الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

samedi 25 mai 2013

إشكالية اليسار التونسي بقلم حسن الطرابلسي



إشكالية اليسار التونسي


بقلم حسن الطرابلسي

 يمتلك التونسيين، وخاصة الإسلاميين منهم، فهما هلاميا وضبابيا عن اليسار.

 فلقد اقترن الفهم الشائع عن هذا التيار باعتبارهم أصحاب أيديولوجية تعارض الدين الإسلامي وتعادي تعاليمه، وأما أخلاقيا فقد ربط اليسار بكل ما هو رذيلة وفاحشة وخطيئة

ولا يزال هذا الفهم ـ رغم ما فيه من العمومية والمغالطة ـ سائدا حتى اليوم ليس فقط بين العامة وإنما أيضا بين قطاع من المثقفين والسياسيين.

ولا شك أن هذا الفهم لا يخلوا من النمطية والمغالطة، لأنه لا يتأسس على قواعد علمية وإنما يقوم على توصيف قد يصدق على بعض الحالات ولكنه لا يصل إلى اعتماده قانونا يحتكم إليه. وليس من السهولة تعريف اليسار التونسي بدقة تحيط بكل جوانبه. إذ تواجهنا مجموعة من الأسئلة التي تتطلب إجابة:

ما هو اليسار التونسي؟ ومن هو اليساري؟ هل يعني اليسار فقط انتماءا فكريا إلى المدرسة الاشتراكية أو الشيوعية الماركسية بغض النظر عن تلاوينها؟ أم أن اليسار ينحصر في تبني الفكر الماركسي بتأويلاته المختلفة من لينينية وماوية وتروتسكية وغرامشية وغيرها؟ وهل أن اليسار مؤسسة واحدة أو مؤسسات متعددة؟

لا يهدف هذا المقال إلى تتبع التطور التاريخي لليسار التونسي بل يلتزم بمحاولة فهم الإشكال المؤسساتي لهذا التيار خاصة بعد 7 نوفمبر 1987 وبالتالي فسوف تكون دراسة التطور التاريخي ثانوية ولن نتعرض لها إلا إذا كانت هناك ضرورة قصوى من دونها يستعصى فهم الإشكالية موضع البحث.

وبحكم أن هذا الموضوع لا يزال بكرا فإنّ المعاجم والقواميس لا تروي ظمأنا المعرفي، فأغلب القواميس والمعاجم تتحدّث عن النشأة التاريخية لمصطلح "اليسار" الذي أطلق لأول مرة إبّان الثورة الفرنسية حيث كان النواب الجمهوريون المعارضون للملك لويس السادس عشر يجلسون في الجهة اليسرى من البرلمان بقيادة ميرابو ومارا وروبسبيير وغيرهم . والنواب الموالون للملكية والكنيسة والإقطاع يجلسون في الجهة اليمنى. ومع الزمن تحول اليسار إلى تيار فكري وسياسي يحاول الجمع بين الليبرالية والإشتراكية الماركسية أساسا والشيوعية ثم ازداد تشعب هذا التيار وأصبح من الصعب تحديده في خانة واحدة أو في مؤسسة واحدة ولم يكن اليسار التونسي بمعزل عن هذا السياق التاريخي العام.

وهكذا لا تسعفنا المعاجم كثيرا في فهم اليسار التونسي بالدقة المتناهية ومن هنا كان الإرتباك في تعريف هذا التيار وفي التعامل معه. ولا شك أن وضع اليسار التونسي كله في سلّة واحدة والتعامل معه على أنه مؤسسة متناسقة موحدة العناصر والأهداف طبقا للشروط التي حددها شالسكي، الذي يرى أنه لا بد ان تتوفر في المؤسسة ثلاثة عناصر حتى تكون مؤسسة وهي ضرورة وجود جهاز يجمعها، ونظام قيمي يوحدها وأعضاء أو أفراد1، لا يعدو أن يكون ضربا في عماية. وأمام هذه الصعوبة نلتجأ إلى تلمس النظريات الإجتماعية والسياسية لعلها تساعدنا على فهم هذا التيار الذي لا تتوفر فيه شروط المؤسسة الموحدة.

ويسعفنا موريس هوريو Maurice Hauriou الذي يعرّف المؤسسة على أنها تنظيم قانوني أو اجتماعي في خدمة فكرة قائدةL'institution est une organisation au service d'une idée واعتبر أنه تتوفر لكل مؤسسة "فكرة قائدة" idée directrice ومن ثمة فإننا سنبحث عن هذه الفكرة المركزية لليسار التونسي لنتحدث عنه بإجمال ثم نمر بعد ذلك إلى الإشارة إلى أهم مؤسساته وشخصياته التي كان لها بالغ التأثير.

لا يختلف اليسار التونسي في توجهه العام عن اليسار بصفة عامة فهو يضم كل أولائك الذين يتبنون التوجه الإشتراكي الماركسي بتأويله الللينيني أو التروتسكي أو طبقا للقراءة الماوية إضافة إلى وجود مجموعات أخرى تتبنى توجهات أخرى ضمن هذه التصورات الكبرى.

والجامع بين هذه التعبيرات المختلفة هو تبنيها بصفة عامة لقضية فصل الدين عن الدولة، ومساندة مجلة الأحوال الشخصية، ودعم دعوة بورقيبة لتحرير المراة إلى الحد الذي كان بعض رموزه في الجامعة التونسية يعارضون مؤسسة الزواج ولكنهم ، أمام نفور الطلبة من هذا التوجه، وأثناء ممارستهم العمل السياسي اليومي أضطروا إلى مساندة الزواج المدني ودعوا إلى المساوات في الميراث

وأما موقف اليسار من الدين الإسلامي فهو في مجمله سلبي، قائم على السخرية من الدين والتدين، فنعتت مظاهر التمسك بالسنة كاللحية والحجاب بالتخلف والرجعية ووصف المصلون بالظلاميين والرجعيين... أو بالإستفزاز مثل الإفطار المتعمد في رمضان، خاصة في الجامعة والثانويات، وهو ما أدى إلى صراعات وصدامات مع الطلبة الإسلاميين. ومن الملفت للإنتباه تورط بعض الأساتذة الجامعيين اليساريين في حرمان طلبة وطالبات إسلاميين من النجاح في امتحانات مهمة بسبب انتمائهم الإسلامي ألخ...

وفي المقابل فإن أهم ما يسجل لليسار التونسي هو حضور المرأة ومشاركتها الفعالة في مناشطه السياسية والحقوقية وغيرها وفي هذا يتميز اليسار التونسي عن سائر أحزاب وتيارات اليسار العربي الذي ظل شعار تحرير المرأة لديها حبرا على ورق. إلا أننا لا بد في هذا المستوى من التحليل التأكيد على أن أهمية المشاركة النسوية ليست مقتصرة على اليسار فحسب، بل إننا نجدها لدى كل التيارات السياسية التونسية تقريبا، ففي حركة النهضة ولدى الإسلاميين التونسيين تولت النساء مناصب ومسؤوليات مهمة وصلت في بعض الحالات إلى مسؤوليات قيادية كبرى، وقد يعود هذا إلى خصوصية تونسية مصدرها بورقيبة الذي عمل كثيرا على تحرير المرأة ودفع بها إلى الحداثة.

ولكي لا نقع في التعميم ونكرس الصورة النمطية على اليسار بأنه معاد للدين أو لكل نفس إسلامي وتحرري لا بد أن نسجل لليسار نشطاء لهم باع في العمل النقابي والحقوقي خاصة تلك الشخصيات اليسارية التي أختارت الحيادية وتبنت العمل النقابي والحقوقي بجدية وإخلاص وهو ما جعلها تقترب من الإسلاميين، خاصة من النهضة وتنسق معهم في الإتحاد العام التونسي للشغل أو في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أو في المهاجر المختلفة.

رغم هذا المشهد العام لليسار التونسي فإنه لا يمكن الحديث عن وجود تيار يساري متناسق، بسبب تواجد تيارات ومؤسسات يسارية تصل فيما بينها إلى حد الصراع والتنافر، خاصة في الجامعة، وتصل في موقفها من الإسلاميين من العداء الأيديولوجي الذي وصل حد العنف الشديد في السبعينات والثمانينات، مذبحة منوبة 1982، كما تصل في الجانب النقيض إلى اللقاء مع الإسلاميين، مثل الللقاء بين السيد مجمد حرمل رئيس الحزب الشيوعي التونسي والشيخ راشد الغنوشي في منتصف الثمانينات، أو حتى التنسيق معهم في بعض مجالات العمل المشترك خاصة في الجامعة.

والملفت للإنتباه أن اليسار بصفة عامة، إذا استثنينا النشطاء الحقوقويين، عادة ما يلتزم الصمت والسكون إذا تعرض الإسلاميون إلى الإعتقال أو إلى حملات أمنية مثلما حدث في الثمانينات ثم في أوائل التسعينات عند اعتقال إسلاميي حركة النهضة التونسية. والملفت للإنتباه أيضا أن مؤسسات اليسار إجمالا تفتقد إلى الديمقراطية والحرية في بنائها المؤسساتي فهي في معظمها تتمحور في لقائها حول شخص أو مجموعة من الأشخاص من طبيعة نخبوية أو أكاديمية.

ومن خلال هذا العرض المختصر يمكننا تدريجيا تلمس "فكرة قائدة" طبقا لتحديد هوريو وتتلخص في أن اليسار التونسي هو ذلك التيار أو المؤسسة التي تتبنى العلمانية الشاملة كما عرفها الدكتور عبد الوهاب المسيري، بأنها "رُؤية شاملة للعالم ذات بُعد معرفيّ (كُليّ ونهائيّ) تحاول بكل صرامة تحديد عَلاقة الدين والمطلقات والماورئيات (الميتافيزيقيا) بكل مَجَالات الحياة، وهي رُؤية عَقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحِدِيَّة المادية التي ترى أنَّ مركز الكَوْن كامن فيه غير مُفَارِق أو مُتَجَاوز له (فالعلمانية الشاملة وحدة وجود مادية) وأنَّ العالَم بأسره مكون أساسًا من مادة واحدة لا قَدَاسَة لها، ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها، ولا هدف ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرد، أو المُطلقات، أو الثوابت، هذه المادة بحسب هذه الرؤية تشكل كُلا من الإنسان والطبيعة، فهي رؤية واحدية طبيعية مادية وتتفرع عن هذه الرؤية منظومات مَعرفية (الحواسّ والواقع المادي مصدر المعرفة، فالعالم المعطى لحواسنا يحوي داخله ما يكفي لتفسيره والتعامل معه) ، كما تتفرع عنها رؤية أخلاقية (المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق) وأخرى تاريخية (التاريخ يتبع مسارا واحدا وإن تبع مسارات مختلفة فإنه يؤدي في نهاية الأمر إلى النقطة النهائية نفسها) ورؤية للإنسان (الإنسان كجزء لا يتجزأ من الطبيعة ليست له حدود مستقلة تفصله عنها ومن ثَمَّ هُو ظاهرة بَسيطة أحادية البُعد، وهو كائن ليس له وَعْيّ مستقل غَير قَادِر على التَّجَاوُز والاختيار الأخلاقيّ الحُرّ). (المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، 2002).

وتكاد تكون هذه الفكرة القائدة عاملا موحدا بين أهم تكوينات اليسار التونسي إلى حدود بداية التسعينات إلا أن الواقع الأمني وعسكرة تونس إضافة إلى عوامل خارجية أهمها ضغط العولمة الثقافية التي لا تقر بحق الإختلاف بل تبشر بنموذج أحادي قائم على مفهوم الهيمنة الإقتصادية والثقافية والسياسية. إضافة إلى أن اليسار التونسي كان يعيش عشية تحول 7/11 مشكلا مؤسساتيا كبيرا، يهدد تواصله وتواجده في الساحة السياسية والمؤسساتية التونسية. فالجماهير كانت تنفض من حوله وتلتحق بالإسلاميين او بالديمقراطيين ولذلك فإن مؤسسات اليسار كانت تسير إلى الذوبان والإنحلال ولم يبق منها سوى بعض الرموز والشخصيات السياسية والنقابية والحقوقية والثقافية، والتي رغم حضورها المهم في الحياة التونسية إلا أنها لا تشكل مؤسسات حقيقية. هذه العوامل وغيرها مهدت إلى حدوث خلخلة لهذا المفهوم لدى اليساريين التونسيين فبدأ عدد منهم يراجع هذه الفكرة، وأدت هذه المراجعة تدريجيا إلى القرب من الإسلاميين والتنسيق معهم خاصة في لجنة 18 أكتوبر منذ سنة 2006.

إشكاليات ما بعد 7/11: محمد الشرفي نموذجاتميز المشهد المؤسساتي بعد 7/11 ببروز ثلاث مؤسسات كبرى :الحزب الحاكم الذي غير اسمه إلى التجمع الدستوري الديمقراطي تحت قيادة الرئيس الجديد زين العابدين بن علي الماسك بزمام الأمور في البلاد.الإسلاميون أساسا حركة النهضة التي خرجت من معركتها مع بورقيبة مرفوعة الرأس ومحفوفة بزخم مادي ومعنوي ضخم، وتعاطف شعبي كبير.المجتمع المدني بمكوناته الحزبية والنقابية الذي أخذ يتلمس له مكانا تحت الشمس.

في هذا المشهد المؤسساتي كان اليسار، عموما، هو الغائب الذي لم يبحث عنه، ولذلك كانت خياراته محدودة. فالتنسيق مع الإسلاميين كان غير غير مطروح بسبب العداء الأيديولوجي والتاريخي وأما الإنخراط في المجتمع المدني فكان غير ممكن بسبب ضعف اليسار الذي خاف من التلاشي نهائيا إذا أقدم على هذه الخطوة، إضافة إلى "فقدان قوى المعارضة اليسارية البديل الواقعي المتمفصل بشكل موضوعي للواقع التونسي" كما يقول الدكتور المديني2 إلى جانب عجز اليسار التونسي عن تشكيل مؤسسات يمكن لها أن تنافس سائر مؤسسات المجتمع المدني لم يبق أمام العديد من رموزه إلا التوجه إلى التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان يشكو من فراغ أيديولوجي بعد نهاية أيديولوجية البورقيبية القائمة على كاريزما المجاهد الأكبر ومحرر المرأة.

وحتى يتسنى للنخب اليسارية "الإشتراك في تأسيس منظومة من المقولات والقيم الجديدة التي توجه نشاط الحزب، وتغذي أساليب عمله، وتبعث فيه حركية جديدة... طرح اليسار مقولة الصراع العقلاني/ الظلامي بدل مقولة الصراع الطبقي الإجتماعي" (المديني، المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي، ص621).

في هذا المستوى أيضا لم يكن اليسار متجانسا فلم تسارع كل شخصيات اليسار إلى التجمع وإنما بقي البعض القليل على حياديته وفضلوا العمل الحقوقي أساسا أو الإستقالة العملية وفضل آخرون العمل السياسي ضمن المعارضة مثل الحزب الشيوعي التونسي الذي غير اسمه إلى "حزب التجديد" وكذلك حزب العمال الشيوعي التونسيPOCT الذي تأسس سنة3 يناير 1986، والذي كان يعمل سابقا تحت اسم منظمة العامل التونسي، وهو الحزب الذي يفتخر اليسارييون العرب انه أكثر الأحزاب الشيوعية وفاء للمرجعية الماركسية ـ اللينينية.

كان هذا المشهد العام لليسار عشية 7/11، وضع مؤسساتي ضعيف فكرة قائدة فقدت بريقها وأنصارها مما اضطر رموز اليسار إلى البحث عن فكرة قائدة جديدة وجدها كما ذكرنا في التأسيس لمقولة الصراع العقلاني/ الظلامي. ولعل أبرز رموز اليسار الذين اختاروا الإلتحاق بالتجمع السادة محمد الشرفي3 وعبد الباقي الهرماسي ثم التحق بهم بعد ذلك بعض أجيال الشباب من قيادات العمل الطلابي أبرزهم سمير العبيدي الأمين العام للإتحاد العام لطلبة تونس، الذي تأسس سنة 1988، والذي مثل محاولة يسارية لتجديد مؤسسة طمح جزء غير قليل من اليساريين أن يكون لها فعل مؤسساتي هام لليسار ولكن هذا الحلم وئد مباشرة بعد تأسيس الإتحاد وعقد المؤتمر الثامن عشر خارق للعادة.

يعتبر الشرفي أهم شخصيات اليسار التونسي الذي ترك بصمات واضحة على الحياة السياسية والثقافية التونسية فبرنامج إصلاح التعليم الذي قام به لقي جدلا كثيرا ومعارضة كبيرة، ليس فقط من الإسلاميين، وإنما من غيرهم كنقابة التعليم الثانوي والعالي .

لا بد من التأكيد على أن إصلاح التعليم كان مطلبا وضرورة، لأن برنامج التعليم لم يعد يستجيب لمطلبات تطور الحياة الثقافية والسياسية والدينية في تونس ولكن الشرفي، الذي يعتبر نفسه ، كما بين لاحقا في كتابه "الإسلام والحرية. سوء التفاهم التاريخي" يتحرك في دائرة الإجتهاد والتأويل4. إلا إننا لا يمكن أن نبرأ ساحته من مجموعة من الأخطاء الفادحة التي ساهت في تعميق الأزمة في تونس ولم تقد بالتالي إلى إصلاح ناجح للتعليم، ويمكن إجمال هذه النقاط في التالي:

ـ أن برنامج الإصلاح الذي قاده الشرفي تضمّن بشكل واضح عديد النقاط التي تتعارض مع الهوية الإسلامية للشعب التونسي.5

ـ أن السيد محمد الشرفي لم يستشر في البرنامج الذي أعده أحدا من الأطراف المعنية كنقابتي التعليم الثانوي والعالي ولا النقابتين الطلابيتين ولا الأساتذة والمختصين البيداخوجيين.

ـ استعان السيد الشرفي بموقعه في وزارة كبرى وبثقة الرئيس فيه فوظف الجهاز الأمني لفرض مشروعه بالتعسف على الجميع.

ـ يصبح نقد الشرفي لظاهرة الإستبداد في النهضة العربية عموما والذي عرضه في كتابه المذكور لا معنى له لأنه هو نفسه كان طرفا مدعما ومجذرا للإستبداد الذي يعده الكواكبي من مقاتل الحضارة.

ـ أما قول الشرفي بأن ما قام به يعتبر أجتهادا وتأويلا فإننا لو سلمنا بسلامة هذا القول في مبناه النظري فإننا لا نقبله من حيث ممارسته لأن الإجتهاد في الثقافة الإسلامية كان مقترنا بالحرية لا بالفرض والإجبار وقد أثبت الإمام مالك رضي الله عنه حق الأمة في حرية الإختيار في الإجتهاد عندما رفض طلب المنصور في فرض مذهبه على الناس كما أثبتت الحالات التي تم فيه فرض نوع من الإحتهاد فشلها الذريع كما كان مع المعتزلة في محاولة فرضهم لقضية خلق القرآن.

وهكذا فإن فترة وزارة الشرفي التي دامت حوالي الخمس سنوات أسائت إلى اليسار كثيرا ولم تنفعه على المستوى الإستراتيجي وأضافت إليه مشكلا كبييرا لن يستطيع اليسار التونسي تجاوزه بسهولة خاصة أمام إصرار قطاع مهم ممن لا يزالون يمسكون بمقاليد الحكم في تونس على المضي في النهج الإستبدادي الذي أسسه الشرفي ودعّمه، فاليسار مطالب كأكثر من أي وقت مضى من أجل أن يعود إلى مؤسسات المجتمع المدني التونسي أن يحسم فيما بينه مثل هذه الإشكاليات، ودون الشجاعة والجرأة فإن وضعه المؤسساتي سوف يبقى مهتزا ومهترأ كما أن معارضيه سوف لن يكفوا عن إضفاء التعميم السلبي عليه وهو ما قد يعيق نشاط الحقوقيين والسياسيين اليساريين المستقلين وسوف يكون عبئا ثقيلا عليهم.

إن الأزمات التي مرّ بها اليسار دفعت بعض رموزه إلى القيام بدعوات نقد ذاتي من أجل ضمان مستقبل أفضل لليسار ولعل ما يدعو إليه الدكتور محسن مرزوق، أحد القيادات الطلابية اليسارية في الثمانينات من الأهمية بمكان، فهو يدعو إلى تجاوز مقولة يسار ويمين وتأسيس علاقة جديدة تقوم على التعاون ومقاومة التخلف في الوطن العربي وهو ما يقود إلى "إحداث التحول من خلال التنافس مع الكيانات الواقعية للقوى السياسية الأخرىويضع شرطا أساسيا وهو " القبول بما هو موجود باعتباره موجودا ثم السعي لتغييره"6 كما يدعو إلى تسوية تاريخية بين الإسلاميين والعلمانيين7. إن صح هذا التوجه فإننا لا نملك إلا أن ندعمه ونباركه.)

حسن الطرابلسي / باحث في الفلسفة وعلم الإجتماع

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire