الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

mercredi 29 mai 2013

في ظلال القرآن سورة يوسف

في ظلال القرآن


سورة يوسف


الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
فهناك حبكة بين التقدمة للقصة والتعقيب عليها ; ظاهر منها نزول التقدمة مع القصة والتعقيب .
أما الآية السابعة فالسياق لا يستقيم بدونها أصلا ; ولا يتأتى أن تكون السورة قد نزلت في مكة وهي ليست من سياقها ثم أضيفت إليها في المدينة ! ذلك أن في الآية الثامنة ضميرا يعود على يوسف وإخوته في هذه الآية السابعة , بحيث لا يستقيم نزول الآية الثامنة دون أن تكون معها الآية السابقة . وهذا نصها:
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين . إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلي أبينا منا ونحن عصبة , إن أبانا لفي ضلال مبين . .
مما يقطع بأن الآيتين نزلتا معا , في سياق السورة الموصول .
والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وفي إيحاءاتها . بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة . . ففي الوقت الذي كان رسول الله [ ص ] يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش - منذ عام الحزن - وتعاني معه الجماعة المسلمة هذه الشدة , كان الله - سبحانه - يقص على نبيه الكريم قصة أخ له كريم - يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين - وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات:محنة كيد الإخوة . ومحنة الجب والخوف والترويع فيه . ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه , ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله . ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة , وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة ! ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز . ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه , وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم , وفي يديه لقمة الخبز التي تقوتهم ! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلها . . هذه المحن والابتلاءات التي صبر عليها يوسف - عليه السلام - وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها , وخرج منها كلها متجردا خالصا ; آخر توجهاته , وآخر اهتماماته , في لحظة الانتصار على المحن جميعا ; وفي لحظة لقاء أبويه ولم شمله ; وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها:(إذ قال يوسف لأبيه:يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر . رأيتهم لي ساجدين). . آخر توجهاته وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه , منخلعا من هذا كله بكليته كما يصوره القرآن الكريم:
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه , وقال:ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين . ورفع أبويه على العرش , وخروا له سجدا . وقال:يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا , وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن , وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي , إن ربي لطيف لما يشاء , إنه هو العليم الحكيم . . رب قد آتيتني من الملك , وعلمتني من تأويل الأحاديث , فاطر السماوات والأرض . أنت ولي في الدنيا والآخرة , توفني مسلما , وألحقني بالصالحين . .
وهكذا كانت طلبته الأخيرة . . بعد ذلك كله وهو في غمرة السلطان والرخاء ولمة الشمل . . أن يتوفاه ربه مسلما , وأن يلحقه بالصالحين . . وذلك بعد الابتلاء والمحنة , والصبر الطويل والانتصار الكبير . .
فلا عجب أن تكون هذه السورة . بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم , ومن التعقيبات عليها بعد ذلك , مما يتنزل على رسول الله [ ص ] والجماعة المسلمة معه في مكة , في هذه الفترة بالذات , تسلية وتسرية , وتطمينا كذلك وتثبيتا للمطاردين المغتربين المتوحشين !
لا بل أن الخاطر ليذهب بي اللحظة إلى الإحساس بالإيحاء البعيد بالإخراج من مكة إلى دار أخرى يكونفيها النصر والتمكين ; مهما بدا أن الخروج كان إكراها تحت التهديد ! كما أخرج يوسف من حضن أبيه , ليواجه هذه الابتلاءات كلها . ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين:
(وكذلك مكنا ليوسف في الأرض , ولنعلمه من تأويل الأحاديث , والله غالب على أمره , ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
ولقد كان ذلك وهو يضع أقدامه في مصر في قصر العزيز . . حتى وهو ما يزال فتى يباع بين الرقيق . . !
وما يذهب بي الخاطر إليه اللحظة يجعلني أتذوق مذاقا خاصا - أشير إليه ولا أملك التعبير عنه ! - ذلك التعقيب الذي أعقب القصة:
(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى , أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم , ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ? حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء , ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين . لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب , ما كان حديثا يفترى , ولكن تصديق الذي بين يديه , وتفصيل كل شيء , وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). .
إنه الإيحاء بمجرى سنة الله عندما يستيئس الرسل - كما استيأس يوسف في محنته الطويلة - والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب ! . . الإيحاء والتلميح اللذان تدركهما القلوب المؤمنة , وهي في مثل هذه الفترة تعيش , وفي جوها تتنفس , فتتذوق وتستشرف وتلمح الإيحاء والتلميح . من بعيد . .
والسورة ذات طابع منفرد في احتوائها على قصة يوسف كاملة . فالقصص القرآني - غير قصة يوسف - يرد حلقات , تناسب كل حلقة منها أو مجموعة حلقات موضوع السورة واتجاهها وجوها . وحتى القصص الذي ورد كاملا في سورة واحدة كقصص هود وصالح ولوط وشعيب ورد مختصرا مجملا . أما قصة يوسف فوردت بتمامها وبطولها في سورة واحدة . وهو طابع متفرد في السور القرآنية جميعا .
هذا الطابع الخاص يتناسب مع طبيعة القصة ; ويؤديها أداء كاملا . . ذلك أنها تبدأ برؤيا يوسف , وتنتهي بتأويلها . بحيث لا يناسبها أن تكون حلقة منها أو جملة حلقات في سورة وتكون بقيتها في سورة أخرى .
وهذا الطابع كفل لها الأداء الكامل في جميع الوجوه ; فوق تحقيقه للهدف الأصيل الذي من أجله سيقت القصة , والتعقيبات التي تلتها .
وسنحتاج أن نقول كلمة مفصلة - بعض الشيء - عن هذا الأداء الكامل , تكشف عن ذلك المنهج القرآني الفريد .
. . وبالله التوفيق . .
إن قصة يوسف - كما جاءت في هذه السورة - تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة , بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقيدي والتربوي والحركي أيضا . . ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه , إلا أن قصة يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء !
إن القصة تعرض شخصية يوسف - عليه السلام - وهي الشخصية الرئيسية في القصة - عرضا كاملا فيكل مجالات حياتها , بكل جوانب هذه الحياة , وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات . وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة ; وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها . . ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء . وابتلاءات الفتنة بالشهوة , والفتنة بالسلطان . وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات . . ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة , متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة .
وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز . وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض , وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية , وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال . . وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة . متمثلة في نماذج متنوعة:نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول . . ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة , ومواجهة آثار الجريمة , والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة , متميزا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها . . ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية , كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك , إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات البيئة . . ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية ! والأضواء التي تلقيها على البيئة , ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها , وفي إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعا . وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها , كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة . . ونموذج "العزيز" وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه ! . . ونموذج "الملك" في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق . . وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات , وهذا الحشد من المواقف والمشاهد , وهذا الحشد من الحركات والمشاعر . .
ومع استيفاء القصة لكل ملامح "الواقعية " السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة . . فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة , ذلك الأداء الصادق , الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة . . المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة , وفي الوقت ذاته لا ينشيء مستنقعا من الوحل يسميه "الواقعية " كالمستنقع الذي أنشأته "الواقعية " الغربية الجاهلية !
وقد ألمت القصة بألوان من الضعف البشري ; بما فيها لحظة الضعف الجنسي , ودون أن تزور - أي تزوير - في تصوير النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف , ودون أن تغفل أية لمحة حقيقية من لمحات النفس أو الموقف , فإنها لم تسف قط لتنشيء ذلك المستنقع المقزز للفطرة السليمة , ذلك الذي يسمونه في جاهلية القرن العشرين "الواقعية " أو يسمونه أخيرا "الطبيعة ! " .
وظلت القصة صورة نظيفة للأداء الواقعي الكامل مع تنوع الشخصيات وتنوع المواقف:
إخوة يوسف . . والأحقاد الصغيرة في قلوبهم تكبر وتتضخم حتى تحجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها ونكارتها وضخامتها ! ثم تزين لهم "المحلل الشرعي ! " الذي يخرجون به من تلك الجريمة . . ملاحظا في هذا واقعيتهم في بيئتهم الدينية - وهم أولاد نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلواتالله وسلامه - وانطباعات هذه البيئة في تفكيرهم ومشاعرهم وتقاليدهم , وحاجتهم النفسية - من ثم - إلى مبرر للجريمة , وإلى طريقة للتحلل من نكارتها وبشاعتها:
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين . إذ قالوا:ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا - ونحن عصبة - إن أبانا لفي ضلال مبين ! اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم , وتكونوا من بعده قوما صالحين ! قال قائل منهم:لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب , يلتقطه بعض السيارة - إن كنتم فاعلين ! - قالوا:يا أبانا , مالك لا تأمنا على يوسف , وإنا له لناصحون . أرسله معنا غدا يرتع ويلعب , وإنا له لحافظون ! قال:إني ليحزنني أن تذهبوا به , وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون . قالوا:لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون . فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب , وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون . وجاءوا أباهم عشاء يبكون , قالوا:يا أبانا , إنا ذهبنا نستبق , وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب , وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . وجاءوا على قميصه بدم كذب , قال:بل سولت لكم أنفسكم أمرا , فصبر جميل , والله المستعان على ما تصفون . .
ونحن نجدهم - هم هم - في كل مواقف القصة بعد ذلك - كما نجد موقف أحدهم الخاص من أول القصة إلى آخرها - فما إن يذهبوا بأخي يوسف بعدما طلبه منهم وهم لا يعرفونه يحسبون أنه عزيز مصر الذي قدموا من بلادهم - كنعان - ليشتروا منه القمح في سنوات الجدب العجاف , حيث يدبر الله ليوسف أن يأخذ أخاه منهم بحجة أنه وجد صواع الملك في رحله . . ما إن يروا هذا التدبير - وهم لا يعلمون ما وراءه - حتى ينفجر حقدهم القديم على يوسف:
(قالوا:إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ! فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم . قال:أنتم شر مكانا , والله أعلم بما تصفون). .
كذلك نجدهم - هم هم - بعد مواجهة أبيهم بالفجيعة الثانية في شيخوخته الحزينة , فما إن يروا تجدد حزنه على يوسف حتى ينفجر حقدهم القديم , دون مراعاة لشيخوخة أبيهم ونكبته الأليمة:
وتولى عنهم وقال:يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . قالوا:تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ! . .
ومثلها عندما أرسل يوسف قميصه إلى أبيه في النهاية - بعدما كشف لهم عن شخصيته - فلما رأوا أباهم يستنشق عبير يوسف , غاظهم هذا الاتصال الباطني الدال على عمق ما بينه وبين يوسف , فلم يملكوا أنفسهم أن يبكتوه ويؤنبوه:
(ولما فصلت العير قال أبوهم:إني لأجد ريح يوسف , لولا أن تفندون ! قالوا:تالله إنك لفي ضلالك القديم !). .
وامرأة العزيز . . في صرع الشهوة التي تعمي عن كل شيء في اندفاعها الهائج الكاسح , فلا تحفل حياء أنثويا ولا كبرياء ذاتيا , كما لا تحفل مركزا اجتماعيا ولا فضيحة عائلية . . والتي تستخدم - مع ذلك - كل مكر الأنثى وكيدها , سواء في تبرئة نفسها أو حماية من تهوى من جرائر التهمة التي ألصقتها به , وتحديد عقوبة لا تودي بحياته ! أو رد الكيد للنسوة من ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها ! أو التبجح بشهوانيتها أمام انكشاف ضعف عزيمتها وكبريائها أمام من تهوى , ووقوف نسوتها معها على أرض واحدة , حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة وحيائها , الأنثى التي لا تحس فيإرواء هواتفها الأنثوية أمرا يعاب أصلا ! ومع صدق التصوير والتعبير عن هذا النموذج البشري الخاص بكل واقعيته , وعن هذه اللحظة الخاصة بكل طبيعيتها , فإن الأداء القرآني - الذي ينبغي أن يكون هو النموذج الأعلى للأداء الفني الإسلامي - لم يتخل عن طابعه النظيف مرة واحدة - حتى وهو يصور لحظة التعري النفسي والجسدي الكامل بكل اندفاعها وحيوانيتها - لينشيء ذلك المستنقع الكريه الذي يتمرغ في وحله كتاب "القصة الواقعية " وكتاب "القصة الطبيعية " في هذه الجاهلية النكدة بحجة الكمال الفني في الأداء !
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته:أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا . وكذلك مكنا ليوسف في الأرض , ولنعلمه من تأويل الأحاديث , والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما , وكذلك نجزي المحسنين . وراودته التي هو في بيتها عن نفسه , وغلقت الأبواب وقالت:هيت لك ! قال:معاذ الله ! إنه ربي أحسن مثواي , إنه لا يفلح الظالمون . ولقد همت به وهم بها , لولا أن رأى برهان ربه . كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء , إنه من عبادنا المخلصين . واستبقا الباب , وقدت قميصه من دبر , وألفيا سيدها لدى الباب , قالت:ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ?! قال:هي راودتني عن نفسي , وشهد شاهد من أهلها:إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين . وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين . فلما رأى قميصه قد من دبر قال:إنه من كيدكن , إن كيدكن عظيم ! يوسف أعرض عن هذا , واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ! . . وقال نسوة في المدينة:امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ! قد شغفها حبا ! إنا لنراها في ضلال مبين ! فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن , وأعتدت لهن متكأ , وآتت كل واحدة منهن سكينا , وقالت:اخرج عليهن ! فلما رأينه أكبرنه , وقطعن أيديهن , وقلن:حاش لله ! ما هذا بشرا , إن هذا إلا ملك كريم . قالت:فذلكن الذي لمتنني فيه ! ولقد راودته عن نفسه فاستعصم , ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين . قال:رب , السجن أحب إلى مما يدعونني إليه , وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين . فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن , إنه هو السميع العليم . .
"وكذلك حين نلتقي بها مرة أخرى بعدما دخل يوسف السجن بسبب كيدها وكيد النسوة ; وبقي هناك حتى رأى الملك رؤياه , وتذكر الفتى الذي كان سجينا معه أن يوسف هو وحده الذي يعرف تأويل الرؤيا , فطلب الملك أن يأتوه به , فأبى حتى يحقق قضيته , ويبريء ساحته , فاستدعاها الملك مع النسوة . وإذا بها ما تزال المرأة المحبة , مع التغير الطبيعي الواقعي الذي يحدثه الزمن والعمر والأحداث والظروف ; ومع تسرب الإيمان الذي تعرفه من يوسف من خلال تلك المشاعر والمؤثرات جميعا:
وقال الملك:ائتوني به . فلما جاءه الرسول قال:ارجع إلى ربك فاسأله:ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ? إن ربي بكيدهن عليم . قال:ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ? قلن:حاش لله ! ما علمنا عليه من سوء . قالت امرأة العزيز:الآن حصحص الحق , أنا راودته عن نفسه , وإنه لمن الصادقين . ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب , وأن الله لا يهدي كيد الخائنين . وما أبريء نفسي , إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي , إن ربي غفور رحيم . .
ويوسف . . العبد الصالح - الإنسان - لم يزور الأداء القرآني في شخصيته الإنسانية لمحة واحدة ; وهو يواجه الفتنة بكل بشريته - مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه - وبشريته مع نشأته وتربيته ودينه تمثل بمجموعها واقعيته بكل جوانبها . . لقد ضعف حين همت به حتى هم بها ; ولكن الخيط الآخر شده وأنقذهمن السقوط فعلا . ولقد شعر بضعفه إزاء كيد النسوة . ومنطق البيئة , وجو القصور , ونسوة القصور أيضا ! ولكنه تمسك بالعروة الوثقى . . ليست هنالك لمحة واحدة مزورة في واقعية الشخصية وطبيعتها ; وليس هنالك رائحة من مستنقعات الجاهلية ووحلها الفني ! ذلك أن هذا هو الواقع السليم بكل جوانبه . .
والعزيز . . وشخصيته بطبيعتها الخاصة , وبطبيعة سمت الإمارة ; ثم بضعف النخوة , وغلبة الرياء الاجتماعي وستر الظواهر وإنقاذها ! وفيه تتمثل كل خصائص بيئته:
(فلما رأى قميصه قد من دبر , قال:إنه من كيدكن , إن كيدكن عظيم . يوسف أعرض عن هذا , واستغفري لذنبك , إنك كنت من الخاطئين !). .
والنسوة . . نسوة هذا المجتمع بكل ملامحه . . اللغط بسيرة امرأة العزيز وفتاها الذي راودته عن نفسه , بعدما شغفها حبا ! والاستنكار الذي تبدو فيه غيرة النسوة من امرأة العزيز أكثر مما يبدو فيه استنكار الفعلة ! ثم وهلتهن أمام طلعة يوسف . قم إقرارهن الأنثوي العميق بموقف المرأة التي كن يلغطن بقصتها ويستنكرن موقفها ; وإحساس هذه المرأة بهذا الإقرار الذي يشجعها على الاعتراف الكامل , وهي آمنة في ظل استسلامهن لأنوثتهن كما تصنعها بيئتهن الخاصة وتوجهها . ثم ميلهن كلهن على يوسف بالإغراء والإغواء , رغم ما أنطقتهن به الوهلة الأولى من نظافته وطهارته البادية من قولهن: (حاش لله ! ما هذا بشرا , إن هذا إلا ملك كريم). . نأخذ ذلك من قولة يوسف عليه السلام:
(قال:رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه , وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين). .
فلم تعد امرأة العزيز وحدها تراوده ; ولكن عادت نسوة تلك الطبقة بجملتها تطارده !
والبيئة . . التي تتجلى سماتها من خلال ذلك كله . ثم من خلال ذلك التصرف في أمر يوسف , على الرغم مما بدا من براءته . ذلك التصرف المقصود به مواراة الفضيحة ودفن معالمها ; ولا يهم أن يذهب بريء كيوسف ضحيتها:
(ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين). .
فإذا تابعنا شخصية يوسف - عليه السلام - فإننا لا نفتقد في موقف واحد من مواقف القصة ملامح هذه الشخصية , المنبثقة من مقوماتها الذاتية البيئية الواقعية , المتمثلة في كونه "العبد الصالح - الإنسان - بكل بشريته , مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه" . .
فهو في السجن وظلماته - مع الظلم وظلماته ! - لا يغفل عن الدعوة لدينه , في كياسة وتلطف - مع الحزم والفصل - وفي إدراك لطبيعة البيئة ومداخل النفوس فيها . . كما أنه لا يغفل عن حسن تمثيله بشخصه وأدبه وسلوكه لدينه هذا الذي يدعو إليه في سجنه:
(ودخل معه السجن فتيان . قال أحدهما:إني أراني أعصر خمرا , وقال الآخر:إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه . نبئنا بتأويله , إنا نراك من المحسنين . قال:لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما , ذلكما مما علمني ربي , إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب , ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء , ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس , ولكن أكثر الناس لا يشكرون . يا صاحبي السجن , أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ? ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان , إن الحكم إلا لله ,)أمر ألا تعبدوا إلا إياه , ذلك الدين القيم , ولكن أكثر الناس لا يعلمون . يا صاحبي السجن , أما أحدكما فيسقي ربه خمرا , وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه , قضي الأمر الذي فيه تستفتيان). .
وهو - مع هذا كله - بشر , فيه ضعف البشر . فهو يتطلب الخلاص من سجنه , بمحاولة إيصال خبره إلى الملك , لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن المظلم . وإن كان الله - سبحانه - شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده:
(وقال للذي ظن أنه ناج منهما:اذكرني عند ربك . فأنساه الشيطان ذكر ربه . فلبث في السجن بضع سنين . . .).
ثم تطالعنا ملامح هذه الشخصية كذلك بعد بضع سنين , وقد رأى الملك رؤياه , فحار في تأويلها الكهنة والسدنة ; حتى تذكر صاحب السجن يوسف - بعدما تمت التربية الربانية للعبد الصالح , فاطمأن إلى قدر الله به واطمأن إلى مصيره - حتى إذا ما طلب الملك - بعد تأويله لرؤياه - أن يأتوه به , أجاب في هدوء المطمئن الواثق ; وتمنع عن مغادرة سجنه إلا بعد تحقيق تهمته وتبرئة سمعته:
وقال الملك:إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف , وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات . يا أيها الملأ أفتوني في رؤيايي , إن كنتم للرؤيا تعبرون . قالوا:أضغاث أحلام , وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين . وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة:أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون . يوسف أيها الصديق , أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات , لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون . قال:تزرعون سبع سنين دأبا , فما حصدتم فذروه في سنبله , إلا قليلا مما تأكلون . ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن . إلا قليلا مما تحصنون . ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون . . وقال الملك:ائتوني به . . فلما جاءه الرسول قال:ارجع إلى ربك فاسأله:ما بال النسوة اللآتي قطعن أيديهن ? إن ربي بكيدهن عليم . قال:ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ? قلن:حاش لله ! ما علمنا عليه من سوء . قالت امرأة العزيز:الآن حصحص الحق , أنا راودته عن نفسه , وإنه لمن الصادقين . ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب , وأن الله لا يهدي كيد الخائنيين . وما أبريء نفسي , إن النفس لأمارة بالسوء , إلا ما رحم ربي , إن ربي غفور رحيم . . وقال الملك:ائتوني به أستخلصه لنفسي , فلما كلمه قال:إنك اليوم لدينا مكين أمين . قال:اجعلني على خزائن الأرض , إني حفيظ عليم . .
ومنذ هذه اللحظة التي تجلت فيها شخصية يوسف مكتملة ناضجة واعية , مطمئنة ساكنة واثقة , نجد هذه الشخصية تتفرد على مسرح الأحداث , وتتوارى تماما شخصيات الملك والعزيز والنسوة والبيئة . ويمهد السياق القرآني لهذا التحول في القصة وفي الواقع بقوله:
(وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء , نصيب برحمتنا من نشاء . ولا نضيع أجر المحسنين , ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون). .
ومنذ هذه اللحظة نجد هذه الشخصية تواجه ألوانا أخرى من الابتلاءات , تختلف في طبيعتها عن الألوان الأولى ; وتواجهها بذلك الاكتمال الناضج الواعي , وبتلك الطمأنينة الساكنة الواثقة .
نجد يوسف وهو يواجه - للمرة الأولى - إخوته بعدما فعلوا به تلك الفعلة القديمة ; وهو في الموقف الأعلى بالقياس إليهم والأقوى . . ولكننا نجد سمة الضبط واضحة في انفعالاته وتصرفاته:
(وجاء أخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون . ولما جهزهم بجهازهم قال:ائتوني بأخ لكم من أبيكم , ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ? فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون . قالوا:سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون . وقال لفتيانه:اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون). .
ونجده وهو يدبر - بتدبير الله له - كيف يأخذ أخاه . فنلمح الشخصية الناضجة الواعية الحكيمة المطمئنة , الضابطة الصابرة:
ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه:قال:إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون . فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ; ثم أذن مؤذن:أيتها العير إنكم لسارقون . قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون ? قالوا:نفقد صواع الملك , ولمن جاء به حمل بعير , وأنا به زعيم . قالوا:تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض , وما كنا سارقين . قالوا:فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ? قالوا:جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه , كذلك نجزي الظالمين . فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه , ثم استخرجها من وعاء أخيه . . كذلك كدنا ليوسف , ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك , إلا أن يشاء الله , نرفع درجات من نشاء , وفوق كل ذي علم عليم . قالوا:إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ! فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم , قال:أنتم شر مكانا , والله أعلم بما تصفون . قالوا:يا أيها العزيز , إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه , إنا نراك من المحسنين . قال:معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده , إنا إذا لظالمون . .
ثم نلتقي به وقد استوفت المحنة بيعقوب أجلها , وقدر الله أن تنقضي الابتلاءات التي نزلت به وببيته , وحن يوسف إلى أبويه وأهله , ورق لأخوته والضر باد بهم , فكشف لهم عن نفسه , في عتاب رقيق , وفي عفو كريم , يجيء في أوانه , وكل الملابسات توحي به , وتتوقعه من هذه الشخصية بسماتها تلك:
فلما دخلوا عليه قالوا:يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر , وجئنا ببضاعة مزجاة . فأوف لنا الكيل وتصدق علينا , إن الله يجزي المتصدقين . قال:هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ? قالوا:أئنك لأنت يوسف ? قال:أنا يوسف , وهذا أخي , قد من الله علينا , إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين . قالوا:تالله لقد آثرك الله علينا , وإن كنا لخاطئين . قال:لا تثريب عليكم اليوم , يغفر الله لكم , وهو أرحم الراحمين . اذهبوا بقميصي هذه فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا , وأتوني بأهلكم أجمعين . .
وفي النهاية يجيء ذلك الموقف الجليل الرائع . . موقف اللقاء الجامع ويوسف في أوج سلطانه وأوج تأويل رؤياه وتحقق أحلامه . . وإذا به ينسلخ من هذا كله وينتحي جانبا ينفرد بربه , ويناجيه خالصا له , وذلك كله مطروح وراءه:
رب قد آتيتني من الملك , وعلمتني من تأويل الأحاديث . فاطر السماوات والأرض . أنت ولي في الدنيا والآخرة . توفني مسلما وألحقني بالصالحين . .
إنها شخصية موحدة متكاملة , بكل واقعيتها الممثلة لمقوماتها الواقعية في نشأتها وبيئتها .
ويعقوب . . الوالد المحب الملهوف , والنبي المطمئن الموصول , وهو يواجه بالاستبشار والخوف معا تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف ; وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق , بينما هو يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه . فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل جوانبها:
(إذ قال يوسف لأبيه:يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . قال:)(يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا . إن الشيطان للإنسان عدو مبين . وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث , ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق , إن ربك عليم حكيم).
ثم نجد هذه الشخصية كذلك بكل واقعيتها البشرية النبوية , وبنوه يراودونه عن يوسف ثم وهم يفاجئونه بالفجيعة:
قالوا:يا أبانا , مالك لا تأمنا على يوسف , وإنا له لناصحون . أرسله معنا غدا يرتع ويلعب , وإنا له لحافظون . قال:إني ليحزنني أن تذهبوا به , وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون . قالوا:لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون . فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب , وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون . وجاءوا أباهم عشاء يبكون , قالوا:يا أبانا , إنا ذهبنا نستبق , وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب , وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . وجاءوا على قميصه بدم كذب , قال:بل سولت لكم أنفسكم أمرا ; فصبر جميل , والله المستعان على ما تصفون . .
ثم نلتقي بهذه الشخصية - بكل واقعيتها تلك - وبنوه يراودونه مرة أخرى على السلوة الباقية له . . أخي يوسف . . وقد طلبه منهم عزيز مصر - يوسف - الذي لا يعرفونه ! في مقابل أن يعطيهم كيلا يقتاتون به في السنوات العجاف !
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا:يا أبانا منع منا الكيل , فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون:قال:هلى آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ? فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم , قالوا:يا أبانا ما نبغي , هذه بضاعتنا ردت إلينا , ونمير أهلنا ونحفظ أخانا , ونزداد كيل بعير , ذلك كيل يسير . قال:لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله:لتأتنني به إلا أن يحاط بكم . فلما آتوه موثقهم قال:الله على ما نقول وكيل . . وقال:يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة , وما أغنى عنكم من الله من شيء , إن الحكم إلا لله , عليه توكلت , وعليه ففليتوكل المتوكلون . ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء , إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها , وإنه لذو علم لما علمناه , ولكن أكثر الناس لا يعلمون . .
ثم نلتقي به في فجيعته الثانية . . والدا ملهوفا ونبيا موصولا . . ذلك بعد أن دبر الله ليوسف كيف يأخذ أخاه . فيتخلف أحد أبناء يعقوب - صاحب الشخصية الخاصة فيهم , متوافيا مع سماته التي صاحبت مواقفه كلها في القصة , مشفقا أن يقابل أباه بعد الموثق الذي آتاه إياه . إلا أن يأذن له أبوه أو يحكم له الله -:
فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا , قال كبيرهم:ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله , ومن قبل ما فرطتم في يوسف ? فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي , أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين . ارجعوا إلى أبيكم فقولوا:يا أبانا إن ابنك سرق ! وما شهدنا إلا بما علمنا , وما كنا للغيب حافظين . واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها , وإنا لصادقون . قال:بل سولت لكم أنفسكم أمرا , فصبر جميل , عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم . وتولى عنهم وقال:يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . قالوا:تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ! قال:إنما أشكو بثي وحزني إلى الله , وأعلم من الله ما لا تعلمون . يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه , ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . .
وفي آخر مواقف المحنة الطويلة للشيخ المبتلي نجد ذات الملامح وذات الواقعية . وهو يشم ريح يوسف في قميصه , ويواجه غيظ بنيه وتبكيتهم فلا يشك في صدق ظنه بربه:
ولما فصلت العير قال أبوهم:إني لأجد ريح يوسف , لولا أن تفندون . قالوا:تالله إنك لفي ضلالك القديم . فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا . قال:ألم أقل لكم:إني أعلم من الله ما لا تعلمون ? قالوا:يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين . قال:سوف استغفر لكم ربي , إنه هو الغفور الرحيم
إنها الشخصية الموحدة الخصائص والملامح , الواقعية المشاعر والتصرفات , الممثلة لكل واقعية ذاتها وظروفها وبيئتها بلا تزوير ولا نقص ولا تحريف !
والواقعية الصادقة الأمنية النظيفة السليمة في الوقت نفسه , لا تقف عند واقعية الشخصيات الإنسانية التي تحفل بها القصة في هذا المجال الواسع , على هذا المستوى الرائع . ولكنها تتجلى كذلك في واقعية الأحداث والسرد والعرض وصدقها وطبيعيتها في مكانها وزمانها , وفي بيئتها وملابساتها . . فكل حركة وكل خالجة وكل كلمة تجيء في أوانها ; وتجيء في الصورة المتوقعة لها ; وتجيء في مكانها من مسرح العرض ; متراوحة بين منطقة الظل ومنطقة الضوء بحسب أهميتها ودورها وطبيعة جريان الحياة بها . . الأمر الملحوظ في الشخصيات أيضا كما قررنا من قبل هذا . .
حتى لحظات الجنس في القصة ومواقفه أخذت مساحتها كاملة - في حدود المنهج النظيف اللائق "بالإنسان" في غير تزوير ولا نقص ولا تحريف للواقعية البشرية في شمولها وصدقها وتكاملها - ولكن استيفاء تلك اللحظات لمساحتها المتناسقة مع بقية الأحداث والمواقف لم يكن معناه الوقوف أمامها كما لو كانت هي كل واقعية الكائن البشري ; وكما لو كانت هي محور حياته كلها , وهي كل أهداف حياته التي تستغرقها ! كما تحاول الجاهلية أن تفهمنا أن هذا وحده هو الفن الصادق !
إن الجاهلية إنما تمسخ الكائن البشري باسم الصدق الفني ! وهي تقف أمام لحظة الجنس كما لو كانت هي كل وجهة الحياة البشرية بجملتها ; فتنشيء منها مستنقعا واسعا عميقا , مزينا في الوقت ذاته بالأزهار الشيطانية !
وهي لا تفعل هذا لأن هذا هو الواقع , ولا لأنها هي مخلصة في تصوير هذا الواقع ! إنما تفعله لأن "بروتوكولات صهيون" تريد هذا ! تريد تجريد "الإنسان" إلا من حيوانيته حتى لا يوصم اليهود وحدهم بأنهم هم الذين يتجردون من كل القيم غير المادية ! وتريد أن تغرق البشرية كلها في وحل المستنقع كي تنحصر فيه كل اهتماماتها , وتستغرق فيه كل طاقاتها ; فهذه هي أضمن سبيل لتدمير البشرية حتى تجثو على ركبتيها خاضعة لملك صهيون المرتقب الملعون ! ثم تتخذ من الفن وسيلة إلى هذا الشر كله , إلى جانب ما تتخذه من نشر المذاهب "العلمية ! " المؤدية إلى ذات الهدف . تارة باسم "الداروينية " وتارة باسم "الفرويدية " وتارة باسم "الماركسية " أو "الاشتراكية العلمية " . . وكلها سواء في تحقيق المخططات الصهيونية الرهيبة !
والقصة بعد ذلك تتجاوز الشخصيات والأحداث لترسم ظلال الفترة التاريخية التي تجري فيها أحداث القصة , وتتحرك فيها شخصياتها الكثيرة , وتسجل سماتها العامة , فترسم مسرح الأحداث بأبعاده العالمية في تلك الفترة التاريخية . . ونكتفي ببعض اللمحات والسهام التي ترسم تلك الأبعاد:
إن مصر في هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية ; إنما كان يحكمها "الرعاة " الذين عاش إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قريبا منهم , فعرفوا شيئا عن دين الله منهم . نأخذ هذا من ذكر القرآن للملك بلقب "الملك" في حين يسمى الملك الذي جاء على عهد موسى - عليه السلام - من بعد بلقبه المعروف . "فرعون" . . ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف - عليه السلام - في مصر . فهو كان ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة ; وهي أسر "الرعاة " الذين سماهم المصريون "الهكسوس" ! كراهية لهم ; إذ يقال:إن معنى الكلمة في اللغة المصرية القديمة:"الخنازير" أو "رعاة الخنازير" ! وهي فترة تستغرق نحو قرن ونصف قرن .
إن رسالة يوسف عليه السلام كانت في هذه الفترة . وهو كان قد بدأ الدعوة إلى الإسلام . . ديانة التوحيد الخالص . . وهو في السجن ; وقرر أنها دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ; وقررها في صورة واضحة كاملة دقيقة شاملة , فيما حكاه القرآن الكريم من قوله:
(إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله , وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب , ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء , ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس , ولكن أكثر الناس لا يشكرون . يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ? ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان , إن الحكم إلا لله , أمر ألا تعبدوا إلا إياه , ذلك الدين القيم , ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
وهي صورة للإسلام واضحة كاملة ودقيقة وشاملة - كما جاء به رسل الله جميعا - من ناحية أصول العقيدة . تحتوي , الإيمان بالله , والإيمان بالآخرة , وتوحيد الله وعدم الشرك به أصلا , ومعرفة الله سبحانه بصفاته . . الواحد , القهار . . والحكم بعدم وجود حقيقة ولا سلطان لغيره أصلا ; ومن ثم نفى الأرباب التي تتحكم في رقاب العباد , وإعلان السلطان والحكم لله وحده , ما دام أن الله أمر ألا يعبد الناس غيره . ومزاولة السلطان والحكم والربوبية هي تعبيد للناس مخالف للأمر بعبادة الله وحده . وتحديد معنى "العبادة " بأنها الخضوع للسلطان والحكم والإذعان للربوبية , وتعريف الدين القيم بأنه إفراد الله سبحانه بالعبادة - أي إفراده بالحكم - فهما مترادفان أو متلازمان: (إن الحكم إلا لله , أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم). . وهذه هي أوضح صورة للإسلام وأكملها وأدقها وأشملها . .
وواضح أن يوسف - عليه السلام - عندما سيطر على مقاليد الأمور في مصر , استمر في دعوته للإسلام على هذا النحو الواضح الكامل الدقيق الشامل . . ولا بد أن الإسلام انتشر في مصر على يديه - وهو يقبض على أقوات الناس وأزوادهم لا على مجرد مقاليد الحكم بينهم - وانتشر كذلك في البقاع المجاورة ممن كانت وفودها تجيء لتقتات مما تم ادخاره بحكمته وتدبيره - وقد رأينا إخوة يوسف يجيئون من أرض كنعان المجاورة في الأردن ضمن غيرهم من القوافل ليمتاروا من مصر ويتزودوا , مما يصور حالة الجدب التي حلت بالمنطقة كلها في هذه الفترة .
والقصة تشير إلى آثار باهتة للعقيدة الإسلامية التي عرف الرعاة شيئا عنها في أول القصة , كما تشير إلى انتشار هذه العقيدة ووضوحها بعد دعوة يوسف بها .
والإشارة الأولى وردت في حكاية قول النسوة حين طلع عليهن يوسف:
(فلما رأينه أكبرنه , وقطعن أيديهن وقلن:حاش لله ! ما هذا بشرا . إن هذا إلا ملك كريم). .
ووردت في قول العزيز لامرأته:
(يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك ; إنك كنت من الخاطئين). .
أما الإشارة الثانية الواضحة فقد جاءت على لسان امرأة العزيز التي يتجلى أنها آمنت بعقيدة يوسف وأسلمت في النهاية , فيما حكاه عنها السياق القرآني:
قالت امرأة العزيز:الآن حصحص الحق , أنا راودته عن نفسه , وإنه لمن الصادقين , ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب , وأن الله لا يهدي كيد الخائنين . وما ابريء نفسي . إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي , إن ربي غفور رحيم . .
وإذا اتضح أن ديانة التوحيد - على هذا المستوى - كانت قد عرفت قبل تولي يوسف مقاليد الحكم في مصر ; فلا بد أن تكون قد انتشرت بعد ذلك واستقرت على نطاق واسع في أثناء توليه الحكم , ثم من بعد ذلك في عهد أسر الرعاة . فلما استرد الفراعنة زمام الأمور في الأسرة الثامنة عشرة أخذوا يقاومون ديانة التوحيد ممثلة في ذرية يعقوب التي تكاثرت في مصر , لإعادة الوثنية التي تقوم عليها الفرعونية ! . . .
وهذا يكشف لنا سببا أصيلا من أسباب اضطهاد الفراعنة بعد ذلك لبني إسرائيل - أي يعقوب - إلى جانب السبب السياسي , وهو أنهم جاءوا واستوطنوا وحكموا واستقروا في عهد ملوك الرعاة الوافدين . فلما طرد المصريون ملوك الرعاة طاردوا حلفاءهم من بني إسرائيل أيضا . . وإن كان اختلاف العقيدتين ينبغي أن يكون هو التفسير الأقوى لذلك الاضطهاد الفظيع . ذلك أن انتشار عقيدة التوحيد الصحيحة يحطم القاعدة التي يقوم عليها ملك الفراعين ! فهي العدو الأصيل للطواغيت وحكم الطواغيت وربوبية الطواغيت !
ولقد وردت إشارة إلى هذا الذي نقرره في حكاية القرآن الكريم لقول مؤمن آل فرعون في سورة غافر ; في دفاعه الإسلامي المجيد عن موسى عليه السلام , في وجه فرعون وملئه عندما هم فرعون بقتل موسى , ليقتل معه الخطر الذي يتهدد ملكه كله من عقيدة التوحيد التي جاء بها موسى:
وقال فرعون:ذروني أقتل موسى وليدع ربه , إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد . وقال موسى:إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب . وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه:أتقتلون رجلا أن يقول:ربي الله ? وقد جاءكم بالبينات من ربكم , وإن يك كاذبا فعليه كذبه , وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم , إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض . فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ? قال فرعون:ما أريكم إلا ما أرى . وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . وقال الذي آمن:يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب . مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم , وما الله يريد ظلما للعباد , ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم , ومن يضلل الله فما له من هاد . . ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به , حتى إذا هلك قلتم:لن يبعث الله من بعده رسولا , كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب . الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم . كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا ! كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر . . الخ . .
فقد كان الصراع الحقيقي بين عقيدة التوحيد التي تفرد الله سبحانه بالربوبية , فتفرده بالعبادة - أي بالدينونة والخضوع والاتباع لحاكميته وحده - وبين الفرعونية التي تقوم على أساس العقيدة الوثنية , ولا تقوم إلا بها .
ولعل التوحيد الناقص المشوه الذي عرف به "أخناتون" لم يكن إلا أثرا من الآثار المضطربة التي بقيتمن التوحيد الذي نشره يوسف عليه السلام في مصر كما أسلفنا ; وبخاصة إذا صح ما يقال في التاريخ من أن أم أخناتون كانت آسيوية ولم تكن فرعونية !
وبعد هذا الاستطراد نعود إلى اللمحات الدالة على طبيعة الفترة التاريخية التي وقعت فيها أحداث القصة وتحركت فيها أشخاصها . فنجدها تتجاوز حدود الرقعة المصرية , وتسجل طابع العصر كله . فواضح تماما انطباع هذه الفترة الزمنية بالرؤى والتنبؤات التي لا تقتصر على أرض واحدة , ولا على قوم بأعيانهم . . ونحن نرى هذه الظاهرة واضحة في رؤيا يوسف وتعبيرها وتأويلها في النهاية . وفي رؤيا الفتيين صاحبي السجن . وفي رؤيا الملك في النهاية . . وكلها تتلقى بالاهتمام سواء ممن يرونها أو ممن يسمعونها مما يشي بطابع العصر كله !
وعلى وجه الإجمال فإن القصة غنية بالعناصر الفنية . غنية كذلك بالعنصر الإنساني , حافلة بالانفعال والحركة . وطريقة الأداء تبرز هذه العناصر إبرازا قويا . فضلا على خصائص التعبير القرآنية الموحية المؤثرة , ذات الإيقاع الموسيقي المناسب لكل جو من الأجواء التي يصورها السياق .
في القصة يتجلى عنصر الحب الأبوي في صور ودرجات منوعة واضحة الخطوط والظلال:في حب يعقوب ليوسف وأخيه وحبه لبقية أبنائه . وفي استجاباته الشعورية للأحداث حول يوسف من أول القصة إلى آخرها .
وعنصر الغيرة والتحاسد بين الإخوة من أمهات مختلفات , بحسب ما يرون من تنوع صور الحب الأبوي . وعنصر التفاوت في الاستجابات المختلفة للغيرة والحسد في نفوس الإخوة ; فبعضهم يقودهم هذا الشعور إلى إضمار جريمة القتل , وبعضهم يشير فقط بطرح يوسف في الجب تلتقطه بعض السيارة نفورا من الجريمة . .
وعنصر المكر والخداع في صور شتى . من مكر إخوة يوسف به , إلى مكر امرأة العزيز يوسف وبزوجها وبالنسوة .
وعنصر الشهوة ونزواتها والاستجابة لها بالاندفاع او بالإحجام . وبالإعجاب والتمني , والاعتصام والتأبي .
وعنصر الندم في بعض ألوانه , والعفو في أوانه . والفرح بتجمع المتفارقين . .
وذلك إلى بعض صور المجتمع الجاهلي في طبقة العلية من الملأ:في البيت والسجن والسوق والديوان - في مصر يومذاك . والمجتمع العبراني , وما يسود العصر من الرؤى والتنبؤات .
وتبدأ القصة بالرؤيا يقصها يوسف على أبيه , فينبئه أبوه بأن سيكون له شأن عظيم , وينصحه بألا يقصها على إخوته كي لا يثير حسدهم فيغريهم الشيطان به فيكيدون له . . ثم تسير القصة بعد ذلك , وكأنما هي تأويل للرؤيا ولما توقعه يعقوب من ورائها حتى إذا اكتمل تأويل الرؤيا في النهاية أنهى السياق القصة , ولم يسر فيها كما سار كتاب "العهد القديم" بعد هذا الختام الفني الدقيق , الوافي بالغرض الديني كل الوفاء .
وما يسمى بالعقدة الفنية في القصة واضح في قصة يوسف . فهي تبدأ بالرؤيا كما سبق , ويظل تأويلها مجهولا , يتكشف قليلا قليلا , حتى تجيء الخاتمة فتحل العقدة حلا طبيعيا لا تعمل فيه ولا اصطناع !
والقصة مقسمة إلى حلقات . كل حلقة تحتوي جملة مشاهد . والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد يملؤها تخيل القاريء وتصوره , ويكمل ما حذف من حركات وأقوال , مع ما في هذا من تشويق ومتاع . .
وحسبنا هذا القدر من التحليل الفني لقصة يوسف , وتمثيلها للمنهج القرآني الإسلامي في الأداء . وفي هذا القدر ما يكشف عن مدى الإمكانيات التي يعرضها هذا المنهج للمحاولات البشرية في الأدب الإسلامي ,لتمكينه من الأداء الفني الكامل والواقعية الصادقة السليمة , دون أن يسف أو يحتاج إلى التخلي عن النظافة اللائقة بفن يقدم ل "الإنسان" !
وتبقى وراء ذلك كله عبرة القصة وقيمتها في مجال الحركة الإسلامية ; وإيحاءاتها المتوافية مع حاجات الحركة في بعض مراحلها . ومع حاجاتها الثابتة التي لا تتعلق بمرحلة خاصة منها . إلى جانب الحقائق الكبرى التي تتقرر من خلال سياق القصة , ثم من خلال سياق السورة كلها بعد ذلك . وبخاصة تلك التعقيبات الأخيرة في السورة . .
ونكتفي في هذا التقديم للسورة بلمحات سريعة من هذا كله:
لقد أشرنا في مطالع هذا التقديم إلى مناسبة قصة يوسف بجملتها للفترة الحرجة التي كانت تمر بها الحركة الإسلامية في مكة عند نزول السورة , وللشدة التي كان رسول الله [ ص ] والقلة المؤمنة معه يتعرضون لها . وذلك بما تحمل القصة من عرض لابتلاءات أخ كريم للنبي الكريم ; ثم بما تحمله بعد ذلك من استفزاز من الأرض ثم تمكين .
وهذا الذي سبق أن قررناه يصور لونا من إيحاءات القصة المتوافية مع حاجات الحركة الإسلامية في تلك الفترة ; ويقرب معنى "الطبيعة الحركية " لهذا القرآن وهو يزود الدعوة , ويدفع الحركة , ويوجه الجماعة المسلمة توجيها واقعيا إيجابيا محدد الهدف مرسوم الطريق .
كذلك أشرنا في ثنايا تحليل القصة إلى الصورة الواضحة الكاملة الدقيقة الشاملة للإسلام , كما عرضها يوسف عليه السلام . وهي صورة تستحق الوقوف أمامها طويلا . .
إنها تقرر ابتداء وحدة العقيدة الإسلامية التي جاء بها الرسل جميعا ; واستيفاء مقوماتها الأساسية في كل رسالة ; وقيامها على التوحيد الكامل لله سبحانه , وعلى تقرير ربوبيته للبشر وحده , ودينونة البشر له وحده . . كما تقرر تضمن تلك العقيدة الواحدة للإيمان بالدار الآخرة بصورة واضحة . وهذا التقرير يقطع الطريق على مزاعم ما يسمونه "علم الأديان المقارن" من أن البشرية لم تعرف التوحيد ولا الآخرة إلا أخيرا جدا , بعد أن اجتازت عقائد التعدد والتثنية بأشكالها وصورها المختلفة ; وأنها ترقت في معرفة العقيدة كما ترقت في معرفة العلوم والصناعات . . هذه المزاعم التي تتجه إلى تقرير أن الأديان من صنع البشر شأنها شأن العلوم والصناعات .
كذلك هي تقرر طبيعة ديانة التوحيد التي جاء بها الرسل جميعا . . إنه ليس توحيد الألوهية فحسب . ولكنه كذلك توحيد الربوبية . . وتقرير أن الحكم لله وحده في أمر الناس كله ; وأن هذا التقرير ناشيء من أمر الله سبحانه بألا يعبد إلا إياه . والتعبير القرآني الدقيق في هذه القضية يحدد مدلول "العبادة " تحديدا دقيقا . فهي الحكم من جانب الله والدينونة من جانب البشر . . وهذا وحده هو "الدين القيم" فلا دين إذن لله ما لم تكن دينونة الناس لله وحده , وما لم يكن الحكم لله وحده . ولا عبادة لله إذن إذا دان الناس لغير الله فيشأن واحد من شؤون الحياة . فتوحيد الألوهية يقتضي توحيد الربوبية . والربوبية تتمثل في أن يكون الحكم لله . . أو أن تكون العبادة لله . . فهما مترادفان أو متلازمان . والعبادة التي يعتبر بها الناس مسلمين أو غير مسلمين هي الدينونة والخضوع والاتباع لحكم الله دون سواه . .
وهذا التقرير القرآني بصورته هذه الجازمة ينتهي كل جدل في اعتبار الناس في أي زمان وفي أي مكان مسلمين أو غير مسلمين , في الدين القيم أم في غير هذا الدين . . فهذا الاعتبار يعد من المعلوم من الدين بالضرورة . . من دان لغير الله وحكم في أي أمر من أمور حياته غير الله , فليس من المسلمين وليس في هذا الدين . ومن أفرد الله سبحانه بالحاكمية ورفض الدينونة لغيره من خلائقه فهو من المسلمين وفي هذا الدين . . وكل ما وراء ذلك تمحل لا يحاوله إلا المهزومون أمام الواقع الثقيل في بيئة من البيئات وفي قرن من القرون ! ودين الله واصح . وهذا النص وحده كاف في جعل هذا الحكم من المعلوم من الدين بالضرورة . من جادل فيه فقد جادل في هذا الدين !
ومن الإيحاءات الواردة في ثنايا القصة صورة الإيمان المتجرد الخالص الموصول كما تتجلى في قلبي عبدين صالحين من عباد الله المختارين:يعقوب ويوسف:
فأما يوسف فقد أشرنا من قبل إلى موقفه الأخير متجردا من كل شيء , نافضا عنه كل شيء , متجها إلى ربه , مبتهلا إليه في انكسار وفي خشوع يناجيه:
رب قد آتيتني من الملك , وعلمتني من تأويل الأحاديث , فاطر السماوات والأرض , أنت ولي في الدنيا والآخرة , توفني مسلما وألحقني بالصالحين . .
ولكن هذا الموقف الأخير لم يكن هو كل شيء في هذا الجانب ; فهو على مدار القصة يقف هذا الموقف , موصولا بربه , يحسه - سبحانه - قريبا منه مستجيبا له:
في موقف الإغراء والفتنة والغواية يهتف:
(معاذ الله , إنه ربي أحسن مثواي . إنه لا يفلح الظالمون). .
وفي الموقف الآخر وهو يخشى على نفسه الضعف والميل يهتف كذلك:
(رب , السجن أحب إلي مما يدعونني إليه , وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين). .
وفي موقف تعريف نفسه لأخوته , يبين فضل الله عليه ويشكر نعمته ويذكرها:
(قالوا:أئنك لأنت يوسف ? قال:أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا , إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). .
وكلها مواقف تحمل إيحاءات يتجاوز مداها حاجة الحركة الإسلامية في مكة , إلى حاجة الحركة الإسلامية في كل فترة .
وأما يعقوب ففي قلبه تتجلى حقيقة ربه باهرة عميقة لطيفة مأنوسة في كل موقف وفي كل مناسبة ; وكلما اشتد البلاء شفت تلك الحقيقة في قلبه ورفت بمقدار ما تعمقت وبرزت . .
فمنذ البدء ويوسف يقص عليه رؤياه يذكر ربه ويشكر نعمته:
(وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث , ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق , إن ربك عليم حكيم). .
وفي مواجهة الصدمة الأولى في يوسف يتجه إلى ربه مستعينا به:
(قال:بل سولت لكم أنفسكم أمرا , فصبر جميل , والله المستعان على ما تصفون). .
وفي مواجهته لعاطفته الأبوية الخائفة على أبنائه , وهو يوصيهم ألا يدخلوا من باب واحد وأن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة , لا ينسى أن هذا التدبير لا يغني عنهم من الله شيئا , وأن الحكم النافذ هو حكم الله وحده ; وإنما هي حاجة في النفس لا تغني من الله وقدره:
وقال:يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة , وما أغني عنكم من الله من شيء , إن الحكم إلا لله , عليه توكلت , وعليه فليتوكل المتوكلون . .
وفي مواجهة الصدمة الثانية في كبرته وهرمه وضعفه وحزنه , لم يتسرب اليأس من رحمة ربه لحظة واحدة إلى قلبه:
(قال:بل سولت لكم أنفسكم أمرا , فصبر جميل , عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ; إنه هو العليم الحكيم).
ثم يبلغ تجلي الحقيقة في قلب يعقوب درجة البهاء والصفاء , وبنوه يؤنبونه على حزنه على يوسف وبكائه له حتى تبيض عيناه من الحزن ; فيواجههم بأنه يجد حقيقة ربه في قلبه كما لا يجدونها , ويعلم من شأن ربه ما لا يعلمون ; فمن هنا اتجاهه إليه وحده وشكواه له وبثه , ورجاؤه في رحمته وروحه:
وتولى عنهم وقال:يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . قالوا قالوا:تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ! قال:إنما أشكو بثي وحزني إلى الله , وأعلم من الله ما لا تعلمون . يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه , ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . .
ولقد ذكرهم بما يعلمه من شأن ربه وما يجده من حقيقته في قلبه , وهم يجادلونه في ريح يوسف , وقد صدق الله فيه ظنه:
(ولما فصلت العير قال أبوهم:إني لأجد ريح يوسف , لولا أن تفندون . قالوا:تالله إنك لفي ضلالك القديم . فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا . قال:ألم أقل لكم:إني أعلم من الله ما لا تعلمون ?).
إنها الصورة الباهرة لتجلي حقيقة الألوهية في قلب من قلوب الصفوة المختارة . وهي تحمل الإيحاء المناسب لفترة الشدة في حياة الجماعة المسلمة في مكة ; كما أنها تحمل الإيحاء الدائم بالحقيقة الإيمانية الكبيرة , لكل قلب يعمل في حقل الدعوة والحركة بالإسلام على مدار الزمان أيضا .
وأخيرا نجيء إلى التعقيبات المتنوعة التي جاءت بعد القصة الطويلة إلى نهاية السورة .
إن التعقيب الأول والمباشر يواجه تكذيب قريش بالوحي إلى رسول الله [ ص ] بتقرير مأخوذ من هذا القصص الذي لم يكن رسول الله [ ص ] حاضرا وقائعه:
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك , وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون . .
وهذا التعقيب يترابط مع التقديم للقصة في الاتجاه ذاته:
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن , وإن كنت من قبله لمن الغافلين). .
والتقديم والتعقيب على هذا النحو يؤلفان مؤثرا موحيا من المؤثرات الكثيرة في سياق السورة , لتقرير الحقيقة التي يعرضانها , وتوكيدها في مواجهة الاعتراض والتكذيب .
ومن ثم يعقب ذلك التسرية عن قلب رسول الله [ ص ] وتهوين أمر المكذبين على نفسه . وبيان مدى عنادهم وإصرارهم وعماهم عن الآيات المبثوثة في كتاب الكون , وهي حسب الفطرة السليمة في التنبه إلى دلائل الإيمان , والاستماع إلى الدعوة والبرهان . ثم تهديدهم بعذاب الله الذي قد يفاجئهم وهم غافلون:
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين . وما تسألهم عليه من أجر , إن هو إلا ذكر للعالمين . وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون . أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ? . .
وهي إيقاعات مؤثرة بقدر ما تحمل من حقائق عميقة عن طبيعة الناس حين لا يدينون بدين الله الصحيح . وبخاصة في قوله تعالى:(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). .
فهذا هو التصوير العميق لكثير من النفوس التي يختلط فيها الإيمان بالشرك , لأنها لم تحسم في قضية التوحيد .
وهنا يجيء الإيقاع الكبير العميق المؤثر الموحي , بتوجيه الرسول [ ص ] إلى تحديد طريقه وتميزها وإفرادها عن كل طريق , والمفاصلة على أساسها الواضح الفريد:
(قل:هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني , وسبحان الله , وما أنا من المشركين). .
ثم تختم السورة بإيقاع آخر يحمل عبرة القصص القرآني كله , في هذه السورة وفي سواها . يحملها للنبي [ ص ] والقلة المؤمنة معه , ومعها التثبيت والتسرية والبشرى ; ويحملها للمشركين المعاندين , ومعها التذكير والعظة والنذير . كما أن فيها للجميع تقريرا لصدق الوحي وصدق الرسول ; وتقريرا لحقيقة الوحي وحقيقة الرسالة , مع تخليص هذه الحقيقة من الأوهام والأساطير:
(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى . أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ? ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ? حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا , فنجي من نشاء , ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين . لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب , ما كان حديثا يفترى , ولكن تصديق الذي بين يديه , وتفصيل كل شيء , وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). .
إنه الإيقاع الأخير . والإيقاع الكبير . .
وبعد فلعل من المناسب في تقديم السورة التي حوت قصة يوسف , نموذجا كاملا للأداء الفني الصادق الجميل , أن نلم بشيء من لطائف التناسق في الأداء القرآني في السورة بكاملها وأن نقف عند نماذج من هذه اللطائف تمثل سائرها:
في هذه السورة - كما في السور القرآنية الأخرى - تتكرر تعبيرات معينة , تؤلف جزءا من جو السورة وشخصيتها الخاصة . وهنا يرد ذكر العلم كثيرا , وما يقابله من الجهل وقلة العلم في مواضع شتى:
(وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث , ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها)(على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق , إن ربك عليم حكيم). .
(وكذلك مكنا ليوسف في الأرض , ولنعلمه من تأويل الأحاديث . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
(ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما . وكذلك نجزي المحسنين). .
(فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ; إنه هو السميع العليم). .
(قال:لا يأتيكما طعام ترزقانه , إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما . ذلكما مما علمني ربي). .
إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا أياه , ذلك الدين القيم , ولكن أكثر الناس لا يعلمون . .
(قالوا:أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين). .
(يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف , وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات , لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون). .
(وقال الملك:ائتوني به , فلما جاءه الرسول قال:ارجع إلى ربك فاسأله:ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ? إن ربي بكيدهن عليم). .
(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين). .
(قال:اجعلني على خزائن الأرض ; إني حفيظ عليم).
(. . . وإنه لذو علم لما علمناه , ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
(قالوا:تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين). .
(قال:أنتم شر مكانا , والله أعلم بما تصفون). .
(فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم:ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله . .). .
(وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين). .
(عسى الله أن يأتيني بهم جميعا , إنه هو العليم الحكيم). .
قال:إنما أشكو بثي وحزني إلى الله , وأعلم من الله ما لاتعلمون . .
(قال:هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ?). .
(قال:ألم أقل لكم:إني أعلم من الله ما لا تعلمون ?). .
(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث . . .).
وهي ظاهرة بارزة تلفت النظر إلى بعض أسرار التناسق ولطائفة في هذا الكتاب الكريم .
وفي السورة تعريف بخصائص الألوهية , وفي مقدمتها "الحكم" وهو يرد مرة على لسان يوسف - عليه السلام - بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم وطاعتهم الإرادية , ويأتي مرة على لسان يعقوب - عليه السلام - بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم لله في صورتها القهرية القدرية , فيتكامل المعنيان في تقرير مدلول الحكم وحقيقة الألوهية على هذا النحو الذي لا يجيء عفوا ولا مصادفة أبدا:
يقول يوسف في معرض تفنيد ربوبية الحكام في مصر ومخالفتها لوحدانية الألوهية:
(يا صاحبي السجن , أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ? ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها)(أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن الحكم إلا لله , أمر ألا تعبدوا إلا إياه , ذلك الدين القيم). .
ويقول يعقوب في معرض تقرير أن قدر الله نافذ وأن قضاءه ماض:
(يا بني:لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة , وما أغني عنكم من الله من شيء , إن الحكم إلا لله , عليه توكلت , وعليه فليتوكل المتوكلون). .
وهذا التكامل في مدلول الحكم يشير إلى أن الدين لا يستقيم إلا أن تكون الدينونة الإرادية لله في الحكم , كالدينونة القهرية له سبحانه في القدر . فكلاهما من العقيدة ; وليست الدينونة في القدر القاهر وحدها هي الداخلة في نطاق الاعتقاد , بل الدينونة الإرادية في الشريعة هي كذلك في نطاق الاعتقاد .
ومن لطائف التناسق أن يذكر يوسف الحصيف الكيس اللطيف المدخل , صفة الله المناسبة . .(اللطيف). في الموقف الذي يتجلى فيه لطف الله في التصريف:
(ورفع أبويه على العرش , وخروا له سجدا . وقال:يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا . وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن , وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي . . إن ربي لطيف لما يشاء . . إنه هو العليم الحكيم). .
ومن لطائف التناسق ما سبق أن أشرنا إليه من التطابق في السورة بين تقديم القصص , والتعقيب المباشر عليه , والتعقيب الختامي الطويل . . وكل هذه التعقيبات تتجه إلى تقرير قضايا واحدة , وتتلاقى عليها بين البدء والختام . .
وحسبنا في التعريف بالسورة هذه اللمسات حتى نلتقي بها في السياق .
الوحدة الأولى:1 - 20 الموضوع:يوسف من بيت أبيه إلى بيت عزيز مصر هذا الدرس هو المقدمة , ثم الحلقة الأولى من القصة , وتتألف من ستة مشاهد , وتبدأ من رؤيا يوسف إلى نهاية مؤامرة إخوته عليه , ووصوله إلى مصر . . وسنواجه النصوص الواردة فيه مباشرة , بعد ذلك التقديم السابق للسورة , وفيه غناء:
الدرس الأول:1 - 3 القصص القرآني وإثبات مصدر القرآن
ألر . تلك آيات الكتاب المبين . إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين . .
ألف . لام . را . . تلك آيات الكتاب المبين . .
هذه الأحرف وما من جنسها وهي قريبة للناس متداولة بينهم . هي هي بعينها تلك الآيات البعيدة المتسامية على الطاقة البشرية . آيات الكتاب المبين . ولقد نزله الله كتابا عربيا مؤلفا من هذه الأحرف العربية المعروفة:
(لعلكم تعقلون). .
وتدركون أن الذي يصنع من الكلمات العادية هذا الكتاب المعجز لا يمكن أن يكون بشرا , فلا بد عقلا أن يكون القرآن وحيا . والعقل هنا مدعو لتدبر هذه الظاهرة ودلالتها القاهرة .
ولما كان جسم هذه السورة قصة فقد أبرز ذكر القصص من مادة هذا الكتاب , على وجه التخصيص:
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن). .
فبإيحائنا هذا القرآن إليك قصصنا عليك هذا القصص - وهو أحسن القصص - وهو جزء من القرآن الموحى به .
(وإن كنت من قبله لمن الغافلين). .
فقد كنت أحد الأميين في قومك , الذين لا يتوجهون إلى هذا النحو من الموضوعات التي جاء بها القرآن , ومنها هذا القصص الكامل الدقيق .
الدرس الثاني:4 - 6 يعقوب يوصي ابنه بشأن رؤياه
هذه المقدمة إشارة البدء إلى القصة . .
ثم يرفع الستار عن المشهد الأول في الحلقة الأولى , لنرى يوسف الصبي يقص رؤياه على أبيه:
(إذ قال يوسف لأبيه:يا أبت , إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر . رأيتهم لي ساجدين . قال:يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك , فيكيدوا لك كيدا . إن الشيطان للإنسان عدو مبين . وكذلكيجتبيك ربك , ويعلمك من تأويل الأحاديث , ويتم نعمته عليك , وعلى آل يعقوب , كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق , إن ربك عليم حكيم). .
كان يوسف صبيا أو غلاما ; وهذه الرؤيا كما وصفها لأبيه ليست من رؤى الصبية ولا الغلمان ; وأقرب ما يراه غلام - حين تكون رؤياه صبيانية أو صدى لما يحلم به - أن يرى هذه الكواكب والشمس والقمر في حجره أو بين يديه يطولها . ولكن يوسف رآها ساجدة له , متمثلة في صورة العقلاء الذين يحنون رؤوسهم بالسجود تعظيما . والسياق يروى عنه في صيغة الإيضاح المؤكدة:
(إذ قال يوسف لأبيه:يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر). .
ثم يعيد لفظ رأى:
(رأيتهم لي ساجدين).
لهذا أدرك أبوه يعقوب بحسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤيا شأنا عظيما لهذا الغلام . لم يفصح هو عنه , ولم يفصح عنه سياق القصة كذلك . ولا تظهر بوادره إلا بعد حلقتين منها . أما تمامه فلا يظهر إلا في نهاية القصة بعد انكشاف الغيب المحجوب . ولهذا نصحه بألا يقص رؤياه على إخوته , خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير - غير الشقيق - فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم , فتمتليء نفوسهم بالحقد , فيدبروا له أمرا يسوؤه:
(قال:يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا). .
ثم علل هذا بقوله:
(إن الشيطان للإنسان عدو مبين). .
ومن ثم فهو يوغر صدور الناس بعضهم على بعض , ويزين لهم الخطيئة والشر .
ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم , وقد أحس من رؤيا ابنه يوسف أن سيكون له شأن , يتجه خاطره إلى أن هذا الشأن في وادي الدين والصلاح والمعرفة ; بحكم جو النبوة الذي يعيش فيه , وما يعلمه من أن جده إبراهيم مبارك من الله هو وأهل بيته المؤمنون . فتوقع أن يكون يوسف هو الذي يختار من أبنائه من نسل إبراهيم لتحل عليه البركة وتتمثل فيه السلسلة المباركة في بيت إبراهيم . فقال له:
(وكذلك يجتبيك ربك , ويعلمك من تأويل الأحاديث , ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب , كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق , إن ربك عليم حكيم). .
واتجاه فكر يعقوب إلى أن رؤيا يوسف تشير إلى اختيار الله له , وإتمام نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق [ والجد يقال له أب ] . . هذا طبيعي . ولكن الذي يستوقف النظر قوله:
(ويعلمك من تأويل الأحاديث). .
والتأويل هو معرفة المآل . فما الأحاديث ? . أقصد يعقوب أن الله سيختار يوسف ويعلمه ويهبه من صدق الحس ونفاذ البصيرة ما يدرك به من الأحاديث مآلها الذي تنتهي إليه , منذ أوائلها . وهو إلهام من الله لذوي البصائر المدركة النافذة , وجاء التعقيب:
(إن ربك عليم حكيم). .


إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
مناسبا لهذا في جو الحكمة والتعليم ? أم قصد بالأحاديث الرؤى والأحلام كما وقع بالفعل في حياة يوسف فيما بعد ?
كلاهما جائز , وكلاهما يتمشى مع الجو المحيط بيوسف ويعقوب .
وبهذه المناسبة نذكر كلمة عن الرؤى والأحلام وهي موضوع هذه القصة وهذه السورة .
إننا ملزمون بالأعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد . ملزمون بهذا أولا من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف , ورؤيا صاحبيه في السجن , ورؤيا الملك في مصر . وثانيا من ناحية ما نراه في حياتنا الشخصية من تحقق رؤى تنبؤية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده . . لأنه موجود بالفعل ! . .
والسبب الأول يكفي . . ولكننا ذكرنا السبب الثاني لأنه حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها إلا بتعنت . . فما هي طبيعة الرؤيا ?
تقول مدرسة التحليل النفسي:إنها صور من الرغبات المكبوتة تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي .
وهذا يمثل جانبا من الأحلام . ولكنه لا يمثلها كلها . [ وفرويد ] ذاته - على كل تحكمه غير العلمي وتمحله في نظريته - يقرر أن هناك أحلاما تنبؤية .
فما طبيعة هذه الأحلام التنبؤية ?
وقبل كل شيء نقرر أن معرفة طبيعتها أو عدم معرفته لا علاقة له بإثبات وجودها وصدق بعضها . إنما نحن نحاول فقط أن ندرك بعض خصائص هذا المخلوق البشري العجيب , وبعض سنن الله في هذا الوجود .
ونحن نتصور طبيعة هذه الرؤى على هذا النحو . . إن حواجز الزمان والمكان هي التي تحول بين هذا المخلوق البشري وبين رؤية ما نسميه الماضي أو المستقبل , أو الحاضر المحجوب . وأن ما نسميه ماضيا أو مستقبلا إنما يحجبه عنا عامل الزمان , كما يحجب الحاضر البعيد عنا عامل المكان . وأن حاسة ما في الإنسان لا نعرف كنهها تستيقظ أو تقوى في بعض الأحيان , فتتغلب على حاجز الزمان وترى ما وراءه في صورة مبهمة , ليست علما ولكنها استشفاف , كالذي يقع في اليقظة لبعض الناس , وفي الرؤى لبعضهم , فيتغلب على حاجز المكان أو حاجز الزمان , أو هما معا في بعض الأحيان . وإن كنا في نفس الوقت لا نعلم شيئا عن حقيقة الزمان . كما أن حقيقة المكان ذاتها - وهي ما يسمى بالمادة - ليست معلومة لنا على وجه التحقيق: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)!
على أية حال لقد رأى يوسف رؤياه هذه , وسنرى فيما بعد ما يكون تأويل الرؤيا .
الدرس الثالث:7 - 10 أخوة يوسف يتآمرون عليه
ويسدل السياق الستار على مشهد يوسف ويعقوب هنا ليرفعه على مشهد آخر:مشهد إخوة يوسف يتآمرون , مع حركة تنبيه لأهمية ما سيكون:
(لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين . إذ قالوا:ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة . إن أبانا لفي ضلال مبين . اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين . قال قائل منهم:لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين). .
لقد كان في قصة يوسف وإخوته آيات وأمارات على حقائق كثيرة لمن ينقب عن الآيات ويسأل ويهتم . وهذا الافتتاح كفيل بتحريك الانتباه والاهتمام . لذلك نشبهه بحركة رفع الستار عما يدور وراءه من أحداث وحركات . فنحن نرى وراءه مباشرة مشهد إخوة يوسف يدبرون ليوسف ما يدبرون .
ترى حدثهم يوسف عن رؤياه كما يقول كتاب "العهد القديم" ? إن السياق هنا يفيد أن لا . فهم يتحدثون عن إيثار يعقوب ليوسف وأخيه عليهم . أخيه الشقيق . ولو كانوا قد علموا برؤياه لجاء ذكرها على ألسنتهم , ولكانت أدعى إلى أن تلهج ألسنتهم بالحقد عليه . فما خافه يعقوب على يوسف لو قص رؤياه على إخوته قد تم عن طريق آخر , وهو حقدهم عليه لإيثار أبيهم له . ولم يكن بد أن يتم لأنه حلقة في سلسلة الرواية الكبرى المرسومة , لتصل بيوسف إلى النهاية المرسومة , والتي تمهد لها ظروف حياته , وواقع أسرته , ومجيئه لأبيه على كبرة . وأصغر الأبناء هم أحب الأبناء , وبخاصة حين يكون الوالد في سن الكبر . كما كان الحال مع يوسف وأخيه , وإخوته من أمهات .
(إذ قالوا:ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة). .
أي ونحن مجموعة قوية تدفع وتنفع . .
(إن أبانا لفي ضلال مبين). .
إذ يؤثر غلاما وصبيا صغيرين على مجموعة الرجال النافعين الدافعين !
ثُم يغلي الحقد ويدخل الشيطان , فيختل تقديرهم للوقائع , وتتضخم في حسهم أشياء صغيرة , وتهون أحداث ضخام . تهون الفعلة الشنعاء المتمثلة في إزهاق روح . روح غلام بريء لا يملك دفعا عن نفسه , وهو لهم أخ . وهم أبناء نبي - وإن لم يكونوا هم أنبياء - يهون هذا . وتضخم في أعينهم حكاية إيثار أبيهم له بالحب . حتى توازي القتل . أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله:
(اقتلوا يوسف . أو اطرحوه أرضا). .
وهما قريب من قريب . فطرحه في أرض نائية مقطوعة مفض في الغلب إلى الموت . . ولماذا ?
(يخل لكم وجه أبيكم). .
فلا يحجبه يوسف . وهم يريدون قلبه . كأنه حين لا يراه في وجهه يصبح قلبه خاليا من حبه , ويتوجه بهذا الحب إلى الآخرين ! والجريمة ? الجريمة تتوبون عنها وتصلحون ما أفسدتم بارتكابها:
(وتكونوا من بعده قوما صالحين)! . .
هكذا ينزغ الشيطان , وهكذا يسول للنفوس عندما تغضب وتفقد زمامها , وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث . وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم:اقتلوا . . والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات ! وليست التوبة هكذا . إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلا جاهلا غير ذاكر ; حتى إذا تذكر ندم , وجاشت نفسه بالتوبة . أما التوبة الجاهزة ! التوبة التي تعد سلفا قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة , فليست بالتوبة , إنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينه الشيطان !


لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (9)
ولكن ضميرا واحدا فيهم , يرتعش لهول ما هم مقدمون عليه . فيقترح حلا يريحهم من يوسف , ويخلي لهم وجه أبيهم , ولكنه لا يقتل يوسف , ولا يلقيه في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك . إنما يلقيه في الجب على طريق القوافل , حيث يرجح أن تعثر عليه إحدى القوافل فتنقذه وتذهب به بعيدا:
(قال قائل منهم:لا تقتلوا يوسف , وألقوه في غيابة الجب , يلتقطه بعض السيارة . إن كنتم فاعلين). .
ونحس من قوله:
(إن كنتم فاعلين). .
روح التشكيك والتثبيط . كأنه يشككهم في أنهم مصرون على إبقاع الأذى بيوسف . وهو أسلوب من أساليب التثبيط عن الفعل , واضح فيه عدم الارتياح للتنفيذ . ولكن هذا كان أقل ما يشفي حقدهم ; ولم يكونوا على استعداد للتراجع فما اعتزموه . . نفهم هذا من المشهد التالي في السياق . .
الدرس الرابع:10 - 14 أخوة يوسف يراودون أباهم
فها هم أولاء عند أبيهم , يراودونه في اصطحاب يوسف معهم منذ الغداة . وها هم أولاء يخادعون أباهم , ويمكرون به وبيوسف . فلنشهد ولنستمع لما يدور:
قالوا:يا أبانا , مالك لا تأمنا على يوسف , وإنا له لناصحون . أرسله معنا غدا يرتع ويلعب , وإنا له لحافظون ! قال:إني ليحزنني أن تذهبوا به , وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون . قالوا:لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون . .
والتعبير يرسم بكلماته وعباراته كل ما بذلوه ليتدسسوا به إلى قلب الوالد المتعلق بولده الصغير الحبيب , الذي يتوسم فيه أن يكون الوارث لبركات أبيه إبراهيم . .
(يا أبانا). .
بهذا اللفظ الموحي المذكر بما بينه وبينهم من آصرة .
مالك لا تأمنا على يوسف ? . .
سؤال فيه عتب وفيه استنكار خفي , وفيه استجاشة لنفي مدلوله من أبيهم , والتسليم لهم بعكسه وهو تسليمهم يوسف . فهو كان يستبقي يوسف معه ولا يرسله مع إخوته إلى المراعي والجهات الخلوية التي يرتادونها لأنه يحبه ويخشى عليه ألا يحتمل الجو والجهد الذي يحتملونه وهم كبار , لا لأنه لا يأمنهم عليه . فمبادرتهم له بأنه لا يأتمنهم على أخيهم وهو أبوهم , مقصود بها استجاشته لنفي هذا الخاطر ; ومن ثم يفقد إصراره على احتجاز يوسف . فهي مبادرة ماكرة منهم خبيثة !
مالك لا تأمنا على يوسف ? وإنا له لناصحون . .
قلوبنا له صافية لا يخالطها سوء - وكاد المريب أن يقول خذوني - فذكر النصح هنا وهو الصفاء والإخلاص يشي بما كانوا يحاولون إخفاءه من الدغل المريب . .
(أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون). .
زيادة في التوكيد , وتصويرا لما ينتظر يوسف من النشاط والمسرة والرياضة , مما ينشط والده لإرساله معهم كما يريدون .


قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
وردا على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب ينفي - بطريق غير مباشر - أنه لا يأمنهم عليه , ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب:
(قال:إني ليحزنني أن تذهبوا به , وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون). .
(إني ليحزنني أن تذهبوا به). .
إنني لا أطيق فراقه . . ولا بد أن هذه هاجت أحقادهم وضاعفتها . أن يبلغ حبه له درجة الحزن لفراقه ولو لبعض يوم , وهو ذاهب كما قالوا له للنشاط والمسرة .
(وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون). .
ولا بد أنهم وجدوا فيها عذرا كانوا يبحثون عنه , أو كان الحقد الهائج أعماهم فلم يفكروا ماذا يقولون لأبيهم بعد فعلتهم المنكرة , حتى لقنهم أبوهم هذا الجواب !
واختاروا أسلوبا من الأساليب المؤثرة لنفي هذا الخاطر عنه:
قالوا:لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون . .
لئن غلبنا الذئب عليه ونحن جماعة قوية هكذا فلا خير فينا لأنفسنا وإننا لخاسرون كل شيء , فلا نصلح لشيء أبدا !
وهكذا استسلم الوالد الحريص لهذا التوكيد ولذلك الإحراج . . ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما تقتضي مشيئته !
الدرس الخامس:15 الأخوة يضعون يوسف في البئر
والآن لقد ذهبوا به , وها هم أولاء ينفذون المؤامرة النكراء . والله سبحانه يلقي في روع الغلام أنها محنة وتنتهي , وأنه سيعيش وسيذكر إخوته بموقفهم هذا منه وهم لا يشعرون أنه هو:
(فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب . وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون). .
فقد استقر أمرهم جميعا على أن يجعلوه في غيابة الجب , حيث يغيب فيه عنهم . وفي لحظة الضيق والشدة التي كان يواجه فيها هذا الفزع , والموت منه قريب , ولا منقذ له ولا مغيث وهو وحده صغير وهم عشرة أشداء . في هذه اللحظة البائسة يلقي الله في روعه أنه ناج , وانه سيعيش حتى يواجه إخوته بهذا الموقف الشنيع , وهم لا يشعرون بأن الذي يواجههم هو يوسف الذي تركوه في غيابة الجب وهو صغير .
الدرس السادس:16 - 18 كذب أخوة يوسف على أبيهم
وندع يوسف في محنته في غيابة الجب , يؤنسه ولا شك ما ألقى الله في روعه ويطمئنه , حتى يأذن الله بالفرج . ندعه لنشهد إخوته بعد الجريمة يواجهون الوالد المفجوع:
وجاءوا أباهم عشاء يبكون , قالوا:يا أبانا , إنا ذهبنا نستبق , وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب . وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . وجاءوا على قميصه بدم كذب , قال:بل سولت لكم أنفسكم أمرا , فصبر جميل , والله المستعان على ما تصفون . .
لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة , فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم ! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون , يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى . كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلا على التسرع , وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس ,


قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15)
وهم ينفونها , ويكادون يتهكمون بها . فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس ! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان , فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب . .
فعلوا هذا .
وجاءوا أباهم عشاء يبكون , قالوا:يا أبانا , إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب . .
ويحسون أنها مكشوفة , ويكاد المريب أن يقول خذوني , فيقولون:
(وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين). .
أي وما أنت بمطمئن لما نقوله , ولو كان هو الصدق , لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقول .
وأدرك يعقوب من دلائل الحال , ومن نداء قلبه , أن يوسف لم يأكله الذئب , وأنهم دبروا له مكيدة ما . وأنهم يلفقون له قصة لم تقع , ويصفون له حالا لم تكن , فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم ارتكابه ; وأنه سيصبر متحملا متجملا لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو , مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب:
(قال:بل سولت لكم أنفسكم أمرا , فصبر جميل , والله المستعان على ما تصفون).
الدرس السابع:19 - 20 أخذ يوسف رقيقا إلى مصر
ثم لنعد سريعا إلى يوسف في الجب , لنرى المشهد الأخير في هذه الحلقة الأولى من حلقات القصة:
(وجاءت سيارة , فأرسلوا واردهم , فأدلى دلوه قال:يا بشرى . هذا غلام . وأسروه بضاعة , والله عليم بما يعملون . وشروه بثمن بخس دراهم معدودة , وكانوا فيه من الزاهدين). .
لقد كان الجب على طريق القوافل , التي تبحث عن الماء في مظانه , في الآبار وفي مثل هذا الجب الذي ينزل فيه ماء المطر ويبقى فترة , ويكون في بعض الأحيان جافا كذلك:
(وجاءت سيارة). .
أي قافلة سميت سيارة من السير الطويل كالكشافة والجوالة والقناصة . . .
(فأرسلوا واردهم). .
أي من يرد لهم الماء ويكون خبيرا بمواقعه . .
(فأدلى دلوه). .
لينظر الماء أو ليملأ الدلو - ويحذف السياق حركة يوسف في التعلق بالدلو احتفاظا بالمفاجأة القصصية للقاريء والسامع -:
(قال:يا بشرى ! هذا غلام !). .
ومرة أخرى يحذف السياق كل ما حدث بعد هذا وما قيل , وحال يوسف , وكيف ابتهج للنجاة , ليتحدث عن مصيره مع القافلة:
(وأسروه بضاعة). .


وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
أي اعتبروه بضاعة سرية وعزموا على بيعه رقيقا . ولما لم يكن رقيقا فقد أسروه ليخفوه عن الأنظار . ثم باعوه بثمن قليل:
(وشروه بثمن بخس دراهم معدودة). . وكانوا يتعاملون في القليل من الدراهم بالعد , وفي الكثير منها بالوزن . .
(وكانوا فيه من الزاهدين). .
لأنهم يريدون التخلص من تهمة استرقاقه وبيعه . .
وكانت هذه نهاية المحنة الأولى في حياة النبي الكريم .
الوحدة الثانية:21 - 34 الموضوع:نجاح يوسف في تجاوز فتنة الإغراء


وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
الحلقة الثانية من حلقات القصة , وقد وصل يوسف إلى مصر , وبيع بيع الرقيق , ولكن الذي اشتراه توسم فيه الخير - والخير يتوسم في الوجوه الصباح , وبخاصة حين تصاحبها السجايا الملاح - فإذا هو يوصي به امرأته خيرا , وهنا يبدأ أول خيط في تحقيق الرؤيا .
ولكن محنة أخرى من نوع آخر كانت تنتظر يوسف حين يبلغ أشده , وقد أوتي حكما وعلما يستقبل بهما هذه المحنة الجارفة التي لايقف لها إلا من رحم الله . إنها محنة التعرض للغواية في جو القصور , وفي جو ما يسمونه "الطبقة الراقية " وما يغشاها من استهتار وفجور . . ويخرج يوسف منها سليما معافى في خلقه وفي دينه , ولكن بعد أن يخالط المحنة ويصلاها . .
الدرس الأول:استقرار يوسف في بيت العزيز
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته:أكرمي مثواه , عسى أن ينفعا أو نتخذه ولدا . وكذلك مكنا ليوسف في الأرض , ولنعلمه من تأويل من الأحاديث , والله غالب على أمره , ولكن أكثر الناس لا يعلمون . .
إن السياق لا يكشف لنا حتى الآن عمن اشتراه , وسنعلم بعد شوط في القصة أنه عزيز مصر [ قيل:إنه كبير وزرائها ] ولكن نعلم منذ اللحظة أن يوسف قد وصل إلى مكان آمن , وان المحنة قد انتهت بسلام , وأنه مقبل بعد هذا على خير:
(أكرمي مثواه). .
والمثوى مكان الثوي والمبيت والإقامة , والمقصود بإكرام مثواه إكرامه , ولكن التعبير أعمق , لأنه يجعل الإكرام لا لشخصه فحسب , ولكن لمكان إقامته . . وهي مبالغة في الإكرام . في مقابل مثواه في الجب وما حوله من مخاوف وآلام !
ويكشف الرجل لامرأته عما يتوسمه في الغلام من خير , وما يتطلع إليه فيه من أمل:
(عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا). .
ولعلهما لم يكن لهما أولاد كما تذكر بعض الروايات . ومن ثم تطلع الرجل أن يتخذاه ولدا إذا صدقت فراسته , وتحققت مخايل نجابته وطيبته مع وسامته .
وهنا يقف السياق لينبه إى أن هذا التدبير من الله , وبه وبمثله قدر ليوسف التمكين في الأرض - وها قد بدأت بشائره بتمكين يوسف في قلب الرجل وبيته - ويشير إلى أنه ماض في الطريق ليعلمه الله من تأويل الأحاديث - على الوحهين اللذين ذكرناهما من قبل - ويعقب السياق على هذا الابتداء في تمكين يوسف بما يدل عليه من أن قدرة الله غالبة , لا تقف في طريقها قوة , وأنه مالك أمره ومسيطر عليه فلا يخيب ولا يتوقف ولا يضل:
(وكذلك مكنا ليوسف في الأرض , ولنعلمه من تأويل الأحاديث , والله غالب على أمره). .


وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
وها هو ذا يوسف أراد له إخوته أمرا , وأراد له الله أمرا , ولما كان الله غالبا على أمره ومسيطرا فقد نفذ أمره , أما إخوة يوسف فلا يملكون أمرهم فأفلت من أيديهم وخرج على ما أرادوا:
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
لا يعلمون أن سنة الله ماضية وأن أمره هو الذي يكون .
ويمضي السياق ليقرر أن ما شاء الله ليوسف , وقال عنه:
ولنعلمه من تأويل الأحاديث . .
قد تحقق حين بلغ أشده:
(ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما . وكذلك نجزي المحسنين). .
فقد أوتي صحة الحكم على الأمور , وأوتي علما بمصائر الأحاديث أو بتأويل الرؤيا , أو بما هو أعم , من العلم بالحياة وأحوالها , فاللفظ عام ويشمل الكثير . وكان ذلك جزاء إحسانه . إحسانه في الاعتقاد وإحسانه في السلوك:
(وكذلك نجزي المحسنين). .
الدرس الثاني:23 - 29 يوسف ينتصر على مراودة المرأة
وعندئذ تجيئه المحنة الثانية في حياته , وهي أشد وأعمق من المحنة الأولى . تجيئه وقد أوتي صحة الحكم وأوتي العلم - رحمة من الله - ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله الله له في قرآنه .
والآن نشهد ذللك المشهد العاصف الخطير المثير كما يرسمه التعبير:
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه , وغلقت الأبواب وقالت:هيت لك ! قال:معاذ الله . إنه ربي أحسن مثواي . إنه لا يفلح الظالمون - ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه . كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء . إنه من عبادنا المخلصين - واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر , وألفيا سيدها لدى الباب . قالت:ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ? إلا أن يسجن أو عذاب أليم . قال:هي راودتني عن نفسي . وشهد شاهد من أهلها . إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ; وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين . فلما رأى قميصه قد من دبر قال:إنه من كيدكن . إن كيدكن عظيم . يوسف أعرض عن هذا , واستغفري لذنبك , إنك كنت من الخاطئين . .
إن السياق لم يذكر كم كانت سنها وكم كانت سنه ; فلننظر في هذا الأمر من باب التقدير .
لقد كان يوسف غلاما عندما التقطته السيارة وباعته في مصر . أي إنه كان حوالي الرابعة عشرة تنقص ولا تزيد . فهذه هي السن التي يطلق فيها لفظ الغلام , وبعدها يسمى فتى فشابا فرجلا . . . وهي السن التي يجوز فيها أن يقول يعقوب: (وأخاف أن يأكله الذئب). . وفي هذا الوقت كانت هي زوجة , وكانت وزوجها لم يرزقا أولادا كما يبدو من قوله: (أو نتخذه ولدا). . فهذا الخاطر . . خاطر التبني . . لا يرد على النفس عادة إلا حين لا يكون هناك ولد ; ويكون هناك يأس أو شبه يأس من الولد . فلا بد أن تكون قد مضت على زواجهما فترة , يعلمان فيها أن لا ولد لهما . وعل كل حال فالمتوقع عن رئيس وزراء مصر ألا تقل سنه عن أربعين سنة , وأن تكون سن زوجه حينئذ حوالي الثلاثين .
ونتوقع كذلك أن تكون سنها أربعين سنة عندما يكون يوسف في الخامسة والعشرين أو حواليها . وهيالسن التي نرجح أن الحادثة وقعت فيها . . نرجحه لأن تصرف المرأة في الحادثة وما بعدها يشير إلى أنها كانت مكتملة جريئة , مالكة لكيدها , متهالكة كذلك على فتاها . ونرجحه من كلمة النسوة فيما بعد . . (امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه). . وإن كانت كلمة فتى تقال بمعنى عبد , ولكنها لا تقال إلا ولها حقيقة من مدلولها من سن يوسف . وهو ما ترجحه شواهد الحال .
نبحث هذا البحث , لنصل منه إلى نتيجة معينة . لنقول:إن التجربة التي مر بها يوسف - أو المحنة - لم تكن فقط في مواجهة المراودة في هذا المشهد الذي يصوره السياق . إنما كانت في حياة يوسف فترة مراهقته كلها في جو هذا القصر , مع هذه المرأة بين سن الثلاثين وسن الأربعين , مع جو القصور , وجو البيئة التي يصورها قول الزوج أمام الحالة التي وجد فيها امرأته مع يوسف:
(يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين).
وكفى . . !
والتي يتحدث فيها النسوة عن امرأة العزيز , فيكون جوابها عليهن , مأدبة يخرج عليهن يوسف فيها , فيفتتن به , ويصرحن , فتصرح المرأة:
(ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين). .
فهذه البيئة التي تسمح بهذا وذلك بيئة خاصة . هي بيئة الطبقة المترفة دائما . ويوسف كان فيها مولى وتربى فيها في سن الفتنة . . فهذه هي المحنة الطويلة التي مر بها يوسف , وصمد لها , ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها وميوعتها ووسائلها الخبيثة . ولسنه وسن المرأة التي يعيش معها تحت سقف واحد كل هذه المدة قيمة في تقدير مدى الفتنة وخطورة المحنة والصمود لها هذا الأمد الطويل . أما هذه المرة فلو كانت وحدها وكانت مفاجأة بلا تمهيد من إغراء طويل , لما كان عسيرا أن يصمد لها يوسف , وبخاصة أنه هو مطلوب فيها لا طالب . وتهالك المرأة قد يصد من نفس الرجل . وهي كانت متهالكة .
والآن نواجه النصوص:
(وراودته التي هو في بيتها عن نفسه , وغلقت الأبواب , وقالت:هيت لك !). .
وإذن فقد كانت المراودة في هذه المرة مكشوفة , وكانت الدعوة فيها سافرة إلى الفعل الأخير . . وحركة تغليق الأبواب لا تكون إلا في اللحظة الأخيرة , وقد وصلت المرأة إلى اللحظة الحاسمة التي تهتاج فيها دفعة الجسد الغليظة , ونداء الجسد الأخير:
(وقالت:هيت لك !).
هذه الدعوة السافرة الجاهرة الغليظة لا تكون أول دعوة من المرأة . إنما تكون هي الدعوة الأخيرة . وقد لا تكون أبدا إذا لم تضطر إليها المرأة اضطرارا . والفتى يعيش معها وقوته وفتوته تتكامل , وأنوثتها هي كذلك تكمل وتنضج , فلا بد كانت هناك إغراءات شتى خفيفة لطيفة , قبل هذه المفاجأة الغليظة العنيفة .
(قال:معاذ الله . إنه ربي أحسن مثواي . إنه لا يفلح الظالمون). .
(معاذ الله). .
أعيذ نفسي بالله أن أفعل .
(إنه ربي أحسن مثواي). .


وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
وأكرمني بأن نجاني من الجب وجعل في هذه الدار مثواي الطيب الآمن .
(إنه لا يفلح الظالمون). . الذين يتجاوزون حدود الله , فيرتكبون ما تدعينني اللحظة إليه .
والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي , المصحوب بتذكر نعمة الله عليه , وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود . فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب , وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته:
(وقالت:هيت لك).
(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)!
لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة . فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا , والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع ! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه ! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن - أي نعم من القرآن ! - تنهي عن مثل هذا المنكر , وهو لا يرعوي ! حتى أرسل الله جبريل يقول له:أدرك عبدي , فجاء فضربه في صدره . . إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع !
وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل , وهم بها هم النفس , ثم تجلى له برهان ربه فترك .
وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي . وقال:إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة , وهم هو برد الاعتداء ; ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر . . وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة , فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة . وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص .
أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا , وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف , في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة , وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما . .
الذي خطر لي أن قوله تعالى:
(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه). .
هو نهاية موقف طويل من الإغراء , بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم . . وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ; ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة . . ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ; لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة , وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك . فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته , مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما , ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا .
هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص , ونتصور الظروف . وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية . وما كان يوسف سوى بشر . نعم إنه بشر مختار . ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة مناللحظات . فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه , بعد لحظة الضعف الطارئة , عاد إلى الاعتصام والتأبي .
(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء , إنه من عبادنا المخلصين). .
(واستبقا الباب). .
فهو قد آثر التخلص بعد أن استفاق . . وهي عدت خلفه لتمسك به , وهي ما تزال في هياجها الحيواني .
(وقدت قميصه من دبر). .
نتيجة جذبها له لترده عن الباب . .
وتقع المفاجأة:
(وألفيا سيدها لدى الباب). .
وهنا تتبدى المرأة المكتملة , فتجد الجواب حاضرا على السؤال الذي يهتف به المنظر المريب . إنها تتهم الفتى:
(قالت:ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ?). .
ولكنها امرأة تعشق , فهي تخشى عليه , فتشير بالعقاب المأمون .
(إلا أن يسجن أو عذاب أليم)!
ويجهر يوسف بالحقيقة في وجه الاتهام الباطل:
(قال:هي راودتني عن نفسي)!
وهنا يذكر السياق أن أحدا أهلها حسم بشهادته في هذا النزاع:
(وشهد شاهد من أهلها . إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ; وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين). .
فأين ومتى أدلى هذا الشاهد بشهادته هذه ? هل كان مع زوجها [ سيدها بتعبير أهل مصر ] وشهد الواقعة ? أم أن زوجها استدعاه وعرض عليه الأمر , كما يقع في مثل هذه الأحوال ان يستدعي الرجل كبيرا من أسرة المرأة ويطلعه على ما رأى , وبخاصة تلك الطبقة الباردة الدم المائعة القيم !
هذا وذلك جائز . وهو لا يغير من الأمر شيئا . وقد سمي قوله هذا شهادة , لأنه لما سئل رأيه في الموقف والنزاع المعروض من الجانبين - ولكل منها ومن يوسف قول - سميت فتواه هذه شهادة , لأنها تساعد على تحقيق النزاع والوصول إلى الحق فيه . . فإن كان قميصه قد من قبل فذلك إذن من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب . وإن كان قميصه قد من دبر فهو إذن من أثر تملصه منها وتعقبها هيله حتى الباب , وهي كاذبة وهو صادق . . وقدم الفرض الأول لأنه إن صح يقتضي صدقها وكذبه , فهي السيدة وهذا فتى , فمن باب اللياقة أن يذكر الفرض الأول ! والأمر لا يخرج عن أن يكون قرينة .
(فلما رأى قميصه قد من دبر). .
تبين له حسب الشهادة المبنية على منطق الواقع أنها هي التي راودت , وهي التي دبرت الاتهام . . وهنا تبدو لنا صورة من "الطبقة الراقية " في الجاهلية قبل الآف السنين وكأنها هي هي اليوم شاخصة . رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية ; وميل إلى كتمانها عن المجتمع , وهذا هو المهم كله:
(قال:إنه من كيدكن . إن كيدكن عظيم . يوسف أعرض عن هذا , واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)!
هكذا . إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم . . فهي اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق . والتلطف في مجابهة السيدة بنسبة الأمر إلى الجنس كله , فيما يشبه الثناء . فإنه لا يسوء المرأة أن يقال لها:إن كيدكن عظيم ! فهو دلالة في حسها على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد العظيم !
والتفاتة إلى يوسف البريء:
(يوسف أعرض عن هذا). .
فأهمله ولا تعره اهتماما ولا تتحدث به . . وهذا هو المهم . . محافظة على الظواهر !
وعظة إلى المرأة التي راودت فتاها عن نفسه , وضبطت متلبسة بمساورته وتمزيق قميصه:
(واستغفري لذنبك . إنك كنت من الخاطئين). .
إنها الطبقة الأرستقراطية , من رجال الحاشية , في كل جاهلية . قريب من قريب !
ويسدل الستار على المشهد وما فيه . . وقد صور السياق تلك اللحظة بكل ملابساتها وانفعالاتها ولكن دون أن ينشيء منها معرضا للنزوة الحيوانية الجاهرة , ولا مستنقعا للوحل الجنسي المقبوح !
الدرس الثالث:30 نسوة المدينة يعذلن امرأة العزيز
ولم يحل السيد بين المرأة وفتاها . ومضت الأمور في طريقها . فهكذا تمضي الأمور في القصور !
ولكن للقصور جدرانا , وفيها خدم وحشم . وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستورا . وبخاصة في الوسط الأرستقراطي , الذي ليس لنسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن . وإلا تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات:
(وقال نسوة في المدينة:امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه . قد شغفها حبا . إنا لنراها في ضلال مبين). .
وهو كلام أشبه بما تقوله النسوة في كل بيئة جاهلية عن مثل هذه الشؤون . ولأول مرة نعرف أن المرأة هي امرأة العزيز , وأن الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر - أي كبير وزرائها - ليعلن هذا مع إعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة:
(امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه). .
ثم بيان لحالها معه:
(قد شغفها حبا). .
فهي مفتونة به , بلغ حبه شغاف قلبها ومزقه , وشغاف القلب غشاؤه الرقيق:
إنا لنراها في ضلال مبين . .
وهي السيدة الكبيرة وزوجة الكبير , تفتتن بفتاها العبراني المشترى . أم لعلهن يتحدثن عن اشتهارها بهذه الفتنة وانكشافها وظهور أمرها , وهو وحده المنتقد في عرف هذه الأوساط لا الفعلة في ذاتها لو ظلت وراء الأستار ?!
الدرس الرابع:31 - 34 تقطيع نسوة المدينة أيديهن لرؤية يوسف
وهنا كذلك يقع ما لا يمكن وقوعه إلا في مثل هذه الأوساط . ويكشف السياق عن مشهد من صنع تلك المرأة الجريئة , التي تعرف كيف تواجه نساء طبقتها بمكر كمكرهن وكيد من كيدهن:
فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن , وأعتدت لهن متكأ , وآتت كل واحدة منهن سكينا , وقالت:اخرج عليهن . فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن , وقلن:حاش لله ! ما هذا بشرا . إن هذا إلا ملك كريم . قالت:فذلكن الذي لمتنني فيه . ولقد راودته عن نفسه فاستعصم . ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين . .
لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها . وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية . فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور . وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر . ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان . فأعدت لهن هذا المتكأ . وآتت كل واحدة منهن سكينا تستعملها في الطعام - ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأوا بعيدا , وأن الترف في القصور كان عظيما . فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية . وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة , فاجأتهن بيوسف:
(وقالت:اخرج عليهن). .
(فلما رأينه أكبرنه). .
بهتن لطلعته , ودهشن .
(وقطعن أيديهن). .
وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة .
(وقلن حاش لله !). .
وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله . .
(ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) .
وهذه التعبيرات دليل - كما قلنا في تقديم السورة - على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان .

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها , وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول . فقالت قولة المرأة المنتصرة , التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها ; والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها ; وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى:
قالت:فذلكن الذي لمتني فيه . .
فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب !
(ولقد راودته عن نفسه فاستعصم). .
ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام - تريد أن تقول:إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها ! - ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط , لا ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء:
ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين !
فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد .
ويسمع يوسف هذا القول في مجتمع النساء المبهورات , المبديات لمفاتنهن في مثل هذه المناسبات . ونفهم من السياق أنهن كن نساء مفتونات فاتنات في مواجهته وفي التعليق على هذا القول من ربة الدار ; فإذا هو يناجي ربه:
(قال:رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه). .
ولم يقل:ما تدعوني إليه . فهن جميعا كن مشتركات في الدعوة . سواء بالقول أو بالحركات واللفتات . . وإذا هو يستنجد ربه أن يصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن , خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم , فيقع فيما يخشاه على نفسه , ويدعو الله أن ينقذه منه:
(وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين). .
وهي دعوة الإنسان العارف ببشريته . الذي لا يغتر بعصمته ; فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته , يعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء .
(فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن , إنه هو السميع العليم). .
وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن , بعد هذه التجربة , أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى لا يحس في نفسه أثرا منه . أو بهما جميعا .
(إنه هو السميع العليم)الذي يسمع ويعلم , يسمع الكيد ويسمع الدعاء , ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء .
وهكذا اجتاز يوسف محنته الثانية , بلطف الله ورعايته . وانتهت بهذه النجاة الحلقة الثانية من قصته المثيرة .


قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
الوحدة الثالثة:35 - 53 يوسف ما بين سجنه إلى خروجه بريئا

ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
وهذه هي الحلقة الثالثة والمحنة الثالثة والأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف ; فكل ما بعدها رخاء , وابتلاء لصبره على الرخاء , بعد ابتلاء صبره على الشدة . والمحنة في هذه الحلقة هي محنة السجن بعد ظهور البراءة . والسجن للبريء المظلوم أقسى , وإن كان في طمأنينة القلب بالبراءة تعزية وسلوى .
وفي فترة المحنة هذه تتجلى نعمة الله على يوسف , بما وهبه من علم لدني بتعبير الرؤيا وبعض الغيب القريب الذي تبدو أوائله فيعرف تأويله . ثم تتجلى نعمة الله عليه أخيرا بإعلان براءته الكاملة إعلانا رسميا بحضرة الملك , وظهور مواهبه التي تؤهله لما هو مكنون له في عالم الغيب من مكانة مرموقة وثقة مطلقة , وسلطان عظيم .
الدرس الأول:35 - 42 يوسف البريء سجين مع سجينين آخرين
ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين . .
وهكذا جو القصور , وجو الحكم المطلق , وجو الأوساط الأرستقراطية , وجو الجاهلية ! فبعد أن رأوا الآيات الناطقة ببراءة يوسف . وبعد أن بلغ التبجح بامرأة العزيز أن تقيم للنسوة حفل استقبال تعرض عليهن فتاها الذي شغفها حبا , ثم تعلن لهم أنها به مفتونة حقا . ويفتتن هن به ويغرينه بما يلجأ إلى ربه ليغيثه منه وينقذه , والمرأة تعلن في مجتمع النساء - دون حياء - أنه إما أن يفعل ما يؤمر به , وإما أن يلقى السجن والصغار , فيختار السجن على ما يؤمر به !
بعد هذا كله , بدا لهم أن يسجنوه إلى حين !
ولعل المرأة كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد ; ولعل الأمر كذلك قد زاد انتشارا في طبقات الشعب الأخرى . . وهنا لابد أن تحفظ سمعة "البيوتات" ! وإذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن , فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء كل جريمته أنه لم يستجب , وأن امرأة من "الوسط الراقي ! " قد فتنت به , وشهرت بحبه , ولاكت الألسن حديثها في الأوساط الشعبية !
(ودخل معه السجن فتيان). .
سنعرف من بعد أنهما من خدم الملك الخواص . .
ويختصر السياق ما كان من أمر يوسف في السجن , وما ظهر من صلاحه وإحسانه , فوجه إليه الأنظار , وجعله موضع ثقة المساجين , وفيهم الكثيرون ممن ساقهم سوء الطالع مثله للعمل في القصر أو الحاشية ,


وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
فغضب عليهم في نزوة عارضة , فألقي بهم في السجن . . يختصر السياق هذا كله ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه , فهما يقصان عليه رؤيا رأياها . ويطلبان إليه تعبيرها , لما يتوسمانه فيه من الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك:
(قال أحدهما:إني أراني أعصر خمرا ; وقال الآخر:إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه . نبئنا بتأويله , إنا نراك من المحسنين). .
وينتهز يوسف هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة ; فكونه سجينا لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة , القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين , وجعلهم بالخضوع لهم أربابا يزاولون خصائص الربوبية , ويصبحون فراعين !
ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما , فيطمئنهما ابتداء إلى أنه سيؤول لهم الرؤى , لأن ربه علمه علما لدنيا خاصا , جزاء على تجرده لعبادته وحده , وتخلصه من عبادة الشركاء . هو وآباؤه من قبله . . وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما , كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه:
(قال:لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما , ذلكما مما علمني ربي , إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله , وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب , ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء . ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس , ولكن أكثر الناس لا يشكرون). .
ويبدو في طريقة تناول يوسف للحديث لطف مدخله إلى النفوس , وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف . . وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها . .
(قال:لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما , ذلكما مما علمني ربي). .
بهذا التوكيد الموحي بالثقة بأن الرجل على علم لدني , يرى به مقبل الرزق وينبيء بما يرى . وهذا - فوق دلالته على هبة الله لعبده الصالح يوسف - وهي كذلك بطبيعة الفترة وشيوع النبوءات فيها والرؤى - وقوله: (ذلكما مما علمني ربي)تجيء في اللحظة المناسبة من الناحية النفسية ليدخل بها إلى قلبيهما بدعوته إلى ربه ; وليعلل بها هذا العلم اللدني الذي سيؤول لهما رؤياهما عن طريقه .
(إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله , وهم بالآخرة هم كافرون). .
مشيرا بهذا إلى القوم الذين ربي فيهم , وهم بيت العزيز وحاشية الملك والملأ من القوم والشعب الذي يتبعهم . والفتيان على دين القوم , ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما , إنما يواجه القوم عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما - وهي كياسة وحكمة ولطافة حس وحسن مدخل .
وذكر الآخرة هنا في قول يوسف يقرر - كما قلنا من قبل - أن الإيمان بالآخرة كان عنصرا من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعا ; منذ فجر البشرية الأول ; ولم يكن الأمر كما يزعم علماء الأديان المقارنة أن تصور الآخرة جاء إلى العقيدة - بجملتها - متأخرا . . لقد جاء إلى العقائد الوثنية الجاهلية متأخرا فعلا , ولكنه كان دائما عنصرا أصيلا في الرسالات السماوية الصحيحة . .
ثم يمضي يوسف بعد بيان معالم ملة الكفر ليبين معالم ملة الإيمان التي يتبعها هو وآباؤه:
(واتبعت ملة آبائي:إبراهيم وإسحاق ويعقوب , ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء). .


وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
فهي ملة التوحيد الخالص الذي لا يشرك بالله شيئا قط . . والهداية إلى التوحيد فضل من الله على المهتدين , وهو فضل في متناول الناس جميعا لو اتجهوا إليه وأرادوه . ففي فطرتهم أصوله وهواتفه , وفي الوجود من حولهم موحياته ودلائله , وفي رسالات الرسل بيانه وتقريره . ولكن الناس هم الذين لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه:
(ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس , ولكن أكثر الناس لا يشكرون). .
مدخل لطيف . . وخطوة خطوة في حذر ولين . . ثم يتوغل في قلبيهما أكثر وأكثر , ويفصح عن عقيدته ودعوته إفصاحا كاملا , ويكشف عن فساد اعتقادهما واعتقاد قومهما , وفساد ذلك الواقع النكد الذي يعيشون فيه . . بعد ذلك التمهيد الطويل:
(يا صاحبي السجن , أأرباب متفرقون خير ? أم الله الواحد القهار ? ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن الحكم إلا لله . أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
لقد رسم يوسف - عليه السلام - بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة , كل معالم هذا الدين , وكل مقومات هذه العقيدة . كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا عنيفا . .
(يا صاحبي السجن , أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ?). .
إنه يتخذ منهما صاحبين , ويتحبب إليهما هذه الصفة المؤنسة , ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجسم العقيدة . وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة , إنما يعرضها قضية موضوعية:
(أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ?). .
وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزا شديدا . . إن الفطرة تعرف لها إلها واحد ففيم إذن تعدد الأرباب ? . . إن الذي يستحق أن يكون ربا يعبد ويطاع أمره ويتبع شرعه هو الله الواحد القهار . ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود فيجب تبعا لذلك أن يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس . وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد , وأنه هو القاهر , ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره , ويتخذوا بذلك من دون الله ربا . . إن الرب لا بد أن يكون إلها يملك أمر هذا الكون ويسيره . ولا ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله ربا للناس يقهرهم بحكمه , وهو لا يقهر هذا الكون كله بأمره !
والله الواحد القهار خير أن يدين العباد لربوبيته من أن يدينوا للأرباب المتفرقة الأهواء الجاهلة القاصرة العمياء عن رؤية ما وراء المنظور القريب - كالشأن في كل الأرباب إلا الله - وما شقيت البشرية قط شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم , وتوزع العباد بين أهوائهم وتنازعهم . . فهذه الأرباب الأرضية التي تغتصب سلطان الله وربوبيته ; أو يعطيها الجاهليون هذا السلطان تحت تأثير الوهم والخرافة والأسطورة , أو تحت تأثير القهر أو الخداع أو الدعاية ! هذه الأرباب الأرضية لا تملك لحظة أن تتخلص من أهوائها , ومن حرصها على ذواتها وبقائها , ومن الرغبة الملحة في استبقاء سلطانها وتقويته , وفي تدمير كل القوى والطاقات التي تهدد ذلك السلطان من قريب أومن بعيد ; وفي تسخير تلك القوى والطاقات في تمجيدها والطبل حولها والزمر والنفخ فيها كي لا تذبل ولا تنفثى ء نفختها الخادعة !
والله الواحد القهار في غنى عن العالمين ; فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل والعمارة -


مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
وفق منهجه - فيعد لهم هذا كله عبادة . وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم , لإصلاح حياتهم وواقعهم . . وإلا فما أغناه سبحانه عن عباده أجمعين !(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله , والله هو الغني الحميد). . ففرق بين الدينونة لله الواحد القهار والدينونة للأرباب المتفرقة بعيد !
ثم يخطو يوسف - عليه السلام - خطوة أخرى في تفنيد عقائد الجاهلية وأوهامها الواهية:
(ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان). .
إن هذه الأرباب - سواء كانت من البشر أم من غير البشر من الأرواح والشياطين والملائكة والقوى الكونية المسخرة بأمر الله - ليست من الربوبية في شيء , وليس لها من حقيقة الربوبية شيء . فالربوبية لا تكون إلا لله الواحد القهار ; الذي يخلق ويقهر كل العباد . . ولكن البشر في الجاهليات المتعددة الأشكال والأوضاع يسمون من عند أنفسهم أسماء , ويخلعون عليها صفات , ويعطونها خصائص ; وفي أول هذه الخصائص خاصية الحكم والسلطان . . والله لم يجعل لها سلطانا ولم ينزل بها من سلطان . .
وهنا يضرب يوسف - عليه السلام - ضربته الأخيرة الحاسمة فيبين:لمن ينبغي أن يكون السلطان ! لمن ينبغي أن يكون الحكم ! لمن ينبغي أن تكون الطاعة . . أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون "العبادة " !
(إن الحكم إلا لله . أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
إن الحكم لا يكون إلا لله . فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته ; إذ الحاكمية من خصائص الألوهية . من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته ; سواء ادعى هذا الحق فرد , أو طبقة , أو حزب . أو هيئة , أو أمة , أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية . ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفرا بواحا , يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة , حتى بحكم هذا النص وحده !
وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم , وتجعله منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته - سبحانه - فليس من الضروري أن يقول:ما علمت لكم من إله غيري ; أو يقول:أنا ربكم الأعلى , كما قالها فرعون جهرة . ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية ; ويستمد القوانين من مصدر آخر . وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية , أي التي تكون هي مصدر السلطات , جهة أخرى غير الله سبحانه . . ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية . والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله ; ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته . إنما مصدر الحاكمية هو الله . وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة . فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده . والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه , أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية , وما أنزل الله به من سلطان . .
ويوسف - عليه السلام - يعلل القول بأن الحكم لله وحده . فيقول:
أمر ألا تعبدوا إلا إياه .
ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى "العبادة " التي يخص بها الله وحده . .
إن معنى عبد في اللغة:دان , وخضع , وذل . . ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في أول الأمر أداء الشعائر . . إنما كان هو معناه اللغوي نفسه . . فعندما نزل هذا النص أول مرة لم يكن شيء من الشعائر قد فرض حتى ينطلق اللفظ إليه . إنما كان المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي . كان المقصود به هو الدينونة لله وحده , والخضوع له وحده , واتباع أمره وحده . سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية , أو تعلق بتوجيه أخلاقي , أو تعلق بشريعة قانونية . فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله - سبحانه - بها نفسه ; ولم يجعلها لأحد من خلقه . .
وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو نفهم لماذا جعل يوسف - عليه السلام - اختصاص الله بالعبادة تعليلا لاختصاصه بالحكم . فالعبادة - أي الدينونة - لا تقوم إذا كان الحكم لغيره . . وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود , وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة . فكله حكم تتحق به الدينونة .
ومرة أخرى نجد أن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله - حكما معلوما من الدين بالضرورة - لأنها تخرجه من عبادة الله وحده . . وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعا . وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه , ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه . . فكلهم سواء في ميزان الله .
ويقرر يوسف - عليه السلام - أن اختصاص الله - سبحانه - بالحكم - تحقيقا لاختصاصه بالعبادة - هو وحده الدين القيم:
(ذلك الدين القيم). .
وهو تعبير يفيد القصر . فلا دين قيما سوى هذا الدين , الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم , تحقيقا لاختصاصه بالعبادة . .
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
وكونهم (لا يعلمون)لا يجعلهم على دين الله القيم . فالذي لا يعلم شيئا لا يملك الاعتقاد فيه ولا تحقيقه . . فإذا وجد ناس لا يعلمون حقيقة الدين , لم يعد من الممكن عقلا وواقعا وصفهم بأنهم على هذا الدين ! ولم يقم جهلهم عذرا لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام . ذلك أن الجهل مانع للصفة ابتداء . فاعتقاد شيء فرغ عن العلم به . . وهذا منطق العقل والواقع . . بل منطق البداهة الواضح .
لقد رسم يوسف - عليه السلام - بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين , وكل مقومات هذه العقيدة ; كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا . .
إن الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعيا أخص خصائص الألوهية , وهو الربوبية . أي حق تعبيد الناس لأمره وشرعه , ودينونتهم لفكره وقانونه . وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه - ولو لم يقله بلسانه - فالعمل دليل أقوى من القول .
وإن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس . فما يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلا أن الحكم لله وحده , لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده . والخضوع للحكم عبادة . بل هي أصلا مدلول العبادة .وإلى هنا يبلغ يوسف أقصى الغاية من الدرس الذي ألقاه , مرتبطا في مطلعه بالأمر الذي يشغل بال صاحبيه في السجن . ومن ثم فهو يؤول لهما الرؤيا في نهاية الدرس , ليزيدهما ثقة في قوله كله وتعلقا به:
(يا صاحبي السجن , أما أحدكما فيسقي ربه خمرا , وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه). .
ولم يعين من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيء تلطفا وتحرجا من المواجهة بالشر والسوء . ولكنه أكد لهما الأمر واثقا من العلم الذي وهبه الله له:
(قضي الأمر الذي فيه تستفتيان). .
وانتهى فهو كائن كما قضاه الله .
وأحب يوسف السجين البريء , الذي أمر الملك بسجنه دون تحر ودون بحث , إلا ما نقله إليه بعض حاشيته من وشاية لعلهم صوروا له فيها حادث امرأة العزيز وحادث النسوة تصويرا مقلوبا , كما يقع عادة في مثل هذه الأوساط . . أحب يوسف أن يبلغ أمره إلى الملك ليفحص عن الأمر:
(وقال للذي ظن أنه ناج منهما:اذكرني عند ربك). .
اذكر حالي ووضعي وحقيقتي عند سيدك وحاكمك الذي تدين بشرعه وتخضع لحكمه , فهو بهذا ربك . فالرب هو السيد والحاكم والقاهر والمشرع . . وفي هذا توكيد لمعنى الربوبية في المصطلح الإسلامي . ومما يلاحظ أن ملوك الرعاة لم يكونوا يدعون الربوبية قولا كالفراعنة , ولم يكونوا ينتسبون إلى الإله أو الآلهة كالفراعنة . ولم يكن لهم من مظاهر الربوبية إلا الحاكمية وهي نص في معنى الربوبية . .
وهنا يسقط السياق أن التأويل قد تحقق , وأن الأمر قد قضي على ما أوله يوسف . ويترك هنا فجوة , نعرف منها أن هذا كله قد كان . ولكن الذي ظن يوسف أنه ناج فنجا فعلا لم ينفذ الوصية , ذلك أنه نسي الدرس الذي لقنه له يوسف , ونسي ذكر ربه في زحمة حياة القصر وملهياتها وقد عاد إليها , فنسي يوسف وأمره كله . .
(فأنساه الشيطان ذكر ربه). .
(فلبث في السجن بضع سنين). .
والضمير الأخير في لبث عائد على يوسف . وقد شاء ربه أن يعلمه كيف يقطع الأسباب كلها ويستمسك بسببه وحده , فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد . وكان هذا من اصطفائه وإكرامه .
إن عباد الله المخلصين يتبغي أن يخلصوا له سبحانه , وأن يدعوا له وحده قيادهم , ويدعوا له سبحانه تنقيل خطاهم . وحين يعجزون بضعفهم البشري في أول الأمر عن اختيار هذا السلوك , يتفضل الله سبحانه فيقهرهم عليه حتى يعرفوه ويتذوقوه ويلتزموه بعد ذلك طاعة ورضى وحبا وشوقا . . فيتم عليهم فضله بهذا كله . .
الدرس الثاني:43 - 45 عجز الحاشية عن تأويل رؤيا الملك
والآن نحن في مجلس الملك , وقد رأى رؤيا أهمته , فهو يطلب تأويلها من رجال الحاشية ومن الكهنة والمتصلين بالغيبيات:
وقال الملك:إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف , وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات .


قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي , إن كنتم للرؤيا تعبرون . قالوا:أضغاث أحلام , وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين). .
طلب الملك تأويل رؤياه . فعجز الملأ من حاشيته ومن الكهنة عن تأويلها , أو أحسوا أنها تشير إلى سوء لم يريدوا أن يواجهوا به الملك على طريقة رجال الحاشية في إظهار كل ما يسر الحكام وإخفاء ما يزعجهم . وصرف الحديث عنه ! فقالوا:إنها (أضغاث أحلام)أي أخلاط أحلام مضطربة وليست رؤيا كاملة تحتمل التأويل . (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين). . إذا كانت أضغاثا مختلطة لا تشير إلى شيء !
والآن لقد مرت بنا رؤى ثلاث:رؤيا يوسف , ورؤيا صاحبي السجن , ورؤيا الملك . وطلب تأويلها في كل مرة , والاهتمام بها يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر وخارج مصر - كما أسلفنا - وأن الهبة اللدنية التي وهبها يوسف كانت من روح العصر وجوه , على ما نعهد في معجزات الأنبياء , فهل كانت هذه هي معجزة يوسف ? ولكن هذا بحث ليس مكانه هذه الظلال . فنكمل حديث رؤيا الملك الآن !
هنا تذكر أحد صاحبيه في السجن , الذي نجا منهما وأنساه الشيطان ذكر ربه , وذكر يوسف في دوامة القصر والحاشية والعصر والخمر والشراب . . هنا تذكر الرجل الذي أول له رؤياه ورؤيا صاحبه , فتحقق التأويل:
وقال الذي نجا منها وادكر بعد أمة :أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون !
الدرس الثالث:46 - 49 يوسف يفسر رؤيا الملك
أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون . . ويسدل الستار هنا , ليرفع في السجن على يوسف وصاحبه هذا يستفتيه:
(يوسف - أيها الصديق - أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف , وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات , لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون). .
والساقي يلقب يوسف بالصديق , أي الصادق الكثير الصدق . وهذا ما جربه في شأنه من قبل . .
(أفتنا في سبع بقرات سمان . . .). .
ونقل ألفاظ الملك التي قالها كاملة , لأنه يطلب تأويلها , فكان دقيقا في نقلها , وأثبتها السياق مرة أخرى ليبين هذه الدقة أولا , وليجيء تأويلها ملاصقا في السياق لذكرها .
ولكن كلام يوسف هنا ليس هو التأويل المباشر المجرد , إنما هو التأويل والنصح بمواجهة عواقبه . وهذا أكمل:
(قال:تزرعون سبع سنين دأبا). .
أي . . متوالية متتابعة . وهي السنوات السبع المخصبة المرموز لها بالبقرات السمان .
(فما حصدتم فذروه في سنبله). .
أي فاتركوه في سنابله لأن هذا يحفظه من السوس والمؤثرات الجوية .
(إلا قليلا مما تأكلون). .


ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
فجردوه من سنابله , واحتفظوا بالبقية للسنوات الأخرى المجدبة المرموز لها بالبقرات العجاف .
(ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد). .
لا زرع فيهن .
(يأكلن ما قدمتم لهن). .
وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها !
(إلا قليلا مما تحصنون). .
أي إلا قليلا مما تحفظونه وتصونونه من التهامها !
(ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون). .
أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة , التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب . تنقضي ويعقبها عام رخاء , يغاث الناس فيه بالزرع والماء , وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرا , وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتا . .
وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك ; فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف . فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس , بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخي رغيد .
الدرس الرابع:50 - 53 يوسف يخرج من السجن بريئا
وهنا كذلك ينتقل السياق إلى المشهد التالي . تاركا فجوة بين المشهدين يكمل التصور ما تم فيها من حركة . ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك . ويحذف السياق ما نقله الساقي من تأويل الرؤيا , وما تحدث به عن يوسف الذي أولها . وعن سجنه وأسبابه والحال التي هو فيها . . كل أولئك يحذفه السياق من المشهد , لنسمع نتيجته من رغبة الملك في رؤية يوسف , وأمره أن يأتوه به:
(وقال الملك:ائتوني به). .
ومرة ثالثة في المشهد يحذف السياق جزئيات تفصيلية في تنفيذ الأمر . ولكنا نجد يوسف يرد على رسول الملك الذي لا نعرف:إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة . أو رسولا تنفيذيا مكلفا بمثل هذا الشأن . نجد يوسف السجين الذي طال عليه السجن لا يستعجل الخروج حتى تحقق قضيته , ويتبين الحق واضحا في موقفه , وتعلن براءته - على الأشهاد - من الوشايات والدسائس والغمز في الظلام . . لقد رباه ربه وأدبه . ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة . فلم يعد معجلا ولا عجولا !
"إن أثر التربية الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقفين:الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى:اذكرني عند ربك , والموقف الذي يقول له فيه:ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن , والفارق بين الموقفين بعيد . .
(قال:ارجع إلى ربك فاسأله:ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ? إن ربي بكيدهن عليم).
لقد رد يوسف أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره , وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن . . بهذا القيد . . تذكيرا بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها . . وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة , دون أن يتدخل هو في مناقشتها . . كل أولئك لأنه واثق من نفسه , واثق من براءته , مطمئن إلى أن الحق لا يخفى طويلا , ولا يخذل طويلا .
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
ولقد حكى القرآن عن يوسف استعمال كلمة(رب)بمدلولها الكامل , بالقياس إليه وبالقياس إلى رسول الملك إليه . فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه . والله رب يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه . .
ورجع الرسول فأخبر الملك وأحضر الملك النسوة يستجوبهن - والسياق يحذف هذا لنعلمه مما يليه -:
(قال:ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ?). .
والخطب:الأمر الجلل والمصاب . فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن , وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال , ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه . فهو يواجههن مقررا الاتهام , ومشيرا إلى أمر لهن جلل أو شأن لهن خطير:
(ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ?).
ومن هذا نعلم شيئا مما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير ; ما قالته النسوة ليوسف وما لمحن به وأشرن إليه , من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة . ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ . فالجاهلية دائما هي الجاهلية . إنه حيثما كان الترف , وكانت القصور والحاشية , كان التخلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدي ثياب الأرستقراطية !
وفي مثل هذه المواجهة بالاتهام في حضرة الملك , يبدو أنه لم يكن هنالك مجال للإنكار:
(قلن:حاش لله ! ما علمنا عليه من سوء)!
وهي الحقيقة التي يصعب إنكارها . ولو من مثل هؤلاء النسوة . فقد كان أمر يوسف إذن من النصاعة والوضوح بحيث لا يقوم فيه جدال .
وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف , التي يئست منه , ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به . . تتقدم لتقول كل شيء في صراحة:
(قالت امرأة العزيز:الآن حصحص الحق . أنا راودته عن نفسه . وإنه لمن الصادقين). .
الآن حصحص الحق وظهر ظهورا واضحا لا يحتمل الخفاء:
(أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين). .
وزادت ما يكشف عن أن قلبها لم يخل من إيثاره ورجاء تقديره والتفاته بعد كل هذا الأمد ; وما يشي كذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمن:
(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب , وأن الله لا يهدي كيد الخائنين). .
وهذا الاعتراف وما بعده يصوره السياق هنا بألفاظ موحية , تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر . كما يشي الستار الرقيق بما وراءه في ترفع وتجمل في التعبير:
(أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين). .
شهادة كاملة بنظافته وبراءته وصدقه . لا تبالي المرأة ما وراءها مما يلم بها هي ويلحق بأردانها . . فهل هو الحق وحده الذي يدفعها لهذا الإقرار الصريح في حضرة الملك والملأ ?
يشي السياق بحافز آخر , هو حرصها على أن يحترمها الرجل المؤمن الذي لم يعبأ بفتنتها الجسدية . أن يحترمها تقديرا لإيمانها ولصدقها وأمانتها في حقه عند غيبته:


ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب). .
ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها:
(وأن الله لا يهدي كيد الخائنين). .
وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة:
وما أبريء نفسي , إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي , إن ربي غفور رحيم . .
إنها امراة أحبت . امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها , فهي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه , أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه !
وهكذا يتجلى العنصر الإنساني في القصة , التي لم تسق لمجرد الفن , إنما سيقت للعبرة والعظة . وسيقت لتعالج قضية العقيدة والدعوة . ويرسم التعبير الفني فيها خفقات المشاعر وانتفاضات الوجدان رسما رشيقا رفيقا شفيفا . في واقعة كاملة تتناسق فيها جميع المؤثرات وجميع الواقعيات في مثل هذه النفوس , في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة كذلك .
وإلى هنا تنتهي محنة السجن ومحنة الاتهام , وتسير الحياة بيوسف رخاء , الاختبار فيه بالنعمة لا بالشدة .
وإلى هنا نقف في هذا الجزء من الظلال , وتتابع القصة سيرها في الجزء التالي إن شاء الله .


وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)
انتهى الجزء الثاني عشر و يليه الجزء الثالث عشر مبدوءاً بقوله تعالى: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي . . .
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية سورة يوسف و سورتا الرعد و ابراهيم
الجزء الثالث عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الجزء الثالث عشر
يتألف هذا الجزء من بقية سورة يوسف المكية , ومن سورتي الرعد وإبراهيم المكيتين أيضا . فهو جزء كامل من القرآن المكي ; بكل خصائص القرآن المكي .
فأما سورتا الرعد وإبراهيم فسنعرف بهما - إن شاء الله - في موضعهما . وأما بقية سورة يوسف , فنرجو أن يراجع قبل قراءتها في هذا الجزء ما سبق من التعريف بالسورة في الجزء الماضي .
التعريف بباقي سورة يوسف
إننا نستقبل في هذا الجزء بقية قصة يوسف , والتعقيبات المباشرة عليها ; ثم التعقيبات الأخيرة في السورة . . وكذلك نستقبل فيه مرحلة جديدة من مراحل حياة الشخصية الأساسية في القصة - شخصية يوسف عليه السلام - ومع امتداد هذه الشخصية واستقامتها على المقومات الأساسية لها - تلك التي مر ذكرها في التعريف بشخصيات القصة في التقديم للسورة , فإننا نجد في هذه المرحلة الجديدة ملامح جديدة تبرز - هي امتداد طبيعي واقعي لنشأة الشخصية وللمرحلة السابقة من حياتها ولكنها مع ذلك ذات طابع مميز . .
نجد شخصية يوسف - عليه السلام - وقد استقامت مع نشأتها والأحداث التي مرت بها , والابتلاءات التي اجتازتها , في ظل التربية الربانية للعبد الصالح , الذي يعد ليمكن له في الأرض , وليقوم بالدعوة إلى دين الله وهو ممكن له في الأرض , وهو قابض على مقاليد الأمور في مركز التموين في الشرق الأوسط !
وأول ملامح هذه المرحلة هذا الاعتزاز بالله , والاطمئنان إليه , والثقة به , والتجرد له , والتعري من كل قيم الأرض , والتحرر من كل أوهاقها , واستصغار شأن القوى المتحكمة فيها , وهوان تلك القيم وهذه القوى في النفس الموصولة الأسباب بالله - سبحانه وتعالى !
تبدو هذه الظاهرة الواضحة في موقف يوسف , ورسول الملك يجيء إليه في سجنه يبلغه رغبة الملك في أن يراه . . فلا يخف يوسف - عليه السلام - لطلب الملك ; ولا يتلهف على مغادرة سجنه الظالم المظلم إلى رحاب الملك الذي يرغب في لقائه ; ولا تستخفه الفرحة بالخروج من هذا الضيق .
ولا تتجلى هذه الظاهرة - وما وراءها من التغيرات العميقة في الموازين والقيم والمشاعر في نفس يوسفالصديق , إلا حين نعود القهقرى بضع سنين , لنجد يوسف يوصي ساقي الملك - وهو يظن أنه ناج - أن يذكره عند ربه . . إن الإيمان هو الإيمان , ولكن هذه هي الطمأنينة . الطمأنينة التي تنسكب في القلب وهو يلابس قدر الله في جريانه . . وهو يرى كيف يتحقق هذا القدر أمام عينيه فعلا . . الطمأنينة التي كان يطلبها جده إبراهيم عليه السلام , وهو يقول لربه: (رب أرني كيف تحيي الموتى)فيسأله ربه - وربه يعلم:- (أولم تؤمن ?)فيقول - وربه يعلم حقيقة ما يشعر وما يقول -: (بلى ! ولكن ليطمئن قلبي). .
إنها هي هي الطمأنينة التي تسكبها التربية الربانية في قلوب الصفوة المختارة , بالابتلاء والمعاناة , والرؤية والمشاهدة , والمعرفة والتذوق . . ثم الثقة والسكينة . .
وهذه هي الظاهرة الواضحة في كل مواقف يوسف من بعد , حتى يكون الموقف الأخير في نجائه مع ربه , منخلعا من كل شيء تهفو له النفوس في هذه الأرض:(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث . فاطر السماوات والأرض , أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين).
أما التعقيبات التي ترد في نهاية القصة , والتعقيبات العامة في السورة , فقد تحدثنا عنها إجمالا عند تقديم السورة في الجزء الثاني عشر . وسوف نواجهها بالتفصيل في مواضعها من السياق إن شاء الله . . إنما أردنا فقط أن نبرز تلك الظاهرة الجديدة في الشخصية الرئيسية في القصة . ذلك أنها الظاهرة الأساسية التي تتكامل بها صورة الشخصية ; كما أنها هي الظاهرة الأساسية التي يحتفل بها سياق القصة وسياق السورة من الناحية الحركية التربوية للمنهج القرآني . .
والآن سنواجه النصوص تفصيلا:
الوحدة الرابعة:54 - 79 الموضوع:يوسف في منصب عزيز مصر مقدمة الوحدة نمضي في هذا الدرس مع قصة يوسف , في حلقة جديدة من حلقاتها - الحلقة الرابعة - وقد وقفنا في نهاية الجزء الثاني عشر عند نهاية الحلقة الثالثة . وقد أخرج من السجن , واستدعاه الملك ليكون له شأن معه , هو الذي سنعرفه في هذه الحلقة الجديدة .
هذا الدرس يبدأ بآخر فقرة في المشهد السابق . مشهد الملك يستجوب النسوة اللاتي قطعن أيديهن - كما رغب إليه يوسف أن يفعل - تمحيصا لتلك المكايد التي أدخلته السجن , وإعلانا لبراءته على الملأ , قبل أن يبدأ مرحلة جديدة في حياته ; وهو يبدؤها واثقا مطمئنا , في نفسه سكينة وفي قلبه طمأنينة وقد أحس أنها ستكون مرحلة ظهور في حياة الدولة , وفي حياة الدعوة كذلك . فيحسن أن يبدأها وكل ما حوله واضح , ولا شيء من غبار الماضي يلاحقه وهو بريء .
ومع أنه قد تجمل فلم يذكر عن امرأة العزيز شيئا , ولم يشر إليها على وجه التخصيص , إنما رغب إلى الملك أن يفحص أمرعن النسوة اللاتي قطعن أيديهن , فإن امرأة العزيز تقدمت لتعلن الحقيقة كاملة:
الآن حصحص الحق . أنا راودته عن نفسه , وإنه لمن الصادقين . ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب , وأن الله لايهدي كيد الخائنين . وما أبرى ء نفسي ; إن النفس لأمارة بالسوء , إلا ما رحم ربي , إن ربي غفور رحيم . .
وفي هذه الفقرة الأخيرة تبدو المرأة مؤمنة متحرجة , تبريء نفسها من خيانة يوسف في غيبته ; ولكنها تتحفظ فلا تدعي البراءة المطللقة , لأن النفس أمارة بالسوء - إلا ما رحم ربي - ثم تعلن ما يدل على إيمانها بالله - ولعل ذلك كان اتباعا ليوسف - (إن ربي غفور رحيم). .
وبذلك يسدل الستار على ماضي الآلام في حياة يوسف الصديق . وتبدأ مرحلة الرخاء والعز والتمكين . .
الدرس الأول:54 - 57 يوسف في منصب عزيز مصر
(وقال الملك:ائتوني به أستخلصه لنفسي . . فلما كلمه قال:إنك اليوم لدينا مكين أمين . قال:اجعلني على خزائن الأرض , إني حفيظ عليم . . وكذلك مكنا ليوسف في الأرض , يتبوأ منها حيث يشاء , نصيب برحمتنا من نشاء , ولا نضيع أجر المحسنين . ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون). .
لقد تبينت للملك براءة يوسف , وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا , وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة كذلك تبينت له كرامته وإباؤه , وهو لا يتهافت على الخروج من السجن , ولا يتهافت على لقاء الملك . وأي ملك ? ملك مصر ! ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في سمعته , المسجون ظلما , يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه ; ويطلب الكرامة لشخصه ولدينه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك . .


وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال:
(ائتوني به أستخلصه لنفسي). .
فهو لا يأتي به من السجن ليطلق سراحه ; ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى ; ولا ليسمعه كلمة "الرضاء الملكي السامي ! " فيطير بها فرحا . . كلا ! إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه , ويجعله بمكان المستشار والنجي والصديق . .
فيا ليت رجالا يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام - وهم أبرياء مطلقو السراح - فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم ; ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء , وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء . . يا ليت رجالا من هؤلاء يقرأون هذا القرآن , ويقرأون قصة يوسف , ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح - حتى المادي - أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء !
وقال الملك:ائتوني به استخلصه لنفسي . .
ويحذف السياق جزئية تنفيذ الأمر لنجد يوسف مع الملك . .
(فلما كلمه قال:إنك اليوم لدينا مكين أمين). .
فلما كلمه تحقق له صدق ما توسمه . فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وفي أمان . فليس هو الفتى العبراني الموسوم بالعبودية . إنما هو مكين . وليس هو المتهم المهدد بالسجن . إنما هو أمين . وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه . فماذا قال يوسف ?
إنه لم يسجد شكرا كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت . ولم يقل له:عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين , كما يقول المتملقون للطواغيت ! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أول بها رؤيا الملك , خيرا مما ينهض بها أحد في البلاد ; وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحا من الموت وبلادا من الخراب , ومجتمعا من الفتنة - فتنة الجوع - فكان قويا في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته , قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه:
(قال:اجعلني على خزائن الأرض . إني حفيظ عليم). .
والأزمة القادمة وسنوالرخاء التي تسبقها في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة الأمور بالدقة وضبط الزراعة والمحاصيل وصيانتها . وفي حاجة إلى الخبرة وحسن التصرف والعلم بكافة فروعه الضرورية لتلك المهمة في سنوات الخصب وفي سني الجدب على السواء . ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها , وأن وراءها خيرا كبيرا لشعب مصر وللشعوب المجاورة:
(إني حفيظ عليم). .
ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض . . إنما كان حصيفا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة ; وليكون مسؤولا عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات , لا زرع فيها ولا ضرع . فليس هذا غنما يطلبه يوسف لنفسه . فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة . إنما هي تبعة يهرب منها الرجال , لأنها قد تكلفهم رؤوسهم , والجوع كافر , وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون .


قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57)
استطراد لتعليل طلبه الحكم
وهنا تعرض شبهة . . أليس في قول يوسف - عليه السلام -: (اجعلني على خزائن الأرض , إني حفيظ عليم). . أمران محظوران في النظام الإسلامي:
أولهما:طلب التولية , وهو محظور بنص قول الرسول [ ص ]:" إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله [ أو حرص عليه ] " . . [ متفق عليه ] .
وثانيهما:تزكية النفس , وهي محظورة بقوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم)?
ولا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد إنما تقررت في النظام الإسلامي الذي تقرر على عهد محمد رسول الله [ ص ] وأنها لم تكن مقررة على أيام يوسف - عليه السلام - والمسائل التنظيمية في هذا الدين ليست موحدة كأصول العقيدة , الثابتة في كل رسالة وعلى يد كل رسول . .
لا نريد أن نجيب بهذا , وإن كان له وجه , لأننا نرى أن الأمر في هذه المسألة أبعد أعماقا , وأوسع آفاقا من أن يرتكن إلى هذا الوجه ; وأنه إنما يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بد من إدراكها , لإدراك منهج الاستدلال من الأصول والنصوص , ولإعطاء أصول الفقه وأحكامه تلك الطبيعة الحركية الأصيلة في كيانها , والتي خمدت وجمدت في عقول الفقهاء وفي عقلية الفقه كلها في قرون الخمود والركود !
إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ , كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ ! . . لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم , ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية . كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم ; إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي . .
وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتا الدلالة ; كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي ; وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية .
والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة , دون إدراك لهاتين الحقيقتين ; ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام , ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها ; وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها وتحكمها وتعيش فيها . . الذين يفعلون ذلك ; ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ ; وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ . . هؤلاء ليسوا "فقهاء" ! وليس لهم "فقه" بطبيعة الفقه ! وبطبيعة هذا الدين أصلا !
إن "فقه الحركة " يختلف إختلافا أساسيا عن "فقه الأوراق" مع استمداده أصلا وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها "فقه الأوراق" !
إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره "الواقع" الذي نزلت فيه النصوص , وصيغت فيه الأحكام . ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركبا لا تنفصل عناصره . فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته , واختل تركيبه !
ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته , يعيش في فراغ , لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها . . إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ !
ونأخذ مثالا لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب ,وهو المأخوذ من قوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم)ومن قول رسول الله [ ص ] " إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله " . .
لقد نشأ هذا الحكم - كما نزلت تلك النصوص - في مجتمع مسلم ; ليطبق في هذا المجتمع ; وليعيش في هذا الوسط ; وليلبي حاجة ذلك المجتمع . وفق نشأته التاريخية , ووفق تركيبه العضوي , ووفق واقعه الذاتي . فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي . . وقد نشأ في وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ مثالي . وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشىءآثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي . . إسلامي في نشأته , وفي تركيبه العضوي , وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة . . وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقومات كلها يعتبر "فراغا" بالقياس إلى ذلك الحكم , لا يملك أن يعيش فيه , ولا يصلح له , ولا يصلحه كذلك !
. . ومثل هذا الحكم كل أحكام النظام الإسلامي . وإن كنا في هذا المقام لا نفصل إلا هذا الحكم بمناسبة ذلك السياق القرآني . .
ونريد أن نفهم لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم , ولا يرشحون أنفسهم للوظائف , ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشوري أو للإمامة أو للإمارة . .
إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم . كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحدا بالتزاحم عليه - اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى - ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم . وهؤلاء يجب أن يمنعوها !
ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم , وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضا . .
إن الحركة هي العنصر المكون لذلك المجتمع . فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية . .
أولا:تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله - على عهد النبوات - أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله - على مدار الزمان بعد ذلك - فيستجيب للدعوة ناس ; يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة . فمنهم من يفتن ويرتد , ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيدا ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق . .
هؤلاء يفتح الله عليهم , ويجعل منهم ستارا لقدره , ويمكن لهم في الأرض تحقيقا لوعده بنصر من ينصره , والتمكين في الأرض له , ليقيم مملكة الله في الأرض - أي لينفذ حكم الله في الأرض - ليس له من هذا النصر والتمكين شيء ; إنما هو نصر لدين الله , وتمكين لربوبية الله في العباد .
وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة ; ولا عند حدود جنس معين ; ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة أو مقوم واحد من تلك المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة ! إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا "الإنسان" . . كل الإنسان:في "الأرض" . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله ; وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أيا كانت هذه الطواغيت .
وفي أثناء الحركة بهذا الدين - وقد لاحظنا أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة من الأرض , ولا تقف عند حدود أرض أو جنس أو قوم - تتميز أقدار الناس , وتتحدد مقاماتهم في المجتمع , ويقوم هذا التحديد وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية , الجميع يتعارفون عليها , من البلاء في الجهاد , والتقوى والصلاح والعبادة والأخلاق والقدرة والكفاءة . . وكلها قيم يحكم عليها الواقع , وتبرزها الحركة , ويعرفها المجتمع ويعرف المتسمين بها . . ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم , ولا أن يطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية . .
وفي المجتمع المسلم الذي نشأ هذه النشأة , وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة بتلك القيم الإيمانية - كما حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين ثم الأنصار , وأهل بدر , وأهل بيعة الرضوان , ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل - ثم ظل يتميز الناس فيه بحسن البلاء في الإسلام . . في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم بعضا , ولا ينكر الناس فضائل المتميزين - مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحيانا فغلبتهم الأطماع - وعندئذ تنتفي الحاجة - من جانب آخر - إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية . .
ولقد يخيل للناس الآن أن هذه خاصية متفردة للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية ! ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إلا بمثل هذه النشأة . . لن يوجد اليوم أو غدا , إلا أن تقوم دعوة لإدخال الناس في هذا الدين من جديد , وإخراجهم من الجاهلية التي صاروا إليها . . وهذه نقطة البدء . . ثم تعقبها الفتنة والابتلاء - كما حدث أول مرة - فأما ناس فيفتنون ويرتدون ! وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا الله عليه فيقضون نحبهم ويموتون شهداء . وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على الإسلام , ويكرهون أن يعودوا إلى الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقى في النار ; حتى يحكم الله بينهم وبين قومهم بالحق , ويمكن لهم في الأرض - كما مكن للمسلمين أول مرة - فيقوم في أرض من أرض الله نظام إسلامي . . ويومئذ تكون الحركة من نقطة البدء إلى قيام النظام الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية , وفق الموازين والقيم الإيمانية . . ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم وتزكيتها , لأن مجتمعهم الذي جاهد كله معهم يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم !
ولقد يقال بعد هذا:ولكن هذا يكون في المرحلة الأولى . فإذا استقر المجتمع بعد ذلك ? وهذا سؤال من لا يعرف طبيعة هذا الدين ! إن هذا الدين يتحرك دائما ولا يكف عن الحركة . . يتحرك لتحرير "الإنسان" . كل الإنسان . . في "الأرض" . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله ; وليرفعه عن العبودية للطواغيت ; بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم أو أي مقوم من المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة !
وإذن فستظل الحركة - التي هي طبيعة هذا الدين الأصيلة - تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات والمواهب ; ولا تقف أبدا ليركد هذا المجتمع ويأسن - إلا أن ينحرف عن الإسلام - وسيظل الحكم الفقهي - الخاص بتحريم تزكية النفس وطلب العمل على أساس هذه التزكية - قائما وعاملا في محيطه الملائم . . ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه .
ثم يقال:ولكن المجتمع حين يتسع لا يعرف الناس بعضهم بعضا ; ويصبح الأكفاء الموهوبون في حاجة إلى الإعلان عن أنفسهم وتزكيتها وطلب العمل على أساس هذه التزكية !
وهذا القول كذلك وهم ناشيء من التأثر بواقع المجتمعات الجاهلية الحاضرة . . إن المجتمع المسلم يكونأهل كل محلة فيه متعارفين متواصلين متكافلين - كما هي طبيعة التربية والتكوين والتوجيه , والالتزام في المجتمع المسلم - ومن ثم يكون أهل كل محلة عارفين بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم ; موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين وقيم إيمانية ; فلا يعز عليهم أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلاء والتقوى والكفاية . . سواء لمجلس الشورى أو للشؤون المحلية . أما الإمارات العامة فيختار لها الإمام - الذي اختارته الأمة بعد ترشيح أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - له . . يختار لها من بين مجموعة الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة . والحركة دائبة كما قلنا في المجتمع المسلم , والجهاد ماض إلى يوم القيامة .
إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته - أو يكتبون - يدخلون في متاهة ! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ ! يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم , بتركيبه العضوي الحاضر ! وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر - بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية - فراغا لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام . . إن تركيبه العضوي مناقض تماما للتركيب العضوي للمجتمع المسلم . فالمجتمع المسلم - كما قلنا - يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في عالم الواقع , ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام . مع تحمل ضغوط الجاهلية وما توجهه من قتنة وإيذاء وحرب على هذه الحركة , والصبر على الابتلاء وحسن البلاء من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف . أما المجتمع الجاهلي الحاضر فهو مجتمع راكد , قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام , ولا بالقيم الإيمانية . . وهو - من ثم - يعد بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغا لا يعيش فيه هذا النظام ولا تقوم فيه هذه الأحكام !
هؤلاء الكاتبون الباحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام وتشكيلاته وأحكامه الفقهية يحيرهم - أول ما يحيرهم - طريقة اختيار أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية ! كيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها والناس لا يعرف بعضهم بعضا ولا يزنون كذلك بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة ! كذلك تحيرهم طريقة اختيار الإمام ? أيكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد ? وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد - متابعة لعدم تزكيتهم لأنفسهم أو ترشيحها - فكيف يعودون هم فيختارون الإمام ? ألا يؤثر هذا في ميزانهم ? ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام ? ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم ? ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصا يضمن ولاءهم له , ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره ? . . .
وأسئلة أخرى كثيرة لا يجدون لها جوابا في هذه المتاهة !
أنا أعرف نقطة البدء في هذه المتاهة . . إنها هي افتراض أن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه مجتمع مسلم ; وأن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية سيجاء بها لتطبق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العضوي الحاضر , وبقيمه وأخلاقه الحاضرة !
هذه نقطة البدء في المتاهة . . ومتى بدأ منها الباحث فإنه يبدأ في فراغ , ويوغل في هذا الفراغ , حتى يبعد في التيه , وحتى يأخذه الدوار! !
إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم , ومن ثم لن يطبق فيه النظام الإسلامي ولن تطبق فيه الأحكام الفقهية الخاصة بهذا النظام . . لن تطبق لاستحالة هذا التطبيق الناشئة من أن قواعد النظامالإسلامي وأحكامه الفقهية لا يمكن أن تتحرك في فراغ ; لأنها بطبيعتها لم تنشأ في فراغ , ولم تتحرك في فراغ كذلك !
إن المجتمع الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي . . ينشأ من أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت - في وجه الجاهلية - لإنشائه ; وتحددت أقدارها وتميزت مقاماتها في ثنايا تلك الحركة .
إنه مجتمع جديد . . ومجتمع وليد . . ومجتمع متحرك دائما في طريقه لتحرير "الإنسان" , . . كل الإنسان . . في" الأرض " . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله , ولرفع هذا الإنسان عن ذلة العبودية للطواغيت . . أيا كانت هذه الطواغيت . .
ومثل قضية التزكية وطلب الإمارة , واختيار الإمام , واختيار أهل الشورى . . . وما إليها . . . قضايا كثيرة تثار , ويطرقها الباحثون في الإسلام . . في الفراغ . . في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه . . بتركيبه العضوي المختلف تماما عن التركيب العضوي للمجتمع المسلم . . وبقيمه وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته المختلفة تماما عن قيم المجتمع المسلم وموازينه واعتباراته و أخلاقه ومشاعره وتصوراته . .
أعمال البنوك وأساسها الربوي . . شركات التأمين وقاعدتها الربوية . . تحديد النسل وما أدري ماذا ?! إلى آخر هذه "المشكلات" التي يشغل "الباحثون" بها أنفسهم أو يجيبون فيها عن استفتاءات توجه إليهم . . إنهم جميعا - مع الأسف - يبدأون من نقطة البدء في المتاهة ! يبدأون من افتراض أن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه سيجاء بها لتطبق على هذه المجتمعات الجاهلية الحاضرة بتركيبها العضوي الحاضر ; فتنتقل هذه المجتمعات إذن - متى طبقت عليها أحكام الإسلام - إلى الإسلام !
وهي تصورات مضحكة لولا أنها محزنة !
إن الفقه الإسلامي بكل أحكامه ليس هو الذي أنشأ المجتمع المسلم . إنما المجتمع المسلم بحركته - في مواجهة الجاهلية ابتداء - ثم بحركته في مواجهة حاجة الحياة الحقيقية ثانيا , هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي مستمدا من أصول الشريعة الكلية . . والعكس لا يمكن أن يكون أصلا !
إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ , ولا يعيش في فراغ كذلك . . لا ينشأ في الأدمغة والأوراق ; إنما ينشأ في واقع الحياة . وليست أية حياة . إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد . . ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع المسلم أولا بتركيبه العضوي الطبيعي ; فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق . . وعندئذ تختلف الأمور جدا . .
وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص - بعد نشأته في مواجهة الجاهلية وتحركه في مواجهة الحياة - إلى البنوك وشركات التأمين وتحديد النسل . . . الخ وقد لا يحتاج ! ذلك أننا لا نملك سلفا أن نقدر أصل حاجته , ولا حجمها , ولا شكلها , حتى نشرع لها سلفا ! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها . . ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها . ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها ولا بتلبيتها كذلك !
إن المحنة الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل , الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه ! ولكن الأمر غير ذلك تماما . . إن دين الله هو الأصل الذي يجب على البشريةأن تطابق نفسها عليه ; وأن تحور من واقعها الجاهلي وتغير حتى تتم هذه المطابقة . . ولكن هذا التحور وهذا التغير لا يتمان عادة إلا عن طريق واحد . . هو التحرك - في وجه الجاهلية - لتحقيق ألوهية الله في الأرض وربوبيته وحده للعباد , وتحرير الناس من العبودية للطاغوت , بتحكيم شريعة الله وحدها في حياتهم . . وهذه الحركة لا بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء . فيفتن من يفتن ويرتد من يرتد , ويصدق الله من يصدقه فيقضي نحبه ويستشهد , ويصبر من يصبر ويمضي في حركته حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق , وحتى يمكن الله له في الأرض , وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي , وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه , وتميزوا بقيمه . . وعندئذ تكون لحياتهم مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها وفي طرق تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية ومطالبها وطرق تلبيتها . . وعلى ضوء واقع المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام ; وينشأ فقه إسلامي حي متحرك - لا في فراغ - ولكن في وسط واقعي محدد المطالب والحاجات والمشكلات . .
ومن ذا الذي يدرينا اليوم مثلا أن يكون الناس في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة وتنفق في مصارفها , ويقوم فيه التراحم والتكافل بين أهل كل محلة , ثم بين كل أفراد الأمة , وتقوم حياة الناس فيه على غير السرف والترف والمخيلة والتكاثر . . إلى آخر مقومات الحياة الإسلامية . . من يدرينا أن مجتمعا كهذا سيكون في حاجة إلى شركات تأمين أصلا ?! وعنده كل تلك التأمينات والضمانات مع تلك الملابسات والقيم والتصورات ?! وإذا احتاج إلى نوع من التأمين فمن يدرينا أنه سيكون هو هذا النوع المعروف في المجتمع الجاهلي , المنبثق من حاجات هذا المجتمع الجاهلي وملابساته وقيمه وتصوراته ?!
وكذلك من يدرينا أن المجتمع المسلم المتحرك المجاهد سيكون في حاجة إلى تحديد النسل مثلا ? . . وهكذا . . وإذا كنا لا نملك افتراض أصل حاجات المجتمع حين يكون مسلما ولا حجم هذه الحاجات أو شكلها , بسبب اختلاف تركيبه العضوي عن تركيب المجتمع الجاهلي , واختلاف تصوراته ومشاعره وقيمه وموازينه . . فما هذا الضنى في محاولة تحوير وتطوير وتغيير الأحكام المدونة لكي تطابق حاجات هي في ضمير الغيب , شأنها شأن وجود المجتمع المسلم ذاته !
إن نقطة البدء في المتاهة - كما قلنا - هي افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات الإسلامية ; وأنه سيجاء بأحكام الفقه الإسلامي من الأوراق لتطبق عليها , وهي بهذا التركيب العضوي ذاته , وبالتصورات والمشاعر والقيم والموازين ذاتها .
كما أن أصل المحنة هو الشعور بأن واقع هذه المجتمعات الجاهلية وتركيبها الحاضر هو الأصل الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه . وأن يحور ويطور ويغير في أحكامه ليلاحق حاجات هذه المجتمعات ومشكلاتها . . حاجاتها ومشكلاتها المنبثقة أصلا من مخالفتها للإسلام ومن خروج حياتها جملة من إطاره !
ونحسب أنه قد آن للإسلام أن يستعلي في نفوس دعاته , فلا يجعلوه مجرد خادم للأوضاع الجاهلية , والمجتمعات الجاهلية , والحاجات الجاهلية . وأن يقولوا للناس - وللذين يستفتونهم بوجه خاص - تعالوا أنتم أولا إلى الإسلام , وأعلنوا خضوعكم سلفا لأحكامه . . أو بعبارة أخرى . . تعالوا أنتم أولا فادخلوا في دين الله , وأعلنوا عبوديتكم لله وحده , واشهدوا أن لا إله إلا الله بمدلولها الذي لا يقوم الإيمان والإسلام إلا به . وهو إفراد الله بألوهيته في الأرض كإفراده بالألوهية في السماء ; وتقرير ربوبيته - أي حاكميته وسلطانه - وحده في حياة الناس بجملتها . وتنحية ربوبية العباد للعباد , بتنحية حاكمية العباد للعباد , وتشريع العباد للعباد .
وحين يستجيب الناس - أو الجماعة منهم - لهذا القول , فإن المجتمع المسلم يكون قد بدأ أولى خطواته في الوجود . وهذا المجتمع يكون حينئذ هو الوسط الواقعي الحي الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي الحي وينمو , لمواجهة حاجات ذلك المجتمع المستسلم لشريعة الله فعلا . .
فأما قبل قيام هذا المجتمع فالعمل في حقل الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس , باستنبات البذور في الهواء , ولن ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ , كما أنه لن تنبت البذور في الهواء !
إن العمل في الحقل "الفكري" للفقه الإسلامي عمل مريح ! لأنه لاخطر فيه ! ولكنه ليس عملا للإسلام ; ولا هو من منهج هذا الدين ولا من طبيعته ! وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة ! أما الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه عملا للإسلام في هذه الفترة فأحسب - والله أعلم - أنه مضيعة للعمر وللأجر أيضا !
إن دين الله يأبى أن يكون مجرد مطية ذلول , ومجرد خادم مطيع , لتلبية هذا المجتمع الجاهلي الآبق منه , المتنكر له , الشارد عنه . . الذي يسخر منه الحين بعد الحين باستفتائه في مشكلاته وحاجاته ; وهو غير خاضع لشريعته وسلطانه . .
إن فقه هذا الدين وأحكامه لا تنشأ في فراغ , ولا تعمل في فراغ . . وإن المجتمع المسلم الخاضع لسلطان الله ابتداء هو الذي صنع هذا الفقه وليس الفقه هو الذي صنع ذلك المجتمع . . ولن تنعكس الآية أبدا .
إن خطوات النشأة الإسلامية ومراحلها هي دائما واحدة ; والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لن يكون يوما ما سهلا ولا يسيرا . ولن يبدأ أبدا من صياغة الأحكام الفقهية في الفراغ , لتكون معدة جاهزة يوم يقوم المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي . ولن يكون وجود هذه الأحكام المفصلة على "الجاهز" والناشئة في الفراغ هي نقطة البدء في التحول من الجاهلية إلى الإسلام . وليس الذي ينقص هذه المجتمعات الجاهلية لكي تتحول إلى الإسلام هو الأحكام الفقهية "الجاهزة " ! وليست الصعوبة في ذلك التحول ناشئة عن قصور أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة . . إلى آخر ما يخادع به بعضهم , وينخدع به بعضهم الآخر !
كلا ! إن الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية لله ; فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في الأرض لله وحده . وتخرج بذلك من الإسلام خروجا كاملا . يعد الحكم عليه من المعلوم من الدين بالضرورة . . ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد أولئك الطواغيت من دون الله - أي تدين لها وتخضع وتتبع - فتجعلها بذلك أربابا متفرقة معبودة مطاعة . وتخرج هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك . . فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام . .
وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاما في الأرض ; وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة المادية .
وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية - إذن - بوسائل مكافئة . إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى ; وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها ; ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية . ثم يحكم الله بين من يسلمون لله وبين قومهم بالحق . . وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه , التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي , وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددةفي هذا المجتمع الوليد , وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها , وهي أمور كلها في ضمير الغيب - كما أسلفنا - ولا يمكن التكهن بها سلفا , ولا يمكن الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين !
إن هذا لا يعني - بحال - أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلا من الوجهة الشرعية . ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له , والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه - بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به - ليس قائما الآن فعلا . ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقا بقيام ذلك المجتمع . . ويبقى الالتزام بها قائما في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي ; ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا الدين في وجه الجاهلية وطواغيتها المتألهة وجماهيرها الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في الربوبية . .
إن إدراك طبيعة النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير , كلما قامت الجاهلية وقامت في وجهها محاولة إسلامية . . هو نقطة البدء في العمل الحقيقي البناء لإعادة هذا الدين إلى الوجود الفعلي , بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة الله في خلال القرنين الأخيرين ; وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام ; وإن بقيت المآذن والمساجد , والأدعية والشعائر ; تخدر مشاعر الباقين علي الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين ; وتوهمهم أنه لا يزال بخير ; وهو يمحى من الوجود محوا !
إن المجتمع المسلم وجد قبل أن توجد الشعائر , وقبل أن توجد المساجد . . وجد من يوم أن قيل للناس:اعبدوا الله ما لكم من إله غيره , فعبدوه . ولم تكن عبادتهم له ممثلة في الشعائر , فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت . إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة له وحده - من ناحية المبدأ فلم تكن بعد قد نزلت شرائع ! - وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة لله وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع ; وحين واجهوا الحاجات الحقيقية لحياتهم هم استنبطت بقية أحكام الفقه , إلى جانب ما ورد بنصه في الكتاب والسنة . .
وهذا هو الطريق وحده ; وليس هنالك طريق آخر . .
وليت هنالك طريقا سهلا عن طريق تحول الجماهير بجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة باللسان , وببيان أحكام الإسلام ! ولكن هذه إنما هي "الأماني" ! فالجماهير لا تتحول أبدا من الجاهلية وعبادة الطواغيت , إلى الإسلام وعبادة الله وحده إلا عن ذلك الطريق الطويل البطيء الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة . . والذي يبدؤه فرد , ثم تتبعه طليعة , ثم تتحرك هذه الطليعة في وجه الجاهلية لتعاني ما تعاني حتى يحكم الله بينها وبين قومها بالحق ويمكن لها في الأرض . . ثم . . يدخل الناس في دين الله أفواجا . . ودين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي لا يرضى من الناس دينا غيره: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه). .
ولعل هذا البيان أن يكشف لنا عن حقيقة الحكم في موقف يوسف - عليه السلام .
إنه لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس وطلب الإمارة على أساس هذه التزكية . كما أنه كان يرى أن الظروف تمكن له من أن يكون حاكما مطاعا لا خادما في وضع جاهلي . وكان الأمر كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه ونشره في مصر في أيام حكمه . وقد توارى العزيز وتوارى الملك تماما . .
ثم نعود بعد هذا الاستطراد إلى صلب القصة وإلى صلب السياق . إن السياق لا يثبت أن الملك وافق . فكأنما يقول:إن الطلب تضمن الموافقة ! زيادة في تكريم يوسف , وإظهار مكانته عند الملك . فيكفي أن يقول ليجاب , بل ليكون قوله هو الجواب . . ومن ثم يحذف رد الملك , ويدع القاريء يفهم أنه أصبح في المكان الذي طلبه .
ويؤيد هذا الذي نقوله تعقيب السياق:
(وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء . ولا نضيع أجر المحسنين . . ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون). .
فعلى هذا النحو من إظهار براءة يوسف , ومن إعجاب الملك به , ومن الاستجابة له فيما طلب . . على هذا النحو مكنا ليوسف في الأرض , وثبتنا قدميه , وجعلنا له فيها مكانا ملحوظا . والأرض هي مصر . أو هي هذه الأرض كلها باعتبار أن مصر يومذاك أعظم ممالكها .
(يتبوأ منها حيث يشاء). .
يتخذ منها المنزل الذي يريد , والمكان الذي يريد , والمكانة التي يريد . في مقابل الجب وما فيه من مخاوف , والسجن وما فيه من قيود .
(نصيب برحمتنا من نشاء). .
فنبدله من العسر يسرا , ومن الضيق فرجا , ومن الخوف أمنا , ومن القيد حرية , ومن الهوان على الناس عزا ومقاما عليا .
(ولا نضيع أجر المحسنين). .
الذين يحسنون الإيمان بالله , والتوكل عليه , والاتجاه إليه , ويحسنون السلوك والعمل والتصرف مع الناس . . هذا في الدنيا . .
(ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون). .
فلا ينقص منه المتاع في الدنيا وإن كان خيرا من متاع الدنيا , متى آمن الإنسان واتقى . فاطمأن بإيمانه إلى ربه , وراقبه بتقواه في سره وجهره .
وهكذا عوض الله يوسف عن المحنة , تلك المكانة في الأرض , وهذه البشرى في الآخرة جزاء وفاقا على الإيمان والصبر والإحسان .
الدرس الثاني:58 - 62 يوسف يطلب من أخوته أخاه الصغير
ودارت عجلة الزمن . وطوى السياق دوراتها بما كان فيها طوال سنوات الرخاء . فلم يذكر كيف كان الخصب , وكيف زرع الناس . وكيف أدار يوسف جهاز الدولة . وكيف نظم ودبر وادخر . كأن هذه كلها أمور مقررة بقوله:
(إني حفيظ عليم). .
وكذلك لم يذكر مقدم سني الجدب , وكيف تلقاها الناس , وكيف ضاعت الأرزاق . . لأن هذا كله ملحوظ في رؤيا الملك وتأويلها:
(ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون). .


وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
كذلك لم يبرز السياق الملك ولا أحدا من رجاله بعد ذلك في السورة كلها . كأن الأمر كله قد صار ليوسف . الذي اضطلع بالعبء في الأزمة الخانقة الرهيبة . وأبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث , وسلط عليه كل الأضواء . وهذه حقيقة واقعية استخدمها السياق استخداما فنيا كاملا في الأداء .
أما فعل الجدب فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف , يجيئون من البدو من أرض كنعان البعيدة يبحثون عن الطعام في مصر . ومن ذلك ندرك اتساع دائرة المجاعة , كما ندرك كيف وقفت مصر - بتدبير يوسف - منها , وكيف صارت محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة كلها . وفي الوقت ذاته تمضي قصة يوسف في مجراها الأكبر بين يوسف وإخوته وهي سمة فنية تحقق هدفا دينيا في السياق:
(وجاء إخوة يوسف , فدخلوا عليه , فعرفهم وهم له منكرون . ولما جهزهم بجهازهم قال:ائتوني بأخ لكم من أبيكم . ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ? فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون . قالوا:سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون . وقال لفتيانه:اجعلوا بضاعتهم في رحالهم , لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون). .
لقد اجتاح الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها . فاتجه إخوة يوسف - فيمن يتجهون - إلى مصر . وقد تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان . وها نحن أولاء نشهدهم يدخلون على يوسف , وهم لا يعلمون . إنه يعرفهم فهم هم لم يتغيروا كثيرا . أما يوسف فإن خيالهم لا يتصور قط أنه هو ذاك! وأين الغلام العبراني الصغير الذي ألقوه في الجب منذ عشرين عاما أو تزيد من عزيز مصر شبه المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته وخدمه وحشمه وهيله وهيلمانه ?
ولم يكشف لهم يوسف عن نفسه . فلا بد من دروس يتلقونها:
(فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون). .
ولكنا ندرك من السياق أنه أنزلهم منزلا طيبا , ثم أخذ في إعداد الدرس الأول:
(ولما جهزهم بجهازهم قال:ائتوني بأخ لكم من أبيكم). .
فنفهم من هذا أنه تركهم يأنسون إليه , واستدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل , وأن لهم أخا صغيرا من أبيهم لم يحضر معهم لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه . فلما جهزهم بحاجات الرحلة قال لهم:
إنه يريد أن يرى أخاهم هذا .
(قال:ائتوني بأخ لكم من أبيكم). .
وقد رأيتم أنني أوفي الكيل للمشترين . فسأوفيكم نصيبكم حين يجيء معكم ; ورأيتم أنني أكرم النزلاء فلا خوف عليه بل سيلقى مني الإكرام المعهود:
(ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ?). .
ولما كانوا يعلمون كيف يضن أبوهم بأخيهم الأصغر - وبخاصة بعد ذهاب يوسف - فقد أظهروا أن الأمر ليس ميسورا , وإنما في طريقه عقبات من ممانعة أبيهم , وأنهم سيحاولون إقناعه , مع توكيد عزمهم - على الرغم من هذه العقبات - على إحضاره معهم حين يعودون:


وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
(قالوا:سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون). .
ولفظ(نراود)يصور الجهد الذي يعلمون أنهم باذلوه . .
أما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح والعلف . وقد تكون خليطا من نقد ومن غلات صحراوية أخرى من غلات الشجر الصحراوي , ومن الجلود والشعر وسواها مما كان يستخدم في التبادل في الأسواق . . أمر غلمانه بدسها في رحالهم - والرحل متاع المسافر - لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها بضاعتهم التي جاءوا بها:
(وقال لفتيانه:اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون). .
الدرس الثالث:63 - 68 أخوة يوسف يقنعون أباهم بأخذهم لأخيهم معهم
وندع يوسف في مصر . لنشهد يعقوب وبنيه في أرض كنعان . دون كلمة واحدة عن الطريق وما فيه:
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا:يا أبانا منع منا الكيل , فأرسل معنا أخانا نكتل , وإنا له لحافظون . قال:هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ? فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم , قالوا:يا أبانا ما نبغى . هذه بضاعتنا ردت إلينا , ونمير أهلنا , ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير . ذلك كيل يسير . قال:لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله:لتأتنني به - إلا أن يحاط بكم - فلما آتوه موثقهم قال:الله على ما نقول وكيل . .
ويبدو أنهم في دخلتهم على أبيهم , وقبل أن يفكوا متاعهم , عاجلوه بأن الكيل قد تقرر منعه عنهم ما لم يأتوا عزيز مصر بأخيهم الصغير معهم . فهم يطلبون إليه أن يرسل معهم أخاهم الصغير ليكتالوا له ولهم . وهم يعدون بحفظه:
(فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا:يا أبانا منع منا الكيل , فأرسل معنا أخانا نكتل , وإنا له لحافظون). .
ولا بد أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب . فهو ذاته وعدهم له في يوسف ! فإذا هو يجهر بما أثاره الوعد من شجونه:
(قال:هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل !). .
فخلوني من وعودكم وخلوني من حفظكم , فإذا أنا طلبت الحفظ لولدي والرحمة بي . .
(فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين)!
وبعد الاستقرار من المشوار , والراحة من السفر فتحوا أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها , ولم يجدوا في رحالهم غلالا !
إن يوسف لم يعطهم قمحا , إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم . فلما عادوا قالوا:يا أبانا منع منا الكيل , وفتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم . وكان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم , وكان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه .
على أية حال لقد اتخذوا من رد بضاعتهم إليهم دليلا على أنهم غير باغين فيما يطلبون من استصحاب أخيهم ولا ظالمين:
قالوا:يا أبانا ما نبغى . هذه بضاعتنا ردت إلينا . .


وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
ثم أخذوا يحرجونه بالتلويح له بمصلحة أهلهم الحيوية في الحصول على الطعام:
(ونمير أهلنا). .
والميرة الزاد , ويؤكدون له عزمهم على حفظ أخيهم . .
(ونحفظ أخانا). .
ويرغبونه بزيادة الكيل لأخيهم:
(ونزداد كيل بعير). .
وهو ميسور لهم حين يرافقهم:
(ذلك كيل يسير). .
ويبدو من قولهم: (ونزداد كيل بعير)أن يوسف - عليه السلام - كان يعطي كل واحد وسق بعير - وهو قدر معروف - ولم يكن يبيع كل مشتر ما يريد . وكان ذلك من الحكمة في سنوات الجدب , كي يظل هناك قوت للجميع:
واستسلم الرجل على كره ; ولكنه جعل لتسليم ابنه الباقي شرطا:
(قال:لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله:لتأتنني به إلا أن يحاط بكم). .
أي لتقسمن لي بالله قسما يربطكم , أن تردوا علي ولدي , إلا إذا غلبتم على أمركم غلبا لا حيلة لكم فيه , ولا تجدي مدافعتكم عنه:
(إلا أن يحاط بكم). .
وهو كناية عن أخذ المسالك كلها عليهم . فأقسموا:
(فلما آتوه موثقهم قال:الله على ما نقول وكيل). .
زيادة في التوكيد والتذكير .
وبعد هذا الموثق جعل الرجل يوصيهم بما خطر له في رحلتهم القادمة ومعهم الصغير العزيز:
(وقال:يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة . وما أغني عنكم من الله من شيء . إن الحكم إلا لله , عليه توكلت , وعليه فليتوكل المتوكلون). .
ونقف هنا أمام قول يعقوب - عليه السلام -:
(إن الحكم إلا لله). .
وواضح من سياق القول أنه يعني هنا حكم الله القدري القهري الذي لا مفر منه ولا فكاك . وقضاءه الإلهي الذي يجري به قدره فلا يملك الناس فيه لأنفسهم شيئا .
وهذا هو الإيمان بالقدر خيره وشره .
وحكم الله القدري يمضي في الناس على غير إرادة منهم ولا اختيار . . وإلى جانبه حكم الله الذي ينفذه الناس عن رضى منهم واختيار . وهو الحكم الشرعي المتمثل في الأوامر والنواهي . . وهذا كذلك لا يكون إلا الله . شأنه شأن حكمه القدري , باختلاف واحد:هو أن الناس ينفذونه مختارين أو لا ينفذونه . فيترتب


وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69)
على هذا أو ذاك نتائجه وعواقبه في حياتهم في الدنيا وفي جزائهم في الآخرة . ولكن الناس لا يكونون مسلمين حتى يختاروا حكم الله هذا وينفذوه فعلا راضين . .
وسار الركب , ونفذوا وصية أبيهم:
(ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم , ما كان يغني عنهم من الله من شيء - إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها - وإنه لذو علم لما علمناه , ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
فيم كانت هذه الوصية ? لم قال لهم أبوهم:لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ?
تضرب الروايات والتفاسير في هذا وتبدى وتعيد , بلا ضرورة , بل ضد ما يقتضيه السياق القرآني الحكيم . فلو كان السياق يحب أن يكشف عن السبب لقال . ولكنه قال فقط - إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها - فينبغي أن يقف المفسرون عند ماأراده السياق , احتفاظا بالجو الذي أراده . والجو يوحي بأنه كان يخشى شيئا عليهم , ويرى في دخولهم من أبواب متفرقة اتقاء لهذا الشيء مع تسليمه بأنه لا يغني عنهم من الله من شيء . فالحكم كله إليه , والاعتماد كله عليه . إنما هو خاطر شعر به , وحاجة في نفسه قضاها بالوصية , وهو على علم بأن إرادة الله نافذة . فقد علمه الله هذا فتعلم .
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
ثم ليكن هذا الشيء الذي كان يخشاه هو العين الحاسدة , أو هي غيرة الملك من كثرتهم وفتوتهم . أو هو تتبع قطاع الطريق لهم . أو كائنا ما كان فهو لا يزيد شيئا في الموضوع . سوى أن يجد الرواة والمفسرون بابا للخروج عن الجو القرآني المؤثر إلى قال وقيل , مما يذهب بالجو القرآني كله في كثرة الأحايين !
فلنطو نحن الوصية والرحلة كما طواها السياق , لنلتقي بإخوة يوسف في المشهد التالي بعد الوصول:
الدرس الرابع:69 - 79 يوسف يأخذ أخاه بتهمة السرقة
(ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه . قال:إني أنا أخوك , فلا تبتئس بما كانوا يعملون). .
ونجد السياق هنا يعجل بضم يوسف لأخيه في المأوى , وإطلاعه على أنه أخوه ; ودعوته لأن يترك من خاطره ذكرى ما فعله إخوته به من قبل , وهي ذكرى لا بد كان يبتئس لها الصغير كلما علمها من البيت الذي كان يعيش فيه . فما كان يمكن أن تكون مكتومة عنه في وسطه في أرض كنعان .
يعجل السياق بهذا , بينما الطبيعي والمفهوم أن هذا لم يحدث فور دخولهم على يوسف . ولكن بعد أن اختلى يوسف بأخيه . ولكن هذا ولا شك كان أول خاطر ساور يوسف عند دخولهم عليه , وعند رؤيته لأخيه , بعد الفراق الطويل .
ومن ثم جعله السياق أول عمل لأنه كان أول خاطر . وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العجيب ! ويطوي السياق كذلك فترة الضيافة , وما دار فيها بين يوسف وإخوته , ليعرض مشهد الرحيل الأخير . فنطلع على تدبير يوسف ليحتفظ بأخيه , ريثما يتلقى إخوته درسا أو دروسا ضرورية لهم , وضرورية للناس في كل زمان ومكان:
(فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ; ثم أذن مؤذن:أيتها العير إنكم لسارقون . قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون ? قالوا:نفقد صواع الملك , ولمن جاء به حمل بعير , وأنا به زعيم . قالوا:تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض , وما كنا سارقين . قالوا:فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ? قالوا:


فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه , كذلك نجزي الظالمين . فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه - كذلك كدنا ليوسف , ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك , إلا أن يشاء الله , نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم - قالوا:إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم . قال:أنتم شر مكانا . والله أعلم بما تصفون . قالوا:يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا , فخذ أحدنا مكانه , إنا نراك من المحسنين . قال:معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده . إنا إذن لظالمون). .
وهو مشهد مثير , حافل بالحركات والانفعالات والمفاجآت , كأشد ما تكون المشاهد حيوية وحركة وانفعالا , غير أن هذا صورة من الواقع يعرضها التعبير القرآني هذا العرض الحي الأخاذ .
فمن وراء الستار يدس يوسف كأس الملك - وهي عادة من الذهب - وقيل:إنها كانت تستخدم للشراب , ويستخدم قعرها الداخل المجوف من الناحية الأخرى في كيل القمح , لندرته وعزته في تلك المجاعة . يدسها في الرحل المخصص لأخيه , تنفيذا لتدبير خاص ألهمه الله له وسنعلمه بعد قليل .
ثم ينادي مناد بصوت مرتفع , في صيغة إعلان عام , وهم منصرفون:
(أيتها العير إنكم لسارقون). .
ويرتاع إخوة يوسف لهذا النداء الذي يتهمهم بالسرقة - وهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - فيعودون أدراجهم يتبينون الأمر المريب:
(قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون ?).
قال الغلمان الذين يتولون تجهيز الرحال , أو الحراس ومنهم هذا الذي أذاع بالإعلان:
(قالوا:نفقد صواع الملك). .
وأعلن المؤذن أن هناك مكافأة لمن يحضره متطوعا . وهي مكافأة ثمينة في هذه الظروف:
(ولمن جاء به حمل بعير)من القمح العزيز (وأنا به زعيم). . أي كفيل .
ولكن القوم مستيقنون من براءتهم , فهم لم يسرقوا , وما جاءوا ليسرقوا وليجترحوا هذا الفساد الذي يخلخل الثقة والعلاقات في المجتمعات , فهم يقسمون واثقين:
(قالوا:تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض). .
فقدو علمتم من حالنا ومظهرنا ونسبنا أننا لا نجترح هذا . .
(وما كنا سارقين). . أصلا فما يقع منا مثل هذا الفعل الشنيع .
قال الغلمان أو الحراس:
(فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ?). .
وهنا ينكشف طرف التدبير الذي ألهمه الله يوسف . فقد كان المتبع في دين يعقوب:أن يؤخذ السارق رهينة أو أسيرا أو رقيقا في مقابل ما يسرق . ولما كان أخوة يوسف موقنين بالبراءة , فقد ارتضوا تحكيم شريعتهم فيمن يظهر أنه سارق . ذلك ليتم تدبير الله ليوسف وأخيه:
(قالوا:جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه . كذلك نجزي الظالمين). .
وهذه هي شريعتنا نحكمها في السارق . والسارق من الظالمين .


فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف . فأمر بالتفتيش . وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل رحل أخيه . كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش:
(فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه)!
ويدعنا السياق نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم , الحالفين , المتحدين . . فلا يذكر شيئا عن هذا , بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل رسم المشهد بانفعالاته . . بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة , ريثما يفيق النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه:
(كذلك كدنا ليوسف). .
أي كذلك دبرنا له هذا التدبير الدقيق .
(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك). .
فلو حكم شريعة الملك ما تمكن من أخذ أخيه , إنما كان يعاقب السارق على سرقته , دون أن يستولي على أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم . وهذا هو تدبير الله الدي ألهم يوسف أسبابه . وهو كيد الله له . والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء . وإن كان الشر قد غلب عليه . وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته لإحراجهم أمام أبيه . وهو سوء - ولو مؤقتا - لأبيه . فلهذا اختار تسميته كيدا على إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره . وهو من دقائق التعبير .
(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك). . (إلا أن يشاء الله). .
فيدبر مثل هذا التدبير الذي رأيناه .
ويتضمن التعقيب الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة:
(نرفع درجات من نشاء). .
وإلى ما ناله من علم , مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى:
(وفوق كل ذي علم عليم). .
وهو احتراس لطيف دقيق .
ولا بد أن نقف أمام التعبير القرآني الدقيق العميق:
(كذلك كدنا ليوسف . . ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك . . .). .
إن هذا النص يحدد مدلول كلمة "الدين" - في هذا الموضع - تحديدا دقيقا . . إنه يعني:نظام الملك وشرعه . . فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته . إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه . وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم ; فطبقها يوسف عليهم عندما وجد صواع الملك في رحل أخيه . . وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها "الدين" . .
هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا . سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهلين !
إنهم يقصرون مدلول "الدين" على الاعتقاد والشعائر . . ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ; ويؤدي الشعائر المكتوبة . . . داخلا في "دين الله" مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في
الأرض . . بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول "دين الملك" بانه نظام الملك وشريعته . وكذلك "دين الله" فهو نظامه وشريعته . .
إن مدلول "دين الله" قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر . . ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين .
لقد كان يعني دائما:الدينونة لله وحده ; بالتزام ما شرعه , ورفض ما يشرعه غيره . وإفراده - سبحانه - بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء ; وتقرير ربوبيته وحده للناس:أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره . وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين "الله" ومن هم في "دين الملك" أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده , وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه . أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر , ويدينون لغير الله في النظام والشرائع !
وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة , ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما .
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة "دين الله" وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي "الدين" . وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين !
وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين !
إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها . فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها ? وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها ?
إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة , أو يخفف عنهم العذاب فيها ; ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها . . ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله , والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل . وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض !
إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم . . إنه ليس دين الله قطعا . فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة . فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في "دين الله" . ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في "دين الملك" . ولا جدال في هذا .
والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين . لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية . والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن يكون معتقدا به . إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة . . وهذه بديهية . .
وخير لنا من أن ندافع عن الناس - وهم في غير دين الله - ونتلمس لهم المعاذير , ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده ! . .
خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول "دين الله" ليدخلوا فيه . . أو يرفضوه . .
هذا خير لنا وللناس أيضا . . خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين , الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة . . وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه - وأنهم في دين الملكلا في دين الله - قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام , ومن دين الملك إلى دين الله !
كذلك فعل الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان . .
ثم نعود إلى إخوة يوسف بعد هذا التعقيب القصير . نعود إليهم وقد حرك الحرج الذي يلاقونه كوامن حقدهم على أخي يوسف , وعلى يوسف من قبله , فإذا هم يتنصلون من نقيصة السرقة , وينفونها عنهم , ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب:
(قالوا:إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)!
إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . . وتنطلق الروايات والتفاسير تبحث عن مصداق قولهم هذا في تعلات وحكايات وأساطير . كأنهم لم يكذبوا قبل ذلك على أبيهم في يوسف ; وكأنهم لا يمكن أن يكذبوا على عزيز مصر دفعا للتهمة التي تحرجهم , وتبرؤا من يوسف وأخيه السارق , وإرواء لحقدهم القديم على يوسف وأخيه !
لقد قذفوا بها يوسف وأخاه !
(فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم). .
أسر هذه الفعلة وحفظها في نفسه , ولم يبد تأثره منها . وهو يعلم براءته وبراءة أخيه . إنما قال لهم:
(أنتم شر مكانا). .
يعني أنكم بهذا القذف شر مكانا عند الله من المقذوف - وهي حقيقة لا شتمة .
(والله أعلم بما تصفون). . وبحقيقة ما تقولون . وأراد بذلك قطع الجدل في الاتهام الذي أطلقوه , ولا دخل له بالموضوع ! . .
وعندئذ عادوا إلى الموقف المحرج الذي وقعوا فيه . عادوا إلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم: (لتأتنني به إلا أن يحاط بكم). . فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى , الشيخ الكبير , ويعرضون أن يأخذ بداله واحد منهم إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه ; ويستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين:
(قالوا:يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا , فخذ أحدنا مكانه , إنا نراك من المحسنين):
ولكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درسا . وكان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم ولوالده وللجميع ! ليكون وقعها أعمق وأشد أثرا في النفوس:
(قال:معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده . إنا إذن لظالمون). .
ولم يقل معاذ الله أن نأخذ بريئا بجريرة سارق . لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق . فعبر أدق تعبير يحكيه السياق هنا باللغة العربية بدقة :


قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـا إِذاً لَّظَالِمُونَ (79)
(معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده)وهي الحقيقة الواقعة دون زيادة في اللفظ تحقق الاتهام أو تنفيه . .
إنا إذن لظالمون . .
وما نريد أن نكون ظالمين . .
وكانت هي الكلمة الأخيرة في الموقف . وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء , فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج , أمام أبيهم حين يرجعون .
الوحدة الخامسة:80 - 101 العائلة كلها في مصر


فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
الدرس الأول:80 - 82 أخوة يوسف يتشاورون بشأن أخيهم
يئس إخوة يوسف من محاولة تخليص أخيهم الصغير , فانصرفوا من عنده , وعقدوا مجلسا يتشاورون فيه . وهم هنا في هذا المشهد يتناجون . والسياق لا يذكر أقوالهم جميعا . إنما يثبت آخرها الذي يكشف عما انتهوا إليه:
فلما أستيأسوا منه خلصوا نجيا . قال كبيرهم:ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف ? فلن أبرح الارض حتى يأذن لي أبي , أو يحكم الله لي , وهو خير الحاكمين . ارجعوا إلى أبيكم فقولوا:يا أبانا إن ابنك سرق , وما شهدنا إلا بما علمنا , وما كنا للغيب حافظين . واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها , وإنا لصادقون . .
إن كبيرهم ليذكرهم بالموثق المأخوذ عليهم , كما يذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل . ويقرن هذه إلى تلك , ثم يرتب عليهما قراره الجازم:ألا يبرح مصر , وألا يواجه أباه , إلا أن يأذن له أبوه , أو يقضي الله له بحكم , فيخضع له وينصاع .

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
أما هم فقد طلب إليهم أن يرجعوا إلى أبيهم فيخبروه صراحة بأن ابنه سرق , فأخذ بما سرق . ذلك ما علموه شهدوا به . أما إن كان بريئا , وكان هناك أمر وراء هذا الظاهر لا يعلمونه , فهم غير موكلين بالغيب . كما أنهم لم يكونوا يتوقعون أن يحدث ما حدث , فذلك كان غيبا بالنسبة إليهم , وما هم بحافظين للغيب . وإن كان في شك من قولهم فليسأل أهل القرية التي كانوا فيها - وهي عاصمة مصر - والقرية اسم للمدينة الكبيرة - وليسأل القافلة التي كانوا فيها , فهم لم يكونوا وحدهم , فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر لتمتار الغلة في السنين العجاف . .
الدرس الثاني:83 - 87 حزن يعقوب على فقد ولديه وطلبه البحث عنهما
ويطوي السياق الطريق بهم , حتى يقفهم في مشهد أمام أبيهم المفجوع , وقد أفضوا إليه بالنبأ الفظيع . فلا نسمع إلا رده قصيرا سريعا , شجيا وجيعا . ولكن وراءه أملا لم ينقطع في الله أن يرد عليه ولديه , أو أولاده الثلاثة بما فيهم كبيرهم الذي أقسم ألا يبرح حتى يحكم الله له . وإنه لأمل عجيب في ذلك القلب الوجيع:
(قال:بل سولت لكم أنفسكم أمرا , فصبر جميل , عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم). .
(بل سولت لكم أنفسكم أمرا , فصبر جميل). . كلمته ذاتها يوم فقد يوسف . ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه فيرد ابنه الآخر المتخلف هناك . . (إنه هو العليم الحكيم). . الذي يعلم حاله , ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات , ويأتي بكل أمر في وقته المناسب , عندما تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج .
هذا الشعاع من أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ ? إنه الرجاء في الله , والاتصال الوثيق به , والشعور بوجوده ورحمته . ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة , فيصبح عندها أصدق وأعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار .
وتولى عنهم وقال:يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . .
وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع . يحس أنه منفرد بهمه , وحيد بمصابه , لا تشاركه هذه القلوب التي حوله ولا تجاوبه , فينفرد في معزل , يندب فجيعته في ولده الحبيب . يوسف . الذي لم ينسه , ولم تهون من مصيبته السنون , والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر فتغلبه على صبره الجميل:
يا أسفا على يوسف ! . .
ويكظم الرجل حزنه ويتجلد فيؤثر هذا الكظم في أعصابه حتى تبيض عيناه حزنا وكمدا:
(وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم). .
ويبلغ الحقد بقلوب بنيه ألا يرحموا ما به , وأن يلسع قلوبهم حنينه ليوسف وحزنه عليه ذلك الحزن الكامد الكظيم , فلا يسرون عنه , ولا يعزونه , ولا يعللونه بالرجاء , بل يريدون ليطمسوا في قلبه الشعاع الأخير:
(قالوا:تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين !). .
وهي كلمة حانقة مستنكرة . تالله تظل تذكر يوسف , ويهدك الحزن عليه , حتى تذوب حزنا أو تهلك أسى بلا جدوى . فيوسف ميئوس منه قد ذهب ولن يعود !


قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
ويرد عليهم الرجل بأن يتركوه لربه , فهو لا يشكو لأحد من خلقه , وهو على صلة بربه غير صلتهم , ويعلم من حقيقته ما لا يعلمون:
قال:إنما أشكو بثي وحزني إلى الله , وأعلم من الله ما لا تعلمون .
وفي هذه الكلمات يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول ; كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر , ولألائها الباهر .
إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف , وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلا على عودته إلى أبيه , واستنكار بنيه لهذا التطلع بعد هذا الأمد الطويل في وجه هذا الواقع الثقيل . . إن هذا كله لا يؤثر شيئا في شعور الرجل الصالح بربه . فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلم هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة بذلك الواقع الصغير المنظور !
وهذه قيمة الإيمان بالله , ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة . معرفة التجلي والشهود وملابسة قدرته وقدره , وملامسة رحمته ورعايته , وإدراك شأن الألوهية مع العبيد الصالحين .
إن هذه الكلمات: (وأعلم من الله ما لا تعلمون)تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها . وتعرض مذاقا يعرفه من ذاق مثله , فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب . .
والقلب الذي ذاق هذا المذاق لا تبلغ الشدائد منه - مهما بلغت - إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق ! ولا نملك أن نزيد . ولكننا نحمد الله على فضله في هذا , وندع ما بيننا وبينه له يعلمه سبحانه ويراه . .
ثم يوجههم يعقوب إلى تلمس يوسف وأخيه ; وألا ييأسوا من رحمة الله , في العثور عليهما , فإن رحمة الله واسعة وفرجه دائما منظور:
(يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه , ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). .
فيا للقلب الموصول !!!
(يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه). .
تحسسوا بحواسكم , في لطف وبصر وصبر على البحث . ودون يأس من الله وفرجه ورحمته . وكلمة "روح" أدق دلالة وأكثر شفافية . ففيها ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما ينسم على الأرواح من روح الله الندي:
(إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). .
فأما المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله , الندية أرواحهم بروحه , الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية , فإنهم لا ييأسون من روح الله ولو أحاط بهم الكرب , واشتد بهم الضيق . وإن المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه , وفي أنس من صلته بربه , وفي طمأنينة من ثقته بمولاه , وهو في مضايق الشدة ومخانق الكروب . . .
الدرس الثالث:88 - 93 بين يوسف وأخوته تعارف وتسامح
ويدخل إخوة يوسف مصر للمرة الثالثة , وقد أضرت بهم المجاعة , ونفذت منهم النقود , وجاءوا


فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
ببضاعة رديئة هي الباقية لديهم يشترون بها الزاد . . يدخلون وفي حديثهم انكسار لم يعهد في أحاديثم من قبل , وشكوى من المجاعة تدل على ما فعلت بهم الأيام:
(فلما دخلوا عليه قالوا:يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر , وجئنا ببضاعة مزجاة , فأوف لنا الكيل وتصدق علينا , إن الله يجزي المتصدقين). .
وعندما يبلغ الأمر بهم إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار لا تبقى في نفس يوسف قدرة على المضي في تمثيل دور العزيز , والتخفي عنهم بحقيقة شخصيته . فقد انتهت الدروس , وحان وقت المفاجأة الكبرى التي لا تخطر لهم على بال ; فإذا هو يترفق في الإفضاء بالحقيقة إليهم , فيعود بهم إلى الماضي البعيد الذي يعرفونه وحدهم , ولم يطلع عليه أحد إلا الله:
(قال:هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ?)!!
ورن في آذانهم صوت لعلهم يذكرون شيئا من نبراته . ولاحت لهم ملامح وجه لعلهم لم يلتفتوا إليها وهم يرونه في سمت عزيز مصر وأبهته وشياته . والتمتع في نفوسهم خاطر من بعيد:
(قالوا:أئنك لأنت يوسف ?). .
أئنك لأنت ?! فالآن تدرك قلوبهم وجوارحهم وآذانهم ظلال يوسف الصغير في ذلك الرجل الكبير . .
(قال:أنا يوسف . وهذا أخي . قد من الله علينا . إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). .
مفاجأة ! مفاجأة عجيبة . يعلنها لهم يوسف ويذكرهم في إجمال بما فعلوه بيوسف وأخيه في دفعة الجهالة . . ولا يزيد . . سوى أن يذكر منة الله عليه وعلى أخيه , معللا هذه المنة بالتقوى والصبر وعدل الله في الجزاء . أما هم فتتمثل لعيونهم وقلوبهم صورة ما فعلوا بيوسف , ويجللهم الخزي والخجل وهم يواجهونه محسنا إليهم وقد أساءوا . حليما بهم وقد جهلوا . كريما معهم وقد وقفوا منه موقفا غير كريم:
(قالوا:تالله لقد آثرك الله علينا , وإن كنا لخاطئين). .
اعتراف بالخطيئة , وإقرار بالذنب , وتقرير لما يرونه من إيثار الله له عليهم بالمكانة والحلم والتقوى والإحسان . يقابله يوسف بالصفح والعفو وإنهاء الموقف المخجل . شيمة الرجل الكريم . وينجح يوسف في الابتلاء بالنعمة كما نجح من قبل في الابتلاء بالشدة . إنه كان من المحسنين .
(قال:لا تثريب عليكم اليوم . يغفر الله لكم , وهو أرحم الراحمين). .
لا مؤاخذة لكم ولا تأنيب اليوم . فقد انتهى الأمر من نفسي ولم تعد له جذور . والله يتولاكم بالمغفرة وهو أرحم الراحمين . . ثم يحول الحديث إلى شأن آخر . شأن أبيه الذي ابيضت عيناه من الحزن . فهو معجل إلى تبشيره . معجل إلى لقائه . معجل إلى كشف ما علق بقلبه من حزن , وما ألم بجسمه من ضنى , وما أصاب بصره من كلال:
(اذهبوا بقميصي هذا , فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا , وأتوني بأهلكم أجمعين). .
كيف عرف يوسف أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل ? ذلك مما علمه الله . والمفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة . . وما لها لا تكون خارقة ويوسف نبي رسول ويعقوب نبي رسول ?


وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
الدرس الرابع:94 - 98 فرح يعقوب بيوسف وعودة بصره له
ومنذ اللحظة نحن أمام مفاجأة في القصة بعد مفاجأة , حتى تنتهي مشاهدها المثيرة بتأويل رؤيا الصبي الصغير .
(ولما فصلت العير قال أبوهم:إني لأجد ريح يوسف . لولا أن تفندون !). .
ريح يوسف ! كل شيء إلا هذا . فما يخطر على بال أحد أن يوسف بعد في الأحياء بعد هذا الأمد الطويل . وأن له ريحا يشمها هذا الشيخ الكليل !
إني لأجد ريح يوسف . لولا أن تقولوا شيخ خرف: (لولا أن تفندون). . لصدقتم معي ما أجده من ريح الغائب البعيد .
كيف وجد يعقوب ريح يوسف منذ أن فصلت العير . ومن أين فصلت ? يقول بعض المفسرين:إنها منذ فصلت من مصر , وأنه شم رائحة القميص من هذا المدى البعيد . ولكن هذا لا دلالة عليه . فربما كان المقصود لما فصلت العير عند مفارق الطرق في أرض كنعان , واتجهت إلى محلة يعقوب على مدى محدود .
ونحن بهذا لا ننكر أن خارقة من الخوارق يمكن أن تقع لنبي كيعقوب من ناحية نبي كيوسف . كل ما هنالك أننا نحب أن نقف عند حدود مدلول النص القرآني أو رواية ذات سند صحيح . وفي هذا لم ترد رواية ذات سند صحيح . ودلالة النص لا تعطي هذا المدى الذي يريده المفسرون !
ولكن المحيطين بيعقوب لم يكن لهم ما له عند ربه , فلم يجدوا ما وجد من رائحة يوسف:
(قالوا:تالله . إنك لفي ضلالك القديم). .
في ضلالك بيوسف , وضلالك بانتظاره وقد ذهب مذهب الذي لا يعود .
ولكن المفاجأة البعيدة تقع , وتتبعها مفاجأة أخرى:
(فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه , فارتد بصيرا). .
مفاجأة القميص . وهو دليل على يوسف وقرب لقياه . ومفاجأة ارتداد البصر بعد ما ابيضت عيناه . . وهنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه . تلك التي حدثهم بها من قبل فلم يفهموه:
(قال:ألم أقل لكم:إني أعلم من الله ما لا تعلمون ?). .
(قالوا:يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين). .
ونلمح هنا أن في قلب يعقوب شيء من بنيه , وأنه لم يصف لهم بعد , وإن كان يعدهم باستغفار الله لهم بعد أن يصفو ويسكن ويستريح:
قال:سوف استغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم .
وحكاية عبارته بكلمة(سوف)لا تخلو من إشارة إلى قلب إنساني مكلوم . .
الدرس الخامس:99 - 100 اجتماع الأسرة وتأويل رؤيا يوسف
ويمضي السياق في مفاجآت القصة . فيطوي الزمان والمكان , لنلتقي في المشهد النهائي المؤثر المثير:
(فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه . وقال:ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين . ورفع أبويه على العرش , وخروا له سجدا , وقال:يا أبت , هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا , وقد أحسن بي إذ أخرجني


فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
من السجن وجاء بكم من البدو , من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي . إن ربي لطيف لما يشاء , إنه هو العليم الحكيم). .
ويا له من مشهد ! بعد كر الأعوام وانقضاء الأيام . وبعد اليأس والقنوط . وبعد الألم والضيق . وبعد الامتحان والابتلاء . وبعد الشوق المضني والحزن الكامد واللهف الضاميء الشديد .
يا له من مشهد حافل بالانفعال والخفقات والفرح والدموع !
ويا له من مشهد ختامي موصول بمطلع القصة:ذلك في ضمير الغيب وهذا في واقع الحياة . ويوسف بين هذا كله يذكر الله ولا ينساه:
(فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه , وقال:ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين). .
ويذكر رؤياه ويرى تأويلها بين يديه في سجود إخوته له - وقد رفع أبويه على السرير الذي يجلس عليه - كما رأى الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين:
(ورفع أبويه على العرش , وخروا له سجدا , وقال:يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا). .
ثم يذكر نعمة الله عليه:
(وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي). .
ويذكر لطف الله في تدبيره لتحقيق مشيئته:
(إن ربي لطيف لما يشاء). .
يحقق مشيئته بلطف ودقة خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها:
(إنه هو العليم الحكيم). .
ذات التعبير الذي قاله يعقوب وهو يقص عليه رؤياه في مطلع القصة:
(إن ربك عليم حكيم). .
ليتوافق البدء والختام حتى في العبارات .
الدرس السادس:101 يوسف يطلب من الله الوفاة على الإيمان
وقبل أن يسدل الستار على المشهد الأخير المثير , نشهد يوسف ينزع نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج والجاه والسلطان , والرغد والأمان . . . ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر ! كل دعوته - وهو في أبهة السلطان , وفي فرحة تحقيق الأحلام - أن يتوفاه ربه مسلما وأن يلحقه بالصالحين:
(رب قد آتيتني من الملك , وعلمتني من تأويل الأحاديث . فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة . توفني مسلما وألحقني بالصالحين). .
(رب قد آتيتني من الملك). .
آتيتني منه سلطانه ومكانه وجاهه وماله . فذلك من نعمة الدنيا .
(وعلمتني من تأويل الأحاديث). .
بإدراك مآلاتها وتعبير رؤاها . فذلك من نعمة العلم .


رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
نعمتك يا ربي أذكرها وأعددها . .
(فاطر السماوات والأرض). .
بكلمتك خلقتها وبيدك أمرها , ولك القدرة عليها وعلى أهلها . .
(أنت وليي في الدنيا والآخرة). .
فأنت الناصر والمعين . .
رب تلك نعمتك . وهذه قدرتك .
رب إني لا أسألك سلطانا ولا صحة ولا مالا . رب إني أسألك ما هو أبقى وأغنى:
(توفني مسلما وألحقني بالصالحين). .
وهكذا يتوارى الجاه والسلطان , وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان . ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه , وأن يلحقه بالصالحين بين يديه .
إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير . .
الوحدة السادسة 102 - 111 تعقيبات على قصة يوسف
انتهت قصة يوسف لتبدأ التعقيبات عليها . تلك التعقيبات التي أشرنا إليها في مقدمة الحديث عن السورة . وتبدأ معها اللفتات المتنوعة واللمسات المتعددة , والجولات الموحية في صفحة الكون وفي أغوار النفس وفي آثار الغابرين , وفي الغيب المجهول وراء الحاضر المعلوم . فنأخذ في استعراضها حسب ترتيبها في السياق . وهو ترتيب ذوهدف معلوم .
الدرس الأول:102 دلالة قصة يوسف على نبوة محمد عليهما السلام
تلك القصة لم تكن متداولة بين القوم الذين نشأ فيهم محمد [ ص ] ثم بعث إليهم . وفيها أسرار لم يعلمها إلا الذين لامسوها من أشخاص القصة , وقد غبرت بهم القرون . وقد سبق في مطلع السورة قول الله تعالى لنبيه:
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن , وإن كنت من قبله لمن الغافلين). .
فها هو ذا يعقب على القصة بعد تمامها , ويعطف ختامها على مطلعها:
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك , وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون . .
ذلك القصص الذي مضى في السياق من الغيب الذى لا تعلمه ; ولكننا نوحيه إليك وآية وحيه أنه كان غيبا بالقياس إليك . وما كنت معهم إذ اجتمعوا واتفق رأيهم , وهم يمكرون ذلك المكر الذي تحدثت عنه القصة في مواضعه . وهم يمكرون بيوسف , وهم يمكرون بأبيهم , وهم يدبرون أمرهم بعد أخذ أخيه وقد خلصوا نجيا وهو من المكر بمعنى التدبير . وكذلك ما كان هناك من مكر بيوسف من ناحية النسوة ومن ناحية رجال الحاشية وهم يودعونه السجن . . كل أولئك مكر ما كنت حاضره لتحكي عنه إنما هو الوحي الذي سيقت السورة لتثبته من بين ما تثبت من قضايا هذه العقيدة وهذا الدين , وهي متناثرة في مشاهد القصة الكثيرة .
الدرس الثاني:103 - 108 بين الرسول وبين المشركين وسبيله في الدعوة
ولقد كان من مقتضى ثبوت الوحي , وإيحاء القصص , واللفتات واللمسات التي تحرك القلوب , أن يؤمن الناس بهذا القرآن , وهم يشهدون الرسول [ ص ] ويعرفون أحواله , ثم يسمعون منه ما يسمعون . ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . وهم يمرون كذلك على الآيات المبثوثة في صفحة الوجود فلا ينتبهون إليها , ولا يدركون مدلولها , كالذي يلوي صفحة وجهه فلا يرى ما يواجهه . فما الذي ينتظرونه ? وعذاب الله قد يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون:
وما أكثر الناس - ولو حرصت - بمؤمنين . وما تسألهم عليه من أجر , إن هو إلا ذكر للعالمين . وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون . أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ? . .
ولقد كان الرسول [ ص ] حريصا على إيمان قومه , رغبة في إيصال الخير الذي جاء به إليهم , ورحمة لهم مما ينتظر المشركين من نكد الدنيا وعذاب الآخرة . ولكن الله العليم بقلوب البشر , الخبير بطبائعهم وأحوالهم , ينهي إليه أن حرصه على إيمانهم لن يسوق الكثرة المشركة إلى الإيمان , لأنهم - كما قال في هذه الآيات - يمرون على الآيات الكثيرة معرضين . فهذا الإعراض لا يؤهلهم للإيمان , ولا يجعلهم ينتفعون بدلائله المبثوثة في الآفاق .


وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
وإنك لغني عن إيمانهم فما تطلب منهم أجرا على الهداية ; وإن شأنهم في الإعراض عنها لعجيب , وهي تبذل لهم بلا أجر ولا مقابل:
و ما تسألهم عليه من أجر , إن هو إلا ذكر للعالمين . .
تذكرهم بآيات الله , وتوجه إليها أبصارهم وبصائرهم , وهي مبذولة للعالمين , لا احتكار فيها لأمة ولا جنس ولا قبيلة , ولا ثمن لها يعجز عنه أحد , فيمتاز الأغنياء على الفقراء , ولا شرط لها يعجز عنه أحد فيمتاز القادرون على العاجزين . إنما هي ذكرى للعالمين . ومائدة عامة شاملة معروضة لمن يريد . .
وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . .
والآيات الدالة على الله ووحدانيته وقدرته كثيرة مبثوثة في تضاعيف الكون , معروضة للأبصار والبصائر . في السماوات وفي الأرض . يمرون عليها صباح مساء , آناء الليل وأطراف النهار . وهي ناطقة تكاد تدعو الناس إليها . بارزة تواجه العيون والمشاعر . موحية تخايل للقلوب والعقول . ولكنهم لا يرونها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون إيقاعها العميق .
وإن لحظة تأمل في مطلع الشمس ومغيبها . لحظة تأمل في الظل الممدود ينقص بلطف أو يزيد . لحظة تأمل في الخضم الزاخر , والعين الفوارة , والنبع الروي . لحظة تأمل في النبتة النامية , والبرعم الناعم , والزهرة المتفتحة , والحصيد الهشيم . لحظة تأمل في الطائر السابح في الفضاء , والسمك السابح في الماء , والدود السارب والنمل الدائب , وسائر الحشود والأمم من الحيوان والحشرات والهوام . . لحظة تأمل في صبح أو مساء , في هدأة الليل أو في زحمة النهار . . لحظة واحدة يتسمع فيها القلب البشري إلى إيقاعات هذا الوجود العجيب . . إن لحظة واحدة لكافية لارتعاش هذا القلب بقشعريرة الإدراك الرهيب , والتأثر المستجيب . ولكنهم (يمرون عليها وهم عنها معرضون). . لذلك لا يؤمن الأكثرون !
وحتى الذين يؤمنون , كثير منهم يتدسس الشرك - في صورة من صوره - إلى قلوبهم . فالإيمان الخالص يحتاج إلى يقظة دائمة تنفي عن القلب أولا بأول كل خالجة شيطانية , وكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض في كل حركة وكل تصرف , لتكون كلها لله , خالصة له دون سواه . والإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب وعلى التصرف والسلوك فلا تبقى في القلب دينونة إلا لله سبحانه , ولا تبقى في الحياة عبودية إلا للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد:
(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). .
مشركون قيمة من قيم هذه الأرض في تقريرهم للأحداث والأشياء والأشخاص . مشركون سببا من الأسباب مع قدرة الله في النفع أو الضر سواء . مشركون في الدينونة لقوة غير قوة الله من حاكم أو موجه لا يستمد من شرع الله دون سواه . مشركون في رجاء يتعلق بغير الله من عباده على الإطلاق . مشركون في تضحية يشوبها التطلع إلى تقدير الناس . مشركون في جهاد لتحقيق نفع أو دفع ضر ولكن لغير الله . مشركون في عبادة يلحظ فيها وجه مع وجه الله . . لذلك يقول رسول الله [ ص ]:" الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل " .


وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107)
وفي الأحاديث نماذج من هذا الشرك الخفي:
روى الترمذي - وحسنه - من رواية ابن عمر:" من حلف بغير الله فقد أشرك " .
وروى أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ ص ]:" إن الرقى والتمائم شرك " .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال:قال رسول الله [ ص ]:" من علق تميمة فقد أشرك " .
وعن أبي هريرة - بإسناده - قال:قال رسول الله [ ص ]:" يقول الله:أنا أغني الشركاء عن الشرك , من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه " .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد ابن أبي فضالة قال:سمعت رسول الله [ ص ] يقول:" إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد:من كان أشرك في عمل عمله لله , فليطلب ثوابه من عند غير الله , فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن محمود بن لبيد أن رسول الله [ ص ] قال:" إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا:وما الشرك الأصغر يا رسول الله ? قال:" الرياء . يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم:اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء " ?
فهذا هو الشرك الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان .
وهناك الشرك الواضح الظاهر , وهو الدينونة لغير الله في شأن من شؤون الحياة . الدينونة في شرع يتحاكم إليه - وهو نص في الشرك لا يجادل عليه - والدينونة في تقليد من التقاليد كاتخاذ أعياد ومواسم يشرعها الناس ولم يشرعها الله . والدينونة في زي من الأزياء يخالف ما أمر الله به من الستر ويكشف أو يحدد العورات التي نصت شريعة الله أن تستر . .
والأمر في مثل هذه الشؤون يتجاوز منطقة الإثم والذنب بالمخالفة حين يكون طاعة وخضوعا ودينونة لعرف اجتماعي سائد من صنع العبيد , وتركا للأمر الواضح الصادر من رب العبيد . . إنه عندئذ لا يكون ذنبا , ولكنه يكون شركا . لأنه يدل على الدينونة لغير الله فيما يخالف أمر الله . . وهو من هذه الناحية أمر خطير . .
ومن ثم يقول الله:
(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). .
فتنطبق على من كان يواجههم رسول الله في الجزيرة , وتشمل غيرهم على تتابع الزمان وتغير المكان .
وبعد فما الذي ينتظره أولئك المعرضون عن آيات الله المعروضة في صفحات الوجود , بعد إعراضهم عن آيات القرآن التي لا يسألون عليها أجرا ?
ماذا ينتظرون ?
(أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله , أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ?). .
وهي لمسة قوية لمشاعرهم , لإيقاظهم من غفلتهم , وليحذروا عاقبة هذه الغفلة . فإن عذاب الله الذي لا


قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
يعلم موعده أحد , قد يغشاهم اللحظة بغاشية تلفهم وتشملهم , وربما تكون الساعة على الأبواب فيطرقهم اليوم الرهيب المخيف بغتة وهم لا يشعرون . . إن الغيب موصد الأبواب , لا تمتد إليه عين ولا أذن , ولا يدري أحد ماذا سيكون اللحظة , فكيف يأمن الغافلون ?
و إذا كانت آيات هذا القرآن الذي يحمل دليل الرسالة , وكانت الآيات التي يحفل بها الكون معروضة للأنظار . . إذا كانت هذه وتلك يمرون عليها وهم عنها معرضون , ويشركون بالله شركا ظاهرا أو خفيا وهم الأكثرون . فالرسول [ ص ] ماض في طريقه ومن اهتدى بهديه , لا ينحرفون ولا يتأثرون بالمنحرفين:
(قل:هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني , وسبحان الله ! وما أنا من المشركين).
(قل:هذه سبيلي). .
واحدة مستقيمة , لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة .
(أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني). .
فنحن على هدى من الله ونور . نعرف طريقنا جيدا , ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة , لا نخبط ولا نتحسس , ولا نحدس . فهو اليقين البصير المستنير . ننزه الله - سبحانه - عما لا يليق بألوهيته , وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به:
(وما أنا من المشركين). .
لا ظاهر الشرك ولا خافيه .
هذه طريقي فمن شاء فليتابع , ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم .
وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز , لا بد لهم ان يعلنوا أنهم أمة وحدهم , يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم , ولا يسلك مسلكهم , ولا يدين لقيادتهم , ويتميزون ولا يختلطون ! ولا يكفي أن يدعو أصحاب هذا الدين إلى دينهم , وهم متميعون في المجتمع الجاهلي . فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة ! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية ; وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة , وعنوانه القيادة الإسلامية . . لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي ; وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضا !
إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي , وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية , يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم , وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم , وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة .
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين . . إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس . . وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصيلة , وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ !
والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية , والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام . . هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب ! . . إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن


وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109)
عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم ! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص ? وطريقهم الخاص ? وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية الدرس الثالث:159 سنة الله في الدعوات والهدف من القصص القرآني ?
ثم لفتة إلى سنة الله في رسالاته , وإلى بعض آيات الله في الأرض من مصائر السابقين . . إن محمدا ليس بدعا من الرسل , ورسالته ليست بدعا من الرسالات . وهذه عواقب الذين كذبوا من قبل , آيات معروضة في الأرض .
(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى . أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم , ولدار الآخرة خير للذين اتقوا , أفلا تعقلون ?).
إن النظر في آثار الغابرين يهز القلوب . حتى قلوب المتجبرين . ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم ; وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون , يخافون ويرجون , يطمعون ويتطلعون . . ثم إذا هم ساكنون , لا حس ولا حركة . آثارهم خاوية , طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم , ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر . . إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزا مهما يكن جاسيا غافلا قاسيا . ومن ثم يأخذ القرآن بيد القوم ليوقفهم على مصارع الغابرين بين الحين والحين:
(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى). .
لم يكونوا ملائكة ولا خلقا آخر . إنما كانوا بشرا مثلك من أهل الحاضرة , لا من أهل البادية , ليكونوا أرق حاشية وألين جانبا . . وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية , فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم . .
(أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ?). .
فيدركوا أن مصيرهم كمصيرهم ; وأن سنة الله الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم , وأن عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب:
ولدار الآخرة خير للذين اتقوا .
خير من هذه الدار التي ليس فيها قرار .
(أفلا تعقلون ?). .
فتتدبروا سنن الله في الغابرين ? أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير ?
ثم يصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل , قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله , وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد:
(حتى إذا استيأس الرسل , وظنوا أنهم قد كذبوا , جاءهم نصرنا , فنجي من نشاء , ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين).
إنها صورة رهيبة , ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل , وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود . وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل , وتكر الأعوام والباطل في قوته , وكثرة أهله , والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة .


حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
إنها ساعات حرجة , والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر . والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض . فتهجس في خواطرهم الهواجس . . تراهم كذبوا ? ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا ?
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر . وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه:متى نصر الله ? . . .)ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ , ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس , والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة , وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات , وما يحس به من ألم لا يطاق .
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب , ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل , ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة . . في هذه اللحظة يجيء النصر كاملا حاسما فاصلا:
(جاءهم نصرنا , فنجي من نشاء , ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين). .
تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد , ولا بد من الكروب , حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة . ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس . يجيء النصر من عند الله , فينجو الذين يستحقون النجاة , ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين , وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون . ويحل بأس الله بالمجرمين , مدمرا ماحقا لا يقفون له , ولا يصده عنهم ولي ولا نصير .
ذلك كي لا يكون النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلا . فلو كان النصر رخيصا لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئا . أو تكلفه القليل . ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثا ولا لعبا . فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج , ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء . والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة , لذلك يشفقون أن يدعوها , فإذا ادعوها عجزوا عن حملها وطرحوها , وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون ; الذين لا يتخلون عن دعوة الله , ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة !
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل ; إما أن تربح ربحا معينا محددا في هذه الأرض , وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة ! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية - والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعةوالاتباع في أي زمان أو مكان - يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة , ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل ! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود ! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله , باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات ! . . ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف , وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضا . وأنه من ثم لا تنضم إليها - في أول الأمر - الجماهير المستضعفة , إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله , التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة , وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا . وأن عدد هذه الصفوة يكون دائما قليلا جدا .


لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق , بعد جهاد يطول أو يقصر . وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجا .
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد . في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن . وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس . . ثم كانت العاقبة خيرا للذين اتقوا - كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب - وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين . فيها عبرة لمن يعقل , وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل , على غير صلة بين محمد وهذه الكتب . فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثا مفترى . فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضا ولا تحقق هداية , ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة:
(لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب , ما كان حديثا يفترى , ولكن تصديق الذي بين يديه , وتفصيل كل شيء , وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). .
خاتمة سورة يوسف
وهكذا يتوافق المطلع والختام في السورة , كما توافق المطلع والختام في القصة . وتجيء التعقيبات في أول القصة وآخرها , وبين ثناياها , متناسقة مع موضوع القصة , وطريقة أدائها , وعباراتها كذلك . فتحقق الهدف الديني كاملا , وتحقق السمات الفنية كاملة , مع صدق الرواية , ومطابقة الواقع في الموضوع .
وقد بدأت القصة وانتهت في سورة واحدة , لأن طبيعتها تستلزم هذا اللون من الأداء . فهي رؤيا تتحقق رويدا رويدا , ويوما بعد يوم , ومرحلة بعد مرحلة . فلا تتم العبرة بها - كما لا يتم التنسيق الفني فيها - إلا بأن يتابع السياق خطوات القصة ومراحلها حتى نهايتها . وإفراد حلقة واحدة منها في موضع لا يحقق شيئا من هذا كله كما يحققه إفراد بعض الحلقات في قصص الرسل الآخرين . كحلقة قصة سليمان مع بلقيس . أو حلقة قصة مولد مريم . أو حلقة قصة مولد عيسى . أو حلقة قصة نوح والطوفان . . . الخ فهذه الحلقات تفي بالغرض منها كاملا في مواضعها . أما قصة يوسف فتقتضي أن تتلى كلها متوالية حلقاتها ومشاهدها , من بدئها إلى نهايتها وصدق الله العظيم:
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن . وإن كنت من قبله لمن الغافلين). .


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire