الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

samedi 25 mai 2013

الدكتور مصطفى محمود القرآن - محاولة لفهم عصري

الدكتور مصطفى محمود

القرآن - محاولة لفهم عصري






مقدمة



مازال القرآن كتاب المسلمين المعجزة يتحدى العقول بعد ألف و أربعمائة عام من نزوله و كأنه نزل اليوم ليتحدث عن علوم اليوم و شواغل اليوم و أسرار اليوم و حروب اليوم.. و بين دفتيه سوف يفاجأ كل شغوف بعلوم الفلك و الطبيعة و الجيولوجيا و الطب و التشريح و الحياة بلمحات من هذه العلوم و بالجديد في علوم الباطن و النفس و الروح و ما وراء الطبيعة و بالجديد في عوالم الغيب و خفايا الزمن و المكان و المادة.. و بالجديد و المبهر في الأخلاق و الدستور و الشرائع و الأديان.

و قد ظل علماء الفلك يتحدثون عن سبعة كواكب تدور حول الشمس حتى نزلت آيات القرآن تتحدث عن أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر في سورة يوسف:

(( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) )) [ يوسف ]

و نعلم اليوم أن التلسكوبات الفلكية رصدت بالفعل أحد عشر كوكبا تدور مع الأرض و القمر على أبعاد شاسعة متفاوتة حول الشمس.. و هو أمر جديد تماما لم يعرف إلا قريبا.

و لم يكن أحد من العرب القدامى أيام الجاهلية يعلم شيئا عن البصمة المرسومة على طرف البنان و التي ينفرد بها كل مولود لتدل على شخصيته التي لا يشاركه فيها مخلوق حتى أخيه التوأم.. فإذا بكل إنسان له بصمته التي ينفرد بها.. فيقول ربنا في قرآنه المجيد عن يوم البعث الذي كان يشك فيه الجاهليون إن يوم القيامة سوف تقوم الأجساد من قبورها و سوف يعود الموتى إلى سالف هيئتهم.. و يقول لهذا الجاهلي الذي يشك في البعث:

(( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) )) [ القيامة ]

و يخص البنان بالتسوية لأنه الحامل للبصمة المعجزة الدالة على شخصيته المتفردة التي لا تتكرر و التي سوف تعود إليه يوم البعث.

هل كان العرب الأوائل يعلمون شيئا عن هذا ؟.. لم يكونوا يعلمون.. و لم يكن يعلم العرب و لا الفرنجة في أوروبا و لا في أمريكا شيئا عن هذه البصمة.. فنزلت كلمات القرآن قبل ألف و أربعمائة سنة لتعلن عنها.

كانت البصمة التي على البنان إعلاما قرآنيا بحتا.



هل كان علماء الأرض حينذاك يعلمون أن كل جبل له جذر ممتد تحت الأرض أكثر منه غلظة كالوتد ليزيده ثباتا (( وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) )) [ النبأ ] .. و أن هذه الجبال موزعة على محيط الأرض بشكل محسوب، و مقدر كثقالات ليكون دوران الأرض منتظما.. و هذه قضية معلومة الآن في الميكانيكا و الحركة.. إن هذه الثقالات الدائرة على الأطراف هي التي تنظم الحركة و تجعل الحركة منسابة غير قلقة.

(( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.. (25) )) [ الحديد ]

و تلك مفاجأة قرآنية أخرى، فقد جاءنا الحديد من السماء.. و كان ذلك بعملية تعدين سماوي خاص لعنصر الحديد.. هكذا يقول القرآن.. و نعلم الآن أن ذلك يحدث بالفعل عن طريق انفجار النجوم المستعرة شديدة الحرارة ( السوبر نوفا ) و بسبب شدة حرارتها فإنها تقذف إلى الأرض بدقائق ذرية مكهربة كالسهام تخترق الأرض و تصل إلى معادنها الباطنة و بفعل طاقتها الانفجارية الزائدة تؤدي إلى خلق الحديد بذراته المتدامجة المتماسكة شديدة الصلابة التي نعرفها، فيعاد إنشاء جزيئات الحديد على هذه الصورة الصلبة المتدامجة.

جاء الحديد الذي نعرفه بصلابته إذن بحقن سماوي للخام الأصلي في باطن الأرض و بفعل سماوي فوقي للنجوم المستعرة و بتعدين رباني.. فهو مصنوع بإرادة ربانية و عناية خاصة ليكتسب هذه الصلابة الفائقة لتكون فيما بعد.. دبابات و مجنزرات و سيوفا و دروعا و أسلحة قتالية فتاكة.. و لماذا حدث هذا الترتيب و التدبير؟ ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب.. إنه الامتحان لإيمان المؤمن و صلابته و ثباته في الحروب و لدحر الكفار و هزيمتهم.

و قد عشنا و سمعنا الرئيس الأمريكي ( كلينتون ) يعلن عن اكتشاف ( الجينيوم البشري ) عبر الإذاعات للعالم كله و يعلن عن فض رموز هذا ( الجينيوم ) الذي يتألف من ثلاثة مليارات حرف كيميائي و هو ما يملأ خمسة ملايين صفحة مدونة و كل هذا في حيز صغير متناهي الصغر في نواة الخلية ( بضعة أجزاء من المللي ) تحتوي على مقدرات هذا المخلوق الإنساني و صفاته البدنية و حظه من الصحة و المرض و القوة و الضعف و مواهبه و ملكاته و ما سيجري عليه من أحوال.. و كل هذا مدون بالتفصيل في مخطوطة شاملة لا تكاد ترى إلا بميكرسكوب إلكتروني.. معلومات تملأ خمسة ملايين صفحة في حيز متناه في الدقة لا يُرى..

و من الذي استطاع أن يدون هذه المخطوطة و بأي قلم و في مثل هذا الحيز الخرافي.. إلا الخالق جل جلاله.. و صدق القرآن العظيم:

(( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) )) [ الأعراف ]

(( و أشهدهم على أنفسهم )).. هذا إشهاد صريح و مفصل.

و الله يروي في قرآنه عملية الإشهاد.. كما يحكي عن هذا ( المانفستو ) الإلهي الذي اسمه ( الجينيوم البشري ).. و كيف أن كل مولود جاء و معه قصته و حكايته من الأزل مكتوبة في خلاياه و مسطورة في جيناته..

ثم ما حدث في هذا القرن من الزمان من إشهاد العالم كله على أصل الحكاية و بلسان أكبر زعيم لأكبر دولة.. هو الرئيس الأمريكي ( كلينتون ).

تلك الجينات.. من كتبها..؟! و من أودعها في هذه الحروف الكيمائية..؟!

و الإشهاد بهذا المفهوم الجديد أوسع و أشمل مما جاء في كتب التفسير القديمة.. فقد اشتركت الدنيا كلها في هذه المظاهرة الشهودية و كانت حديث الساعة و موضوع التفاخر و الاستعلاء بالنسبة لعلماء الغرب.. و قد اتخذوا منه حجة على موقفهم من الدين.. مع أنه حجة عليهم و ليس حجة لهم.. فهذا كتاب لا يمكن أن يكتبه مخلوق.. و لا مفر و لا معدى و لا مهرب من القول إن الذي كتب هو الذي خلق لأن الكتابة جاءت في صميم الخلقة و في الحشوة المخلوقة ذاتها و بالحروف الكيمائية لنفس المخلوق و هو عمل معجز لا يقدر عليه إلا الخالق الذي خلق.

كان هذا اليوم يوم إشهاد عالمي على عظمة القرآن و شموله و إحاطته و إعجازه و خلود آياته و قدرته على الحضور في كل عصر.. (( و أشهدهم على أنفسهم )).. و هذه ما حدث بالفعل، فقد شهد العالم كله من أدناه إلى أقصاه حكاية هذا ( الجينيوم البشري ) و مازالت الأيام تأتي بما يؤكد روعة هذا الكتاب و إعجازه و استباقه لما حدث و يحدث بطول أربعة عشر قرنا من الزمان.

و رحلتنا مع القرآن تبدأ و لا تنتهي.. و أفضل أن نأخذها على مهل.. و نخطوها خطوة خطوة من البداية.. من أول لقاء مع الحروف و الكلمات القرآنية و هي تقرع السمع و تتسلل إلى الوجدان و تنداح في القلب و تستقر في الأرواح لتؤلف في النهاية هذا الإحساس الغامر بالجمال و الجلال و الرهبة و بأن هذا الكلام يأتينا من فوق سبع سماوات.. و من وراء الغيب.

و موعدنا مع الطبعة الجديدة من كتاب.. ( القرآن محاولة لفهم عصري ).. و الذي يصدر في طبعة خاصة من كتاب مايو.. و لا ينتهي في الحب كلام.










المعمار القرآني



و كان أول لقاء لي مع القرآن و أنا في الرابعة من العمر طفلا أجلس في صف بين عدة صفوف في كتاب الشيخ ( محمود ) أحملق في بلاهة إلى سبورة و إلى مؤشر يتحرك في يد الشيخ على كلمات منقوشة بالطباشير و هو يتلو.. (( و الضحى و الليل إذا سجى )).. فنردد خلفه في آلية.. (( و الضحى و الليل إذا سجى )).. لا نفهم من الكلام حرفا.. و لا نعلم ما الضحى و لا كيف سجى.. و لكننا نردد مجرد مقاطع و مخارج حروف.

و كان عقلي آنذاك صفحة بيضاء نقية لم يكتب عليها شيء، و لم تتلق تأثيرا تربوبا خاصا، فقد نشأت في أسرة كل فرد فيها متروك لحاله.. يحب ما يحب، و يكره ما يكره، و يلعب حتى يشبع لعبا، و أذكر أني رسبت في السنة الأولى ثلاث سنوات دون أن أتلقى تعنيفا.. و كان الصفر بالقلم الأحمر يزين كل صفحة من كراساتي مرة بعد مرة فلا يثير إلا الضحك. و كانوا إذا سألوني ماذا أخذت اليوم، كنت أقول اختصارا للمهزلة و حتى لا أعود إلى شرح حكاية الصفر اليومي التي أصبحت بالنسبة لي مملة.. كنت أقول.. زي العادة.. و كانوا يضحكون.

هكذا كانت تجري الأمور في بيتنا، لا إرغام على مذاكرة و لا قهر على تدين.. و إنما لكل حياته.. و على كل تبعته.

لم نعرف غسيل المخ الذي عرفه كثير من الأطفال في أسر متزمتة تحشر العلم و الدين حشرا في عقول أطفالها بالكرباج و العصا.

كنت إذن أتلقى أول عبارة من القرآن بذهن أبيض تماما و دون تأثير مسبق مثلما أتلقى دروس الحساب و الجغرافيا و الإنشاء.

و كما بهرتني حكاية الكرة الأرضية المدورة و القارات كالجزر سابحة فيها، و كما بهرتني حكاية القمر يدور حول الأرض، و الأرض حول الشمس.. و الكل معلق في السماء، كذلك فعل بي القرآن شيئا.

و أحار في وصف الشعور الذي تلقيت به أول عبارة من القرآن.

و لا أجد الكلمات لتشرح هذا النوع من الاستقبال النفسي الغامض.. و كيف كانت الكلمات تعود من تلقاء نفسها فتراود سمعي و ذاكرتي و أنا وحدي فأراني أردد بلا صوت.. (( و الضحى و الليل إذا سجى )).

و تقتحم علي العبارة القرآنية سكون طفولتي فأتذكر في ظلام الليل إلقاء الشيخ و هو يردد: (( و جاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى )).

تسعى العبارة إلى خيالي و كأنها مخلوق حي مستقل له حياته الخاصة.

و قطعا أنا لم أكن أعلم ما الضحى و لا كيف سجى الليل.. و لا من هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى.

و لعل المقاطع كانت تتردد في سمعي أشبه بمقاطع سلم موسيقي.. ( صول لا سي دو ري مي فا ).. مجرد حروف لا معنى لها و لا وقع سوى مدلولها الموسيقي.. مجرد نغم و مازورات موسيقية و إيقاع يطرب الوجدان.

نعم.. لقد اكتشفت منذ تلك الطفولة البعيدة دون أن أدري حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة في العبارة القرآنية.

و هذا سر من أعمق الأسرار في التركيب القرآني.. إنه ليس بالشعر و لا بالنثر و لا بالكلام المسجوع.. و إنما هو معمار خاص من الألفاظ صفت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنة فيها.

و فرق كبير بين الموسيقى الباطنة و الموسيقى الظاهرة.

و كمثل نأخذ بيتا لشاعر مثل ( عمر بن أبي ربيعة ) اشتهر بالموسيقى في شعره.. البيت الذي ينشد فيه:

قال لي صاحبي ليعلم ما بي أتحب القتول أخت الرباب

أنت تسمع و تطرب و تهتز على الموسيقى.. و لكن الموسيقى هنا خارجية صنعها الشاعر بتشطير الكلام في أشطار متساوية ثم تقفيل كل عبارة تقفيلا واحدا على الباء الممدودة.

الموسيقى تصل إلى أذنك من خارج العبارة و ليس من داخلها. من التقفيلات ( القافية ).. و من البحر و الوزن.. أما حينما تتلو:

(( وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) )) [ الضحى ]

فأنت أمام شطرة واحدة.. و هي بالتالي تخلو من التقفية و الوزن و التشطير، و مع ذلك فالموسيقى تقطر من كل حرف فيها.. من أين ؟ و كيف ؟

هذه هي الموسيقى الداخلية.

الموسيقى الباطنة.

سر من أسرار المعمار القرآني لا يشاركه فيه أي تركيب أدبي.

و كذلك حينما تقول:

(( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) )) [ طه ]

و حينما تتلو كلمات زكريا لربه:

(( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) )) [ مريم ]

أو كلمة الله لموسى:

(( إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) )) [ طه ]

أو كلمته تعالى و هو يتوعد المجرمين:

((إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (74) )) [ طه ]

كل عبارة بنيان موسيقي قائم بذاته تنبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات و من ورائها و من بينها بطريقة محيرة لا تدري كيف تتم.

و حينما يروي القرآن حكاية موسى بذلك الأسلوب ( السيمفوني ) المذهل:

(( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) )) [ طه ]

كلمات في غاية الرقة مثل (( يبساً )) أو لا تخاف (( دركاً )) بمعنى لا تخاف إدراكاً.

إن الكلمات تذوب في يد خالقها و تصطف و تتراص في معمار و رصف موسيقي فريد هو نسيج وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقا و لاحقا.

لا شبه بينه و بين الشعر الجاهلي، و لا بينه و بين الشعر و النثر المتأخر، و لا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التاريخ برغم كثرة الأعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن.

في كل هذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصها تماما.. و كأنها ظاهرة بلا تبرير و لا تفسير سوى أن لها مصدرا آخر غير ما نعرف.

اسمع هذا الإيقاع المنغم الجميل:

(( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) )) [ غافر ]

(( فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ (95) )) [ الأنعام ]

(( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا.. (96) )) [ الأنعام ]

(( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) )) [ غافر ]

((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ.. (103) )) [ الأنعام ]

(( وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.. (89) )) [ الأعراف ]

ثم هذه العبارة الجديدة في تكوينها و صياغتها.. العميقة في معناها و دلالتها على العجز عن إدراك كنه الخالق:

((عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) )) [ الرعد ]

(( يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) )) [ الرعد ]

ثم هذا الاستطراد في وصف القدرة الإلهية:

((وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) )) [ الأنعام ]

و لكن الموسيقى الباطنية ليست هي كل ما انفردت به العبارة القرآنية، و إنما مع الموسيقى صفة أخرى هي الجلال.

و في العبارة البسيطة المقتضبة التي روى بها الله نهاية قصة الطوفان تستطيع أن تلمس ذلك الشيء (( الهائل )) (( الجليل )) في الألفاظ: ((وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ.. (44) )) [ هود ]

تلك اللمسات الهائلة.. كل لفظ له ثقل الجبال و وقع الرعود.. تنزل فإذا كل شيء، صمت.. سكون، هدوء، و قد كفت الطبيعة عن الغضب و وصلت القصة إلى ختامها:

((وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) )) [ هود ]

إنك لتشعر بشيء غير بشري تماما في هذه الألفاظ الهائلة الجليلة المنحوتة من صخر صوان و كأن كل حرف فيها جبل الألب.

لا يمكنك أن تغير حرفا، أو تستبدل كلمة بأخرى، أو تؤلف جملة مكان جملة، تعطي نفس الإيقاع و النغم و الحركة و الثقل و الدلالة.. و حاول و جرب لنفسك في هذه العبارة البسيطة ذات الكلمات العشر أن تغير حرفا أو تستبدل كلمة بكلمة.

و لهذا وقعت العبارة القرآنية على آذان عرب الجاهلية الذين عشقوا الفصاحة و البلاغة وقع الصاعقة.

و لم يكن مستغربا من جاهلي مثل الوليد بن المغيرة عاش و مات على كفره أن يذهل، و ألا يستطيع أن يكتم إعجابه بالقرآن، برغم كفره فيقول: و قد اعتبره من كلام محمد:

( و الله إن لقوله لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إن أعلاه لمثمر، و إن أسفله لمغدق و إنه ليعلو و لا يعلى عليه ).

و لما طلبوا منه أن يسبه قال:

( قولوا ساحر جاء بقول يفرق به بين المرء و أبيه، و بين المرء و أخيه، و بين المرء و زوجته، و بين المرء و عشيرته ).

إنه السحر حتى على لسان العدو الذي يبحث عن كلمة يسبه بها.

و إذا كانت العبارة القرآنية لا تقع على آذاننا اليوم موقع السحر و العجب و الذهول، فالسبب هو التعود و الألفة و المعايشة منذ الطفولة و البلادة و الإغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول لغتنا.. ثم أسلوب الأداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكرون السورة من أولها إلى آخرها بنبرة واحدة لا يختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البشرى من موقف العبرة. نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني و تتسطح العبارات.. و بالمثل بعض المشايخ ممن يقرأ القرآن على سبيل ( اللعلعة ) دون أن ينبض شيء في قلبه.. ثم المناسبات الكثيرة التي يُقرأ القرآن فيها روتينيا.. ثم الحياة العصرية التي تعددت فيها المشاغل و توزع الانتباه و تحجر القلب و تعقدت النفوس و صدأت الأرواح.

و برغم هذا كله فإن لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه من هذه البيئة اللزجة و يرتد فيها طفلا بكرا و ترتد له نفسه على شفافيتها، كفيلة بأن تعيد إليه ذلك الطعم الفريد و النكهة المذهلة و الإيقاع المطرب الجميل في القرآن.. و كفيلة بأن توقفه مذهولا من جديد بعد قرابة ألف و أربعمائة سنة من نزول هذه الآيات و كأنها تنزل عليه لساعتها و توها.

اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية بين رجل و امرأة بأسلوب رفيع و بكلمة رقيقة مهذبة فريدة لا تجد لها مثيلا و لا بديلا في أي لغة:

(( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا.. (189) )) [ الأعراف ]

هذه الكلمة (( تغشاها )).. تغشاها رجلها.

أن يمتزج الذكر و الأنثى كما يمتزج ظلان و كما يغشى الليل النهار و كما تذوب الألوان بعضها في بعض، هذا اللفظ العجيب الذي يعبر به القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين هو ذروة في التعبير.

و ألفاظ أخرى تقرؤها في القرآن فتترك في السمع رنيناً و أصداءً و صوراً حينما يقسم الله بالليل و النهار فيقول:

(( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) )) [ التكوير ]

(( عسعس )).. هذه الحروف الأربعة هي الليل مصورا بكل ما فيه.

(( و الصبح إذا تنفس )) إن ضوء الفجر هنا مرئي و مسموع.. إنك تكاد تسمع زقزقة العصفور و صيحة الديك.

فإذا كانت الآيات نذير الغضب و إعلان العقاب، فإنك تسمع الألفاظ تتفجر.. و ترى المعمار القرآني كله له جلجلة. اسمع ما يقول الله عن قوم عاد: (( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) )) [ الحاقة ]

إن الآيات كلها تصر فيها الرياح و تسمع فيها اصطفاق الخيام و أعجاز النخل الخاوي و صورة الأرض الخراب.

و الصور القرآنية كلها تجدها مرسومة بهذه اللمسات السريعة و الظلال المحكمة و الألفاظ التي لها جرس و صوت و صورة.

و لهذه الأسباب مجتمعة كان القرآن كتابا لا يترجم.

إنه قرآن في لغته. أما في اللغات الأخرى فهو شيء آخر غير القرآن: (( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.. (2) )) [ يوسف ] و في هذا تحديد فاصل.

و كيف يمكن أن تترجم آية مثل:

(( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) )) [ طه ]

إننا لسنا أمام معنى فقط. و إنما نحن بالدرجة الأولى أمام معمار.. أمام تكوين و بناء تنبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات، من قلبها لا من حواشيها، من خصائص اللغة العربية و أسرارها و ظلالها و خوافيها.

و لهذا انفردت الآية القرآنية بخاصية عجيبة.. إنها تحدث الخشوع في النفس بمجرد أن تلامس الأذن و قبل أن يتأمل العقل معانيها.. لأنها تركيب موسيقي يؤثر في الوجدان و القلب لتوه و من قبل أن يبدأ العقل في العمل.

فإذا بدأ العقل يحلل و يتأمل فإنه سوف يكتشف أشياء جديدة، و سوف يزداد خشوعا.. و لكنها مرحلة ثانية.. قد تحدث و قد لا تحدث.. و قد تكشف لك الآية عن سرها و قد لا تكشفه.. و قد تؤتى البصيرة التي تفسر بها معاني القرآن و قد لا تؤتى هذه البصيرة.. و لكنك دائما خاشع لأن القرآن يخاطبك أولا كمعمار فريد من الكلام بنيان.. ( فورم ).. طراز من الرصف يبهر القلب.. ألقاه عليك الذي خلق اللغة و يعرف سرها، و ليس أبدا محمد النبي الأمي الذي كان يرتجف كما ترتجف أنت و الوحي يلقي عليه بالآية: (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) )) [ العلق ] فيرتجف و يتصبب عرقا و لا يعرف من أي سماوات يلم به هذا الصوت الآمر.. و هو يلوذ بزوجته خديجة و هو لا يزال يرتجف فرقا لما سمع و قد بات يخشى على نفسه الجنون فتطمئنه خديجة بصوتها الحاني هامسة:

(( و الله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، و تحمل الكَل. و تكسب المعدوم.. و تقري الضيف، و تعين على نوائب الحق )).

و ينقطع عنه الوحي سنتين بعد هذه الكلمات القليلة الأولى، و يتركه في حيرة.. يذرع دروب الصحراء الملتهبة يكاد يجن من أمر هذا الصوت الذي نزل عليه ثم انقطع عنه.

و لو كان محمد مؤلفا لألف في هاتين السنتين كتابا كاملا.

و لكنه لم يكن أكثر من مستمع أمين سمع كما تسمع أنت تلك الكلمات ذات الموسيقى العلوية في لحظة صفاء و جلاء فذهل كما تذهل و صُعقت حواسه أمام هذا التركيب الفريد المضيء.

و بعد سنتين من الصمت عاد الصوت ليهتف في أذنه:

(( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) )) [ المدثر ]

ثم بدأت آيات القرآن تنزل متوالية. و لم يكن محمد من أدعياء المعجزات.

و يوم دفن ولده الوحيد إبراهيم حدث كسوف كلي للشمس فسره الناس على أنه معجزة و مشاركة من الطبيعة لحزن محمد فقال محمد كلمته المشهورة:

(( إن الشمس و القمر آياتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد و لا لحياته )).

و لو كان في طبعه الإدعاء لالتمس فيما حدث سببا للدعاية لنفسه، و لكنه كان الصادق الأمين من أول يوم في حياته إلى آخر يوم.

و الوحي يلقي إلى محمد بما لا يعلم محمد.

(( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) )) [ آل عمران ]

(( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) )) [ هود ]

و هو يلقي إليه بأسرار في التوراة و الإنجيل.. و لم تكن هذه الكتب قد ترجمت إلى العربية في ذلك العصر البعيد – و أول نص مسيحي ترجم إلى العربية هو مخطوط بمكتبة ( القديس بطرسبرج ) كتب حوالي عام 1060 ميلادية – كانت هذه الكتب أسرارا عبرية لا يعرفها إلا أصحابها.

و هو يتحدى اليهود بأن يخرجوا مخطوطاتهم و يقرأوها:

(( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) )) [ آل عمران ]

ثم هو يصحح بعض تفاصيل التوراة.

ففي رواية التوراة لقصة يوسف يقول النص إن إخوة يوسف استخدموا في سفرهم (( الحمير )) و القرآن يروي أنهم استخدموا (( العير )) و هي الإبل.

و الحمار حيوان حضري عاجز عن أن يجتاز مسافات صحراوية شاسعة لكي يجيء من فلسطين إلى مصر.. و حكاية العير هي حكاية أدق و أصدق:

ألم يلعن أرميا: (( أقلام النساخ الكاذبة )).

إن الوحي يلقي على محمد ما لا يعلمه محمد لا هو و لا أصحابه و لا قومه و لا نساخ التوراة و حفاظها.. ثم هو يلقي عليه من فواتح السور ما هو أشبه بالشفرة و الألغاز مثل: ( كهيعص ).. ( طسم ).. ( حم ).. ( عسق ) مما لم يقل لنا النبي إنه يعلم له تفسيراً.

و لو أن محمدا هو الذي وضع القرآن لبث فيه أشجانه و حالاته النفسية و أزماته و أحزانه.. و القرآن غير هذا تماما فهو يبدو من البدء إلى النهاية معزولا عن النفس المحمدية بما فيها من مشاغل و هموم.. بل إن الآية لتنزل مناقضة للإرادة المحمدية:

(( وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ.. (114) )) [ طه ]

كل هذا يضع أمامنا القرآن كظاهرة متعالية معزولة عن النفس التي أخبرتنا بها.. فهي لا أكثر من واسطة سمعت فأخبرت.

أما القرآن ذاته فهو – لفظا و معنى – من الله الذي أحاط بكل شيء علما.





مخير أم مسير


القرآن معمار فريد.. نسيج وحده.. في الطريقة التي تصف بها الألفاظ في رصف خاص يفجر ما بداخلها من نغم، و هو نغم لا ينبع من حواشي الكلمات و أوزانها و قوافيها و إنما من باطنها بطريقة محيرة مجهولة تماما.. و بطريقة تؤدي إلى خشوع المستمع و إدراكه الغامض للمصدر الجليل الذي جاءت منه.

فنحن نصبح أسرى للقرآن بمجرد الاستماع إليه.. و قبل أن نتعقل كلماته، فإذا بدأنا نتأمل و نتعقل و نحلل و نعكف على الكلمات فسوف تنفتح لنا كنوز من المعاني و المعارف و الأفكار تحتاج إلى مجلدات لشرحها، و لذلك سوف أكتفي بوقفات قليلة أمام بعض المشكلات الأزلية.. كيف تناولها القرآن؟ و ماذا قال فيها؟

و أولاها مشكلة الحرية.

و الحرية ثغرة كبيرة يدخل منها الشك و يتسلل منها هواة الجدل من الملحدين.. فأول ما يقوله الواحد منهم ليقيم الحجة على الدين كله أن يهتف محتجا:

(( إذا كان الله قدر علي أفعالي. فلماذا يحاسبني؟ ))

(( و إذا كان كل شيء يجري في الدنيا بمشيئة الله فما ذنبي؟ ))

و السؤال يطرح معضلة بالفعل.

و قد أوصى النبي – صلى الله عليه و سلم – أصحابه بعدم الدخول في جدل.

و قال لهم إذا جاء ذكر القدر فأمسكوا..

لأنه علم أن المعضلة من المعضلات الفلسفية العالية التي لا يتيسر الرد عليها بعلوم عصره.. و أن الجدل سوف ينزلق بهم إلى متاهة يضيعون فيها.. و لذا فضل الإيمان بالقلب على الثرثرة العقلية العقيمة..

و هي وصية لا تنسحب تماما على عصرنا، الذي دخلت فيه الفلسفة الجامعات درسا ميسرا يتلقاه ابن العشرين كل يوم.

و بذلك أصبح السؤال مطروحا بشدة.. و في حاجة إلى جواب و رد شاف من الفلسفة و من الدين و من صميم القرآن ذاته.

و من النظرة المبدئية للعالم بما فيه من أرض و سماوات و نجوم و كواكب نرى أنه يقوم على سلسلة محكمة من الأسباب و المسببات، و أن كل شيء فيه يجري بنظام محكم.. و إن كان لديك ورقة و قلم فإنك تستطيع أن تحسب بالضبط متى تشرق الشمس و متى تغرب، لأنها تتحرك حسب قانون.. و كل شيء في الدنيا يتحرك حسب قانون.

إلا الإنسان.. فإنه يشعر بأنه يمشي ( على كيفه ).

الإنسان وحده هو الحر المتمرد الثائر على طبيعته و ظروفه، و لهذا يصطدم بالعالم و يصارعه.. و يستحيل في أي لحظة أن يتنبأ أحد بمصيره.

و حكاية الحتمية الداخلية التي تصورها ( فرويد ) فاعتبر الإرادة بسببها حرة في الظاهر لكن مقيدة في الباطن و أسيرة لجبرية الغرائز و آلية الحوافز الباطنة.. عاد هو ذاته فنقضها و قال: إن الغريزة هي خام غفل تتصرف فيه الإرادة بالكبت أو بالإطلاق أو بالتسامي.

و هكذا عادت الغريزة لتصبح مجرد ظرف تتحكم فيه الإرادة كما تتصرف الإرادة في الظروف الخارجية و تتحكم فيها.. و أصبحت الإرادة بهذا المعنى حقيقة متعالية متجاوزة للغرائز.

و بالمثل حكاية الحتمية الطبقية التي أثارها ( الماركسيون ) .. فاعتبروا كل إنسان ابن طبقته.. تحدد له طبقته حوافزه النفسية و عواطفه و رغباته و شخصيته السلوكية.. فهو يتصرف كنبيل أو إقطاعي أو ( كبروليتاري ) لا كفلان الفلاني. بل هو لا يكاد يملك نفسا فما يتخيل أنه نفس مستقلة بداخله، ما هي في الحقيقة إلا مجموعة من الأنماط السلوكية التي استعارها من طبقته.. إنها الحتمية الطبقية تعمل من خلاله.. و ما هو إلا وسيط تظهر من خلاله القوى الإجتماعية اللامعقولة في تصارعها.

و هي نظرة أوقعت الفكر الماركسي و علم النفس الطبقي في أشد التناقض.. فكيف نفسر سلوك رجل مثل ( تولستوي ) و هو من النبلاء الإقطاعيين بحكم الوراثة و هو مع ذلك لم يتصرف أبدا كنبيل و لا كإقطاعي، بل تصرف كطليعة الفقراء و الفلاحين محطما بذلك تلك الحتمية التي سماها (( علم النفس الطبقي )). و بالمثل ( باكونين) و ( كروبتكين ) طليعة الفوضوية و كانا من كبار الأعيان. و ( ماركس ) ذاته ابن الطبقة البورجوازية الذي انقلب على الطبقة البورجوازية.

و ماذا نقول عن الفلاح الذي يهمل تنقية الدودة في مزرعة تعاونية.. و العامل الذي يهمل صيانة الأوتوبيسات في قطاع عام.

إن هذ الحتمية التي يصورها علم النفس الطبقي هي كلام غير دقيق و غير علمي.

و الحقيقة أن النفس الإنسانية انفردت دون صنوف الوجود المادي، بأنها تملك قدرة داخلية على التملص من اللابد و اللازم.. و الضروري.. و المحتوم.. و أن الإرادة الإنسانية لها حريتها في أن تخل بأي تعاقد.. و يستحيل التنبؤ بما يجري في منطقة الضمير.. لأنها منطقة حرة بالفعل.

لا شيء يحول بين الإنسان و بين أن يضمر شيئا في نفسه. إنه المخلوق الوحيد الذي يملك ناصية أحلامه.

و لكن هذه الحرية البكر الطليقة في الداخل ما تلبث أن تصطدم بالعالم حينما تحتك به لأول مرة في لحظة الفعل.

إن رغبتنا تظل حرة مادامت كامنة في الضمير و النية.. فإذا بدأنا التنفيذ اصطدمنا بالقيود.. و أول قيد نصطدم به هو جسدنا نفسه الذي يحيط بنا مثل ( الجاكتة الجبس) و يحصرنا بالضرورات و الحاجات و يطالبنا بالطعام و الشراب ليعيش و يستمر و لا نجد مهربا من تلبية هذه المطالب. فنجري خلف اللقمة و نلهث خلف الوظيفة و نضيع في صراع التكسب و نفقد بعض حريتنا.. بعضها و ليس كلها.. و هو ثمن ضروري، فرغباتنا لا تستطيع أن تعلن عن نفسها بدون جسد، و جسدنا هو أداة حريتنا كما أنه القيد عليها. و ليس جسدنا وحده بل أجساد الآخرين أيضا أدواتنا، فنحن ننتفع بما يصنعه العامل و ما يزرعه الفلاح و ما يخترعه المخترع و ما يكتبه الكاتب و كل هذه ثمار أجساد الآخرين و حرياتهم.

إن المجتمع أداة هائلة موضوعة في خدمتنا بما فيه من بريد و مواصلات و نور و مياه و صناعات و علوم و معارف.

و حينما يركب أحدنا قطارا فإنه يركب في الوقت نفسه على حرية مجهزة أعدها له آلاف العمال و المهندسين و المخترعين و هو يدفع في مقابل هذا الكسب ضريبة من حريته.

و ليس المجتمع وحده هو الذي يتقضاه ضرائب و لكن الكون كله.. جاذبية الأرض و ضغط الهواء و مياه المحيطات و السماء بكواكبها.. كلها تحاصره و تحاصر حريته و تطالبه بنوع من الوفاق معها.

و هو بالوفاق يربح حريته دائما.

بالوفاق مع العالم يمتطيه كما يمتطي الجواد.

فهو حينما يفطن إلى اتجاه الريح و يضع شراعه في مواجهتها يمتطي الريح و يسخرها لخدمته.. و حينما يفطن إلى أن الخشب يمتطي الماء.. و بالمثل حينما يفطن إلى نفع الناس، و يسير في اتجاههم يكسب الناس و يكسب معونتهم.

إن الإنسان يعيش مضطربا بين عالمين: عالم إرادته الحرة بداخله.. و عالم المادة حوله الراسف المغلول في القوانين.

و سبيله الوحيد إلى فعل حر هو معرفة هذه القوانين و الفطنة إلى استغلالها بالوفاق معها.. و هو دائما أمر ممكن.

و لهذا فالحرية حقيقة لا تنفيها المقاومات و الظروف الخارجية، بل إن هذه المقاومات تؤكد الحرية فلا يمكن أن تكشف حريتنا عن مدلولها في الخارج إلا بوجود عقبات تزحزحها و تتغلب عليها.. إنها تكشف عن مدلولها من خلال صراع و بدون هذا الصراع لا يقوم لها معنى.

و الضوابط الخلقية و القوانين الاجتماعية لا تنفي الحرية و إنما هي أشبه بعلامات المرور.. وضعت لتننظم المرور و تفسح أكبر حرية للكل.

و أنت حينما تقيم الضوابط على شهوتك تكسب حريتك لأنك تصبح سيد نفسك لا عبدا لغريزتك.

أما حرية القمار و السكر و العربدة و المخدرات و التبذل الجنسي فهي ليست حريات و إنما درجات من الانتحار و إهدار الحياة و بالتالي إهدار الحرية.

و كل اختيار ضد الحياة لا يكون اختيارا.

و كل اختيار ضد القانون الطبيعي ليس اختيارا و إنما إهدار للاختيار، و كلنا نعلم أننا إذا أردنا أن نزداد حرية و نحن نسبح اخترنا السباحة مع التيار و ليس ضده.

نخلص من هذا إلى أن حرية الإنسان حقيقة برغم ما يقوم حولها من حدود و مقاومات.. و أن الإنسان حر حرية مطلقة في منطقة ضميره، فهو يستطيع أن يضمر ما يشاء.. و حر حرية نسبية في التنفيذ، في منطقة الفعل و العمل.. بحسب ما يقوم حوله من حدود و مقاومات.

و يبقى بعد ذلك اللغز الأزلي في علاقة الإنسان بالله.. و علاقة حرية الإنسان بالإرادة الإلهية المطلقة.

و لأن القرآن كتاب دين و ليس كتاب فلسفة فإنه يكتفي بالومض و الرمز و الإشارة و اللمحة.

فيقرر أولا أن حرية الإنسان كانت بمشيئة الله و رغبته و مراده.. و أن ما يجري من حرية الإنسان لا يجري إكراها للخالق و لا إكراها للمخلوق، و إنما بهذا قضت المشيئة.

و يقول القرآن في وضوح:

(( و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )) ( 99 – يونس )

لقد رفض الله أن يكره الناس على الإيمان و كان هذا في إمكانه، و لكنه أراد للإنسان أن يكون حرا مختارا، يختار الإيمان أو الكفر كما يشاء:

(( و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.. )) (29 – الكهف )

(( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.. )) ( 256 – البقرة )

(( و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها.. )) (13 – السجدة)

(( و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى.. )) ( 17 – فصلت )

إن الله يتركنا و لو اخترنا العمى على الهدى.. و قد سبقت بهذا مشيئته. بل فعل بنا أكثر من هذا، فخيرنا حتى في أن نختار.. عرض علينا هذه الأمانة ( و هي الحرية و المسئولية ) عرضها لنقبلها أو نرفضها كما نشاء و هي الأمانة التي رفضتها الجبال فحمل الإنسان الأمانة التي رفضتها الجبال. و كان بنفسه جهولا ظلوما:
(( إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )) ( 72 – الأحزاب )

لقد جهل الإنسان تبعة هذه الأمانة و أهوالها و مهالك الغرور التي سوف يتعرض لها بحملها.. و كيف أنه سيظلم بها نفسه و غيره.. و لكن الله كان يعلم بهذه المحنة الهائلة.. و كان يعلم أن هذه المحنة سوف تزكي الإنسان و تطهره و تربيه:

(( و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون )) ( 30 – البقرة )

و لا نعرف كيف تم هذا العرض على الإنسان بأن يكون حرا أو لا يكون، و لا متى تم هذا العرض.. هل حدث في مبدأ الخلق مع آدم.. أم مع الأرواح قبل نزولها إلى الأرحام.. فهذا غيب مطلق.

و القرآن يكتفي بأن يعطي ومضة، و لمحة..

و بهذه الحرية التي قبلها الإنسان مختارا حقت عليه المسئولية و المحاسبة، و أشار القرآن لهذا في آيات حاسمة قاطعة:

(( كل نفس بما كسبت رهينة )) ( 38 – المدثر )

(( كل امرئ بما كسب رهين )) ( 21 – الطور )

(( و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه.. )) ( 13 – الإسراء )

(( قل لا تسألون عما أجرمنا و لا نسأل عما تعملون )) ( 25 – سبأ )

(( و لا تزر وازرة وزر أخرى.. )) ( 15 – الإسراء )

و لا يستطيع أحد أن يفتدي آخر أو يحمل عنه ذنبه و إنما لكل عمله و على كل وزره.

و بمقتضى هذه الحرية جعل الله من (( ضمير الإنسان و نيته و سريرته )) منطقة محرمة و قدس أقداس.. لا يدخلها قهر أو جبر.. و قطع على نفسه عهدا بأن تكون هذه المنطقة حراما لا يدخلها جنده.

فالمبادرة بالنية حرة تماما.

و كل منا له أن يضمر و ينوي و يسر في سريرته ما يشاء، و إنما يبدأ التدخل الإلهي لحظة خروج النية إلى حيز الفعل. فيعطي الله لكل إنسان تيسيرات من جنس نيته و من جنس ضميره و قلبه.. و هو عين العدل.. ليكون الفعل بعد هذا معبرا عن دخيلة فاعله:

((فأما من أعطى و أتقى (5) و صدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) و أما من بخل و استغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) )) (الليل)

ها هنا وعد آخر من الله بأن يجعل تيسيرات الأفعال مطابقة لدخائل القلوب فيجد الشرير تيسيرات الشر، و يجد الخير تيسيرات الخير.. و من يعلم الله فيه الهدى يهديه، و من يعلم فيه الضلال يتركه للشياطين تضله:

(( فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحا قريبا )) ( 18 – الفتح )

و في آيات أخرى نراه يقول:

(( و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم.. )) ( 23 – الأنفال )

(( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.. )) ( 5 – الصف )

و لأن الله علم بكل شيء مسبقا.. و أحاط بكل شيء علما.. نراه يتكلم في القرآن عمن:

(( حق عليهم القول.. )) ( 25 – فصلت )

(( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى.. )) ( 101 – الأنبياء )

(( و منهم من حقت عليه الضلالة.. )) ( 36 – النحل )

(( حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين )) ( 13 – السجدة )

فقد علم مسبقا و سلفا أن الإنسان سيفسد في الأرض و سيسفك الدم و يظلم نفسه و يظلم الآخرين.. و يستحق بذلك درجات متفاوتة من العقوبة.

كل هذا كان في سابق علمه.

و ليس هذا بالجبر و لا بالحتم.. و لكن.. كما يحدث أن تتوسم في أحد أبنائك حب العلم و التحصيل فتمده بالتسهيلات و التيسيرات و تبعثه إلى الخارج في بعثة.. و ترى في الآخر العكوف على الفساد و صحبة السوء فتكتفي بما له من حظ محدود من التعليم في بلده.. و لو فعلت عكس ذلك لكنت ظالما، و لأكرهت أبناءك على غير طبائعهم.

كما أن هذا التوسم المسبق ليس فيه عنصر إكراه و لا جبر.. و إنما هو مجرد سبق علم.. فأنت تعلم مسبقا من أخلاق ولدك بأنه سوف ينصرف إلى اللعب و يهمل كتبه.. فإذا انصرف إلى اللعب بالفعل و أهمل كتبه فإن ذلك لا يكون إكراها منك و لا جبرا و لا عنوة و إنما لأن هذه طبيعته التي سبق علمك إليها.. و إنما تأتي التجربة فتكشف له نفسه.. و بذلك يحق عليه العقاب صدقا و عدلا.. فقد علم من نفسه ما لم يكن يعلمه:

(( علمت نفس ما قدمت و أخرت )) ( 5 – الانفطار )

و لهذا جاءت الدنيا لتكون حقل تجربة و اختبارا لمعادن النفوس:

(( خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.. )) ( 2 – الملك )

و حتى لا تكون لأحد أعذار في أفعاله فيقول لحظة الحساب فعلت كذا و كذا تحت تأثير العرف و التقاليد و البيئة و المجتمع و التربية.. إلخ.. إلخ.. حسم الله الموضوع فقال في القرآن:

(( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.. )) (225 – البقرة )

و في آية ثانية:

(( و ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به و لكن ما تعمدت قلوبكم.. )) ( 5 – الأحزاب )

و في آية ثالثة يحدثنا عن الذين ارتدوا إلى الكفر بعد إيمانهم و يهددهم بأشد العذاب ثم يستثني قائلا:

(( إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان.. )) ( 106 – النحل )

أي من كفر بلسانه تحت تأثير التعذيب و ظل قلبه مؤمنا.

إن ما يدور في القلب هو موضوع المحاسبة بالدرجة الأولى و ليس ما يجري على مسرح الفعل.

(( يوم تُبلى السرائر )) ( 9 – الطارق )

إن السريرة هي محل الابتلاء و محل المحاسبة.

و السريرة هي السر المتجاوز للظروف و المجتمع و البيئة و التربية كما أسلفنا في شرحنا المسهب.. فهي المبادرة المطلقة.. و الابتداء المطلق الذي أعتقه الله من كل القيود.

إنها روحك ذاتها و هي الكاشفة عن حقيقتك بمثل ما تكشف بصمة إصبعك عن فرديتك.

و روحك فيها من حرية الله لأنها نفخة منه:

(( فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )) ( 29 – الحجر )

و لأن فيك ذلك القبس من الله و لأنه كرمك بحرية الإرادة، فأنت محاسب على هذه الحرية، و هذا منتهى العطاء الإلهي و منتهى العدل أيضا.

و من هنا يأتي المزج بين الروح و بين الله في آيات عميقة الدلالة:

(( و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى.. )) ( 17 – الأنفال )

يأتيك النصر بيدك و بيد الله في ذات الوقت فتكون يدك لحظة الانتصار هي يد الله و رميتك رميته و مشيئتك مشيئته.

و من هنا قد يعترض معترض فيقول:

فلماذا لا تكون النية هي الأخرى مقدرة؟

و الجواب على ذلك يأتي من صميم القرآن:

(( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا.. )) ( 10 – البقرة )

(( كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب )) ( 34 – غافر )

(( و الذين اهتدوا زادهم هدى.. )) ( 17 – محمد )

(( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.. )) ( 5 – الصف )

(( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق.. )) ( 146 – الأعراف )

و من هذا يتبين أن الله ترك المبادرة بالنية دائما لك ثم بعد ذلك يأتي قضاؤه فيزيدك مرضا إذا أضمرت المرض في قلبك و يهديك إذا بادرت في سريرتك بميل إلى هدى.. و يصرفك عن الهدى إذا أضمرت الكبر.

إن منطقة الضمير متروكة دائما لك لتبادر بما تشاء.. و بعد ذلك ينزل عليك القضاء و يحق عليك القول.

و الله لا يمكن أن يفرض عليك نية بالسوء أو بالظلم:

(( إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون )) ( 28 – الأعراف )

و هذا يدل على أن قانون الخلق الأول هو أن تكون الروح محرابا و قدس أقداس لا يدخلها قهر.. و لا يكرهها الله على شيء لا هو و لا جنده و لا أنبياؤه و لا أولياؤه إن النفس حرة منزهة.

إنها(( السر الأعظم )) الذي لا يعلم به إلا الله يوم تبلى السرائر.

و في هذا يقول حديث نبوي شريف عن أبي بكر:

(( لا يفضلكم أبوبكر بصلاة و لا بصيام و لكن بسر وقر في قلبه )).

و يقول الله في قرآنه:

(( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم.. )) ( 109 – البقرة )

لم يخلق الله الحسد في قلوبهم و لم يودعه ضمائرهم، و لكنهم يحسدونكم اختيارا من عند أنفسهم.. و العبارة هنا صريحة (( من عند أنفسهم )).. و هي تنفي التدخل الإلهي و تقطع بوجود هذه المنطقة الداخلية التي تركها الله حرة.

و يقول الله تعالى مخاطبا الشيطان:

(( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين )) ( 42 – الحجر )

إن الشيطان لا يستطيع أن يدخل قلبك إلا إذا فتحت له الباب اختيارا و كنت من الغاوين، و لكنه لا يستطيع أن يقتحم عليك قلبك جبرا و قسرا.

إن الله قد كفل لهذا لقلب الحماية و لم يجعل لأحد من جند الشر أو الخير سلطانا قاهرا عليه إلا إذا أراد صاحب هذا القلب اختيارا أن يستضيف و يدعو و يحتضن دواعي الشر أو دواعي الخير فحينئذ يكون له ما أراد.

نحن أمام قدس أقداس بالفعل.. و حرم محرم تقوم عليه الأسوار و لا يدخله حتم و لا جبر و لا إكراه.

و ما يحدث لنا من إكراه بالفعل في عالم الواقع لا يمكن أن يصل إلى داخل ضمائرنا.

يمكنك أن تجبرني بالقوة على أن أرفع يدي أو أقف مرغما أو اهتف باسمك، و لا يمكنك أبدا أن تجبرني على أن أحبك.

و لهذا لا تعطينا الأديان رخصة لنقول يوم الحساب إن فلانا أغراني أو فلانا أجبرني، أو فلانا أكرهني أملا في أن يلقي الواحد ذنبه على الآخر، فقد جعل الله من أعماق الضمير و السريرة منطقة حراما لا يستطيع أن يدخلها جبار بجبروته.

يمكنك أن تكره خادمك على فعل. و لكنك لا تستطيع أن تكرهه على أن يضمر شيئا في سريرة قلبه.

و القرآن يعتبرك حرا مسئولا مهما أحاطت بك ظروف الاستبداد فيقول إشارة إلى أمثال هذه الظروف:

(( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.. ) ( 97 – النساء )

لا أعذار.

حينما تقضي اللحظة أن تختار فأنت تختار نفسك بالفعل.

(( إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا )) ( 3 – الإنسان )

و في لفظ (( إما )) يبدو عنصر الاختيار واضحا محددا.

(( و نفس و ما سواها ( 7 ) فألهمها فجورها و تقواها ( 8 ) )) ( الشمس )

أي فتح أمامها سبيل الخير و الشر و تركها أمام الطريقين لتختار.. و لهذا قال ( فجورها و تقواها )، و لم يقل ( أو تقواها ) لأنه فتح الطريقين معا ليجعل للنفس الاختيار و لم يجبرها على أحد الطريقين.. و لذلك أردف موضحا:

(( قد أفلح من زكاها ( 9 ) و قد خاب من دساها ( 10 ) )) ( الشمس )

فرد الفلاح و الخيبة للنفس المخيرة، و في آية أخرى يوضح الأمر أكثر فيقول:

(( و هديناه النجدين )) ( 10 – البلد )

أي هديناه مفترق طريقين يختار أيهما.

إن النية حرة.

و السريرة حرة في إضمارها لما تشاء.

أما الفعل فهو حر و مقدور في ذات الوقت.

و كل واحد منا له نصيبه من حرية الفعل.. و الذي يقول بالجبرية سوف يقع في مأزق حينما نسأله كيف يميز بين يده يحركها في حرية و يكتب بها ما يشاء.. و بين يده و هي أسيرة ترتعش قهرا في رجفة الحمى.. هنا أمامنا حالتان واضحتان، حرية في حالة الصحة، و جبرية في حالة المرض، و لو كانت الجبرية التي يقول بها صحيحة لما أمكن أن يميز بداهة بين الحالين.. و لما أمكن أن تقوم الحالتان أصلا.

إن حرية الفعل إذن حقيقة.. و القدر أيضا حقيقة.

و المشكلة هي أن نحاول أن نفهم هذا الازدواج و كيف لا يلغي القدر الحرية.. و كيف لا تلغي الحرية القدر.

و هذا أمر نستشفه من الآيات استشفافا.. فهي تلمح و لا تصرح حتى لا تُلقي بالناس في بلبلة.

يقول الله في كتابه:

(( إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين )) ( 4 – الشعراء )

لو شاء لفعل و لكنه لم يفعل.. لأنه لم يشأ أن يقهرنا على إيمان فتنتفي بذلك حرية الاختيار التي جعل منها جوهر وجودنا.. فقد أراد لنا أن نكون أحرارا نؤمن أو نكفر.

و لم يجعل الله إبليس إبليسا.

و إنما إبليس اختار لنفسه الكبرياء و الجبروت و التعاظم حينما رفض أن يكون في خدمة آدم مثل بقية الملائكة و قال:

(( أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين )) ( 76 – ص )

اختار إبليس لنفسه الغرور بغير علم و لا حق. فاختاره الله ليغرر بالناس و قضى عليه قضاء من جنس ضميره.

و بالمثل أبصر النقاء و الطهر في قلب محمد فاختاره نبيا للهداية:

(( و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.. )) ( 69 – العنكبوت )

و لهذا السبب أيضا – لعدم القهر و الجبر – أخفى الله نفسه في الإنجيل، و أخفى نفسه في القرآن لأنه لم يرد أن يلجمنا بالتجلي القاطع الفاصل فيقهرنا على الإيمان قهرا. فجعل من التوراة و الإنجيل و القرآن كتبا يمكن أن نؤمن بها و يمكن أن نشك فيها.

و قال عن قرآنه:

(( يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا.. )) ( 26 – البقرة )

و ضمن آياته البراهين و لكنه لم يجعلها أبدا براهين ملزمة تأخذ بالخناق و تقهر العقل.. و إنما تركك دائما لترجح شيئا على شيء حرصا منه على حريتك.. و لتقول ما تريد دون مؤثرات كابحة.. فتفصح عن دخيلتك و سريرتك و يحق عليك القول.

لقد أرادك أن تكون من أحد الأوجه خليفة صغيرا له على الأرض تحكم و تقضي في شئونك و شئون الآخرين.. ليمتحنك و يختبرك.

و في آية نموذجية يشرح القرآن ما بين القدر الإلهي و الحرية الفردية من تلاق، و يرفع ما بينهما من تناقض.. حينما يروي ما حدث من تكاسل المنافقين عن نصرة الرسول – صلى الله عليه و سلم – و عدم الخروج معه في غزواته:

(( و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين ( 46 ) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة و فيكم سماعون لهم و الله عليم بالظالمين ( 47 ) )) ( التوبة )

ها هنا منافقون بالقلب لا يريدون بالنية أن ينصروا نبيهم فيقضي عليهم الله بمثل نيتهم فلا يريد لهم كما لم يريدوا لأنفسهم و يثبطهم و يكره لهم الخروج كما كرهوه لأنفسهم.

و يبدو هذا التماثل بين قدر الله و سريرة الإنسان في آية أخرى أكثر صراحة و التي تخاطب النبي (( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم.. )) ( 70 – الأنفال )

هنا يبدو الفعل الإلهي ( القدر ) دائما من جنس النية التي هي عين الاختيار.

و يبدو كيف تماثل أمر الله و اختيار الإنسان و انتفى التناقض.. فلم يكن التناقض إلا في وهمنا نتيجة عدم الفهم.

و أصبح من السهل علينا أن نفهم آيتين متناقضتين في الظاهر مثل:

(( فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.. )) ( 29 – الكهف )

(( و ما تشاءون إلا أن يشاء الله.. )) ( 30 – الإنسان )

ففي الآية الأولى يصف الله إرادة الإنسان الحرة.

و في الآية الثانية يتكلم عن إرادته الإلهية و هي القدر.

و ما بين الإثنين من تناقض هو تناقض في الظاهر فقط.. فقد فهمنا أن الله لا يريد للإنسان إلا ما يريد الإنسان لنفسه:

(( و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرا )) ( 115 – النساء )

من يختار طريق السوء و يرى الله في نيته الإصرار فإنه لا يكرهه على الخير و إنما يختار له ما اختار لنفسه و يمد له في غيه و يمهد له أسباب الشر تمهيدا حتى يخرج ما يكتمه و يتلبس بفعله و يحق عليه العذاب:

(( نولّه ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرا )) ( 115 – النساء )

هنا الجبر هو عين الاختيار و لا تناقض لأن إرادة الله هي إرادة العبد.

انتفت الثنائية.

(( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. )) ( 11 – الرعد )

الله لا يغير ما يريده بإنسان حتى يغير ذلك الإنسان ما يريده بنفسه.. التطابق هنا واضح.

الإثنان.. الحرية و القدر.. ينفذ القضاء و يتم الفعل بإرادة الله و مشيئته و في الوقت نفسه باختيار الإنسان و حريته بلا تناقض (( قل كلٌ من عند الله )) ( 78 – النساء )

فأنت تشاء و لكن قدرتك على أن تشاء و تختار هي منحة من الله و مشيئة عليا.. حريتك ذاتها منحة و عطية و مشيئة إلهية.. و من هنا كانت الآية:

(( و ما تشاءون إلا أن يشاء الله.. )) ( 30 – الإنسان )

هي تقرير للحقيقة.. و ليست كلاما متناقضا.. فهي تقرر أنك حر و لكن حريتك منحة و عطية و هبة و مشيئة من المعطي.

(( و الله مخرج ما كنتم تكتمون )) ( 72 – البقرة )

الله يخرج ما في النية و يفضح مكتوم السرائر ليسجل على كل واحد نيته كما هي دون جبر أو إكراه.. إنه يفضحها فقط و يخرجها على حالها ليكون كل واحد ( طائره في عنقه ).

ثم تأتي الآية القرآنية الحاسمة فتختم الموضوع:

(( و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه و أنه إليه تحشرون )) ( 24 – الانفال )

و معنى هذا أن الله يدع القلب حرا فتكون لكل إنسان سريرة هو حر فيها. و لكنه يقيم سلطانه بين المرء و قلبه.

فهو يحول بين المرء و قلبه بالتمكين أو الإحباط لطفا منه و رحمة ليقي أحبائه السيئات.. و ليقدم التيسيرات لكلٍّ حسب ضميره و نيته و مبادراته.. إما لليسرى و إما للعسرى.

(( إذ يريكهم الله في منامك قليلا و لو أراكهم كثيرا لفشلتم و لتنازعتم في الأمر و لكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ( 43 ) و إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا و إلى الله ترجع الأمور ( 44 ) )) ( الأنفال )

هنا مثل آخر بليغ للتدخل الإلهي اللطيف الخفي بين المرء و بين قلبه.. فالله يريد أن يحث المسلمين على القتال في بدر و هم قلة ( ثلثمائة يواجهون ألفا مدججين بالسلاح و الدروع ) يريد أن يدفع المسلمين إلى المعركة دون جبر و دون إكراه حتى يكون الاختيار اختيارهم.. فيسوق إلى الرسول في منامه رؤيا يظهر فيها الأعداء قلة قليلة لا يؤبه لها.. و ساعة المعركة يجعل كثرة المشركين تبدو للمسلمين قلة ليهون من شأنهم.. كما يهون من شأن المسلمين في أعينهم.. و بذلك يستدرج الكل إلى معركة ليقضي أمرا كان في علمه مفعولا.

و هذا هو التيسير الذي يسوق به الأسباب دون أن يخل بناموس الحرية الذي قضى به لكل إنسان في سريرته و هو عن هذه الحرية مسئول.

بهذه الكلمات التي تضيء كالومض الخفي يعطي القرآن المفتاح لأكبر المشكلات استعصاء في الفلسفة.. مشكلة الجبر و الاختيار.





قصة الخلق


(ما جاء في هذا الفصل هو محاولة تخضع لقاعدة الاجتهاد في احتمال الخطأ و الصواب.. و الله الموفق) مصطفى محمود




مبدأ الخليقة و كيف كان؟.. و ميلاد الأرض و القمر و الشمس و النجوم و كيف حدث؟.. و كيف خطا على الأرض أول إنسان؟.. و من أين جاء؟..

كل هذه أمور خاضت فيها العلوم و كان لها في شأنها نظريات و شواهد و براهين.

علوم البيولوجيا و الإنثروبولوجيا و الفلك و الكيمياء العضوية و الجيولوجيا و التطور الذي أصبح الآن علما قائما بذاته.. و علم الأجنة.. و علم التشريح.. مجلدات و مجلدات..

و كلام كثير لا يمكن أن نكون بمعزل عنه و نحن نقرأ ما يقوله القرآن عن قصة الخلق.. فما قام الدين أبدا منعزلا عن الحياة و لا قام ليعادي العلم بل إنه قام ليقدم لنا منتهى العلم.. و ليقودنا إلى اليقين في مقابل الشك و الاحتمال و الترجيح.. جاء ليقول كلمة أخيرة.. فلا يمكن أن نخوض فيه دون أن نخوض في كل شيء.. و دون أن نثير القضية كاملة برمتها علما و دينا و فلسفة و سياسة.

و هذا يردني إلى كتابين كتبتهما و قدمت فيهما الإشكال جملة و تفصيلا هما.. ( لغز الموت).. و (لغز الحياة)، و لا يمكن أن أعود فأكرر ما قلته فيهما.. و لذا سأكتفي بسطور أعود فأثيرها حتى لا يضيع منا السياق و حتى أربط معي القارئ في الفكرة الكلية.

أعود إلى الحياة.. و إلى مبدئها و ألتقط ( داروين).. أبا التطور ليروي لنا رؤيته عن مسيرة الحياة، و لا أتفق مع القائلين إن كل ما قاله ( داروين) خطأ، كما لا أقول أيضا إن كل ما رآه صواب.. و إنما هي مناسبة لإعادة النظر و التفكير.




•••


و في رحلة حول العالم في الباخرة(( بيجل )) مضى ( داروين) يجمع العينات من البر و البحر و من تحت الماء و من فوق الماء و يدرس و يتأمل و يدون و يجمع ملاحظاته عن الأحياء في كافة أرجاء الأرض.

و لاحظ ( داروين) عدة ملاحظات:

* إن الحياة تتلون و تتكيف و تغير من تكوينها لتتلاءم مع بيئتها على الدوام.

* الإنسان في المناطق القطبية، سمين مكتنز بالدهن تماما مثل الحوت ليقي نفسه غائلة البرد.. و الدببة مغطاة بالمثل بمعاطف من الفراء. بينما هو في المناطق الاستوائية الحارة نحيل هزيل أسود، و كأنما اخترع لجلده مظلة لتقيه الشمس.

* سحالي الكهوف التي تعيش في الظلام لا وظيفة عندها للبصر، و لا للألوان.. و لهذا فهي عمياء و بلا لون.. أما سحالي البراري فحادة البصر و ملونة.

* أفواه الحيوانات اختلفت و تباينت حسب وظائفها: فم مزود بأسنان خنجرية تقطع و تمزق مثل النمر، و فم مزود بمنقار يلتقط مثل الطير، و فم مزود بخطاف يتشبث كما في دودة ( الانكلستوما) التي تمسك بجدار الأمعاء.. و فم مزود بخرطوم يمص كما في الذبابة.. و فم مزود بإبرة تحقن كما في البعوضة.. و فم مزود بمناشير و طواحين تطحن و تقرض كما في الحشرات القارضة.

هل الحكاية أن الحيوانات أصلها واحد، ثم تطور هذا الأصل و تباين و اختلف إلى هذه الفصائل المتباينة بسبب تباين الظروف و البيئات؟!.. الحيوانات التي دبت عل الأرض طورت لنفسها أرجلا.. و التي نزلت إلى البحر تحورت فيها الأرجل إلى زعانف، و التي طارت في الجو تحورت فيها الأطراف إلى أجنحة.

إذا كان هذا الاستنتاج صحيحا، فلا بد أن يكشف لنا تشابها في بنية الجميع.

و هذا هو ما قاله المشرط بالفعل.

ففي الثعبان الذي بلا أرجل يكشف التشريح عن أرجل ضامرة مختفية في هيكله العظمي.

و الطيور التي تبدو و كأنها لها زوجا واحدا من الأطراف يكشف التشريح أن أجنحتها هي الزوج الثاني من الأطراف تحور ليلائم وظيفته الجديدة.

الأسماك التي تدب على الأرض و تتنفس برئات يكشف التشريح عن أن رئاتها هي نفس كيس العوم تحور ليلائم وظيفة التنفس الجديدة.

زعانف السمك الأربع هي نفس الأطراف الأربعة متحورة إلى ما يشبه المجاديف.

عدد أصابع اليد و القدم فينا خمس و في القرود خمس و في الفئران خمس و في السحالي خمس، حتى الوطاويط لها خمس أصابع ضامرة.

القلب و الدورة الدموية تسير على خطة واحدة في الحوت كما في الفأر، كما في القرد، كما في الإنسان، كما في الوطواط. نفس الشرايين لها نظائرها في كل نوع، و القلب هو دائما نفس القلب بغرفه الأربع.

و الجهاز العصبي الذي يتألف من مخ و حبل شوكي و أعصاب حس، و أعصاب حركة، هو نفس الجهاز العصبي في الكل.

و الجهاز العضلي بعضلاته و الهيكل العظمي بعظامه عظمة عظمة.. كل عظمة لها نظيرها مع اختلافات طفيفة في الشكل لتلائم الوظيفة في كل حيوان.

و الجهاز التناسلي نفس الخصية و المبيض و قنوات الخصية و المبيض و الرحم في كل حيوان.

و فترة الحمل عندنا تسعة أشهر، و في القرود العليا تسعة أشهر و في الحيتان تسعة أشهر.. حتى فترة الرضاعة في الجميع سنتان.

ثم خبطة أخرى: يكشف التشريح في الهيكل العظمي للإنسان نفس فقرات الذيل التي في القرود، و قد تدامجت و التحمت لانعدام وظائفها.. حتى عضلات الذيل قد تحورت إلى قاع متين للحوض.

و فقرات الرقبة في الإنسان عددها سبع و في الزرافة برغم طول رقبتها أيضا سبع و في القنفذ سبع رغم قصر رقبته.

و خبطة ثالثة: يمر الجنين في رحم أمه و هو يتخلق على مراحل.. في مرحلة يكون أشبه بسمكة و تكون له خياشيم.. و في مرحلة أخرى ينمو له ذيل ثم يضمر.. و في مرحلة ثالثة يتغطى بالشعر تماما كالقرود ثم يبدأ الشعر ينحسر عن جسمه تاركا مساحة صغيرة عند الرأس.

لقد فضح الجنين القصة.. و كشف لنا مبدأ الخليقة و مراحل تطورها.

و المشرط و هو يعبث خلف الأذن البشرية يكتشف شيئا آخر. فها هي ذي نفس عضلات الأذن التي كانت تحرك آذان الحمير و قد تليفت و ضمرت حينما لم تعد لها وظيفة و حينما اتخذت آذننا أشكالا تغنيها عن الحركة.

ثم ها هي ذي الحفريات تكشف عن جماجم بشرية ذات شكل قردي في ( الترنسفال) و ( بكين) و ( جاوة) و ( نياندرتال)، و بعض هذه الجماجم وجدت في كهوف عثر بها على بقايا خشب متفحم في مواقد تدل على أن أصحاب هذه الجماجم قد اكتشفوا النار و استخدموها منذ ملايين السنيين.

لم يبق إلا أن يكتب ( داروين) نظريته في أصل الأنواع.

بل إن النظرية لتكتب نفسها فتقول: إن الأنواع انحدرت كلها من أصل واحد تباين و اختلف إلى شجرة من الفصائل و الأنواع نتيجة تباين الظروف و البيئات.

و لم يقل ( داروين) إن الإنسان انحدر من القرد و لم يقل إن الجنس البشري من سلالة شمبانزي أو نسناس و إنما هي نكتة روجتها الصحف و انتشرت كنوع من الكاريكاتير الخفيف الدم ( للداروينية).

و لكن النظرية في أصلها المكتوب لا تقول إن أيا من الأجناس الموجودة خرج من الآخر.. و إنما كل جنس هو بذاته نهاية فرع مستقل من الشجرة.. لم يخرج فرع من فرع – لم يخرج فرع الإنسان من فرع القرود – و إنما خرج كل منهما على حدة من الشجرة الأم و هما يرتدان في الأصول إلى منبع واحد هو الخلية الأولى التي تنوعت بها البيئات فتفرعت شجرتها إلى ما نرى حولنا من تصانيف.. و لكن لم يخرج صنف من صنف.. فكل صنف هو ذروة نوعه و هو مستقل بتكوينه لا يلد إلا مثله.

و وقف ( داروين) أمام ظاهرة الترقي مفكرا متأملا.

إن كلامه عن التكيف و التلاؤم بين المخلوق و بيئته لا يفسر إلا التباين الخلقي و الوظيفي بين المخلوقات و لكنه لا يفسر ارتقاءها من الأدنى إلى الأعلى.

و ابتكر ( داروين) لنفسه تفسيرا.. فقال إن الترقي حدث بحوافز داخلية مادية بحتة و بدون يد هادية من خارج.

مجرد صراع البقاء كان الغربال.

كان التزاوج يلقي بتصانيف و تواليف.. التواليف التي خرجت إلى الحياة بأرجل مبططة كانت أصلح للعوم و استطاعت أن تستمر في الحياة المائية، و الحيوانات المائية الأخرى التي حافظت على التصنيف القديم للأرجل البرية ماتت.

و هكذا عاش الأصلح و مات الأقل صلاحية.. و حدث الترقي الذي نراه تلقائيا بمجرد الحوافز الحياتية المادية.

و قامت الزوبعة على ( داروين).

و مضت سنون و سنون من التمحيص و إعادة النظر.. و عاش من نظرية ( داروين) بعضها و مات بعضها.

حكاية أن الأنواع انحدرت من أصل واحد و أنها تباينت إلى شجرة من الفصائل و الأنواع نتيجة تباين الظروف و البيئات كانت احتمالا مرجحا أقرب إلى الصحة تقوم عليه الشواهد. فالوشيجة العائلية تربط كل الخلائق بالفعل.. و التشريح يقول إنها ترتبط بعضها ببعض بصلة رحم و قربى.

أما حكاية أن الترقي حدث بالحوافز الحياتية وحدها و بدون يد هادية فلم تعد مقنعة.. و سقطت من غربال الفكر المدقق المحقق.

فلماذا يخرج من شجرة الحمار شيء كالحصان مع أن الحمار أكثر جلدا و احتمالا.. و بأي حوافز يتطور من عائلة الوعل شيء كالغزال و هو أرهف و أضعف و أقل جلدا من الوعل.. و بالمثل الفراش الملون الرقيق أبطأ و أضعف و أقل قدرة من الزنبور الطنان الغليظ الشكل.. و الحمام و اليمام و الطواويس و العصافير الملونة أكثر رهافة و تهافتا من الصقور و الحدادى و النسور.

و نشوء هذه الأنواع لا يمكن أن يفسره قانون بقاء الأصلح، و إنما قانون آخر هو بقاء الأجمل.

أجمل في عين من؟

يقول المعلق الخبيث.. أجمل في عين بعضها بعضا.. الذكر فيها يختار الأنثى الأجمل.. إنه انتقاء جنسي.. إننا مازلنا أمام الحوافز الحياتية المادية.

و هو قول مردود عليه.

فلماذا يختار الذكر الأنثى الأجمل؟ إن القضية مازالت تطرح نفسها.. إن الجناح المنقوش ليس أصلح للطيران من الجناح السادة.

لا توجد مصلحة حياتية هنا.. و إنما هنا قيمة جمالية عليا تفرض نفسها على جميع الحوافز.. هنا عقل الفنان المبدع الذي يجمل مخلوقاته.. نلمس آثاره في ورق الشجر و ألوان الزهر و أجنحة الفراش و ريش الطواويس.

كما نقف مذهولين أمام بعض الأشجار الصحراوية إذ نجد أن الطبيعة خصتها ببذور مجنحة لتطير محلقة تقطع أميال الصحاري الجرد لتجد فرصها القليلة في الماء.. أو نتأمل بيض البعوض فنكتشف أنه يملك أكياسا هوائية للطفو، ليعوم في الماء و لا يغرق..

كل هذا لا يفسره إلا عقل كلي يفكر و يهندس لمخلوقاته فلا أشجار الصحاري تعقل لتزود بذورها بأجنحة و لا البعوض يعرف قوانين ( أرشميدس) في الطفو ليزود بيضه بوسيلة للعوم.

هذه أمور تعجز أمامها نظرية ( داروين) تماما و لا يفسرها إلا وجود خالق عليم قدير يهندس الوجود و يصممه و ينشئه إنشاء، و ما يجري أمامنا ليس تطورا، بل تطويرا مرادا مدبرا و متعمدا من يد خالقة مبدعة هي التي تقوم بالتعديل و التحسين.

و لنشرح هذا الكلام أكثر سوف نتصور حكاية خيالية افتراضية.. سوف نتصور أننا نعاني نقصا خاصا في حاسة البصر.. و هو نقص يجعلنا نرى الآلات المختلفة دون أن نرى صانعها.. و هكذا سوف نرى عربة اليد و عربة ( الكارو) و العربة ( الحنطور) و السيارة و القطار و ( الديزل) دون أن نرى الإنسان.. و سوف نقول إن هذه أشياء تطورت بعضها من بعض على سلسلة من المراحل. و سوف ندلل على ذلك بما بينها من تشابه تشريحي. فكل هذه الكائنات تتشابه في أنها من مادة الحديد و الخشب و الجلد و تتركب من جسم و عجلات.. و بين السيارة و ( الديزل) و القطار سوف نرى أن هناك ( موتورا) يتألف من (سلندر وبستم)، مرة يشتغل بالبنزين و مرة بالبخار و مرة بزيت البترول.

و لأننا لا نرى الصانع الذي صنعها جميعا فسنقول إنها تطورت بعوامل داخلية فيها.. نتيجة صراعها مع البيئة و بقاء الأصلح بعد معارك البقاء الطويلة.

و سوف ننكر العامل الخارجي لأننا لا نراه.

فنحن نرى أنها تتحرك بمحرك داخلي فيها.

و هذا هو الخطأ الذي وقع فيه ( داروين) في نظريته عن النشوء و الارتقاء حينما قال إن عوامل التطور هي عوامل داخلية و إن الحياة تتقدم بحوافز باطنية دون يد هادية ترشدها.. تتقدم بفعل الآليات المادية داخلها.. لمجرد أنه لا يرى يد الصانع الخالق المبدع و هي تبدع و تخلق.

نحن إذن أمام نظرية اكتشفت الوشائج العائلية بين أسرة الأحياء من نبات و حيوان و إنسان، و لكنها لم تستطع أن تفسر لنا كيف حدث الترقي بينها.

فإذا انتقلنا إلى كلام العلم عن مبدأ الحياة.. فنحن أمام إجماع بأن الحياة بدأت من الماء.. من ماء المستنقعات الذي تختمر فيه المادة و تتحلل و تتركب بقوة غير معروفة إلى الشكل الأول للحياة.. ( البروتوبلازم).. لا أحد يعرف كيف نشأ من الماء و التراب.

فإذا جئنا إلى مبدأ الكون كله.. بنجومه و شموسه و كواكبه فنحن أمام إجماع من علماء الفلك بأن كل شيء نشأ من الهواء من سحب الغاز و التراب الأولية.

تكاثفت هذه السحب من الغاز و التراب بفعل الجاذبية بين ذراتها إلى أنوية في الوسط هي الشموس و إلى تكثفات أصغر حولها هي الكواكب.

هذا مبلغنا من العلم في قضية الخلق في عرض سريع موجز.

فماذا قال القرآن حينما تعرض لهذه القضية منذ أربعة عشر قرنا من الزمان؟ و ماذا جاء على لسان ذلك النبي الأمي الذي لم يكن يعرف لا هو و لا قومه و لا عصره معنى كلمة ( بيولوجيا) و ( جيولوجيا) و كيمياء عضوية و علم أجنة و تشريح و ( أنثروبولوجيا) ؟




•••



القرآن له أسلوبه المختلف عن كل الأساليب.. و هو حينما يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها ( أينشتين) بالمعادلات.. و لا كما يعرضها عالم ( بيولوجي) برواية التفاصيل التشريحية.. و إنما يقدمها بالإشارة و الرمز و المجاز و الاستعارة و اللمحة الخاطفة و العبارة التي تومض في العقل كبرق خاطف، إنه يلقي بكلمة قد يفوت فهمها و تفسيرها على معاصريها.. و لكنه يعلم أن التاريخ و المستقبل سوف يشرح هذه الكلمة و يثبتها تفصيلا.

(( سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)) (53 – فصلت)

و الله يقول عن كلامه:

(( و ما يعلم تأويله إلا الله..)) (7 – آل عمران)

و يقول عن القرآن:

(( ثم إن علينا بيانه)) (19 – القيامة)

أي أنه سوف يشرحه و يبينه في مستقبل الأعصر و الدهور.

فماذا قال القرآن عن قصة الخلق؟

إنه يقول عن الله في البدء الأول:

(( ثم استوى إلى السماء و هي دخان..)) (11 – فصلت)

في البدء كان شيئا كالدخان جاء منه الكون بنجومه و شموسه:

(( يكور الليل على النهار و يكور النهار على الليل..)) (5 – الزمر)

و هي آية لا يمكن تفسيرها إلا أن نتصور أن الأرض كروية و الليل و النهار كنصفي الكرة ينزلق الواحد منهما على الآخر بفعل دوران هذه الكرة المستمر.. بل إن استعمال لفظ (( يكور)) هو استعمال غريب تماما.. و يفرض علينا هذالتفسير فرضا:
(( و القمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)) (39 – يس)

و العرجون هو فرع النخل القديم اليابس لا خضرة فيه و لا ماء و لا حياة.

(( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر و لا الليل سابق النهار و كل في فلك يسبحون)) (40 - يس)

بل إنه يصف الفضاء بأن فيه طرقا و مجاري و مسارات.

(( و السماء ذات الحبك)) (7 – الذاريات)

و الحبك هي المسارات.

و يصف الأرض بأنها كالبيضة:

(( و الأرض بعد ذلك دحاها)) (30 – النازعات)

و دحاها أي جعلها كالدحية ( البيضة) و هو ما يوافق أحدث الآراء الفلكية عن شكل الأرض.

و يقدم فكرة الحركة الخفية من وراء السكون الظاهر:

(( و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب..)) (88 – النمل)

و تشبيه الجبل بسحابة هو تشبيه يقترح على الذهن تكوينا ذريا فضفاضا مخلخلا، و هو ما عليه الجبل بالفعل، فما الأشكال الجامدة إلا وهم، و كل شيء يتألف من ذرات في حالة حركة.. و الأرض كلها بجبالها في حالة حركة.

و ما يقوله المفسرون القدامى من أن هذه الآية تصف ما يحدث يوم القيامة.. هو تفسير غير صحيح لأن يوم القيامة هو يوم اليقين و العيان القاطع و لا يقال في مثل هذا اليوم (( و ترى الجبال تحسبها)).. فلا موجب لشك في ذلك اليوم.

(( و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)) (105 – طه)

هذه هي القيامة بحق، لا مجال هنا لأن تنظر العين فتحسب الشيء قائما و هو ينسف.. فالآية إذن وصف لحال الجبال في الدنيا و لا يمكن أن تكون غير ذلك.

ثم يروي لنا القرآن بعد ذلك ما يحدث لمياه الأمطار:

(( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض..)) (21 – الزمر)

و هو بذلك يشرح دورة المياه الجوفية من السماء إلى سطح الأرض إلى جوفها إلى خزانات جوفية ثم إلى نافورات و ينابيع تعود إلى سطح الأرض من جديد.

ثم يأتي ذكر الحياة.

(( و جعلنا من الماء كل شيء حي..)) (30 – الأنبياء)

(( و الله خلق كل دابة من ماء..)) (45 – النور)

(( أكفرت بالذي خلقك من تراب..)) (37 – الكهف)

(( و إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون)) (28 – الحجر)

و الحمأ المسنون هو الطين المنتن المختمر.

فهو مرة يذكر أن الحياة خلقت من الماء و مرة يذكر أنها خلقت من تراب ثم يعود فيخصص و يقول من الطين أو على وجه الدقة الماء المنتن المختمر المختلط بالتراب.. و هو اتفاق غريب و دقيق مع اكتشافات العلم بعد ألف و أربعمائة سنة.

و في سورة الأعراف يروي بتفصيل أكثر:

(( و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين)) (11 – الأعراف)

و في هذه الآية يحدد أن خلق الإنسان تم على مراحل زمنية

((خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم..)) (11 – الأعراف)

و الزمن بالمعنى الإلهي طويل جدا:

(( و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون)) (47 – الحج)

و في مكان آخر:

(( تعرج الملائكة و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)) (4 – المعارج)

هذه إذن أيام الله.. و هي شيء كالآباد و الأحقاب بالنسبة لنا، فإذا قال الله خلقناكم ثم صورناكم.. ثم اكتملت الصورة بتخليق آدم فقلنا للملائكة اسجدوا لآدم.. معنى هذا أن آدم جاء عبر مراحل من التخليق و التصوير و التسوية استغرقت ملايين السنين بزماننا و أياما بزمن الله الأبدي..

(( و قد خلقكم أطوارا)) (14 – نوح)

و معناها أنه كانت هناك قبل آدم صور و صنوف من الخلائق جاء هو ذروة لها.

(( هل أتى على الإنسان حين من الدهرلم يكن شيئا مذكورا)) (1 – الإنسان)

إشارة إلى مرحلة بائدة من الدهر لم يكن الإنسان يساوي فيها شيئا يذكر. و يقول القرآن عن الله إنه هو:

(( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)) (50 – طه)

أي إنه هدى مسيرة التطور حتى بلغت ذروتها في آدم.
(( و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم..)) (38 – الأنعام)

(( و الله أنبتكم من الأرض نباتا)) (17 – نوح)

ربط وثيق بين أمة الإنسان و بين أمم الدواب و الطير ثم ربط بين الإنسان و الحيوان و النبات.

(( و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)) (12 – المؤمنون)

و هي إشارة صريحة إلى أن الإنسان لم يخلق من الطين ابتداء.. و إنما خلق من سلالات جاءت من الطين.. هناك مرحلة متوسطة بين الإنسان و الطين.. هي سلالات عديدة متلاحقة كانت تمهيدا لظهور نوع الإنسان المتفوق.. ثم يحدثنا القرآن عن تخلق الجنين فيحكي لنا أن خلق العظام سابق على خلق العضلات:

(( فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما..)) (14 – المؤمنون)

و معلوم في علم الأجنة أن نشأة العمود الفقري سابقة على نشأة العضلات و عن هذه النشأة يقول:

(( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث..)) (6 – الزمر)

يكشف لنا الخلق داخل الرحم، فيصفه بأنه يتم على أطوار.. خلق من بعد خلق.. و أنه يجري داخل ظلمات ثلاث.. و الظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة (الغلاف الأمنيوسي).. كل غرفة منها داخل الأخرى.. و الجنين في قلبها، و هي حقائق تشريحية.. أو هي ظلمات الأغشية الثلاثة التي يتألف منها الجنين ذاته و هي حقيقة أخرى.

(( و أنه خلق الزوجين الذكر و الأنثى، من نطفة إذا تمنى)) (45، 46 – النجم)

و نعرف الآن أن الحيوان المنوي الذي يمنى هو الذي يحدد جنس المولود إن كان ذكرا أو أنثى و ليس البويضة، فهو وحده الذي يحتوي على عوامل تحديد الجنس

sex determination factor

كيف جاء القرآن بهذه الموافقات التي اتفقت مع نتائج العلوم و البحوث و الجهود المضنية عبر مئات السنين!.. مصادفة؟!

و إذا سلمنا بمصادفة واحدة فكيف نسلم بالباقي؟

و كيف يخطر على ذهن نبي أمي مشكلات و قضايا و حقائق لا يعرفها عصره؟.. و لا تظهر إلا بعد موته بأكثر من ألف و ثلاثمائة سنة؟

و إذا أخذنا بالتفسير الغربي الملحد الذي يرى في ذلك الكلام الذي يجيء على لسان محمد صورة من نشاط عقل باطن انفتح تماما على الحقيقة المطلقة.. إذا قلنا هذا فقد اعترفنا اعترافا مهذبا جدا و علميا بالوحي.. فما الحق المطلق سوى الله و ما الانفتاح على الله و الاتصال به إلا الوحي بعينه.

و لكن القصة لم تنته.

إن القرآن يزودنا بما هو أكثر من كل ما قاله العلم.. فيطلعنا على بعض الغيب.. على ما حدث في الملكوت في الملأ الأعلى عند خلق آدم و كيف أسكنه جنته يأكل منها رغدا كيف يشاء إلا من شجرة واحدة عينها له.. و كيف أسجد له الملائكة.

و يروي لنا القرآن كيف أن الملائكة سجدوا لآدم:

(( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه..)) (50 – الكهف)

و يقول إبليس في كبرياء و غرور مبررا عصيانه للأمر الإلهي بالسجود لآدم:

(( أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين)) (76 – ص)

إنه لم يدرك حكمة الله في تشريف ابن الطين.. و لكن الله وحده كان يعلم أن آدم سوف يتعذب نتيجة خلقته المتصارعة من التراب و من الروح و أنه سوف يعاني عناء هائلا و يتمزق بين رغبات جسده الهابطة و سبحات روحه و ضميره المتعالية.

(( لقد خلقنا الإنسان في كبد)) (4 – البلد)

أي في مكابدة مستمرة و صراع و عناء.

و إنه سيبلغ بهذه المكابدة إلى مرتبة أعلى من مرتبة الجن و الملائكة، و يفوز بمواهب و لياقات أعلى من الإثنين.

و لهذا أسجد الله له الملائكة و سخرهم لخدمته و معونته.

و لكن إبليس في كبريائه و غروره و تجبره فاتته هذه الحقيقة و لم يذكر إلا أنه خلق من نار و أن آدم خلق من طين و أنه خلق قبل آدم.

(( و الجان خلقناه من قبل من نار السموم)) (27 – الحجر)

و نار السموم هي النار الصافية بلا دخان أو من الطاقة الخالصة ذاتها.. و هكذا رفض إبليس السجود لآدم و خرج من الحضرة الربانية رجيما مطرودا و بدلا من أن يرجع إلى الله تائبا آملا في رحمته و مغفرته.. فإنه يئس تماما من هذه الرحمة.. و هذه هي الخطيئة الثانية.. ثم أضمر الحقد و العداء و الانتقام من آدم الذي تصور فيه سببا لطرده و هذه هي الخطيئة الثالثة.. إنه الشيطان بعينه الذي يحاول أن يخرج من خطيئة بخطيئة و ينحدر من هاوية إلى هاوية.

و هكذا راح يغري آدم بالأكل من الشجرة و يزينها له و يصورها بأنها شجرة الخلود و هو يعلم أنها شجرة الموت.

(( و عصى آدم ربه فغوى)) (121- طه)

لقد منح الله آدم الحرية ( إذ نفخ فيه من روحه ) و خيره في أن يختار الدخول في طاعته فيكون شأنه شأن النجوم في أفلاكها تجري على نواميس الله الموضوعة و تسلم نفسها لسننه أو يكون حرا مسئولا فيحمل الأمانة.
(( إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)) ( 72 – الأحزاب)

و الإنسان لم يدرك مخاطر هذه الأمانة لجهله فظلم نفسه بحملها، و لأن الله كان يعلم مخاطر حمل هذه الأمانة.. و كان يعلم أنها سوف تلقي بالإنسان في مهالك الغرور.. فإنه لطفا منه و رحمة.. أمره بالطاعة و بالإسلام لكلمة الله بألا يأكل من الشجرة لتدوم له الجنة ( جنة الطاعة و الإسلام للناموس الإلهي).

و لكن الإنسان اختار أن يكون حرا مسئولا و أن يخرج عن الأمر الإلهي (بإغراء إبليس) فيأكل من الشجرة.. و هكذا وقع عليه التكليف و أصبح محاسبا منذ تلك اللحظة.. و حق عليه العقاب.

و كان العقاب هو الطرد و الإهباط من الجنة إلى عالم الكدح و العرق و التعب و المرض و الموت.

و كان الفرق بين خطيئة آدم و خطيئة الشيطان.. أن آدم رجع إلى الله تائبا طامعا في رحمته و أصر الشيطان على العصيان يائسا من رحمة الله.

(( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه..)) (37 – البقرة)

و أسبغ الله عليه رحمته و وعده بهداية نسله.. و أقامه خليفة على الأرض يحكم فيها بإرادته و عقله.

(( و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك..)) (30 – البقرة)

يقول الملائكة ذلك الكلام لأنهم رأوا هذا الآدم و شاهدوا نشأته و مراحل تخليقه من أسلاف تسفك الدم و تتصارع بالمخلب و الناب و لكن الله يقول لهم:

(( إني أعلم ما لا تعلمون)) (30 – البقرة)

و هو يعلم أن ذلك الإنسان قد استحق بهذه النشأة و هذه الجبلة المتصارعة من الطين و الروح درجة أرفع من درجة الملائكة. و أنه قد اكتسب لياقات تؤهله للخلافة.. و هو يكشف هذه الحقيقة للملائكة:

(( و علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات و الأرض.. (33) )) (البقرة)

ها هو ذا آدم الأرضي و قد امتلك لياقات أكبر من لياقات الملائكة، و نفهم من هذا أن الله قد جعل من هذا الآدم أول أنبيائه على الأرض.. فكلمة (( و علم آدم الأسماء كلها)) هي بداية الوحي و التنزيل و التعليم الإلهي.

و من حكاية تعليم الله الأسماء لآدم نتعرف على صفة أخرى في العقل البشري أنه معد و مؤهل لتعلم أسماء الأشياء فقط و ليس ماهيتها و أن العلم البشري هو علم بالحدود و المقادير و العلاقات الخارجية فقط، و أنه لا يستطيع أن يدرك كنه شيء.. و هو أمر ثابت في الفلسفة.

و الله في القرآن (( رب )) بمعنى مرب و راع و معلم و هاد رؤوف رحيم ودود يعنى بمخلوقاته و يخلق لها الحيل و الأسباب و يوفر لها الأرزاق.

و قد وعد الله آدم بإرسال الأنبياء لهداية نسله و أولاده.

(( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون)) (38 – البقرة)

و يشرح لنا القرآن معنى إتباع الإنسان لهدى الله.. و ذلك بأن يفطن الإنسان إلى خطئه و يعود إلى الجنة التي ضيعها أبوه.. جنة الطاعة و الإسلام للنواميس الإلهية.. و هذ هي الإنابة و الرجعة التي تتكرر في كل صفحة في القرآن.. أن يفطن الإنسان إلى أنه لا يملك إلا ضميره ( قدس الأقداس الذي تركه الله حرا بالفعل ) فيسلمه خالصا لله و يتجه به مختارا طائعا.. و قد وكل أمر نفسه إلى خالقه و خضع لنواميسه.. و بذلك يكون أفضل من الجمادات و من النجوم في مداراتها التي تسلم نفسها لسنن الله و قوانينه قهرا و بلا اختيار.. على حين يسلم هو نفسه لربه محبة و اختيارا و طواعية.

يفعل هذا و قد أدرك أن مشيئة الله واقعة إن طوعا و إن كرها.. و أن الله هو الخالق المهيمن على جميع الأسباب و أنه هو الوحيد الذي يملك الهداية و العلم و القدرة.

و تعود فتطالعنا آيات أخرى غامضة في القرآن نفهم منها أننا نحن: ذرية آدم كانت لنا حياة قبل حياتنا الأرضية.

(( و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) و كذلك نفصل الآيات و لعلهم يرجعون (174) )) ( الأعراف)

إن الله يفصل لنا في هذه الآيات واقعة غريبة.. يفهم منها أننا كنا في حضرة الله قبل النزول إلى الأرحام ( في عالم المثال و الملكوت ) ربما كأرواح أو نفوس لا أحد يدري.. و أن الله أشهدنا على ربوبيته و أخذ منا ميثاقا بهذا الشهود حتى لا نعود فنكفر و نبرر كفرنا بأننا كنا ضحية الآباء.

و نعود فنقرأ عن هذا الميثاق في آيات أكثر غموضا في سورة ( آل عمران):

(( و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال أأقررتم و أخذتم على ذلكم إصري ( عهدي ) قالوا أقررنا قال فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين)) ( 81 – آل عمران)

ها هم أولاء الأنبياء مجموعون ليأخذ الله عليهم ميثاق غليظا بأن يؤيد بعضهم بعضا.. كيف كان ذلك؟ .. و أين؟ .. و متى؟..

هي آيات كواشف تشير إلى مرحلة روحية عشناها في الملكوت قبل النزول إلى الأرحام.. و إلى أنه كان لنا ثمة وجود قبل الميلاد كما أن لنا وجود بعد الموت..

و في أسماء الله أنه (( الخالق البارئ المصور )).. الخالق الذي خلقنا أرواحا و البارئ الذي أعطانا رخصة الوجود كما يعطي الملك براءة الوسام لحامله.. و المصور الذي صور لنا القوالب المادية التي نزلنا بها في الأرحام.

و في حديث شريف يشير نبينا محمد – صلى الله عليه و سلم – إلى هذا الوجود الروحي السابق للميلاد حينما يقول: (( كنت نبيا و آدم يجدل في طينته)).

و يقول الله في القرآن لمحمد:

(( قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين (163) )) ( الأنعام)

و هي كلمات تعني سبق الوجود المحمدي على جميع الأنبياء إذ يعتبر القرآن جميع الأنبياء مسلمين و محمد أولهم.

و هي إشارات تدل على وجود روحي سابق على الميلاد كنا فيه في عالم ملكوتي قبل أن ننزل إلى الأرحام.


•••


و يحدثنا القرآن في قصة الخلق عن السماوات السبع.

(( الذي خلق سبع سماوات و من الأرض مثلهن.. )) (12 – الطلاق)

(( الذي خلق سبع سماوات طباقا.. )) (3 – الملك)

(( و لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق..)) (17 – المؤمنون)

(( و بنينا فوقكم سبعا شدادا)) (12 – النبأ)

و السماوات السبع سر لا يفهمه العلم و لكن هناك أمرا مثيرا للتأمل.. أن يكشف لنا العلم مثلا أن الضوء سبعة ألوان هي ألوان الطيف و سبع درجات من الأطوال الموجية من الأحمر إلى البنفسجي ثم يعود فيتكرر السلم في سبع درجات أخرى من تحت الأحمر لفوق البنفسجي.. و بالمثل السلم الموسيقي سبع درجات ثم تعود الثامنة فتكون جوابا للأولى و هكذا تتكرر النغمات سبعات سبعات.

و نعرف أيضا في علم الأجنة.. أن الجنين لا يكتمل نموه إلا في الشهر السابع، و أنه إذا ولد قبل السابع يموت.

و منذ بدأنا نعرف الأيام قسمناها سبعات سبعات، و عرفنا الأسبوع كوحدة زمنية للحساب.. اتفق الناس من كل الأجناس و الأديان و الألوان على ذلك منذ الماضي السحيق و التقوا عليه دون أن يكون بينهم اتفاق مكتوب.. لماذا؟ .. و كيف؟ لا ندري.

ثم نكتشف أخيرا أن درجات الطيف السبعة في ضوء الشمس سببها نقلات سبعة للإلكترون عروجا في أفلاك سبعة حول نواة ذرة ( الإيدروجين).. كلما قفز الإلكترون في فلك خارج النواة أطلق شحنة هي التي تعطي الطيف المناظر.

و تحدث هذه القفزات في باطن الشمس ( المكون من غاز الإيدروجين) من فرط الحرارة التي تتجاوز ملايين الدرجات.. فتنفرط الإلكترونات خارجة من ذراتها و تطلق الضوء الشمسي المعروف.

و نفهم من هذا أن ( الإلكترون) يعرج صاعدا في سبعة أفلاك أشبه بالسماوات السبع.. ثم في عودته هبوطا من سماء إلى سماء تحتها لا بد له أن يتخلص من غل من أغلال الطاقة التي امتصها.. فتنطلق هذه الطاقة على شكل حزمة ضوئية من طيف معين.. إلى أن يعطينا الأطياف السبعة للضوء الأبيض.

و كأنما الذرة و هي النموذج المصغر للكون فيها سبع سماوات.

هل معنى هذا أننا سوف نكتشف يوما ما أن الوجود مرتب في سبع درجات في جميع حالاته.. و أن هناك سلما يكرر نفسه من أسفل سافلين إلى أعلى عليين.. سبع سماوات و سبع أرضين.. مثلما للضوء سبع درجات و الصوت سبع نغمات و الإلكترون سبعة أفلاك.. و إن ما ورد في القرآن حول الرقم سبعة ( عن جهنم التي لها سبعة أبواب و عن الأرضين السبع و السماوات السبع و عن سبع سنوات عجاف و سبع بقرات سمان و عن استواء الله على عرشه في اليوم السابع من أيام الخلق).. كل هذه إشارات إلى هذا السر الخطير من أسرار الكون.

لا شك أن القرآن هنا يبدو بكل ثقله و خطورته مشيرا إلى مسألة علمية غاية في الأهمية.


•••


و مثال ذلك اللمحة العلمية الأخرى التي نصادفها في القرآن حينما نقرأ عن الله عز وجل أنه:

(( إن الله فالق الحب و النوى يخرج الحي من الميت و مخرج الميت من الحي..)) (95 – الأنعام)

و قد فهم منها المفسرون القدامى انفلاق نواة البلحة عند الإنبات و أنه بهذا تجدد النخلة حياتها فتخرج الساق الحي من النوى الميت.

فهل كانت مصادفة أن يكشف لنا العلم التشريحي أن الخلية أيضا تجدد حياتها بأن تنفلق نواتها و أن هذه هي الطريقة التي تلد بها الخلية فتصبح خليتين.

و هل كانت مصادفة أن يكشف لنا العلم أن الذرة لا تخرج طاقتها المكنونة إلا بانفلاق نواتها أيضا فيخرج منها الحي من الميت ( ميلاد الطاقة الذرية من المادة الموات).

هي مجرد تأملات.


•••


و الشيء نفسه حينما تحكي لنا سورة ياسين عن الله:

(( الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض و من أنفسهم و مما لا يعلمون)) (36 – يس)
و نعلم أن الله خلق النبات من زوجين ذكرا و أنثى كما خلقنا من زوجين و الجن من زوجين.

و ما لم نكن نعلمه و ما كشفه لنا العلم أن هذه الزوجية هي في الأشياء أيضا:

(( و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)) (49 – الذاريات)

فالكهرباء فيها الشحنتان السالبة و الموجبة.

و المغانطيسية فيها الاستقطاب إلى قطبين.

و في الذرة الإلكترون و البوزيترون.

و البروتون و النيوترون.

و في الكيمياء العضوية.. الجزيء اليساري و الجزيء اليميني.

و نعرف الآن المادة.. و المادة المضادة.

و الثنائية الإزدواجية في تركيب الأحياء و الجمادات يكشف لنا العلم أسرارها كل يوم.

و هي إشارات و لمحات و قطرات من بحر القرآن المليء بالكنوز و الأسرار.


•••


و ربما كان أعمق هذه الأسرار ما جاء في القرآن وصفا ليوم القيامة بأن البحار تفجر و تضرم فيها النيران:

(( و إذا البحار سجرت)) (6 – التكوير)

(( و سجرت)) معناها أضرمت نارا.

و في سورة الانفطار يعود القرآن إلى هذه الإشارة:

(( و إذا البحار فجرت (3) و إذا القبور بعثرت (4) )) ( الانفطار)

و في سورة الطور يقسم الله بهذا الحدث فيقول جل من قائل:

(( و البحر المسجور (6) إن عذاب ربك لواقع (7) )) ( الطور)

إنه يقسم بالبحر إذ يفجر و يضرم نارا يوم القيامة بأن العذاب واقع و أنه حق.

و القسم فيه لفت نظري لأهمية الحدث و جسامته.. و قد ظل (( البحر المسجور)) في نظري لغزا عجيبا حتى وقعت في يدي خريطة لتوزيع الأحزمة البركانية و الزلزالية على الأرض في أثناء قراءة عن النشاط البركاني و أسراره. و كانت الخريطة بداية لدوامة من التأمل.

فالمؤلف و هو العالم الجيولوجي الدكتور ( بو) يقول لنا بالرسم و الإحصاءات إنه من خمسمائة بركان و هي كل ما نعرف من براكين على الأرض وجد أن معظم هذه البراكين تصطف في حلقة حول المحيط الهادي و في خط بطول البحر المتوسط و خط بحافة الأطلسي.. و أعجب من هذا أنه وجد أن قاع المحيط الهادي يتكون من البازلت و هو صخر بركاني.. و معنى هذا أن جوف الأرض الناري هو أقرب ما يكون إلى السطح عند قاع المحيط الهادي و البحرالمتوسط و الأطلسي، و أن هذه الأمكنة تحت الماء تمثل نقاط الضعف في القشرة الأرضية حيث يحدث بين وقت و آخر أن تنفجر البثور البركانية فتقذف بالحمم من جوف الأرض الملتهب إلى السطح.

ثم يمضي المؤلف فيحصي لنا عددا من أعظم تلك البراكين التي تشكل حلقة من النيران حول الماء و تحت الماء يذكر لنا منها بركان ( فوجياما) و بركان ( مايون) و بركان ( تال) و بركان ( كركاتوا) و بركان ( أورزابا) و بركان ( باريكوتين) و بركان ( كوتوباكسي) و بركان ( شيمبوراز) و البراكين الثلاثة ( مونت لاسن و مونت هود و مونت رينير).. هذا غير جزر بركانية تقوم وسط المحيط مثل: جزر ( هاواي) و هي مجموعة من الجزر شيدتها البراكين.. و من أعجب مايراه السائحون فيها مشهد حفرة ( كيلاويا) النارية و يسميها أهل البلاد ( هاليوما) أي بيت النار.. و فيها يمكنك أن ترى رأي العين الحمم المتوهجة و هي تغلي و تفور و تبصق نافورات النار على أعماق سحيقة داخل الفوهة.

و بين براكين البحر المتوسط أكبرها بعد ( فيزوف) هو بركان ( أتنا) بصقلية و إلى الشمال منه يقع بركان ( سترمبولي) الذي يثور بصفة مستمرة و يلمع كل ليلة بالضوء الأحمر و يسميه الملاحون منارة البحر المتوسط.

و في شرق البحر المتوسط مجموعة أخرى من البراكين من بينها جبل ( أرارات).. و في الأطلسي جزر ( الكناري و آزور و كاب فرد) و كلها جزر بركانية.

ثم تطالعنا الإحصاءات بحقيقة أخرى دامغة فتقول إن 80 % من النشاط الزلزالي يقع هو الآخر في الحزام الذي يحتضن المحيط الهادي و إن معظم الهزات الزلزالية تقع في قاع البحار.

إن ذروة الاضطراب البركاني و الزلزالي واقعة إذن حول الماء و تحت الماء حيث جوف الأرض الناري المتأجج بالحرارة قريب من السطح، لا يحفظه من التفجر إلا توازن القشرة الأرضية الدقيق و الجبال الهائلة التي تعمل كثقالات و أوتاد تحفظ هذه القشرة في مكانها، و ترسيها فلا تميد فوق بحر النار المضطرب في الداخل.

و في ذلك يقول القرآن عن تلك الجبال الرواسي.

(( و ألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم و بث فيهما من كل دابة.. )) (10 – لقمان)

و في مكان آخر يصف الجبال بأنها أوتاد.. (( و الجبال أوتادا)) (7 – النبأ) و هو وصف علمي و دقيق فهي بالفعل أوتاد..

فإذا جاء وعد الآخرة و نسفت هذه الجبال تدفقت حمم النار من نقطة الضعف الكبرى و هي قيعان البحار و ألقت الأرض بجوفها الملتهب.

(( إذا زلزلت الأرض زلزالها (1)و أخرجت الأرض أثقالها (2) )) (الزلزلة)

و أضرمت النيران في مياه البحار و المحيطات و كان ذلك (( البحر المسجور)) الذي فجرت مياهه نارا. و الذي أقسم به الخالق..

(( و برزت الجحيم لمن يرى)) (36 – النازعات)

و نعلم أن الحرارة في جوف الأرض تبلغ ألوف الدرجات، و أن بطن الأرض هو أتون فوار من الحديد المنصهر و الحجارة المنصهرة و الحمم، و لعل هذا الباطن الناري هو الجحيم التي يقول فيها خالقنا:

(( وبرزت الجحيم للغاوين)) (91 – الشعراء)

(( و برزت الجحيم لمن يرى)) (36 – النازعات)

و الإبراز كلمة دقيقة محددة تعني إخراج شيء من حالة بطون إلى حالة ظهور.. من الجوف إلى السطح.

و لعل هذا الباطن الفوار هو أسفل سافلين الذي سوف تتهابط إليه الأرواح الكثيفة الظلمانية.. و هو تلك النار التي وقودها الحجارة.

هي إشارات.. و لمحات.. و كلمات بعيدة الغور.. تلتقي فيها روعة البلاغة بدقة العلم.

و لا يمكن أن يكون هذا الالتقاء مصادفة.. و أن تكون تلك الموافقات العديدة بين أحدث علوم العصر و بين كلمات القرآن الأزلية.. أمورا عشوائية اعتباطية جاءت مصادفة و اتفاقا.



ملحوظة: يوجد جزء في هذا الفصل لم تتم طباعته و هو محاولة من الكاتب للتوصل إلى ماهية الشجرة المذكورة في القرآن لذا وجب التنويه.






الجنة و الجحيم



كان من أسباب انصرافي عن القرآن في شبابي ما قرأته عن أنهار العسل و أنهار الخمر في الجنة.. و أنا لا أحب العسل و لا أحب الخمر.. فاعتبرت هذه سذاجات و انسحب حكمي على القرآن ثم على الدين كله.

و الساذج في واقع الأمر.. لم يكن إلا أنا.

فأنا لم أحاول أن أتفهم النص القرآني و لا أن أعكف حتى على ظاهر عبارته فما بال باطنها.. و كنت في عجلة من أمري.. و كان الانصراف غايتي و شهوتي.. و غطت هذه الشهوة على كل شيء فضاعت معالم الحقيقة من أمامي.. و فاتتني أمور كانت شديدة الوضوح.

فماذا يقول القرآن في الجنة؟

(( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15) )) [ محمد ]

و الآية تبدأ بأنها ضرب مثل. ((مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ.. )) و ليست إيرادا لأوصاف حرفية. فهذا أمر مستحيل لأن الجنة و الجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا.

تماما كما يسألك الطفل عن اللذة الجنسية.. فتحتار كيف تصفها له فهي بالنسبة له غيب خارج عن حدود خبراته تماما. و بعد أن تعجز عن توصيل المعنى إليه تقول على سبيل ضرب المثل و على سبيل التقريب.. إنها شيء مثل السكر.

لقد اخترت له شيئا من خبراته اليومية.

و مع ذلك فما أبعد المعنى.

و ما أبعد الفارق بين اللذة الجنسية و بين طعم السكر العادي المبتذل.

و بالمثل كان موقف القرآن في مخاطبة البدوي البسيط.

و كل أمنية البدوي الذي يعيش في هجير الصحراء أن يعثر على نبع ماء عذب. فكل ما يجد من مياه ما هي إلا ينابيع مالحة آسنة.

و كذلك اللبن.. فما أسرع ما يختمرو يتغير طعمه في حر الصحارى.. فيضرب له القرآن المثل من أعز ما يتمنى.

(( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.. (26) )) [ البقرة ]

فكل الغاية هي تقريب تلك المعاني المستحيلة بقدر الإمكان.

و كل ما جاء عن الجنة و الجحيم ما هو إلا ألوان من ضرب المثال.. و ألوان من التقريب و ألوان من الرمز.

و في العهد القديم يصف ( أشعيا ) يوم الرضوان قائلا:

(( يصنع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن و وليمة خمر و يمسح السيد الرب الدموع من كل الوجوه )).

و في تراتيل القديس ( أفرايم ):

(( و رأيت مساكن الصالحين.. رأيتهم تقطر منهم العطور و تزينهم ضفائر الفاكهة و الريحان.. و كل من عف عن الشهوات تلقته الحسان في صدر طهور )).

إنها صور مشتركة في جميع الأديان.

و لكن القرآن لا يتركنا في ضباب الأمثلة فما يلبث أن يقطع بالقول الفصل:

(( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) )) [ السجدة ]

إنه يحيل القضية كلها إلى غيب لا يمكن التعبير عنه بلغة الأرض.

هنا كل منى العين و القلب مما لا يمكن تصويره بألفاظ.

أما جهنم فهي شيء فظيع.. لا هي بالحياة و لا هي بالموت.

(( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) )) [ إبراهيم ]

(( فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.. (24) )) [ البقرة ]

ثم يشرح لنا أكثر:

(( لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) )) [ الزمر ]

ها هو ذا يبين لنا حقيقة جديدة.. فيقول إنه يورد الألفاظ للتخويف. و لكنه ليس تخويفا على غير أساس.

إنه مثل تخويفك لابنك حين تحذره من إهمال نظافة أسنانه و تقول له: إذا لم تنظف أسنانك بالفرشاة فإن السوس سوف يأكل أسنانك.. تقول ذلك محبة منك و رحمة لطفلك.

و بالطبع.. السوس لن يأكل أسنانه.. إنما هي ميكروبات و فيروسات غير مرئية.

و لكن التخويف كان على أساس.. لأن ما سوف يحدث له إذا أهمل نظافة أسنانه سيكون ألعن من أكل السوس.

و من جرب الآلام الرهيبة لضرس مسوس.. يعرف أنها أسوأ من كل ما سمع من تحذيرات.

إنه تخويف العزيز الرحيم من شيء سوف يحدث بالفعل و سيكون أسوأ من جميع ما قيل و كتب.. مما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

إن العذاب حق.. و الثواب حق.

و هنا يعترض معترض.

ألا يتنافى مع رحمة الله و مع عظمته أن يعذب.. و يعذب من !.. إنسانا مسكينا لا يساوي ذرة أو هباء في مملكة الله اللانهائية.

و هو اعتراض كان يشغلني دائما و كان يصرفني دائما عن قبول فكرة العذاب و بالتالي عن القرآن و عن الدين كله.

و السؤال يحتاج منا إلى أن نتعمق في معنى كلمة عذاب.

و الله بالفعل لا يعذب.

إنما هو فقط يعدل.

و لو أنه ساوى في آخرته بين ظالم و مظلوم.. و بين قتيل و القاتل الذي قتله.. لو أنه فعل ذلك بحجة الرحمة لكان أبعد ما يمكن عن الرحمة.. و عن العدل.. فالمساواة بين غير المتساويين ظلم فادح.. تعالى الله عن أن يقع فيه.

ثم هي الفوضى أن يكون الأبيض في عين الله كالأسود، و الأعمى كالبصير، و الميت كالحي، و الذي يسمع كمن لا يسمع.

و الكون ينفي الفوضى.

تأمل كل جزئية في الكون تكشف لك عن النظام المحكم و القانون الذي لا يفوته واحد من ألف من المليجرام.

و حركة إليكترون من مدار إلى مدار في داخل الذرة لا تتم إلا بحساب، فهو لا بد أن يعطي حزمة من الطاقة ليقفز إلى الخارج قفزة مساوية، و لا بد له أن يمتص حزمة أخرى ليقفز إلى الداخل قفزة مساوية.. إنه محاسب في حركاته.. و هو إليكترون.. فما بال الإنسان العاقل و هو بالنسبة للإليكترون كالمجرة و الفلك بالنسبة للإنسان.. و قد نفخ الله فيه من روحه فهو شيء عظيم.. و ليس في هوان الذرة و لا الإليكترون.

ثم ما معنى أن يموت مظلوما و ظالما فيصبح ترابا بلا بعث و يذهب ما حصله من خير و شر و علم و حكمة سدى.

إنها تكون مجرد سخافة.

(( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) )) [ الجاثية ]

و هو ظن خاطئ.. لأن الحياة تكون به مجرد لعبة عبثية و باطل في باطل.

(( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) )) [ القيامة ]

و العقل المتأمل لا يقول هذا أبدا. إنه ليتفكر في خلق الكون و نواميس الفلك المحكمة و يهتف من أعماقه:

(( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ.. (191) )) [ آل عمران ]

مستحيل أن ينتهي كل هذا إلى باطل.. لا بد أن هناك استمرار بطريقة ما.. و لا بد أن يتضح لنا الحكمة من كل هذا في ميقاتها.

إتها قضية عدالة و قضية منطق و ليست قضية تعذيب لهدف التعذيب، و الذي سوف يحدث لنا بعد البعث هو أن كل واحد ستلازمه رتبته و درجته التي حصلها في الدنيا لا أكثر.

(( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) )) [ الفرقان ]

فمن عاش لا يسمع و لا يعقل و لا يبصر الحق سوف يحشره الله أعمى:

(( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) )) [ طه ]

إنها مجرد صفتك تلازمك (( سوف يكون لزاما )).

إن الله لا يعذبك.. و لكنك تعذب نفسك بجهلك.

(( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) )) [ النحل ]

من عاش حيوانا لا هم له إلا أن يأكل و يضاجع فهو في الحياة الثانية له رتبة الحيوان أو الرتبة السفلى بالنسبة لغيره ممن عاشوا يتأملون و يعقلون.

(( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) )) [ الإسراء ]

و في الآخرة تتزايد الفروق و تتضاعف.. فما بين اثنين سوف يكون أكثر بمراحل من فارق الدرجة بين حيوان و إنسان.

(( انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) )) [ الإسراء ]

(( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ.. (124) )) [ الأنعام ]

إن هذا الصغار سيعذب و يحرق.. لأنه سيكون حسرة على صاحبه حينما يرى مكانته و مكانة الآخرين و مقدار ما خسر و مقدار ما كسبوا.

(( رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ.. (192) )) [ آل عمران ]

الله يعتبر الخزي في هذه الآية أشد من النار إيلاما.

و كما يصف الإنجيل هذا العالم الآخر (( عالم البكاء و صرير الأسنان )). المجرم فيه يصر على أسنانه ندما على ما يرى من هوان شأنه أمام الدرجات العالية التي أصابها الآخرون. و يصف القرآن أهل الجنة في تلك الدرجات بأنهم المقربون. المقربون من الله.. من الحق.

(( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) )) [ القمر ]

و يروي لنا أن الله يكلمهم و ينظر إليهم و أنهم على أسرة الملك متقابلون قد نزع الله ما في قلوبهم من غل فأصبحوا إخوانا متحابين.

و يصف الجنة بأنها دار السلام.. و أنه لا حرب فيها و لا كذب و لا لغو و لا سباب.

و بعد أن يستطرد في الآية الثانية و السبعين من سورة التوبة في وصف الجنات التي تجري من تحتها الأنهار و المساكن الطيبة في جنات عدن يختم الآية قائلا:

(( وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ (72) )) [ التوبة ]

و المعنى واضح.. إن مقام الرضا.. رضا الله أعظم من كل تلك اللذات المادية.

ثم يتأكد المعنى من هذه الآية في سورة الإسراء التي توصي بالتهجد في الليل.

(( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا (79) )) [ الإسراء ]

إنها إذن مسألة مقامات. كل واحد يبعث على رتبته و مقامه.

الله لا يعذب للعذاب.

و إنما يأتي العذاب و احتراق الصدر من إحساس من هم في أسافل الدرجات بالغيرة و الحسد و الهوان و الخسران الأبدي الذي لا مخرج منه.. و سوف يحرق هذا الإحساس الصدور كما تحرقها النار و أكثر.. و سوف يكون هو النكال و التنكيل.. ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التي وضع نفسه فيها و التي انحدر إليها بأعماله في الدنيا.

و مما يدل على أن النار في الآخرة هي غير ما نعرف من نارنا هذه الآيات من سورة الأعراف:

(( وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا ( حتى إذا أدرك بعضهم بعضا ) قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) )) [ الأعراف ]

إنه حوار و مكالمة في النار تجرى بين المعذبين.. و في مثل نارنا لا يمكن أن يجرى حوار بين اثنين يحترقان.

و المعنى الثاني العميق في الآية (( لكل ضعف و لكن لا تعلمون )).

إن أمامنا اثنين يتعذب الواحد منهما ضعف الآخر مع أنهما في المكان نفسه، و معنى هذا أن العذاب في الشخص و ليس في المكان ذاته.. و هذا لا ينفي أن يكون العذاب المذكور حسيا، بل إنه من الممكن أن يكون معنويا و حسيا في نفس الوقت ( كما يحدث أن يتعرض اثنان للحر اللافح فيصاب أحدهما بالصداع على حين يتحمل الآخر بسبب اختلاف درجات اللياقة عند الإثنين ) و الصداع ألم حسي و معنوي.

و لا ينفي أن يكون نارا و لكنها نار غير ما نعرف من نارنا.

و يروي القرآن عن أهل الجنة و كيف أنهم يتذكرون و هم يأكلون فاكهة الجنة أنهم قد رزقوا أنواع هذه الفاكهة حينما كانوا على الأرض ( مع الفارق في الجودة ).

و كيف أن لهم زوجات في الجنة و لكنهن زوجات مطهرات ( لسن كزوجات الأرض يعانين الحيض و المخاض شكسات غيورات متسلطات ).

تقول الآية عن هؤلاء الصالحين في الجنة:

(( كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) )) [ البقرة ]

و الجنة بهذه الصورة هي درجة و مقام.. فيها كل ما نعرف على الأرض و لكن مع تفاوت هائل في الرتبة.. تفاوت يفوق التصور.. تفاوت مثل التفاوت بين الزمن و الأبد و مثل التفاوت الذي ذكرناه بين طعم قطعة السكر و طعم اللذة الجنسية الحادة بالنسبة لبالغ.

و إذا ذكر العسل في مثل هذه الجنة فهو عسل و لكم لا كما نعرف من عسل، و اللبن هو اللبن و لكن لا كما نعرف من لبن، و النساء لا كما نعرف من نساء.

إنها ستكون أشياء مدهشة كالغيب بالنسبة لما نعلم.. يقول الشاعر عن امرأة يحبها إن جسمها يضيء كأنها صيغت من النور.. إنها أحلام يمكن أن تكون هناك حقائق.




و بالمثل ما يروي القرآن عن النار.. فهي نار لا كما نعرف من نار.. نار تنبت فيها شجرة لها ثمر ( شجرة الزقوم ).. و فيها ماء حميم يشربه أهلها.. و المعذبون فيها يتكلمون و يتحاورون فأجسادهم لا يمكن أن تكون لها نفس كيمياء الأجساد كما نعلمها و إلا لتبخرت دخانا في لحظات و لما استطاعوا أن يتبادلوا كلمة.

و معنى هذا أننا سوف نبعث أجسادا و لكن لا كالأجساد.. ربما كيانات لها ذات الهيئة و الصورة و لكن من مادة مختلفة هي بالنسبة لنا غيب.. إنها لن تكون الأجساد الترابية التي نتكون منها الآن في حياتنا الأرضية.

و لهذا يمكن أن تتضاعف المتع حسيا و معنويا بطريقة نجهلها.

كما تتضاعف درجات العذاب حسيا و معنويا عما نعلم و كما يتوزع الناس مراتب و درجات بحسب لياقتهم.. تكون لكل مرتبة مواصفاتها الحياتية التي تكفل لمن فيها حظوظا من السعادة أو الشقاء كل حسب قدره، و أتصور أن أعلى الناس قدرا في الجنة هم الذين سيرتفعون عن متع الحواس و جنة الحواس و يختار لهم الرحمن درجة الحياة الروحية الخالصة إلى جواره في سدرة المنتهى، حيث لا تكون اللذة هي لذة طعام و لا لذة شراب و لا لذة حور عين و إنما لذة النظر إلى الله في كماله و لذة تأمل الحق و الجمال و صورة الخير المطلق.

إنها لذة الجالس (( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) )) [ القمر ]

و هي مرتبة المفضلين من الأنبياء و من في مقامهم.

و هكذا تشتمل الجنة على جميع الدرجات من المتع الحسية من مأكل و مشرب ارتفاعا حتى المتع الروحية الخالصة ينال كل منا ما تؤهله له رتبته.

كل هذه آيات كواشف ذات دلالة تدلنا على أن النار ليست هي نارنا و لا الجنة هي سوق الخضار و لا الله هو الباطش الإرهابي.

و إنما الله سوف يبعث كل واحد على رتبته و مقامه و درجته، لأن هذا عين العدل و هو العادل.

و إنما سوف يتأتى العذاب من تفاوت الرتب تفاوتا عظيما، ثم بالسقوط في تقييم أبدي لا مخرج منه يلزم صاحبه كما تلزم الإصبع بصمتها.

و هو عذاب أكيد و جحيم أكيد سوف نراه عيانا و يقينا:

(( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) )) [ التكاثر ]

و لأن الله يعلم أن هذا العذاب سوف يكون رهيبا.. فقد حذرنا و خوفنا بالألفاظ المجلجلة و أرسل لنا الأنبياء مبشرين منذرين مؤيدين بالمعجزات و الخوارق و الآيات و الكتب.. فعل ذلك رحمة منه و حنانا و عطفا.. و هو القائل في حديثه القدسي: (( سبقت رحمتي غضبي )).

و في سورة الفاتحة يصف نفسه أولا بأنه الرحمن الرحيم قبل أن يقول مالك يوم الدين.. و هو يوم الحساب.. يوم الغضب.. يوم يحق القول على العالمين بلا رجعة.

و لأنه رحيم فقد فتح باب التوبة و إصلاح الخطأ على مصراعيه.

(( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا.. (53) )) [ الزمر ]

ثم أقام شروط المغفرة:

(( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) )) [ طه ]

و أمر بالصلاة.. ثم قال: (( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.. (45) )) [ العنكبوت ]

أن تتذكر أن هناك قوة إلهية و أن يشخص هذا المعنى في ذاكرتك و في أفعالك على الدوام.. ينجيك و يحقق لك شرط المؤمن و يكون أفضل من صلاة المصلي الذي ليس في قلبه ذكر.

و كلمة (( الذكر )) في القرآن كلمة عميقة المعنى و الدلالة. فالقرآن نفسه اسمه ذكر، و التدين و الإيمان هو مجرد تذكر:

(( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9) )) [ الزمر ]

(( وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) )) [ الصافات ]

(( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) )) [ الحجر ]

(( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17) )) [ القمر ]

(( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) )) [ الغاشية ]

(( وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29) )) [ ص ]

(( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) )) [ الأعراف ]

و هنا ينبغي أن نقف وقفة تأمل طويلة.

فما هو هذا التذكر المطلوب.

إن أحدث النظريات النفسية تقول لنا: إن المعارف كلها تكون مخبوءة مكنوزة داخل نفس الإنسان و لكن تحجبها عنه غرائزه و شهواته.. و لهذا فالتعلم هو في حقيقته تذكر. بارتفاع حجب النفس و شفوفها.. و لا يكون تعلما من عدم.

فالطفل لا يتعلم أن ( 2 + 2 = 4 ) و إنما هو فقط يتذكر حقيقة باطنة في روحه، ولد بها.

و بالمثل الإحساس بالجمال و الطرب هو نوع من التذكر المبهم لعالم القدس و ما فيه.. عالم الملكوت الذي كنا فيه قبل النزول إلى الأرحام.

و لهذا السبب فإن جمال المرأة مثلا هو جمال زائر و ليس جمالا مقيما لأنه ليس جمالها هي.. و إنما هو ظل ينعكس عليها من الملكوت.. ثم ما يلبث أن يفارقها حينما يتغلب قانون المادة و الشيخوخة و التراب.

قبل ميلادنا.. كانت لنا ثمة حياة كأرواح.

و في ذلك تقول الآية القرآنية البديعة:

(( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) )) [ الأعراف ]

و الآية تروي ما كان في الغيب قبل الميلاد و قبل النزول إلى الدنيا.

و كل الخلائق مما خلق الله و يخلق و سيخلق مثل الذر في كفه ينظر إليهم و يشهدهم على أنفسهم.. ألست بربكم.. فيقولون بلى شهدنا.. و هو بهذا يأخذ عليهم ميثاقا غليظا لأنه يعلم أنه بعد الهبوط في الأرحام و انسدال حجاب اللحم الكثيف و نزول غشاوة الحواس و الشهوات و الغرائز و الأهواء أنهم سوف ينسون تماما.. و سوف يتخبطون في نكران وكفر و جهالة.

و هو.. رحمة منه يرسل لهم الأنبياء يذكرونهم.

و يقول لمحمد – صلى الله عليه و سلم - :

(( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) )) [ الغاشية ]

و يقول عن الإيمان إنه حياة.

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.. (24) )) [ الأنفال ]

لأن اتصال الوجود الدنيوي بالتذكر بالوجود الملكوتي الأول ثم بالوجود الأخروي.. هو فطنة الإنسان إلى حياته بكاملها. و هي الحياة كل الحياة.

و الله ليس بحاجة إلى صلاتنا و لا إلى صيامنا و لكن نحن المحتاجون.. لعلنا في صلاتنا العميقة نتذكر و لعلنا بالعبادة و التوجه نتصل بنبع وجودنا.. و نستمد منه حياتنا.

إن الصلاة و العبادة استمداد. نحن الذين نحتاج إليها لتكون لنا حياة. و ليس الله.. لأن الله هو الحي بذاته المستغني بوجوده عن كل شيء.

أما نحن فلا يمكن أن تكون لنا حياة إلا بمدد منه.. من الله.. الحي الذي به الحياة.

و نفهم من هذا أن الله فرض الفروض ووضع شرائع العبادات من أجلنا و ليس من أجل أن يشعر بألوهيته. فهو في غنى عنا.. و في غنى عن أن يعذبنا.. و في غنى عن أن يطلب منا طلبا أو يفرض علينا فرضا.

(( مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ.. (147) )) [ النساء ]

لا مصلحة لله في تعذيب خلقه و لا حاجة له في ذلك.

و هو بالفعل لا يفرض علينا فرضا و لا يطالبنا بطلب و لا يقيم علينا عذابا، كل هذا يبدو من ظاهر العبارات فقط. أما باطن القرآن الذي يكشف نفسه لكل من جاهد في الفهم، إن الله هو الرحيم مطلق الرحمة، العادل مطلق العدل الذي يعطي مطلق العطاء و لا يأخذ شيئا و لا يحتاج لشيء.

و إذا كان في الدنيا ألوان من العذاب فهي من عيون رحمته.

(( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) )) [ السجدة ]

إنها محاولات لإيقاظ العقل الغافل لعله يتذكر و يرجع و ينجو بنفسه من عذاب أكبر في الطريق. عذاب لن يكون منه مخرج و لا مهرب. حينما تحق على كل واحد رتبته و درجته.

و نفهم من القرآن أن سنة الله أن يوقظ الغافلين في الأرض فيبتليهم بكل صنوف البؤس و المرض و العذاب لعلهم يفطنون إلى ما في الدنيا من زوال و ما وراءها من حقيقة باقية.. يفعل هذا رحمة بهم و لأنه يعلم ما ينتظرهم من ناموس عادل لن يلطف بهم.. حتى إذا نفذت فيهم كل هذه الآلام الدنيوية و لم يتيقظوا.. فتح الله عليهم أبواب كنوزه ليتمتعوا.. و حقت عليهم كلمته بالهلاك في الآخرة.

(( وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) )) [ الأنعام ]

فما يبدو لنا أنه نعمة قد يكون في الحقيقة نقمة:

(( فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) )) [ التوبة ]

(( أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ (56) )) [ المؤمنون ]

(( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178) )) [ آل عمران ]

فليس الخير الظاهر في الدنيا و النعمة الغامرة بعلامة رضا الله في جميع الأحوال.. و لا عذاب الدنيا و بلائها بعلامة غضب الله في كل حال.. فقد يكون الخير غضبا و قد يكون البلاء لطفا.. و لا يكشف لك عن الحقيقة إلا صوت ضميرك.. إذا رأيت البلاء يطهرك فهو نعمة.. و إذا رأيت النعمة تطغيك فهي غضب.

ثم يتكلم القرآن عن أهل الجحيم:

(( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97) )) [ يونس ]

و إنهم إذ ينزل بهم عذاب الجحيم ليصطرخون متوسلين:

(( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ.. (27) )) [ الأنعام ]

(( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) )) [ الأنعام ]

إن الله يعلم أنهم لو ردوا للدنيا لعادوا إلى كبريائهم.

إنه جهل و إصرار على الجهل لا وسيلة لعلاجه.. لا الأنبياء و لا المعجزات و لا الخوارق و الآيات.. و لا حتى مرورهم على الجحيم بكاف لردهم إلى معرفة.

و من هنا يبدو البقاء في الجحيم رحمة، فهو بالنسبة لبعض الجبارين الوسيلة الوحيدة إلى المعرفة و التقويم.

إن الله رحيم دائما حتى في جحيمه.. و لهذا سمى نفسه (( الرحمن )).. أي الرحيم مطلق الرحمة في جميع الأحوال لمن يستحق و من لا يستحق.. يرحم من يستحق بالجنة و يرحم من لا يستحق بالجحيم.. فالجحيم كما رأينا هو تعريف لمن لا يعرف و لمن فشلت معه كل وسائل التعريف فهو نوع من الرحمة.. و لهذا يقول في أجمل آياته:

(( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.. (156) )) [ الأعراف ]

فأدخل عذابه ضمن رحمته التي وسعت كل شيء، و يفسر لنا الحساب فيقول:

(( اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) )) [ الإسراء ]

و الحساب هنا يبدو أنه حساب النفس للنفس و تنكيل النفس بالنفس و مواجهة النفس للنفس.

لقد لزم كل واحد عمله كظله و لا خلاص.. و حق القول.. و نفذ العدل الأزلي.

و لكن هذه المعاني تضيع في النظرة المتعجلة و القراءة السطحية و الوقوف عند الحروف و عند جلجلة الألفاظ.

و الألفاظ التي وصف الله بها القيامة كلها ألفاظ رهيبة ذات جلجلة و صلصلة.. تقرع الآذان كالأجراس، فهي الساعة، و الواقعة، و القارعة، و الزلزلة، و الدمدمة، و الغاشية، و الراجفة، و الرادفة، و الزجرة، و السكرة، و الطامة، و الحاقة، و الصاخة.

هل سمعت لفظا اسمه (( الصاخة )) ؟!

إنه لفظ يخرق طبلة الأذن.. لأن الله علم أن الواحد منا في هذه الدنيا تتخطفه الشهوات و تبرق في عينيه المطامع فهو لا يعقل.. و هو أصم لا يسمع.

فهتف في أذنه بهذه الكلمة.. التي تكاد تخرق السمع من فرط ارتفاع ذبذبتها ليوقظه:

(( فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) )) [ عبس ]

فعل هذا رحمة و لطفا و حنانا.. تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.

و ما العذاب إلا لزوم ما يلزم و حلول الصفة بموصوفها و انتظام الأرواح في سلم درجاتها الحق و انسدال الستار على هذا العالم الذي يتبارى فيه الناس على نوال ما لا يستحقون.

و نعطي مثلا لهذا التفاوت في الرتب فيما يشعر به كل منا في حياته الخاصة.. من تفاوت المستويات التي يمكن أن يعيش فيها.. لا نقصد مستويات الدخل.. و إنما نقصد شيئا أعمق.. نقصد المستويات الوجودية ذاتها.

فالواحد منا يمكن أن يعيش على مستوى متطلبات جسده، كل همه أن يأكل و يشرب و يضاجع كالبهيمة.

و يمكن أن يسكت ذلك السعار الجسدي ليستسلم لسعار آخر هو سعار النفس بين غيرة و حسد و غضب و شماتة و رغبة في السيطرة و جوع للظهور و تعطش للشهرة و استئثار لأسباب القوة بتكديس الأموال و الممتلكات و تربص لاصطياد المناصب.

و أكثر الناس لا يرتفعون عن هذه الدرجة و يموتون عليها و لا يكون العقل عندهم إلا وسيلة احتيال لبلوغ هذه الاسباب.

و الحياة بالنسبة لهذه الكثرة من الناس غابة و الشعور الطبيعي هو العدوان و تنازع البقاء و الصراع.. و الهدف هو التهام كل ما يمكن التهامه و انتهاز ما يمكن انتهازه.. و الواحد منهم تجده يتأرجح كالبندول من لهيب رغبة إلى لهيب رغبة أخرى.. يسلمه مطمع إلى مطمع و هو في ضرام من هذه الرغبات لا ينتهي.

و هناك قلة قليلة تكتشف زيف هذه الحياة و تصحو على إدراك واضح بأن هذا اللون من الحياة عبودية لا حرية.. و أنها كانت حياة أشبه بالسخرة و الأشغال الشاقة خضوعا لغرائز همجية لا تشبع و أطماع لا مضمون لها و لا معنى و لا قيمة.. كلها إلى زوال.

فتبدأ هذه القلة القليلة في إسكات هذا الصوت و في تكبيل هذه النفس الهائجة، و قد اكتشفت أنها حجاب على الرؤية و تشويش على الفهم.

و هكذا ترتفع هذه القلة القليلة في الرتبة لتعيش بمنطق آخر.. هو أن تعطي لا أن تأخذ.. و تحب لا أن تكره.. و تصبح هموم هذه القلة هي إدراك الحقيقة.

و على هذه القلة تنزل سكينة القلب فيتذكر الواحد منهم ماضيه حينما كان عبدا لسعار نفسه و كأنه خارج من جحيم !

و مثل هؤلاء يموتون و قد انعتقوا من وهم النفس و الجسد و بلغوا خلاصهم الروحي و أيقنوا حقيقة ذواتهم كأرواح كانت تبتلى في تجربة.

و ما أشبه الجسد – في الرتبة – بالتراب.. و النفس بالنار و الروح بالنور و هي مجرد ألفاظ للتقريب.. و لكنها تكشف لنا أن حكاية الرتب هي حكاية حقيقية.. و أن كل من يموت على رتبة يبعث عليها و أن هذا هو عين العدل و ليس تجبرا.. و قد يكون العذاب فوق الوصف إذا تجردت النفوس من أجسادها الترابية و لم يبق منها إلا سعار خالص و جوع بحت و اضطرام مطلق برغبات لا ترتوي ثم عدوان بين نفوس شرسة لا هدنة بينها و لا سلام و لا مصالحة إلى الأبد.. على عكس أرواح تتعايش في محبة و تتأمل الحق في عالم ملكوتي.

أكاد أجزم بأن ألفاظ القرآن بما فيها من جلجلة و صلصلة حينما تصف الجحيم إنما هي نذير حقيقي بعذاب فوق التصور و سوف نعذبه لأنفسنا بأنفسنا عدلا و صدقا على رتبة استحقها كل منا بعمله.. و أكاد أضع يدي على الحقيقة.. لا ريب فيها.

تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.. و هو الحق العدل الحكم.

و في أخبار داود أن الله قال له:

(( يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني و جليس لمن جالسني و صاحب لمن صاحبني و مختار لمن اختارني.. و مطيع لمن أطاعني.. من طلبني بالحق وجدني و من طلب غيري لم يجدني )).

أنعم به من رب رحيم.. و تقدس و تعالى عن الظلم و العدوان.










الحلال و الحرام



التحريم في القرآن ليس لمجرد التحريم.

و لا التحليل لمجرد التحليل.

و إنما هو تحليل لكل ما هو طيب و تحريم لكل ما هو خبيث:

(( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ.. (157) )) [ الأعراف ]

الله حرم الضار الخبيث.

و أحل الطيب النافع.

لم يصدر الأمر تسلطا و معاقبة و تضييقا على الناس.

و إنما أقام شريعته محبة و رحمة.

إذا لم نفهم هذه الحقيقة الجوهرية فسوف نتوه في حرفيات لا آخر لها و تضيع منا روح القرآن كلية.

و على سبيل المثال نأخذ هذه الآية:

(( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ.. (30) )) [ النور ]

(( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ.. (31) )) [ النور ]

لو أخذنا الآية بظاهر حروفها دون أن نحاول أن نتدبر حكمتها سوف يخيل لنا أن فيها تضييقا علينا بدون مبرر.. كيف يخلق لنا الله العيون و النواظر ثم يقول لنا لا تنظروا.. كيف يخلق لنا الجمال ثم يقول غضوا البصر.

و لو تدبرنا الآية لاكتشفنا أن هذا الأمر هو غاية الرحمة و غاية اللطف و أنه استنقاذ للإنسان من العبودية و من الأغلال و ليس استبدادا به أو تضييقا عليه.

فالنظر هو السبيل إلى التعلق.. و التعلق حبس.. و العين إذا نظرت إلى الوجه الجميل سُجنت فيه و سجنت معه نفسها.. و الله يريد لنا الحرية و الانعتاق، و لا انعتاق إلا بأن نتجاوز المحسوسات الجميلة ناظرين إلى خالقها و بهذا ترفعنا نظرتنا إلى مقام القرب و المعية مع الله و هو مقام الحرية المطلقة..

و ما خلق لنا الله الإغراء الدنيوي إلا ليختبرنا.. هل سنتصرف بالفطرة السليمة فنتجه بذوقنا السليم إلى الجمال الأعظم إلى جمال الله و وجهه أو سنقف عند الجمال الحسي الأصغر و نلتصق به و نسجن أنفسنا فيه مدللين بذلك على فساد ذوقنا و انحراف فطرتنا.

إن المسألة ليست مجرد نظرة إلى وجه جميل..

إنها نظرة ما تلبث أن تعقبها رغبة ثم شهوة ثم مشروع لإشباع تلك الشهوة و امتلاك تلك المرأة أو هذا الصدر أو هذا الظهر.

و تتخطف العقل الشهوات فيفقد الإنسان هدفه و ينسى وجهته و يتشتت و يأخذ سبيله وراء هذا الصدر العريان و ينسى المشوار الذي كان يسعى إليه.

مثل هذا الإنسان قد فقد حريته و هبط من ذروة إنسانية إلى حالة أشبه بحالة كلب يتشمم.. و إلى عبد أسير لا يعرف لنفسه خلاصا من هاتين الساقين أو هذا الظهر.. و إلى عقل مغلول في الشهوة يفكر في اللهط و يسيل لعابه و تخرج عيناه من محجريهما جموحا و شهوة و يفقد السيطرة على نفسه و ينسى المصلحة التي جاءت به إلى المكان.. و تجري رجلاه المرتعشتان وراء اللحم الأبيض.. لا يعرف كيف يحكمها.

مثل هذه الحالة من الهبوط قد تنتهي بصاحبها إلى صفعة على صدغه تفيقه أو إلى محضر في بوليس الآداب.. أو إلى قصة تبدأ بدقائق لذيذة ثم تنتهي بحادث نشل أو إلى علاقة جنسية تنتهي إلى مستشفى الحوض المرصود لعلاج مرض سري مزمن.

و حكمة الآية القرآنية واضحة في مثل هذا النوع من النظر.

و الذوق السليم ينفر بالفطرة و يعف عن مثل هذا التحديق.. لأنه ضرر.

و لهذا أمر القرآن المرأة المؤمنة بأن تدني عليها جلبابها ابتعادا عن مزالق الإثارة و الاستثارة.

و هنا نصل إلى جوهر التحريم.

فالتحريم دائما لضرر.

و الله أقام شريعته محبة و رحمة لا تسلطا و غطرسة.

و من هنا كان لابد من غض البصر تفاديا للضرر.. و إشفاقا من العواقب و وقاية من ضعفنا الطبيعي المركب في أجسادنا..

و غض البصر ليس فقط غض البصر عما يتعرى من الجسد.

و إنما هو أيضا غض للبصر عما في يد الناس من مال و نعمة، و هو الحياء و الترفع عن النزول بالنفس إلى مواطن الشهوة و الحسد و الحقد و الغيرة.

و من أكبر الذنوب عند الله التعصب.. أن تتعصب لنفسك أو عائلتك.. و أن تميل مع الهوى.. و تأخذ حمية من العنصرية و كبرياء العرق و الجنس.

و المتعصب إنسان يعبد نفسه.. يعبد فهمه المحدود و ليس الله فهو مشرك. و جوهر الدين هو أن تتجاوز نفسك و تتخطاها و تنكرها و تكبح شهواتك و تلجم أهواءك و تتحرر من أطماعك و تطلعاتك و تتخلص من غرورك و كبرك و عنادك.. فكل هذه أغلال و الدين يحرمها ليخلصك من أسرها.

و أبغض الحرام إلى الله الشرك.. أو عبادة غير الله.

و الشرك ليس فقط عبادة الأصنام فهذا لون قديم ساذج من الشرك انتهى أمره.

و الأصنام الآن هي غير ( اللات ) و ( العزى ) و ( هبل ).

و أخطر الأصنام هي الأصنام المجردة و هي ما يعبد الآن في كل مكان.

أن تتخذ نفسك صنما.. أن تعبد رأيك و هواك و مصلحتك فلا يشغلك إلا نفسك.

(( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ.. (23) )) [ الجاثية ]

و هذا هو إله اليوم الذي يُحرق له البخور و تُقدم له القرابين من دم الآخرين.

و سوف نعود إلى ميزان الحرام و الحلال.. و نقول: و ما الضرر ؟ ما الضرر في أن يعبد الإنسان نفسه و لا يرى غير مصلحته ؟

و الضرر واضح بيّن.. فلن تكون حياة مثل هذا الإنسان حياة.

سوف يقضي حياته في سجن من المرايا كلما تطلع إلى جدار لم ير فيه إلا صورته.

سوف يكذب و يسرق و يقتل و يستغل.. و لن تصل إلى أذنيه آلام الآخرين لأنه لا يرى إلا نفسه و ما يكسب و ما يربح و ما يرفع من عقار و ما يقتني من أرض و ما يكدس من مال.

سوف تصبح نفسه حجابا بينه و بين الله و حجابا بينه و بين الحقيقة، و حجابا بينه و بين العدل.

و عن مثل هؤلاء يقول القرآن:

(( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9) )) [ يس ]

و ما السد الذي بين يديك و من خلفك و محيط بك لدرجة تحول بينك و بين الإبصار كأنه غشاوة.. إلا نفسك.

و يقول في سورة أخرى:

(( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) )) [ البلد ]

يقول لك.. (( و ما أدراك ما العقبة )) ليحضك على التساؤل و التفكير في تلك العقبة فأمرها يغمض عليك.. لأنها هي نفسك ذاتها.. و لا عقبة أمامك سوى نفسك و عليك أن تقتحمها لتستطيع أن تفعل أي خير فتفك رقبة من تستغل و تستعبد.. و لن تستطيع أن تفك رقبة من تستعبد إلا إذا فطنت إلى استعباد نفسك لك و فككت عنك أغلالها.. فلن تستطيع أن تحرر إنسانا إلا إذا بدأت فحررت نفسك أولاً.

و بعد ذلك سوف تجد أن أي خير سيصبح ممكنا.. سوف تستطيع أن تحب و تعطي و تجود و تمنح.

و لهذا تقرأ في القرآن:

(( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ.. (111) )) [ التوبة ]

(( فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ.. (54) )) [ البقرة ]

بمعنى فاهزموا أنفسكم و انتصروا عليها.

و في الإنجيل يقول المسيح بالمعنى نفسه:

(( من أراد أن يخلص نفسه يهلكها. و من يهلك نفسه من أجلي يجدها، لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله و خسر نفسه )).

و يقول الله لداود:

(( اقطع شهوتك و تحبب إلي بمعاداة نفسك.. ضعني بين عينيك و انظر إلي ببصر قلبك.. و أعلم أنه ما اطمأن عبد إلى نفسه إلا و كلته إليها فأهلكته )).

و يسأل داود ربه (( يارب كيف أصل إليك ؟ )) فيقول له ربه: (( اترك نفسك و تعال )).

و يقول الله لموسى:

(( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) )) [ طه ]

فلا يمكن الوقوف في حضرة الله إلا بخلع النفس و الجسد و خلع شواغل النفس و شواغل الجسد كشرط للوصول.

و لهذا كان الشرك الخفي الذي يمارسه الإنسان بعبادته نفسه هو منتهى الحرام و ذروة الخطيئة.. لأنه يحتوي على جميع الخطايا الأخرى في داخله و لأنه هلاك لا هلاك بعده.

و كل ما تعبد من دون الله شرك.. إذا كنت عبدا لنفسك و هواك و مصلحتك فأنت مشرك، و إذا كنت عبدا لعصبية العائلة أو القبيلة أو العنصر أو الجنس فأنت مشرك.. و إذا استعبدتك فكرة مجردة أو نظرية أفسدت عليك مسالك تفكيرك فأصبحت ترفض مناقشة أي فكرة أخرى فأنت راكع أمام صنم و إن كان صنماً مجرداً و منحوتاً من الفلسفة لا من المادة.

و لهذا اعتبر القرآن الشرك خطيئة لا تغتفر لأنه عمى للعين و البصيرة و العقل و شلل لجميع المدارك و توقف لنمو الروح و تعطيل لها في هجرتها إلى منبع نورها.

(( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء.. (48) )) [ النساء ]

لأن الشرك في الحقيقة أشبه بانقطاع الحبل السري الذي يفصم الصلة بين الجنين و مصدر حياته.. بين الإنسان و الله.

و ماذا يحدث لو أن زهرة عباد الشمس انصرفت عن الشمس و أعطت ظهرها لها و اتجهت إلى القمر مثلا.. إنها ببساطة تموت.. فالشمس هي مصدر حياتها.. و هي لا تعبد الشمس ذلاً.. و إنما لأن الشمس حياتها.

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.. (24) )) [ الأنفال ]

و العبادة حياة و استمداد للنور و الحق.

و الله أمر بالعبادة لأنه يعلم أن فيها حياتنا.. و لم يأمر بها تسلطاً و تجبراً و لمجرد فرض أوامر.

و لهذه الأسباب حرم الله الخمر و ما في حكمها من المسكرات و المغيبات لما فيها من أضرار.

و حرم القمار لما فيه من خسارة و تباغض و عدوان.

و حرم الزنا لأنه فوضى تختلط فيه الأنساب.. و تخضع فيه النفوس للنزوات و الشهوات و الأهواء.

و أحل الزواج لأنه تنظيم و نظام و مسئولية و سكينة قلب.

و حرم لحم الخنزير. و نحن نعلم الآن أن حيوان الخنزير هو مستودع فيروس الإنفلونزا و الدودة الشريطية، و أنه أغلظ أنواع البروتين و أشدها تعقيداً، و أنه يربي قساوة القلب.

و لو ألقينا نظرة على الحيوانات آكلة الخضروات كالغزال و الأرنب و الحصان و الجمل و الدجاج و الحمار للاحظنا أنها كلها رقيقة وديعة.. أما الحيوانات آكلة اللحوم كالسباع و النمور و الضباع و الذئاب و الثعالب و النسور و الصقور.. فكلها تشترك في صفات القسوة و الوحشية و الضراوة.

و لا شك أن هناك علاقة بين الإسراف في اللحم كطعام.. و نشأة صفات خاصة في النفس.. مثل الحدة و الصرامة و القسوة.

و لأن لحم الخنزير هو أكثر اللحوم غلظة و أعقد البروتينات الحيوانية تركيباً فربما كان ضرره على آكله أبلغ من جميع اللحوم الأخرى.. و الله يعلم و نحن لا نعلم.

و الله هو العقل الكلي المحيط و هو لا يضع سنة بلا سبب.

و لقد أقام التشريع و حرم الحرام و أحل الحلال و فرض العبادة.. محبة منه و رحمة.

و يجب ألا تفوتنا هذه الحقيقة لحظة واحدة.. فهي روح الناموس و قلب الشرائع.

و لذلك حرم الله السرقة و حرم القتل.

(( مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.. (32) )) [ المائدة ]

لأن قتل الإنسان لأخيه الإنسان بلا ذنب هو خرق لجميع النواميس.. لهذا اعتبره الله قتلاً للناس جميعاً.

و حرم الانتحار.

(( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا.. (30) )) [ النساء ]

لأن الانتحار هو منتهى سوء الظن بالله و العمى عن رحمته و اليأس من عدالته و الخرق لنواميسه و الجهل بآخرته، و هو منتهى الظلم للنفس.

(( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا (6) )) [ الفتح ]

و الله حرم الزنا لأنه ضرر.

و هنا سوف يطلع علينا رأي ( مودرن ) باريسي متحرر يقول: و ما الضرر؟

أين الضرر في اثنين يتبادلان لذة بدون زواج لكن بتراض وراء جدران مغلقة و بعيداً عن العيون لا يكذبان على نفسيهما في شيء.. فما يفعلانه يقومان به حباً و وجداً و غراماً. و لا يؤذيان بعملهما مخلوقاً.. أين الضرر هنا ؟

و لنفهم الضرر لابد أن نضع الحب و الجنس في إطارهما الطبيعي حيث إرادتهما الطبيعية.

و الطبيعة جعلت من العاطفة و الجنس في إطارهما الطبيعي حيث إرادتهما الطبيعية.

و الطبيعة جعلت من العاطفة و الجنس وسائل للتكاثر و الإبقاء على النوع و عمار الدنيا.. و جعلت منهما أدوات إنتاج.

فإذا اجتمع رجل و امرأة و اعتزلا ركناً يتبادلان اللذة بدون تفكير في زواج أو بناء بيت.. و إنما لمجرد اختلاس متعة.. فإنهما يحولان الحب و الجنس من أدوات إنتاج إلى أدوات استهلاك و يستهلكان طاقة من أشرف الطاقات الحية خلقت لتبني أمماً و حضارات و يجعلان منها مجرد وسيلة إلى ارتجافات جنسية.

و حينما يجتمع رجلان على شذوذ جنسي.. فإنهما يقولان الشيء نفسه، سوف يقولان: إننا اجتمعنا على حب و رضا.. و إننا لا نضر أحداً، و إننا نستمتع و لا نؤذي أحداً.

و الشذوذ واحد في الحالين إذا أخذنا القوانين الكونية بعين الاعتبار و نظرنا نظرة شاملة إلى الموضوع.. فكلا الحالين انحراف بالطاقة الطبيعية عن أهدافها لمجرد دقائق من الارتجافات الجنسية.. و الفرق هو فرق في درجة البشاعة.. و في درجة المخالفة للنواميس الطبيعية.. المدلهان حباً و هوى، اللذان يرتمي الواحد منهما في حضن الآخر.. و يتعلل كل منهما بأنه صادق مع نفسه فيما يفعل.. هما في الحقيقة كاذبان.

لأن صدق الإنسان مع نفسه لا يكون صدقاً حقيقياً إلا إذا كان بالمثل صدقاً مع الطبع و الطبيعة.

و ليكون الإنسان صادقاً مع نفسه لابد أن يكون صادقاً مع طبيعته و مع النواميس الكونية العظيمة التي جاءت به إلى الدنيا، و إلا انقسم و انفصم و انشق على نفسه و تحول إلى جسد في ناحية.. و روح في ناحية.

و التي تحب رجلاً بحق.. لا تقول له: أريد أن أنام معك. و إنما تقول له: أريد أن أعيش معك العمر كله. أريدك أن تكون أباً لأولادي و سقفاً لبيتي و شرفاً لاسمي و رفيقاً مصاحباً لرحلة حياتي كلها.

و إذا لم تفعل هذا فإنها تكذب على نفسها. و هي خاطئة و إن ادعت لنفسها أنها جولييت.. بل إن الخاطئة التي تبيع عرضها لحاجتها إلى اللقمة سوف تتعلل بعذر الجوع.. أما هي فقد ابتذلت أشرف ما أعطتها الطبيعة بدون دوافع سوى تشنجات و رعشات عابرة و تلك الحكة التي تبحث عن مهدئ بين وقت و آخر بحجة الحب.. و هو كذب.. لأن حب المرأة يريد الرجل أباً لأبنائها و سقفاً لبيتها.. لا مجرد دواء مؤقت للحكة.

و الزنا إذا تحول إلى عادة ثم إلى سلوك و منهج حياة يؤدي إلى التفسخ الكامل للكيان.. و إلى انفصام الشخصية.. فيصبح الجسد في ناحية و القلب في ناحية.. و الروح في ناحية.. و بهذا يتم تخريب الفطرة، و هذا هو الضرر غاية الضرر.. و لهذا نقرأ في الإحصاءات أن أعلى نسبة للجنون و الانتحار تحدث في السويد و في روسيا برغم السعادة الجنسية و عدم الكبت و التحلل غاية التحلل.. و السبب هو ذلك الانفصام الذي يحدث للإنسان المتحلل في أعماق روحه فيفقده السلام الداخلي إلى الأبد.

و هكذا تأتي التعاليم الدينية لحكمة و أسباب لا مجرد رغبة الله في التسلط على خلقه و إنما محبة و رحمة و تنبيها إلى فائدة.

و يحرم الدين الزواج بين الأخوات، و بين الأم و ابنها، و الأب و ابنته لأنه يريد أن تنمو في الأسرة ألوان أخرى من العاطفة غير الشهوة.. كالأمومة و الأبوة و الأخوة و المودة.. و أن يكون الرباط الأسري هو التراحم ( لأنه هو الرباط الوحيد الباقي ).. أما ضرام الشهوات فهو يضرم معه الغيرة و الرغبة في التملك فيقتتل الإخوة على أختهم و تتفجر الأسرة من داخلها و تنهار.

هذا غير الأمراض الوراثية التي تصيب النطفة بسبب زواج الأخوات.

لم يكره الله للإنسان إلا كل ما هو كريه بالفعل.. و لم يحب له إلا كل ما هو محبوب.

و لذا جعل الطلاق مكروها لكنه ممكن إذا استحالت الحياة و جعل الكذب كبيرة الكبائر.

(( كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) )) [ الصف ]

و الكذب على الله غاية الإثم.

(( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا.. (21) )) [ الأنعام ]

فيكون إدعاء النبوة كذبا و التحريف في الكتب المقدسة زعما بأن آيات نزلت و هي لم تنزل.. هو منتهى الحرام.. لأنه الإضرار و التضليل للناس.

هذه هي الشريعة و هذه روحها.. إن الله أحل الطيبات و حرم الخبائث، و إذا تطهرت فطرتنا فسوف نحب لنفوسنا ما يحب لها الله بدون جهد و بدون مشقة.

و لهذا يزول التناقض في قلب المؤمن بين الله و شريعته و بين ما تمليه عاطفته الخاصة و يرغب فيه عقله.. فإذا بما يريده لنفسه هو ما يريده الله له.. و ما يتمناه لنفسه هو ما يتمناه الله له.

و لهذا يتوجه إبراهيم بالدعاء قائلاً:

(( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ.. (40) )) [ إبراهيم ]

فيطلب من الله ما يطلبه الله منه.

و هذا غاية الإيمان و الثقة و منتهى الحب للشريعة.. حتى لتصبح الشريعة و الرغبة شيئاً واحداً.

و لا تعود للإنسان رغبة سوى ما يرغب الله.

و هذا درب الذين وصلوا.

يقول الله في حديث قدسي:

(( عبدي اطعني أجعلك ربانياً يدك يدي و لسانك لساني و بصرك بصري و إرادتك إرادتي و رغبتك رغبتي )).

و هؤلاء هم الأنبياء و الأولياء و المقربون الذين أمدهم الله بأسباب علمه و قدرته.





العلم و العمل



أول ما نزل من القرآن هي كلمة (( اقرأ )).

(( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) )) [ العلق ]

إنه أول أمر إلهي نزل في الإسلام.

أمر لكل إنسان بأن يقرأ.

قبل الأمر بالصلاة و الصيام و قبل تفصيل الشرائع و قبل الكلام عن العقيدة قال الله:

(( اقرأ )).

و انفرد القرآن بين جميع الكتب المقدسة بأنه ابتدأ بهذه الكلمة و هذا الأمر.. و هذا منتهى التشريف للعلم و العلماء.. أن يكون أول حرف في الدين هو أمر بالقراءة و طلب العلم.. و الآية حددت نوع العلم المقصود:

(( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) )) [ العلق ]

فهو علم بالله و لله.. علم خير فاضل.. علم للنفع و ليس علماً للضرر.

و توالت بعد ذلك الآيات التي تأمر بالعلم و تحض عليه:

(( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) )) [ طه ]

(( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ.. (20) )) [ العنكبوت ]

(( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.. (11) )) [ المجادلة ]

(( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.. (9) )) [ الزمر ]

( (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ.. (18) )) [ آل عمران ]

فجعل الله أولي العلم إلى جواره مع الملائكة المقربين من حيث قيمة شهادتهم و هذا منتهى ما يحلم به الإنسان من رفعة المقام.. أن يذكر مع الله و ملائكته.

و تتكرر كلمة العلم و مشتقاته في القرآن نحو ثمانمائة و خمسين مرة و يقسم الله بالقلم و ما يسطر به (( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) )) [ القلم ]

و لكنه ليس علماً نظرياً فارغاً و إنما علم مقرون بالعمل.

(( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ.. (105) )) [ التوبة ]

و في كل مكان يتكلم فيه القرآن عن (( الذين آمنوا )) يقرن هذا الإيمان بالعمل فيقول (( الذين آمنوا و عملوا الصالحات )) في عشرات الآيات يتكرر هذا التقارن و التلازم.

و هو تكرار مقصود به أن يثبت تماما في الذهن أنه لا إيمان إلا بالعمل و مع العمل.. و أن الأعمال هي التي تفصح عن دخائل القلوب و هي التي تبرهن على فضيلة الفاضل و طاعة المطيع و إحسان المحسن.

و لأن أول أمر في القرآن و في الإسلام هو أمر صريح بالقراءة و التعلم فلا يصح أن يدعي الإسلام جاهل لا يقرأ مهما صلى و صام و حمل المسابح و حوقل و بسمل و رتل.

و الشرق العربي الآن بما فيه من جهل و كسل هو كافر بأوليات كتابه و دينه.. فلا هو يقرأ و لا هو يتعلم و لا هو يعمل.. و بدل العلم و العمل لا نرى حولنا إلا الجهل و الكسل.

و كل واحد يتصور أنه من أهل الجنة لمجرد أن اسمه في بطاقة تحقيق الشخصية محمد و أنه مسلم بالوراثة و أنه يقتني مصحفاً.

و ينسى أن أول كلمة في هذا المصحف هي (( اقرأ )).. و أنه لا يقرأ..

و أن الله يقول:

(( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ.. (105) )) [ التوبة ]

و أنه لا يعمل و إنما يتمدد على المقاهي يتثاءب.

بل إن العالم الغربي الأوربي بما فيه من علم و عمل و فكر و نشاط دائب خلاق هو أقرب لجوهر الإسلام و جوهر القرآن من هذا الشرق الكسول المتخاذل الغارق لأذنيه في الجهل المزري.

علينا أن نفهم القرآن قبل أن ندعي أننا من أهل القرآن.

و الذين يمسحون كسلهم و جهلهم في عباءة التصوف و يقول الواحد منهم و قد أخلد إلى خلوة فارغة و تأمل خاو.. أنا متصوف.. ينسى أن الهجرة إلى الله عند المتصوف لا تكون إلا بالعلم و العمل و أن المتصوف عليه أولاً أن يطلب العلم فإذا علم كان عليه أن يعمل بما علم.. فإذا أصبح من ذوي الأعمال.. ارتقت به أعماله من حال إلى حال.. فإذا دام له الحال و ثابر على الأعمال انتقل من مقام إلى مقام.. و هذه هي الدرجات التي يتسلق عليها الصوفي كادحاً إلى الله.. العلم و العمل و الحال و المقام.. و المتصوفون الأوائل كانوا مرابطين يحملون السلاح و يدافعون عن الأوطان.. المصحف في يد و السلاح في يد.. و الشمال الأفريقي يمتلئ بأضرحة هؤلاء

المرابطين حيث ماتوا في مرابطهم بعد أن حاربوا لآخر طلقة و آخر شهقة في صدورهم.

إن الشجاعة و الشهامة و الصدق و قتال الباطل و إحقاق الحق و العمل على عمارة الدنيا بالخير و العدل بين الناس و محاربة الاستغلال و نصرة الضعيف هي من صميم الدين بل هي الدين ذاته.

و لكن في البدء دائماً يلزم العلم.

(( اقرأ )) أولا.. لتعرف الحق من الباطل و لتعرف قوانين العالم الذي تعيش فيه قبل أن تدعي لنفسك أنك تستطيع إصلاحه.

و لكن القرآن لا يدعونا إلى القراءة و يتركنا في ظلام الحيرة و إنما يختط لنا منهجاً للوصول إلى العلم هو منهج (( السير و النظر )).

(( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ.. (20) )) [ العنكبوت ]

السير و جمع الملاحظات و تدوين المشاهدات ثم النظر في هذه الملاحظات و استقرائها لاستخراج القانون العام الذي يربطها.. و هو المنهج الاستقرائي الذي جاء به (( باكون )) بعد القرآن بألف سنة و أثمر هذا المنهج على يد العلماء الغربيين كل ما نقرأ و نرى من علوم و صناعات مذهلة. و لو حاولنا أن نتفهم كتابنا و نسير على هديه لسبقناهم إلى هذه العلوم.

و قد اهتدت قلة من العلماء العرب إلى هذا المنهج في صدر الإسلام و كان لهم عطاء أثروا به الغرب و أخصبوا ثقافته في أوقات كان هذا الغرب غارقا في ظلمات قرونه الوسطى.

و نذكر جابر بن حيان في الكيمياء.

و ابن سينا في الطب.

و ابن رشد في الفلسفة.

و ابن عربي في التصوف.

و ابن الهيثم في الهندسة و الرياضيات.

و نذكر الأندلسيين و ما استحدثوه في الموسيقى و الموشحات.

و نذكر علماء الفلك العرب.. و أغلب الكوكبات النجمية مازالت تحتفظ بأسمائها العربية إلى الآن في المراجع الأجنبية.

و كلمة (( أنبيق )) التي أطلقها جابر بن حيان على جهاز التقطير مازالت هي ذاتها مستعملة في الفرنسية ambique و يشتق منها الفعل ambiquer أي يقطر.

و الأرقام العشرية في الحساب لم يعرفها الغرب إلا عن طريق العرب. كان هناك علم و عمل إذن.

و حينما كان هناك علم و عمل كان هناك عطاء و كانت هناك حضارة و قد أعطى القرآن مفتاح هذه الحضارة.

(( اقرأ )).

و جعل من هذا المفتاح أول ما نزل من حروف.. و أول ما كلف الوحي بتبليغه إلى محمد – صلى الله عليه و سلم – و أمته. و من لا يقرأ لا يستحق أن يكون من أمة محمد – صلى الله عليه و سلم – و لا أن يدعي لنفسه أنه يحمل القرآن و يفهمه.

و من يعلم و لا يعمل بما يعلم فهو عاطل عن الفعل و الأثر و الدين.

يقول القرآن عن إبراهيم و هو يبني البيت:

(( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) )) [ البقرة ]

العقل يهندس و اليد تبني و القلب يسبح هامساً (( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم )).

علم و عمل و إيمان و بناء.

هذا هو الدين الحق كما يقدمه القرآن.

و القرآن يتكلم عن المؤمنين العاملين بأحسن الكلمات:

(( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) )) [ البينة ]

(( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا.. (33) )) [ فصلت ]

و يؤكد أن الأعمال تحفظ و تكتب و أن الله يلقانا بأعمالنا يوم الحساب:

(( وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا.. (61) [ يونس ]

(( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا.. (30) )) [ آل عمران ]

(( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ.. (167) )) [ البقرة ]

(( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) )) [ الكهف ]

و يؤكد القرآن أن الدنيا هي الفرصة الوحيدة لإحراز الأعمال و أنها الامتحان الوحيد الذي لا امتحان بعده.. و يقول عن أهل الجحيم:

(( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.. (37) )) [ فاطر ]

يقولون هذا بعد فوات الأوان.

(( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) )) [ الأنعام ]

انتهى الأمر و لا اعتذار...

و يؤكد القرآن أن العمل الصالح الخالي من الإيمان بالله لا يكون عملا صالحا و أن مثل هذه الأعمال الصالحة من قلب يجحد خالقه مصيرها البوار:

(( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23) )) [ الفرقان ]

و يقول عن أعمال الكفار الصالحة:

(( أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ.. (18) )) [ إبراهيم ]

و قد يسأل سائل كيف يتجرد العمل الصالح عن الصلاح إذا تجرد قلب صاحبه من الإيمان بالله..

إذا تبرع الكافر لعمل خيري.. كيف لا يكون عمله هذا عملاً صالحاً يثاب عليه..؟!

و الجواب أن الكافر الذي لا يؤمن بوجود إله سوف يسند كل عمل يقوم به إلى نفسه فيعطي عن اعتقاد أنه هو الذي يعطي و هو الذي يتصدق و هو الذي يرزق و هو الذي يغني.. و هذا هو الزهو و الاختيال و الغرور بعينه و لا يمكن أن يكون مثل هذا العطاء صلاحاً.. بعكس المؤمن الذي يعطي و هو يعتقد أن الله هو الذي ألهمه بالعطاء و أن الله هو الذي وفقه للإحسان و هو الذي أعطاه اليد الكريمة و المال الوفير و القلب العطوف.. و مثل هذا العطاء في تواضع هو الصلاح حقا.

و يؤكد القرآن أن النية العاطلة عن العمل لا تكفي لتكون شاهدا على إيمان صاحبها.

الرغبة في الجهاد لا تكفي.. و إنما لابد من الجهاد بالفعل حيث يواجه الإنسان الشدة و يصبر عليها.. و يواجه الموت و يثبت أمامه:

(( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) )) [ آل عمران ]

و النية التي لا تتحول إلى فعل هي نية ينقصها الصدق.

و هي إدعاء بين الإنسان و نفسه أكثر من كونها رغبة حقيقية لأن الرغبة إذا صدقت حفزت إلى عمل.

و الله يقول لنا إنه لم يخلق الحياة الدنيا إلا لهذا السبب:

(( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.. (2) [ الملك ]

لقد جعل منها امتحانا يظهر فيه من يعمل و من لا يعمل و تجربة تعرف بها كل نفس مقامها و مقدارها.. حتى إذا حقت عليها الكلمة يوم الحساب كانت هذه الكلمة عدلا مطلقا لا مراء فيه.

يقول القرآن:

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ.. (35) )) [ المائدة ]

و الوسيلة إلى الله هي العمل.

و نبينا و قدوتنا محمد عليه الصلاة و السلام لم يكن مبلغا للآيات و حاملا للقرآن و مبشرا به فقط و إنما كان أول العاملين.. و كان أول من يخرج في الغزوات حاملا سيفه قائدا جيشه.. و كان يجوع مع جنوده إذا جاعوا و يعطش معهم إذا عطشوا.. و كان أول من يقتحم الأخطار.. و في إحدى الغزوات نعلم أنه جرح بين من جرحوا.. و قد حارب سبعا و عشرين معركة خاضها جميعا و قد جاوز سن الخمسين.. فهو النبي المبلغ و الجندي المحارب و القائد المخطط و السياسي الحكيم.. و هو العابد الزاهد.. و هو الصادق الأمين العف اليد و اللسان.. و هو الاب الحنون و الزوج العطوف و الصديق الودود.. و هو صاحب الدعوة الذي لا ينام عنها و الذي يحارب لها و يحارب دونها إلى آخر نفس من أنفاسه الطاهرة.

إنه رمز للعمل الدائب.

و هو دليل كل من يبتغي الوصول، حيث لا وصول إلا بالعمل.

و لا طريق إلا على سلم الأعمال.



باقٍ من الكتاب ثمان فصول





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire