطيفة ثم قال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)).
وعن أبي الحمراء قال: رابطت في المدينة سبعة أشهر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب عليّ وفاطمة فقال: ((الصلاة، الصلاة، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً})).
وقال تعالى: {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى} (الشورى: 23) قال ابن عباس: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قرابة فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوا، قال: ((يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم، لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم)).

وعن أبي الديلم قال: لما جيء بعليّ بن الحسين رضي الله عنهما فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة.

فقال له عليّ بن الحسين رضي الله عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أقرأت ال حم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ ال حم، قال: ما قرأت {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى} (الشورى: 23)، قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم.
ولا شك أن علياً وأولاده من أقرب أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحسن بن علي رضي الله عنهما
(سنة 3هـ ـــ 49هـ = 625م ـــ 669م)
ترجمة الحسن بن علي رضي الله عنهما
سنة 3هـ (625م) ـــ 49هـ (669م)
الحسن بن عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشيّ الهاشميّ، سبط النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو أول أولاد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء العالمين، وهو سيد شباب أهل الجنة وريحانة النبي صلى الله عليه وسلم وشبيهه، سمَّاه رسول الله الحسن وعقّ عنه يوم سابعه (ذبح شاة) وحلق شعره وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة، وهو خامس أهل الكساء (المجد والشرف).
ولد الحسن في النصف من شهر رمضان بالمدينة المنورة سنة ثلاث من الهجرة.
قالت أم الفضل: يا رسول الله رأيت كأن عضواً من أعضائك في بيتي، قال: ((رأيت خيراً، تلد فاطمة غلاماً فترضعيه بلبن قثم))، فولدت الحسن فأرضعته بلبن قثم (ابنها).

تسميته بالحسن
:
قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لما ولد الحسن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أروني ابني ما سميتموه؟)) قلت: سميته حرباً. قال: ((بل هو حسن))، فلما ولد الحسين سميناه حرباً، قال: ((بل هو حسين)) فلما ولد الثالث، جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أروني ابني ما سميتموه))؟ قلت: سميته حرباً، قال: ((هو مُحسن))، ثم قال: ((سميتهم بأسماء ولد هارون شبر وشبير ومشبر)). وتوفي محسن صغيراً.

قال أبو أحمد العسكري: سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن وكنَّاه أبا محمد ولم يكن يعرف هذا الاسم في الجاهلية.

صفته رضي الله عنه
:
كان الحسن أبيض، مشرباً بحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، كثّ اللحية، وكان يخضب بالوسمة.

أخلاقه وفضائله رضي الله عنه
:
كان الحسن حليماً، كريماً، ورعاً ذا سكينة ووقار وحشمة، جواداً، ممدوحاً، ميالاً للسلم، يكره الفتن وإراقة الدماء، ما سمعت منه كلمة فحش قط، إلا أنه كان كثير الزواج، مطلاقاً للنساء، ولا يفارق امرأة إلا وهي تحبه وكان أبوه رضي الله عنه يأخذ عليه كثرة الطلاق ويخشى عواقبها حتى قال: يا أهل الكوفة لا تزوّجوا الحسن فإنه رجل مطلاق. فقال رجل من همدان: والله لنزوّجنه فمن رضي أمسك ومن كره طلّق.
وأخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: إن الحسن يتزوج ويطلق حتى خشيت أن يورثنا عداوة القبائل.
وكان الحسن لا يشارك في دعوى ولا يدخل في مراء ولا يدلي بحجة حتى لا يرى قاضياً، كان يقول ما يفعل، ويفعل ما لا يقول، تفضلاً وتكرُّماً، كان لا يغفل عن إخوانه، ولا يتخصَّص بشيء دونهم، لا يلوم أحداً فيما يقع العذر في مثله، إذا ابتدأه أمران لا يدري أيهما أقرب إلى الحق نظر فيما هو أقرب إلى هواه فخالفه، وكان قاضيه قاضي أبيه، وكذلك كاتبه، ولم يكن له حاجب.

كرمه رضي الله عنه
:

سأله رجل صدقة ولم يكن عنده ما يسدّ به رمقه فاستحى أن يردّه، فقال له: ألا أدلك على شيء يحصل لك منه البر؟ قال: بلى، فما هو؟ قال: اذهب إلى الخليفة فإن ابنته توفيت وانقطع عليها وما سمع من أحد تعزية، فعزّه بقولك له: الحمد لله الذي سترها بجلوسك على قبرها ولا هتكها بجلوسها على قبرك. فذهب الرجل وفعل ما قال له، فذهب عن الخليفة حزنه وأمر له بجائزة وقال له: أكلامك هذا؟ قال: لا، بل كلام فلان، قال: صدقت فإنه معدن الكلام الفصيح، وأمر له بجائزة أخرى اهـ.
إن من يلوذ بأهل البيت، لا يرد خائباً بل ينال ما يريد وفوق ما يريد، فإنهم منبع الكرم والجود والإحسان، قد كان في استطاعة الحسن أن يعتذر لمن سأله بأن ليس لديه شيء يعطيه ويكون عذره وقتئذ مقبولاً، لكنه التمس له طريقة يفرج بها كرب السائل فأشار عليه بما تقدم، فنال ما نال، فانظر الفرق الشاسع بين بخل الأغنياء الذين يدّعون الفاقة والعوز وينتحلون ألف عذر إذا قصدهم فقير أو محتاج قد ضاقت أمامه السبل، ولا يشفقون على حاله وهم يكنزون المال، وبعضهم يتظاهر بالصلاح والطيبة، ولا ينفق شيئاً لمحتاج لشدة محبته للمال، فهو شديد الحرص شديد التقتير لا يبالي عاش الناس أم ماتوا جوعاً، وقد ضرب لنا الحسن رضي الله عنه وغيره من أهل البيت والصالحين أمثالاً في الكرم والجود ونكران الذات نحتذي حذوها ونقتدي بها، لكنا قد تركناها وتغاضينا عنها فكره الناس بعضهم بعضاً، وامتلأت قلوبهم حقداً وحسداً.
وسمع الحسن رضي الله عنه رجلاً يسأل ربه أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف الحسن إلى منزله وبعث بها إليه.
وسأله رجل وشكا إليه حاله، فدعا الحسن وكيله وجعل يحاسبه على نفقاته ومقبوضاته حتى استقصاها، فقال: هات الفاضل، فأحضر خمسين ألف درهم، ثم قال: ماذا فعلت بالخمسمائة دينار التي معك؟ قال: عندي، قال: فأحضرها، فلما أحضرها دفع الدراهم والدنانير إلى الرجل واعتذر منه

وقيل للحسن رضي الله عنه: لأي شيء نراك لا ترد سائلاً وإن كنت على فاقة؟ فقال: إني لله سائل وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأرد سائلاً، وإن الله تعالى عوّدني عادة، عوّدني أن يفيض نعمه عليّ، وعوّدته أن أفيض على الناس، فأخشى إن قطعت العادة أن يمنعني العادة وأنشد يقول:
إذا ما أتاني سائل قلت مرحباً
بمن فضله فرض عليّ معجّلُ
ومَن فضلُه فضل على كل فاضل
وأفضل أيام الفتى حين يُسألُ
وخرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم حجَّاجاً، فلما كانوا ببعض الطريق جاعوا وعطشوا وقد فاتتهم أثقالهم، فنظروا إلى خباء فقصدوه فإذا فيه عجوز، فقالوا: هل من شراب؟ فقالت: نعم، فأناخوا بها وليس عندها إلا شويهة، فقالت: احلبوها واشربوا لبنها، ففعلوا ذلك، فقالوا لها: هل من طعام؟ قالت: هذه الشويهة، ما عندي غيرها، فأنا أقسم عليكم بالله إلا ما ذبحها أحدكم حتى أهيّىء لكم الحطب فاشووها وكلوا، ففعلوا ذلك، وأقاموا عندها حتى أبردوا، فلما ارتحلوا من عندها، قالوا لها: يا هذه نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه فإذا رجعنا سالمين، فألمي بنا فإنا صانعون بك خيراً إن شاء الله تعالى، ثم ارتحلوا، وأقبل زوجها فأخبرته الخبر فغضب وقال: ويحك تذبحين شاتنا لقوم لا نعرفهم ثم تقولين نفر من قريش

ثم بعد دهر طويل أصابت المرأة وزوجها السنة فاضطرتهم الحاجة إلى دخول المدينة فدخلا يلتقطان البعر فمرّت العجوز في بعض سكك المدينة ومعها مكتلها تلتقط فيه البعر، والحسن رضي الله عنه جالس على باب داره، فنظر إليها فعرفها فناداها وقال لها: يا أمة الله، هل تعرفينني؟ فقالت: لا، فقال: أحد ضيوفك يوم كذا، سنة كذا في المنزل الفلاني، فقالت: بأبي أنت وأمي، لست أعرفك، قال: فإن لم تعرفيني، فأنا أعرفك، فأمر غلامه فاشترى لها من غنم الصدقة ألف شاة وأعطاها ألف دينار وبعث بها مع غلامه إلى أخيه الحسين رضي الله عنه، فلما دخل بها الغلام على أخيه الحسين عرفها وقال: بكم وصلها أخي الحسن؟ فأخبره فأمر لها بمثل ذلك، ثم بعث بها مع الغلام إلى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، فلما دخلت عليه عرفها وأخبره الغلام بما فعل معها الحسن والحسين رضي الله عنهما، فقال: والله لو بدأت بي لأتعبتهما وأمر لها بألفي شاة وألفي دينار، فرجعت وهي أغنى الناس. ومن كرمه رضي الله عنه: أنه أعطى شاعراً مالاً كثيراً فقيل له: أتعطي شاعراً يعصي الرحمن ويقول البهتان؟ فقال: إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك، وإن من ابتغاء الخير اتقاء الشر.
وقد روي مثل ذلك عن الحسين رضي الله عنه، وقيل: إن شاعراً مدحه فأجزل ثوابه، فليم على ذلك، فقال: أتراني خفت أن يقول: لست ابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ابن عليّ رضي الله عنه فيصدّق ويحمل عنه ويبقى مخلداً في الكتب، محفوظاً على ألسنة الرواة أنت والله يا ابن رسول الله أعرف بالمدح والذم مني.

تربيته ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم له
:

لما كان الحسن والحسين رضي الله عنهما ابني بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوهما عليّ بن أبي طالب ابن عم الرسول وربيبه، فقد تربيا تربية عالية ونشآ على الفضائل في بيئة من أرقى البيئات وأشرفها وقد سمعا الحديث، وكان عليه الصلاة والسلام يحبهما ويرعاهما ويعلمهما.
روى الحسن أحاديث حفظها عن النبي صلى الله عليه وسلم منها في السنن الأربعة، قال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر، الحديث.
ومنها عن أبي الحوراء قلت للحسن: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخذت تمرة من تمر الصدقة فتركتها في فمي فنزعها بلعابها، الحديث.
وفي الحديث: ((هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما)).
ومن رعاية رسول الله لهما أنه بينما كان يخطب إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، الحديث.
وكان رسول الله يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما فإذا قضى الصلاة وضعهما في حجره فقال: ((من أحبني فليحبّ هذين)).
ودخل عليّ وفاطمة ومعهما الحسن والحسين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعهما في حجره فقبلهما واعتنق علياً بإحدى يديه وفاطمة بالأخرى فجعل عليهم خميصة سوداء (كساء) فقال: ((اللهم إليك لا إلى النار)).
وفي البخاري عن أبي بكرة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن عليّ معه وهو يقبل على الناس مرة وعليه مرة ويقول: ((إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)). قال: فلما ولي لم يهرق في خلافته محجمة من دم.

ولا شك أن الحسن والحسين ورثا عن جدهما وأبيهما فصاحة اللسان وقوة الجنان وحضور البديهة والكرم والحلم، وقد تعلما القرآن والتفسير من عليّ رضي الله عنه وأهل بيته وكبار الصحابة وتلقيا الحديث عنهم وكان عليّ يقول الشعر وينطق بالحكمة وكذلك نشأ ولداه رضي الله عنهما.

قصة الحسن واليهودي الفقير
اغتسل الحسن رضي الله عنه وخرج من داره في بعض الأيام وعليه حلَّة فاخرة ووفرة ظاهرة ومحاسن سافرة، فعرض له في طريقه شخص من محاويج اليهود وعليه مسح من جلود، قد أنهكته العلة، وركبته القلة والذلة، وشمس الظهيرة قد شوت شواه وهو حامل جرة ماء عَلَى قفاه، فاستوقف الحسن رضي الله عنه وقال: يا ابن رسول الله سؤال، قال: ما هو؟ قال: جدك يقول: ((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)) وأنت مؤمن وأنا كافر، فما أرى الدنيا إلا جنة لك تتنعم بها، وما أراها إلا سجناً عَلَيّ قد أهلكني ضرها وأجهدني فقرها.
فلما سمع الحسن كلامه قال له:
يا هذا، لو نظرت إلى ما أعد الله لي في الآخرة لعلمت أني في هذه الحالة بالنسبة إلى تلك في سجن، ولو نظرت إلى ما أعد الله لك في الآخرة من العذاب الأليم لرأيت أنك الآن في جنة واسعة.

عُرف اليهود منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدس وابتكار الأكاذيب والترهات وتشكيك المسلمين في عقائدهم، وقد حاربهم الرسول في المدينة وأجلاهم عنها لخيانتهم ونقضهم العهود والمواثيق، وقد أسلم بعضهم عن عقيدة صحيحة لكن بقي أكثرهم حانقاً على المسلمين، وكان رئيس المنافقين عبد الله بن أُبيّ بن سلول وقد مضى ذكره في سيرة الرسول، وهذا هو عبد الله بن سبأ الذي صار يتنقل في البلدان ويبث الدعاية ضد عثمان بن عفان رضي الله عنه ويحض على الثورة، وفي هذه القصة التي ذكرناها هنا نجد أن هذا اليهودي يعترض على الحسن لما رآه يرتدي ملابس فاخرة ويذكر له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)) فكيف يتنعم الحسن في الدنيا وهو مؤمن ويشقى اليهودي وهو كافر؟ ولماذا لا يكون حالهما بالعكس إذا كان حديث رسول الله صادقاً؟ سؤال يريد به إحراج الحسن من جهة وتشكيكه في حديث رسول الله من جهة أخرى، لكن الحسن رضي الله عنه كان حاضر البديهة، فأجاب بجواب مقنع مفحم حيث أوضح له أن حالته التي يشكو منها إنما هي كالجنة بالنسبة إلى عذاب الآخرة الذي أعد للكافرين وأن حالة الحسن التي ظنها نعيماً إنما هي كالسجن بالنسبة إلى نعيم الجنة الذي أعد للمتقين.h

زواج الحسن رضي الله عنه
كان الحسن رضي الله عنه كثير الزواج كثير الطلاق لذلك قال المستشرقون عنه: إنه كان شهوياً ميالاً إلى اللذات والدعة وينفق لذلك أموالاً طائلة فسلم الأمر لمعاوية.
وروى المدائني: أن الحسن أحصن في زمان أبيه تسعين امرأة فقال علي رضي الله عنه:
لقد تزوج الحسن وطلق حتى خفت أن يجني علينا بذلك عداوة أقوام. وقد كان عليّ غير راض عن كثرة زواج الحسن وطلاقه حتى خطب يوماً ونهى القوم أن يزوِّجوه لكنه كان يجد من تتزوجه.

قال ابن سيرين: تزوج الحسن امرأة فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم ولا ريب أن كثرة الزواج والطلاق تحتاج إلى كثرة الانفاق.
قال سفيان بن عيينة: كثرة النساء ليست من الدنيا، وأنكر بعض الناس حال الصوفية فقال له بعض ذوي الدين: ما الذي تنكر منهم؟ قال: يأكلون كثيراً، قال: وأنت أيضاً لو جعت كما يجوعون لأكلت كما يأكلون، قال: ينكحون كثيراً، قال: وأنت أيضاً لو حفظت عينيك وفرجك كما يحفظون لنكحت كما ينكحون.
لكن هل الصوفية يجوعون أكثر من غيرهم؟ إن العمال الذين يشتغلون طول النهار في أعمال جسمانية مرهقة هم الذين يجوعون أكثر من كل إنسان ومع ذلك لا ننصحهم بكثرة الأكل وهم في العادة يكتفون بالقليل من الطعام، ثم إن الذي يحفظ عينيه وفرجه لا يميل إلى كثرة النكاح بل يكون قانعاً معتدلاً لعدم انشغال عقله وخياله بالمغريات والمحرضات
وقال الغزالي: ولما كانت الشهوة أغلب على مزاج العرب، كان استكثار الصالحين منهم للنكاح أشد.
وقال: من الطباع ما تغلب عليه الشهوة بحيث لا تحصنه المرأة الواحدة فيستحب له الاستبدال، فقد نكح عليّ رضي الله عنه بعد وفاة فاطمة عليها السلام بسبع ليال، ويقال إن الحسن بن عليّ كان منكاحاً حتى نكح زيادة على مائتي امرأة وكان ربما عقد على أربع في وقت واحد وربما طلق أربعاً في وقت واحد واستبدل بهن.
صحيح أن من الطبائع ما تغلب عليه الشهوة لكن ليس بهذه الدرجة، فحالة الحسن رضي الله عنه حالة شاذة لا يقاس عليها وكان مع ذلك تقيًّا ورعاً متديناً.
وجَّه الحسن ذات يوم بعض أصحابه لطلاق امرأتين من نسائه وقال لهما: اعتدا. وأمره أن يدفع إلى كل واحدة منهما عشرة آلاف درهم، ففعل، فلما رجع إليه، قال: ماذا فعَلتا؟ قال: أما إحداهما: فنكست رأسها وتنكست، وأما الأخرى فبكت وانتحبت وسمعتُها تقول: متاع قليل من حبيب مفارق.

فأطرق الحسن وترحم لها، وقال: لو كنت مراجعاً امرأة بعدما فارقتها لراجعتها.
ودخل الحسن ذات يوم على عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقيه المدينة ورئيسها ولم يكن له بالمدينة نظير وبه ضربت المثل عائشة رضي الله عنها حيث قالت: لو لم أسر مسيري ذلك لكان أحب إليّ من أن يكون لي ستة عشرة ذكراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فدخل عليه الحسن في بيته فعظمه عبد الرحمن وأجلسه في مجلسه، وقال: ألا أرسلتَ إليّ فكنتُ أجيئك؟ فقال: الحاجة لنا، قال: وما هي؟ قال: جئتك خاطباً ابنتك، فأطرق عبد الرحمن ثم رفع رأسه وقال: والله ما عَلَى وجه الأرض أحد يمشي عليها أعزّ عَلَيّ منك؛ ولكنك تعلم أن ابنتي بضعة مني يسوءني ما ساءها ويسرُّني ما سرَّها وأنت مطلاق فأخاف أن تطلقها، وإن فعلت خشيت أن يتغير قلبي عليك فأنت بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن شرطت أن لا تطلقها زوّجتك، فسكت الحسن وقام وخرج.
وقال أهل بيته: سمعناه وهو يمشي ويقول: ما أراد عبد الرحمن إلا أن يجعل ابنته طوقاً في عنقي.
وليس لكثرة زواج الحسن علاقة بتسليم الأمر لمعاوية كما وهم المستشرقون فإن توليه الخلافة كان يُسهل له كثرة الزواج والطلاق، والإسلام يبيح له أن يتخذ من الرقيق ما شاء، هذا وفي التاريخ ملوك كانوا يتخذون كثيراً من الجواري والمحظيات ومع ذلك لم يكن ذلك سبباً في تخليهم عن الملك وشاغلاً لهم عن الحكم، بل روى لنا التاريخ أن من ملوك الإفرنج الذين لا يبيح لهم دينهم تعدد الزوجات مَنِ اتّخذ محظيات لا عدد لهن.

أولاد الحسن رضي الله عنه
أولاد الحسن رضي الله عنه أحد عشر وهم:
1 ـــ زيد.
2 ـــ والحسن وأمه خولة بنت منصور الفزارية.
3 ـــ والقاسم.
4 ـــ وأبو بكر.

5 ـــ وعبد الله ـــ وهؤلاء الخمسة قتلوا مع عمهم الحسين بن عليّ بالطّفّ، وهي أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية فيها كان مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما.
6 ـــ وعمرو بن الحسن.
7 ـــ وعبد الرحمن.
8 ـــ والحسين الملقب بالأشرم.
9 ـــ ومحمد.
10 ـــ ويعقوب.
11 ـــ وإسماعيل.

رأي الحسن رضي الله عنه في مواقف أبيه
كان الحسن رضي الله عنه يرى أن يخرج أبوه عليّ كرم الله وجهه من المدينة عندما كان عثمان بن عفان محصوراً حتى إذا قتل عثمان لم يكن بها، وألا يبايع حتى تأتيه وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، وأن يجلس في بيته لما خرج عليه طلحة والزبير حتى يصطلحا، فإن كان الفساد كان على يد غيره، لكن عليًّا رضي الله عنه خالفه ولم ير رأيه، وقال يرد عليه:
أما قولك لو خرجت من المدينة حين أُحيط بعثمان، فوالله لقد أُحيط بنا كما أُحيط به.
وأما قولك لا تبايع حتى تأتيك بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع الأمر.
وأما قولك حين خرج طلحة والزبير، فإن ذلك كان وهناً على أهل الإسلام، ووالله ما زلت مقهوراً مذ وليت منقوضاً لا أصل إلى شيء مما ينبغي.
وأما قولك اجلس في بيتك، فكيف لي بما قد لزمني؟ أو من تريدني؟، أتريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها ويقال دَبَابِ دبابِ، ليست هاهنا حتى يُحل عُرقوبها ثم تخرج، وإذا لم أنظر فيما لزمني من الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟ فكفّ عنك أي بنيّ.
أشار الحسن على والده بهذا الرأي من غير أن يضع نفسه في مركزه ويقدر شعوره ومركزه ومسؤوليته، فإن علياً كان يرى البقاء وعدم الخروج من المدينة عندما كان عثمان محصوراً لئلا يقال إنه ترك الرجل محصوراً وفي أشد حالات الخطر وفر ليخلي نفسه من المسؤولية بتخليه عنه وربما قيل إنه بخروجه سهّل على الحاصِرين قتله، فوق أن الخروج كان متعذراً عليه كما تقدم في قوله.

ثم إنه لم يلزم بيته وبايع لأنه كان يرى نفسه أحق من غيره بالخلافة لأسباب شتى، منها: أنه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وربيبه وابن عمه ومن أول الناس إسلاماً، ومن أعظم المجاهدين في سبيل الله، ولشجاعته وعلمه وفضله ولأنه على العموم كان أفضل الناس بعد مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه، فرجل في مركزه وقدره لا يمكن أن يترك الأمور ويقعد في بيته.
ومع أن الحسن رضي الله عنه كان لا يرى رأي أبيه في هذا، كان يطيع أوامره، فلما أمره أن يبقى على باب عثمان أثناء الحصار أطاعه، ولما خرجت عائشة رضي الله عنها لمحاربة أبيه لم يتركه بل انضم إليه مع أنه كان يرى أن يلزم أبوه داره بالمدينة، ولما سمع أبا موسى يثبط أهل الكوفة بقوله: إنها فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، فأغمدوا السيوف وانصلوا الأسنة واقطعوا الأوتار وآووا المظلوم والمضطهدين حتى يلتئم هذا الأمر.

رد عليه الحسن قائلاً:
يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يُخاف على شيء وهذا يدل على أنه يثق بأبيه كل الثقة.
ثم خاطب أهل الكوفة يحثهم على إجابة دعوة أبيه أمير المؤمنين:
يا أيها الناس أجيبوا دعوة أميركم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النّهي أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم.
وكان لهذا الكلام أثره في النفوس، ثم قال:
أيها الناس إني غاد فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظَّهر ومن شاء فليخرج في الماء.
فخرج معه تسعة آلاف، وأما أبو موسى فأخرجه الناس من قصره واعتزل بناء على أمر أمير المؤمنين وتهديده.
بيعة الحسن رضي الله عنه سنة 40هـ (661م)

بعد أن ضرب ابن ملجم علياً رضي الله عنه، دخل عليه جندب بن عبد الله فسأله فقال: يا أمير المؤمنين، إن فقدناك ولا نفقدك فنبايع الحسن، فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر، فدعا حسناً وحسيناً فقال:
أوصيكما بتقوى الله وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شيء زوى عنكما وقولا الحق وارحما اليتيم وأغيثا الملهوف واصنعا للآخرة، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً، واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكم في الله لومة لائم.
لم يعيّن أمير المؤمنين أحداً للخلافة بل ترك الأمر للأمة تولي من تشاء لأنها كما قال: أبصر بمن يصلح للخلافة بعده، ثم أوصى ابنيه بتقوى الله عز شأنه إذ هي رأس كل فضيلة وقول الحق وأن يكونا للظالم خصماً ــــ وإن كان الظالم قوياً أو سيداً في قومه ــــ وللمظلوم ناصراً وهذا عين العدل ودليل على قوة النفس والبعد عن الميل والتحيز.
بويع للحسن بالكوفة في شهر رمضان من سنة 40هـ بعد وفاة أبيه بيومين وقيل إن أول من بايعه، قيس بن سعد الأنصاري، قال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله عزّ وجلّ وسنة نبيه وقتال الْمُحِلين.
فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنة نبيه، فإن ذلك يأتي على كل شرط. فبايعه وبايعه الناس وكان الذين بايعوه 40000.
وكتب إليه ابن عباس:
إن الناس قد ولوك أمرهم بعد عليّ فاشدد عن يمينك وجاهد عدوك، واستر من الضنين ذنبه بما لا يثلم دينك واستعمل أهل البيوتات، تستصلح بهم عشائرهم.

لما بايع أهل العراق الحسن، بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه في جيش قدره 60000 فتجهز هو وجيش الذين بايعوا علياً وعدته 40000 مقاتل وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية وكان قد نزل (مَسْكِن) فوصل الحسن إلى المدائن وجعل قيس بن سعد الأنصاري على مقدمته في اثني عشر ألفاً. وقيل: بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبد الله بن عباس فجعل عبد الله على مقدمته في الطلائع قيس بن سعد، فلما نزل الحسن المدائن، نادى مناد في العسكر: ألا إن قيس بن سعد قتل فانفروا، فنفروا بسرادق الحسن فنهبوا متاعه حتى نازعوه بساطاً كان تحته.

وعدا عليه الجراح بن الأسد ليسير معه فوجأه بالخنجر في فخذه ليقتله، فقال الحسن:
قتلتم أبي بالأمس ووثبتم عليّ اليوم تريدون قتلي زهداً في العادلين ورغبة في القاسطين، والله لتعلمن نبأه بعد حين.
فازداد لهم بغضاً ومنهم ذعراً، ودخل المقصورة البيضاء بالمدائن، وكان الأمير على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد، فقال له المختار وهو شاب: هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: تستوثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية، فقال له عمه: عليك لعنة الله أثب على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقه؟ بئس الرجل أنت.
نزول الحسن عن الخلافة لمعاوية سنة 41هـ (661م) عام الجماعة
تفرق أهل العراق عن الحسن رضي الله عنه ولم يستطع تأليف جيش منهم لمحاربة معاوية، فكتب إليه وذكر له شروطاً، وقال له: إن أنت أعطيتني هذا، فأنا سامع مطيع وعليك أن تفي لي به. وقال لأخيه الحسين وعبد الله بن جعفر: إنني قد راسلت معاوية في الصلح، فقال له الحسين: أنشدك الله أن تصدق أحدوثة معاوية وتكذب أحدوثة أبيك فقال له الحسن: أسكت أنا أعلم بالأمر منك.

وكان رأي الحسين رضي الله عنه أن يحارب الحسن معاوية كما حاربه أبوه عليّ رضي الله عنه، لكن الحسن علم تفرق الأمر عنه، وأنه لو حارب معاوية بجيش غير متحد وغير راغب في القتال لما أحرز النصر فأراد أن يحقن دماء المسلمين ويصالح معاوية.
فلما انتهى كتاب الحسن إلى معاوية، فرح فرحاً شديداً، وأمسك الكتاب وكان قد أرسل عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سَمُرة بن حبيب بن عبد شمس إلى الحسن وكتب إليه: أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمتُ أسفلها ما شئت فهو لك، فلما أتت الصحيفة إلى الحسن اشترط أضعاف الشروط التي سأل معاوية قبل ذلك وأمسكها عنده.
فلما سلم الحسن الأمر إلى معاوية، طلب أن يعطيه الشروط التي في الصحيفة التي ختم عليها معاوية فأبى، وقال: لقد أعطيتك ما كنت تطلب، فلما اصطلحا، قام الحسن في أهل العراق فقال:
إنه سخَّى بنفسي عنكم ثلاث: ــــ أي الأسباب التي جعلتني أتخلى عنكم وأزهد فيكم وأسلم الأمر إلى معاوية ــــ قتلكم أبي، وطعنكم إياي ــــ وكان قد طُعن ــــ وانتهابكم متاعي يعني أنه قد فقد الثقة بهم.
وكان الذي طلب الحسن من معاوية أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة وقدره خمسة آلاف ألف أي خمسة ملايين درهم (15000 جنيه في السنة) وخراج دارابْجِرد من فارس (ولاية) وأن لا يشتم عليًّا، فلم يجبه إلى الكف عن شتم عليّ، فطلب أن لا يُشتم وهو يسمع، فأجابه إلى ذلك ثم لم يف له به أيضاً.

ولا ندري كيف أباح معاوية شتم عليّ رضي الله عنه ولا سيما بعد أن قُتل، نعم إن عليًّا حاربه لأنه امتنع عن بيعته، وجرد جيشاً لقتاله بحجة المطالبة بدم عثمان ولأنه كان يرى نفسه أنه أحق بالخلافة من معاوية، وعلى كل حال لا يجوز شتمه رضي الله عنه، وكان لا يليق بمعاوية أن يبيح شتم رجل شريف أسلم صبيًّا وتربى في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد في الإسلام جهاداً صادقاً وزوّجه الرسول ابنته فاطمة، أحب بناته إليه، وأثنى عليه في كثير من المواطن، مع ما عرف عن معاوية من الحلم والعقل.
قال المسعودي: ثم ارتقى بهم (بأهل الشام) الأمر في طاعته (طاعة معاوية) إلى أن جعلوا لعن عليّ سنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير.
وذكر بعضهم أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم: مَن أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر؟ قال: أراه لصًّا من لصوص العرب.
أما خراج دارابجرد، فإن أهل البصرة منعوا الحسن منه وقالوا هو فيئنا لا نعطيه أحداً، وكان منعهم بأمر معاوية أيضاً.
وتسلم معاوية الأمر لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة، ولما عزم الحسن رضي الله عنه على تسليم الأمر إلى معاوية، خطب الناس فقال:
أيها الناس أمراؤكم وضيفانكم ونحن أهل بيت نبيكم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. وكرر ذلك حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه (نحيبه).
ولما صالح الحسن معاوية كان أصحاب الحسن يقولون له: يا عار المؤمنين فيقول: العار خير من النار.
وجاء الحسن شيخ يكنى أبا عامر سفيان بن ليلى فقال: السلام عليكم يا مذلَّ المؤمنين، فقال: لا تقل يا أبا عامر فإني لم أذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب الملك.
وسلم الحسن الأمر إلى معاوية في النصف من شهر جمادى الأولى من سنة 41هـ فبايع الناس معاوية يومئذٍ وهو ابن ست وستين إلا شهرين.

وبعد أن سلم الحسن الأمر لمعاوية، بقي قوم يرون أنه كان يجب أن يحارب الحسن معاوية؛ لأنه أحق بالخلافة، كان الحسين يرى هذا الرأي.

خطبة الحسن بالكوفة بعد الصلح
لما دخل معاوية الكوفة، قال له عمرو بن العاص: لتأمر الحسن أن يقوم فيخطب الناس ليظهر لهم عِيُّه وأنه لا يصلح للخلافة، فخطب معاوية الناس ثم أمر الحسن أن يخطبهم، فقام فحمد الله بديهة ثم قال:
أيها الناس إن الله هداكم بأولنا، وحَقَنَ دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله عزَّ وجلَّ قال لنبيه: {وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (الأنبياء: 111).
فلما قال الحسن ذلك، قال له معاوية: اجلس. وحقدها على عمرو، وقال: هذا من رأيك، فبنو أمية لم يكونوا مخلصين في صلحهم، وقد خشي معاوية أن يستمر الحسن في خطبته لئلا يؤثر في نفوس سامعيه فتحدث فتنة فأمره بالجلوس.

الحسن يصف أهل الكوفة
لحق الحسن بالمدينة وأهل بيته وحشمه، وجعل الناس يبكون عند مسيرهم من الكوفة، فقيل للحسن: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قوماً لا يثق بهم أحد أبداً إلا غُلب، ليس منهم أحد يوافق آخر في رأي ولا هوى، مختلفين لا نيّة لهم في خير ولا شر، لقد لقي أبي منهم أموراً عظاماً، فليت شعري لمن يصلحون بعدي، وهي أسرع البلاد خراباً.
هذا ما وصف به الحسن أهل الكوفة، وإذا كان في الاتحاد قوة ففي التدابر والفرقة ضعف، فإذا كان أهل الكوفة هكذا متفرقين في الرأي لا تجمعهم كلمة فكيف يقاتلون عدوهم؟ وكيف يثق بهم القائد؟ إن أول شرط في الجيش أن يكون مطيعاً لأمر القائد وإلا فشل وانهزم.

الحسن يدافع عن أبيه أمام معاوية
روى الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات، قال:

اجتمع عند معاوية، عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وعتبة بن أبي سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة، وقد كان بلغهم عن الحسن بن علي عليه السلام قوارص، وبلغه عنهم مثل ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين إن الحسن قد أحيا أباه وذكره، وقال فصدق، أمر فأطيع وخفقت له النعال، والله إن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوءنا، قال معاوية: فما تريدون؟ قالوا: ابعث إليه فليحضر لنسبَّه ونسبَّ أباه ونعيّره ونوبخَه ونخبره أن أباه قتل عثمان ونقرره بذلك ولا يستطيع أن يغيّر علينا شيئاً من ذلك، قال معاوية: إني لا أرى ذلك ولا أفعله، قالوا: عزمنا عليك يا أمير المؤمنين لتفعلن، فقال: ويحكم لا تفعلوا فوالله ما رأيته قط جالساً عندي إلا خفت مقامه وعيبه لي، قالوا: ابعث إليه على كل حال، قال: إن بعثت إليه لأنصفنَّهُ منكم، فقال عمرو بن العاص: أتخشى أن يأتي باطله على حقنا، أو يربي قوله على قولنا؟ قال معاوية: أما إني إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلم بلسانه كله، قال: مره بذلك، قال: أما إذا عصيتموني وبعثتم إليه وأبيتم إلا ذلك فلا تمرضوا له في القول واعلموا أنهم أهل بيت لا يعيبهم العائب ولا يلصق بهم العار ولكن اقذفوه بحجر تقولون له إن أباك قتل عثمان وكره خلافة الخلفاء من قبله. فبعث إليه معاوية، فجاءه رسوله، فقال: إن أمير المؤمنين يدعوك، قال: مَن عنده؟ فسماهم؛ فقال الحسن عليه السلام: ما لهم خرَّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون؛ ثم قال: يا جارية، ابغيني ثيابي، اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأدرأ بك من فجورهم وأستعين بك عليهم فاكفنيهم كيف شئت وأنَّى شئت بحول منك وقوة يا أرحم الراحمين. ثم قال: فلما دخل على معاوية أعظمه وأكرمه وأجلسه إلى جانبه وقد ارتاد القوم وخطروا خطران الفحول بغياً في أنفسهم وعلوًّا، ثم قال: يا أبا محمد، إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني، فقال الحسن عليه السلام:

سبحان الله الدار دارك؛ والإذن فيها إليك، والله إن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا وما في أنفسهم إني لأستحيي لك من الفحش، وإن كانوا غلبوك عَلَى أمرك إني لأستحيي لك من الضعف، فأيهما تقر وأيهما تنكر؟ أما إني لو علمت بمكانهم لجئت معي بمثلهم من بني عبد المطلب وما لي أن أكون مستوحشاً منك ولا منهم، إن وليِّ الله وهو يتولى الصالحين، فقال معاوية: يا هذا، إني كرهت أن أدعوك ولكن هؤلاء حملوني على ذلك مع كراهتي له وإن لك منهم النَّصَف ومني، وإنما دعوناك لنقررك أن عثمان قُتل مظلوماً وأن أباك قتله، فاستمع منهم ثم أجبهم ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم أن تتكلم بكل لسان، فتكلم عمرو بن العاص، فحمد الله وصلى عَلَى رسوله ثم ذكر علياً عليه السلام فلم يترك شيئاً يعيبه به إلا قال، وقال: إنه شتم أبا بكر وكره خلافته وامتنع من بيعته ثم بايعه مكرهاً، وشارك في دم عمر وقتل عثمان ظلماً وادعى من الخلافة ما ليس له، ثم ذكر الفتنة يعيّره بها وأضاف إليه مساوىء وقال: إنكم يا بني عبد المطلب لم يكن الله ليعطيكم الملك على قتلكم الخلفاء واستحلالكم ما حرم الله من الدماء وحرصكم عَلَى الملك وإتيانكم ما لا يحل، ثم إنك يا حسن تحدث نفسك أن الخلافة صائرة إليك وليس عندك عقل ذلك ولا لبه، كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك وتركك أحمق قريش، يُسخر منك ويُهزأ بك وذلك لسوء عملك؛ وإنما دعوناك لنسبَّك وأباك، فأما أبوك فقد تفرد الله به وكفانا أمره، وأما أنت فإنك في أيدينا نختار فيك الخصال ولو قتلناك ما كان علينا إثم من الله ولا عيب من الناس، فهل تستطيع أن ترد علينا وتكذبنا؟ فإن كنت ترى أنا كذبنا في شيء فاردد علينا فيما قلنا وإلا فاعلم أنك وأباك ظالمان.c


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire