الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

mardi 28 mai 2013

رأينا في قطب و انتمائه فهو من مدرسة اهل العدل و التوحيد و ليس مشبها و لا مجسما و يبقى صفحة مشرقة رغم كيد اعدائه من الداخل و الخارج سلاطني




كتاب

((في ظلال القرآن))

لسيد قطب - رحمه الله  -

ما له وما عليه


الجزء الأول
ويشمل الفصل الأول والثاني والثالث .



المحتويات

مــقــدمـــة
الفصل الأول : مآخذ متعلقة بصفات الله عز وجل .
أولاً : الاستواء .
ثانياً : الفوقية ( العلو ) .
ثالثاً : المعية .
رابعاً : النَفْس .
خامساً : الكلام .
سادساً : اليد .
 سابعاً : المحبة .
ثامناً :  الوجه .
تاسعاً : العين .
عاشراً : الـرؤيـة .
 الحادي عشر : رؤية الله سبحانه وتعالى .
 الثاني عشر : الاستماع ((السمع )) .
الثالث عشر : الاستهزاء .
الرابع عشر : القبض .
الخامس عشر : الإتيان والمجيء .
السادس عشر : التجلي للجبل .

الفصل الثاني : تكفير المسلمين .

الفصل الثالث : خلق القرآن والقول بالحلول .
أولاً : خلق القرآن .
ثانياً : وحدة الوجود .

الفصل الرابع : مآخذ عقدية أخرى .
أولاً : العرش .
ثانياً : الكرسي .
ثالثاً : الميزان .
 رابعاً : الرُوح .
خامساً : معجزات الرسول ودلائل النبوة .
سادساً : الشرك و عبادة الأوثان .
سابعاً : الإيمان وحدة لا تتجزأ .
ثامناً : تفسير لا إله إلا الله .
تاسعاً : الخلط بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية .
عاشراً : سيد وحجية خبر الآحاد في العقيدة .
الحادي عشر : اختصاص الله بالغيث اختصاص قدرة لا اختصاص علم .
الثاني عشر : خلق حواء .

الفصل الخامس : مآخذ أخرى .
أولاً : السماوات السبع .
 ثانياً : المراد بالجنة التي أخرج منها آدم عليه السلام .
رابعاً : من هم الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم .
خامساً : المراد بإبليس .
سادساً :  قال بل فعله كبيرهم هذا ...
سابعاً :  وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين . 
ثامناً : قلنا لهم كونوا قردة خاسئين .

الخاتمة .
مــقـدمـة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهدِ الله فلا مضلَ له، ومن يُضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
   
أمَّا بعد :
فإنَّه لا يُعرف كتابٌ كثُر فيه الكلام واختُلف فيه ككتاب " في ظلال القرآن " للأستاذ سيد قطب -رحمه الله- وقد كتب فيه من كتب وتكلم من تكلم بين قادح ومادح ، ومتعصبٍ له أو عليه ، والإنصاف عزيز .
وهذه دراسة متجردة - إن شاء الله - عن أي هوىً ، الحقُّ رائدها سواء لسيدٍ أو عليه ، وهدفها أن يعرف طلاب العلم ورواده ما على هذا الكتاب من خطأ أو صواب.

فجزى الله خيراً كلَّ من أعان على نشرها .

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الفصل الأول :


مآخذ متعلقة بصفات الله عز وجل

أولاً : الاستواء .

     أُخـذ على سيد في صـفـة الاسـتـواء ما قاله في آيــات الاستـواء في كـل من سـورة :             ( البقـرة آيـه 29 ) ، ( الأعراف آيـه 54 ) ، ( يونـس آيـه 3 ) ، ( الرعد آيـه 2 ) ، ( طـه آيـه 5 ) ، ( الفرقـان آيـه 59 ) ، ( السجدة آيـه 4 ) ، ( الحديـد آيـه 4 ) .
     وقد فسر سيد قطب الاستواء بالاستعـلاء والسيطرة وهذا خلاف منهج أهل السنة والجماعة .

أقوال سيد قطب رحمه الله في الاستواء :

     أولاً :  قال سيد في تفسير قوله تعالى } هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { ( البقرة آية 29 ) : " ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة ، والقصد بإرادة الخلق والتكوين ... الخ . 

     ثانياً :  قال سيد عند تفسير قوله تعالى } إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ { ( يونس آيه 3  ) قال :     " والاستواء على العرش كناية عن مقام السيطرة العلوية الثابتة الراسخة ، باللغة التي يفهمها البشر ويتمثلون بها المعاني ، على طريقة القرآن في التصوير ...
     و (( ثم )) هنا ليست للتراخي الزماني ، إنما هي للبعد المعنوي . فالزمان في هذا المقام لا ظـل لـه . وليست هناك حالة ولا هيئة لم تكن لله - سبحانه - ثم كانت . فهو - سبحانه - منزه عن الحدوث وما يتعلق به من الزمان والمكان . لذلك نجزم بأن (( ثم )) هنا للبعد المعنوي ، ونحن آمنون من أننـا لم نتجـاوز المنطقة المأمونة التي يحق فيها للعقل البشري أن يحكم ويجزم . لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات ، وعن مقتضيات الزمان والمكان . 

     ثالثاً :  قال سيد رحمه الله في تفسير قوله تعالى } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { ( طه آيه 5 )  قال : " والاستواء على العرش كناية عن غاية السيطرة والاستعلاء فأمر الناس إذن إليه وما على الرسول إلا التذكرة لمن يخشى ومع الهيمنة والاستعلاء الملك والإحاطة " . 

     رابعاً :  وقـال أيضاً  في تـفسير قوله تعـالى } الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً { ( الفرقان آيه 59 ) ، قال : " أما  الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ ثم لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة رتبة الاستواء والاستعلاء " . 

     خامساً : وقال في تفسير قولـه تعالى } اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ { ( السجدة آيه 4 ) : والاستواء على العرش رمز لاستعلائه على الخلق كله . أما العرش ذاته فلا سبيل إلى قول شيء عنه ، ولا بد من الوقوف عند لفظه . وليس كذلك الاستواء . فظاهر أنه كناية عن الاستعلاء . ولفظ .. ثم ، لا يمكن قطعاً أن يكون للترتيب الزمني ، لأن الله سبحانه ـ لا تتغير عليه الأحوال . ولا يكون في حال أو وضع - سبحانه - ثم يكون في حال أو وضع تال . إنما هو الترتيب المعنوي . فالاستعلاء درجة فوق الخلق ، يعبر عنها هذا التعبير .  
  
  سـادســاً : راجـع أيضاً مـا كـتـبـه في الـظــلال  ( 3 / 1296 ) ،  ( 4 / 2044 ) ، ( 6 / 3480 ) .

     نلاحظ من الأمثلة السابقة أنه يفسر الاستواء في الآيات بمعنى : "  السيطرة العلوية والاستعلاء " ، وهذا خطأ كما سبق بيانه .

ذكر كلام من تعقب سيد في صفة الاستواء

     أولاً :  قال الشيخ ربيع المدخلي بعد أن ساق كلام سيد في الاستواء : إن في (( الظلال )) و (( التصوير )) تعطيل لصفة الاستواء .
     وقال أيضاً : إنه معطل لعدد من الصفات ، كالاستواء ، والنزول ، واليد ، ولا يستبعد انه يجري على هذا المنوال في كل الصفات . 

     ثانياً :  قال الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله تعليقاً على ما كتبـه سيد قطب في سورة البقرة آيه 29 - راجع الفصل السابق أولاً - : أقول هذا باطل من وجوه :

     الوجه الأول :  إن هذا خلاف ما قاله المحققون من المفسرين ، قال ابن جرير في تفسيره الكبير : وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه ثم استوى إلى السماء فسواهن : علا عليهن وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سموات . وقال ابن كثير في تفسيره استوى إلى السماء أي قصد إلى السماء والاستواء هاهنا مضمن معنى القصد والإقبال لأنه عدي بإلى . وقال البغوي : ثم استوى إلى السماء قال ابن عباس واكثر مفسري السلف أي ارتفع إلى السماء .

     الوجه الثاني :  قوله رمز السيطرة ، يفهم منه أن السماء كانت ملكاً لغيره ثم سيطر عليها وهذا لا يقوله عاقل فعلم أنه باطل . أ .هـ . 
     وقال أيضاً تعليقاً على كلام سيد قطب في الاستواء في تفسير آيات متعددة من الظلال - راجع الفصل السابق - :  أقول هذا قول الجهمية الضلال المعطلين وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة فإن الجهمية لم يصرحوا برد ألفاظ القرآن ولكن خالفوا السلف في المعنى المراد وقولهم إنه استولى لا يعرف في المسلمين إلا عن الجهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم . 

     وقال أيضاً قوله : الاستواء على العرش كناية عن مقام السيطرة الثابتة الراسخة باللغة التي يفهمها البشر كلام باطل . من وجوه ، تبلغ الأربعين منها :
 أن هذا لا يعرف في لغة العرب قال ابن الأعرابي وقد سئل عن ذلك فقال لا تعرف العرب ذلك وهو من أكابر أئمة اللغة.
 ومنها : أن تفسيره بالسيطرة يبطل تخصيص العرش بكونه استوى عليه فإنه مسيطر على جميع خلقه ومنها أن هذا تفسير بالرأي المجرد الذي لم يذهب إليه صاحب ولا تابع ولا قاله إمام من أئمة المسلمين والقول على الله بغير علم من اعظم الذنوب . 

     وقوله :  وثم هنا ليست للتراخي الزماني إنما هي للبعد المعنوي .
     باطل بل هي للترتيب المعنوي وهو أن الاستواء تأخر إلى ما بعد خلق السماوات والأرض ولو كان بمعنى الاستيلاء والسيطرة لكان العرش قبل خلق السماوات والأرض خارجاً عن سيطرة الله وقهره وهذا لا يقوله مسلم .

  
  وقوله :  ليست لله سبحانه هناك حالة ولا هيئة لم تكن لله سبحانه ثم كانت .
     أقول هذا تعطيل لصفة الاستواء التي وصف الله بها نفسه ، ولا نعطل صفة الله لأجل شناعة هذا القائل وتسميته ذلك حالة وهيئة ، قال الإمام احمد لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين . 
     وقوله : فهو سبحانه منزه عن الحدوث .
     يقال له وصف الله بما وصف به نفسه من استوائِه على عرشه وغيره لا محذور فيه ، ولا يلزم منه وصفه بالحدوث المنزه عنه لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه ، والذي ينزه عنه هو كونه من جنس شيء من المخلوقات . 

     وقوله : لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات وعن مقتضيات الزمان والمكان .
     فيقال له هذا نوع تجهم ، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، لما ذكر حديث عمران بن حصين (( كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء )) فزاد بعض الملاحدة وهو الآن على ما كان عليه قصد بها المتكلمة المتجهمة نفي الصفات التي وصف بها نفسه من استوائه على العرش والنزول وغير ذلك . فقالوا كان في الأزل ليس مستوياً على العرش وهو الآن على ما كان عليه فلا يكون على العرش لما يقتضي ذلك من التحول والتغير . 

     وقوله :  ثم استوى على العرش إن كان علوا فهذا أعلى .
     جوابه أن يقال هذا كلام شاك متحير لا يعرف قول أهل السنة من أهل البدع والذي يجب عليه ،  أن يجزم ويؤمن بأنه العلو على العرش حقيقة كما قال أهل السنة استوى علا وارتفع . 

     قوله : إن كان عظمة فهذا اعظم وهو الاستعلاء الخ كلامه .
     أقول هذا تأويل أهل البدع الذين لا يجعلون الاستواء حقيقة في العلو وإنما هو مجاز عن شيء آخر . 

     ملحوظة  :
 أورد الشيــخ محمـد المغــراوي كــلام سيـد في الاستــواء دون أن يعلــق عليـه  !! .




المدافعون عن سيد قطب في تأَويله لهذه الصفة :
     وممن دافع عن سيد قطب رحمه الله الدكتور صلاح الخالدي حيث قال : ... نخلص من هذا الكلام إلى تقرير أن سيد قطب يؤول صفة " الاستواء " على العرش في الطبعة الأولى من الظلال ، ويجعل الاستواء بمعنى الاستعلاء والسيطرة والهيمنة ، أو هو كناية عن الاستعلاء والسيطرة والهيمنة ، ويجعل هذا مرتبطاً بطريقة القرآن التعبيرية في تقريب المعاني الغيبية إلى الذهن الإنساني على أساس التصوير بالتخييل والتجسيم الفني . وإن لسيد دوافعه التي بيناها في تأويل  الاستواء وأنه عندما أوله بالاستعلاء ليس مع الجهمية والمعتزلة الذين أولوه بالاستيلاء . بل إن تأويله قريب إلى فهم السلف - وإن لم يكن متبعاً لهم في هذا التأويل - إن المعتزلة نفوا عن الله صفة الاستواء عندما حرفوها إلى الاستيـلاء ، وفـرق بعيد بين استوى واستولى . أما سيد فإنه لم ينف هذه الصفة ولم يحرفها . ولا أرى فرقاً بعيداً بين استوى واستعلى.
     لا أريد من هذا الكلام أن أصوب تفسير سيد للاستواء بالاستعلاء ، وأن أجعله هو فهم السلف وتفسيرهم له . لكن أريد أن أقرر مخالفته لتأويل المعتزلة والجهمية ، وأنه اجتهد في ذلك وحمله على معنى صحيح في لغة العرب . 

     وكذلك ما ذكره الخالدي من أن لتأويل سيد في الاستواء شواهد في لغة العرب ، قال : كلمة استوى في القرآن الكريم فقد أورد الفقيـه الدامغاني في كتابه (( قاموس القرآن )) ستة أوجه لها وهي : قصد ، واستقر ، وركب ، وقوي ، وعلا و أشبه ، وقهر واقتدر . 

     ولنا على كلام الدكتور صلاح الخالدي ملاحظات :

     أولاً :  قوله إن سيد يؤول صفة الاستواء على العرش في الطبعة الأولى من الظلال .
     أقول : كلامـه هذا ليس له أي سند صحيح من كتابات سيد في الظلال ، وذلك لأَنه قد أول الاستـواء في سـورة ( البـقـرة آيه 29 - الظلال 3 / 54 ) ، ( ويونس آيه 3 - الظلال 3 / 1762 ) ، ( والرعد آيه 2 - الظلال 4 /  2328  ) ، ( راجـع ما كتبتـه سابقـاً ) ، وهذه السور هي في الطبعة الثانية من الظلال تبين تأويل سيد للاستواء . وبهذا يسقط احتجاج الخالدي .

     ثانياً :  قوله إن تأويله قريب إلى فهم السلف الخ .
     بل الصحيح إن تأويل سيد للاستواء بالاستعلاء  والسيطرة بعيد عن كلام السلف ، ولكن يقال إن تأويله ليس كتأويل الجهمية والمعتزلة والأشاعرة .

     ثالثاً :  قوله إن كلمة استوى في القرآن الكريم لها ستة أوجه كما نقل عن الفقيه الدامغاني .
     فنقول : إن كلمـة استوى في القرآن على ثلاثة معاني مثلما قال الشيخ عبد الرحمن السعدي : استوى ترد فـي القـرآن على ثلاثـة معانـي : فتارة لا تعدى ، بالحـرف فيكـون معناها ، الكمال والتمام ، كما في قولـه عن موسى } وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى { . وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت         بـ " على " كقولـه تعالى } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى{  ،   } لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ{ . وتارة تكون بمعنى      " قصد " كما إذا عديت بـ " إلى " كمـا في هذه الآية   . أي : لمـا خلــق تعــالى الأرض ، قصد إلى خلــق السماوات فسواهـن سبـع سمـاوات ، فخلقهـا وأحكمها وأتقنهـا وهو بكل شي عليم  أ . هـ 

     والاستواء جاء بأربعة معاني كما قال السلف وهي بمعنى : العلو ، والارتفاع ، والاستقرار ، والصعود . 

     ونخلص مما سبق ذكره إلى أن سيد رحمه الله قد تأول صفة الاستواء على أنها كناية عن السيطرة والهيمنة والاستعلاء وهذا مجانب لقول أهل السنة والجماعة في هذه الصفة وموافق للمأولة في تعطيل هذه الصفة ، نسأل الله أن يعفوا عنا وعنه فإن العصمة لا تكون إلا للأنبياء . والله اعلم .

     تنبيه : المشهور عن الجهمية أنهم يؤولون الاستواء بالاستيلاء ،ولم يرد هذا التأويل عن سيد في الظلال مطلقاً إنما أوله تارة بالاستعلاء وتارة بالسيطرة .

ثانياً : الفوقية ( العلو )

     الفوقية والـعلـو صـفـة ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنـة ، قال تعالى } سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى { ، وقال تعالى } يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ  { . والعلو ثلاثة أقسام :
     1 - علو شأن . قال تعالى }  وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ { .
     2 - علو قهر . قال تعالى } وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ{ .
     3 - علو فوقية ( علو ذات )  } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { .

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فالسلف والأئمة يقولون : إن الله فوق سماواته مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، وإجماع سلف الأمة ، وكما علم المباينة والعلو بالمعقول الصريح ، الموافق للمنقول الصحيح ، وكما فطر الله على ذلك خلقه ، من إقرارهم به ، وقصدهم إياه سبحانه وتعالى .  

     ومما أخذ على سيد في علو الرحمن ما ذكره الشيخ محمد المغراوي والشيخ عبد الله الدويش رحمه الله وإليك أقوال سيد في المواطن التي انتقد فيها من الظلال :

     قال سيد قطب في تفسير قوله تعالى } وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ {  ( الأنعام آيه 61 ) قال : " فهو صـاحـب السـلطان القاهر ، وهم تحت سيطرته وقهره . هم ضعاف في قبضة هذا السـلطان ، لا قـوة لـهم ولا ناصر . هم عباد . والقهر فوقهم . وهم خاضعون له مقهورون ... وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة .. وهذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس - مهما ترك لهم من الحرية ليتصرفوا ، ومن العلم ليعرفوا ، ومن القدرة ليقوموا بالخلافة - إن كل نفس من أنفاسهم بقدر ، وكل حركة في كيانهم خاضعة لسلطان الله بما أودعه في كيانهم من ناموس لا يملكون أن يخالفوه . وإن كان هذا الناموس يجري في كل مرة بقدر خاص حتى في النفس والحركة ! .   

     قال الشيخ محمد المغراوي تعليقـاً على كلام سيد السابق : ينبغي أن يثبت العلو ثم يذكر لوازمه ، انظر الرد على القرطبي في تأويل هذه الصفة .  

     وقال الشيخ الدويش رحمه الله تعليقاً على كلام سيد السابق في سورة الأنعام : أقول مذهب أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله تعالى العلو على ما يليق بجلال الله وعظمته علو الذات  وعلو القهر وعلو القدر . أما أهل البدع فإنهم لا يثبتون علو الذات وهذا ظاهر كلامه لأنه ما قرر إلا فوقية القهر والسيطرة ولم يذكر علو الذات والآية صريحة في إثبات ذلك كما قرره أهل السنة والجماعة كابن القيم في كتابه الصواعق ، والذهبي في العلو ،  وعبد الرحمن ابن حسن كما في مجموعة التوحيد ،  والدرر السنية وغيرهم والله اعلم . 

     هذا الذي أُخذ على سيد في صفة العلو لله تعالى . ولكن قول الشيخين المغراوي والدويش السابق غير مسلم به ، فكون سيد لم يـذكـر علو الذات لله تعالى في هذه الآية لا يعني أنه أنكر علو الذات له سبحانه . فهو أثبت العلو لله تعالى في تفسير آيات أخر وإليك الأمثلة :

     أولاً :  قال في تفسير آية الكرسي  }  وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ {  ( البقرة آيه 225 ) : " وهذه خاتمة الصفات في الآية تقرر حقيقة ،  وتوحي للنفس بهذه الحقيقة وتفرد الله سبحانه بالعلو وتفرده سبحانه بالعظمة فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر فلم يقل وهو علي عظيم ليثبت الصفة مجرد إثبات ولكنه قال العلي العظيم ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك إنه المتفرد بالعلو المتفرد بالعظمة .... " . 
     ثانياً :  وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى } قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً ، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً {  الإسراء آيه 42 - 44  : " وذكر العرش هنا يوحي بالارتفاع والتسامي على هذه الخلائق التي يدعون أنها آلـهـة " مع " الله . وهي تحت عرشه وليست معه ..    ويعقب على ذلك بتنزيه الله في علاه   } سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً  { .. إلى أن قـال رحـمه الله : كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء .. ومعها سكان السماء .. كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه .

     ثالثاً : وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى } إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ {  (فاطر آيه 10 ) :
 " ولهذا التعقيب المباشر بعد ذكر الحقيقة الضخمة مغزاها وإيحاؤها ، فهو إشارة إلى أسباب العزة ووسائلها لمن يطلبها عند الله القول الطيب والعمل الصالح . القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه والعمل الصالح الذي يرفعه الله إليه ويكرمه بهذا الارتفاع ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء " . 
     رابعاً : قال في تفسير قوله تعالى }  أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  { ( الشورى آية 5 ) : فيجمع إلى العزة والحكمة ، العلو والعظمة ثم المغفرة والرحمة ... ويعرف العباد ربهم بشتى صفاته . أ.هـ .

     وكـذلــك راجـع مـا كـتبه رحمه الله  وتفسير كل من سوره : (غافر آيه 15 ، الظلال 5 / 3073 ) وسورة ( الأعلى آيه 1 ، الظلال 6 / 3883 ) .

     بعد هذه الأمثلة التي سقناها لك في أن سيد قطب قد أثبت العلو لله تعالى يتضح لنا أن الشيخين الدويش رحمه الله والمغراوي قد جانبهما الصواب ، والصحيح أن سيد قطب يثبت لله العلو بإطلاق . والله تعالى اعلم .





ثالثاً : المعية

     أورد المغراوي في كتابه المفسرون كلام سيد في الظلال على صفة المعية دون أن يعلق عليه فقال :
     صفة المعية قال عند قوله تعالى :
  } هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {   ( الحديد آيه 4 ) .
     قال : } وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ{ وهي كلمة على الحقيقة لا على الكناية والمجاز فالله سبحانه مع كل أحد ومع كل شئ في كل وقت وفي كل مكان مطلع على ما يعلم ،  بصير بالعباد وهي حقيقة هائلة حين يتمثلها القلب حقيقة مذهلة من جانب ومؤنسة من جانب ، مذهلة يروعه الجلال ومؤنسة بظلال القربى ، وهي كفيلة وحدها حين يحسها القلب البشري على حقيقتها أن ترفعه وتظهره وتدعه مشغولاً بها عن كل أعراض الأرض كما تدعه في حذر دائم وخشية دائمة مع الحياة والتخرج من كل دنس ومن إسعاف . 

     هكذا أورده المغراوي دون أَي تعليق . والذي يظهر أنه تجاوز في الألفاظ ولا يعني سيد إن الله مع البشر بذاته سبحانه وتعالى . لأن سيد بين أنه يوجد فرق بين الخالق والمخلوق وان الخالق ليس كمثله شي . 

     ولأن سياق كلام سيد قطب على أن الله مطلع على عباده ناظرٌ إليهم وقريب منهم فهو لم يقصد أن الله معهم بذاته . 













رابعاً : النَــفْــس

     أهل السنـة والجماعة يثبتون النفْس ( بسكون الفاء ) لله تعالى ، ونفسه هي ذاته عز وجل ، وهي ثابتة بالكتاب والسنة . قال تعالى }  وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ { وقال } تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ { .
     ومن السلف من يعد ( النفس ) صفـة لله عز وجل ، كالإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد ، و عبد الغني المقدسي ، و البغوي .  

     ومما اخذ على سيد قطب رحمه الله في صفة النَفْس ما قاله عند تفسير قوله تعالى } لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ {  ( آل عمران آية 28 ) قال : ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكاً للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب ، فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقاً } وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ { أ . هـ . 

     وتفسير النفس بالنقمة والغضب خطأ ظاهر وهو نوع من أنواع التأويل لكن لسيد رحمه الله مواطن أخرى في الظلال يضيف النفس إلى الله عز وجل دون تأويل من ذلك :

     أولاً : قال عند تفسير قوله تعالى } يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ {  ( آل عمران آيه 30 ) : " ثم يتابع سياق الجملة على القلب البشري فيكرر تحذير الله للناس نفسه  سبحانه " .    

     ثانياً :  وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى } قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ { ( الأنعام آية 12 ) قـال : فهـو سبحانه المالك ، لا ينازعه منازع ، ولكنه - فضلاً منه ومنة - كتب على نفسه الرحمة . كتبها بإرادته ومشيئته ، لا يوجبها عليه موجب ، ولا يقترحهـا عليه مقترح ، ولا يقتضيها منه مقتض - إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة - وهي - الرحمة - قاعدة قضائه في خلقه ، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة .. والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقومات التصور الإسلامي ...  إلى أن قال  } كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ  { وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر سياتي : } كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة { إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفصيل الذي أشرنا من قبل إليه تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده ... تفضله - سبحانه - بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصـورة ... مكتوبة عليـه .. كتبهـا هو على نفسـه ، وجعلها عهداً منه لعباده ... بمحض إرادته ومطلق مشيئته ... وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها ، حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة . 

     ثالثاً :  وقال أيضاً عند تفسير قوله تعالى } وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ { ( الأنعام آية  54 )
 : ويمضي السياق يأمر رسول الله ـ صلى الله عليـه وسلـم ـ وهو رسول الله أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالإسلام ، والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف ! .. أن يبدأهم بالسلام .. وأن يبشرهم بما كتبه الله على نفسـه من الرحمة ، متمثلاً في مغفرته لمن عمل منهم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده واصلح : ... إلى أن قال : ويأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغهـم ما كتبـه ربهـم على نفسـه . وحتى لتبلـغ الرحـمـة أن يشمـل العفو والمغفرة الذنب كله .   


خامساً : الكلام

     صفة الكلام ثابتة لله تعالى ، قال تعالى } وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه { وقال } وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً { 

     ومما اخذ على سيد رحمه الله في صفة الكلام لله تعالى ما ذكره الشيخ عبد الله الدويش والشيخ المغراوي وربيع المدخلي وإليك البيان :

مآخذ على سيد قطب في تأويله لصفة الكلام
     أولاً : قال سيد عند تفسير قوله تعالى } وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً { ( النساء آية 164 ) " كلهم تلقى الوحي من الله . فما جاء بشيء من عنده . وإذا كان الله قد كلم موسى تكليماً فهو لون من الوحي لا يعرف أحد كيف كان يتم . لأن القرآن - وهو المصدر الوحيد الصحيح الذي لا يرقى الشك إلى صحته - لم يفصل لنا في ذلك شيئاً . فلا نعلم إلا انه كان كلاماً . ولـكن ما طبيعته ؟ كيف تم ؟ بأية حاسة أو قوة كان موسى يتلقاه ؟ ... كل ذلك غيب من الغيب لم يحدثنا عنه القرآن . وليس وراء الـقرآن - في هـذا البـاب - إلا أساطير لا تستند إلى برهان " .   

     ثانياً : قال سيد عند تفسير قولـه تعالى } وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ { ( الأعراف آية  143 ) :
 " ثم يأتي السياق للمشهد التاسع المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى عليه السلام مشهد الخطاب المباشر بين الجليل سبحانه وعبد من عباده . المشهد الذي تتصل فيه الذرة المحدودة الفانية بالوجود الأزلي الأبدي بلا واسطة . ويطيق الكائن البشري أن يتلقى عن الخالق الأبدي ، وهو بعد على هذه الأرض . ولا ندري نحن كيف ... ولا ندري كيف كان كلام الله سبحانه لعبده موسى . ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله . فنتصور هذا على وجه الحقيقة ،  متعذر علينا نحن البشر المحكومين في تصوراتنا بنصيبنا المحدود من الطاقة المدركة وبرصيدنا المحدود من التجارب الواقعة .  

     ثالثاً : وقال سيد في الظلال في تفسير قوله تعالى } وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً { ( مريم آية 52 ) : " ويبين فضل موسى بندائه من جانب الطور الأيمن ( الأيمن بالنسبة لموسى إذ ذاك ) وتقريبه إلى الله لدرجة الكلام . الكلام القريب في صورة مناجاة ونحن لا ندري كيف كان هذا الكلام وكيف أدرك موسى أكان صوتاً تسمعه الأذان أم يتلقاه الكيان الإنساني كله .
     ولا نعلم كيف أعد الله كيان موسى البشري لتلقي كلام الله الأزلي إنما نؤمن انه كان . وهو على الله هين أن يصل مخلوقه به بطريقة من الطرق ،  وهو بشر على بشريته ، وكلام الله علوي على علويته . ومن قبل كان الإنسان إنساناً بنفخة من روح الله " . 

     رابعاً : وقال في تفسير قوله تعالى } فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى  ، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً {  ( طه آية 11 ـ 12 ) : " نودي بهذا البناء للمجهول . فما يمكن تحديد مصدر النداء ولا اتجاهه . ولا تعيين صورته ولا كيفيته . ولا كيف سمعه موسى أو تلقاه .. نودي بطريقة ما ،  فتلقى بطريقة ما . فذلك من أمر الله الذي نؤمن بوقوعه ، ولا نسأل عن كيفيته ، لأن كيفيتـه وراء مدارك البشر وتصورات الإنسان " . 

     بعد استعرا ضنا لكلام سيد في صفة الكلام نقول وبالله التوفيق :

فصل في ذكر أقوال من نسب إلى سيد نفي الكلام عن الله تعالى

     أولاً : قال الشيخ عبد الله الدويش تعليقاً على كلام سيد في سورة النساء " أقول قوله بأية حاسة أو قوة كان موسى يتلقاه إلخ يدل على أنه لا يعرف اعتقاد أهل السنة والجماعة في هذا الباب وإلا لو عرفه لم يقل ما قاله من الخزعبلات وهذا الذي اثمره الجهل بقول أهل السنة والجماعة جره إلى أن جعل أدلة الكتاب والسنة لا تستند إلى برهان وإلا فظاهر القرآن والسنة يدلان على أن موسى سمع كلام الله بأذنيه ولذلك يقال له كليم الرحمن وقال أهل السنة إن كلام الله مسموع بالآذان سمعه من شاء الله من يخلقه كما سمعه جبريل وسمعه موسى عليه السلام بلا واسطة وقد ذكر بابسط من هذا عند التنبيه على قوله وناديناه من جانب الطور الأيمن والله اعلم" 

     ثانياً : وقال أيضاً تعليقاً على كلامه في سورة مريم  : " أقول أما قوله ونحن لا ندري كيف هذا الكلام إن كان قصده كنه ذلك فهذا صحيح وإن كان قصده نفي صفة الكلام ونفي كونه بحرف وصوت فهذا قول أهل البدع كالجهمية والمعتزلة ونحوهم أما أهل السنة فيقولون إن الله يتكلم بحرف وصوت ... "

     وقال : " وأما قول هذا المتحير وكيف ادركه موسى فيقال له بل قد دل الكتاب والسنة على أن موسى سمع كلام الله بأذنيـه وهذا قول أهل السنة والجماعة كما تقدم لأن الصوت هو ما يتأتى سماعـه بالأذن واما قوله أم يتلقاه الكيان الإنساني كله فهذا باطل وخلاف لظاهر الأدلة الدالـة على أن الله يتكلم بحرف وصوت وليس هو المعنى النفسي الذي يدرك بدون أن يسمع من الله ... " . 

     وقال : " واما قوله (( لتلقى كلام الله الأزلي )) . فهذا كلام أهل البدع وأما أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون يتكلم إذا شاء وقالوا هو قديم النوع حادث الآحـاد . والله اعلم " . 

     ثالثاً : قال المغراوي في تعليقه على كلام سيد في سورة الأعراف  : " ما ذكره سيد قطب من أنا لا ندري بأية حاسة أدرك موسى كلام الله تبارك وتعالى فظاهر الآية القرآنية على أن موسى سمع كلام الله بأذنيه وأدرك بقلبه على سنة الله في خلقه في أي بشر . فهذا هو الأصل حتى يأتي دليل يخرجه عن هذا الأصل والدليل مفقود وليست هناك إلا أساطير وإسرائيليات  حكاها بعض المفسرين رجماً بالغيب . واما كلام الله لعبده موسى فكان بصوت وحرف صدر منه تعالى كيف شاء "

     رابعاً : قال ربيع بن هادي المدخلي تعليقاً على كلام سيد في سورة الأعراف وسورة طـه ، هكذا يـقـول  :
 (( بالبناء للمجهول ، فلا يمكن تحديد مصدر النداء )) ، فهو لا يؤمن بأن هذا النداء من الله ، مع صراحة قوله تعالى في الآية : } إِنِّي أَنَا رَبُّكَ  { ، في أن النداء من الله ، ولا يؤمن بأن موسى سمع هذا النداء من الله !
     وكأنـه لم يسمع قول الله : } إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً { وقولـه : } وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً{  !! فـمـا فـائـدة قـولـه : (( فـذلـك مـن أمـر الله نؤمـن بوقوعه )) ؟! 

     وقال أيضاً : وهذا تشكيك بالغ النهاية وفيه تأييد لمذهب أهل الضلال من الجهمية والمعتزلة والخوارج ، وخذلان لمذهب أهل الحق ، أهل السنة والجماعة . ثم ما فائدة تمويهه بقوله : (( فذلك من أمر الله نؤمن بوقوعـه )) وهو لا يؤمن بأن مصدره هو الله ، ولا يؤمن بسماع موسى لكلام الله … . وهكذا أوقع نفسه ومن يتأثر بكلامه في هوة البدعة والجمود لكلام الله تعالى . وعلى كل حال فالرجل مغرق في إنكار أن الله يتكلم مغرق في القول بخلق القرآن . وهل قالت الجهمية والمعتزلة اكثر من هذا ؟! .
     وهل فطرة سيد السليمـة قادتـه إلى هذا القول الخطير في القرآن العظيم وفي كلام الله عموماً ؟! ….. . 

     وبعد أن استعرضنا كلام سيد وكلام خصومه ، يتبادر إلى أذهاننا بعض التساؤلات :
ما هو معتقد سيد في صفة الكلام لله عز وجل ؟
وهل يثبتها إجمالاً أم ينفيها كلية ؟
     - وهل يثبتها على طريقة أهل السنة والجماعة بالتفصيل أم لا ؟

     هذا ما سوف نجيب عنه بإذن الله تعالى ، فنقول :

     أولاً : إن سيد رحمه الله تعالى لم ينفِ عن الله صفة الكلام بل أثبت أن الله يتكلم في نفس المواضع التي لامه فيها خصومه وإليك الأمثلة :
     1 - قال في تفسير سورة البقرة آيه 75 }  أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ...  { : " ألا إنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء . فللإيمان طبيعة أخرى ، واستعداد آخر . إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة ، مفتحة المنافذ للأضواء ، مستعدة للاتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء . وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى . هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تحرفه من بعد تعقله " .

     2 - قال في تـفسـير سـورة النـسـاء آيه 164 : " وإذا كان الله قد كلم موسى تكليماً " ... " فلا نعلم إلا انه كان كلاماً " .  
     3 - وقال في تفسير سورة الأعراف آيه 143 : " … المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى عـلـيه السلام مشهد الخـطاب المباشر بين الجليل سبحانه وعبده موسى "
     " ولا ندري كـيـف كـان كلام الله سبـحانه لعبده مـوسى . ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله " ... " إنها الوهلة المذهلة وموسى يتلقى كلمات ربه " . 
     4 - وقال أيضاً في تفسير سورة مريم آيه 52 : " ويبين فضل موسى بندائه من جانب الـطـور الأيمن وتـقريـبه إلى الله لدرجة الكلام " ... " ولا نعلم كيف اعد الله كيان موسى البشري لتلقي كلام الله الأزلي إنما نؤمن انـه كان " ... "  وكلام الله علوي على علويته "  . 
     5 - وقال في تفسير سورة الشـورى آيه 51 } وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ..... { " ويقطـع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسـان أن يكلمه الله مواجهـة … " 

وهناك مواطن أخرى أثبت فيهـا سيد صفة الكـلام أو أضافه إلى الله في الصفحات التالية : ( 84، 118 ، 721 ، 925 ، 1367 ، 1407 ، 1445 ، 1855 ،3169)
     ممـا سبـق يتبين لنا أن سيد رحمه الله لا ينفي صفة الكلام عن الله تعالى بل يثبتها إجمالاً ، وهذا واضح من كلامه فهو يثبت أن الله تعالى يتكلم ، ورحم الله الشيخ عبد الله الدويش فإنه لم يرمِ سيد بما رمـاه غـيره من نفي صـفـة الـكلام عن الله فقال الشيخ : إن كان قصده كنه ذلك فهذا صحيح وإن كـان قـصـده نفي صـفة الكلام ونفي كـونه بحرف وصوت فهذا قول أهل البدع … . 

     وكذلك الشيخ المغراوي فإنه لم يتهم سيد بأنه ينفي عن الله صفة الكلام بل خطأه في أمور أخرى كما سوف يأتي . أَبعد هذا يقال إن سيد ينفي عن الله صفة الكلام !! . سبحانك هذا بهتان عظيم .

     كان الأولى لربيع المدخلي أن لا يتهم سيد بنفي الكلام عن الله ، بل يبين خطأه بتجرد وأمانة علمية ، وعدم إخفاء الحقائق التي ذكرها سيد في إثبات الكلام لله تعالى ، من غير تضخيم الأخطاء الأخرى التي وقع فيها سيد في صفة الكلام لله تعالى . وسوف نأتي على ذكرها .
     ولا يفوتنا أن نبين أن سيد رحمه الله عندما تكلم على صفة الكلام لم يقل بما قاله أهل البدع عندما نفوا عن الله صفة الكلام من أنه الكلام النفسي الأزلي ... الخ . أو انه نفى عن الله الكلام كليةً ، بل أثبت لله الكلام كما مر معنا سابقاً .

     ثانياً : سيـد رحـمه الله وغفر له قد جانب طريقة أهل السنة والجماعة في تفاصيل متعلقة بإثبات صفة الكلام لله عز وجل ، ونسأل الله أن يغفر لنا وله الأخطاء ، وهي :
"  كيف تم كلام الله لموسى " أقول : فإن أهل السنـة يثبتون انه كلام بصوت وحرف .
"  وكيف تلقاه موسى ، و بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله " أقول : فإن أهل السنة يثبتون أن موسى تلقاه بأذنيه .
"  وكلام الله الأزلي " أقول : أهل السنة يثبتون أن الكلام من الصفات الفعلية فهو قديم النوع حادث الآحاد .

     الخلاصة :  سيد رحمه الله يثبت صفة الكلام لله عز وجل إجمالاً وبدون تفصيل فهو لا يعلم كيف تم الكلام ولا كيف تلقاه موسى مما يجعله يجانب طريقة أهل السنة في تفصيل هذا الإثبات ومع ذلك فهو لا يوافق أهل البدع في هذه التفاصيل بل يذكرها كتساؤلات ويفوض علمها إلى الله لأن القرآن ( في حدود علمه ) قد أعرض عنها . والله اعلم .











سادساً : اليد 

     اليد صفـة ذاتيـة خبريـة لله عـز وجـل ، وهـي ثابتة بالكتـاب والسنـة ، قـال تعالى } وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ{ ، وقال }  مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ  { .  

 ذكر أقوال سيد التي أُخذت عليه في صفة اليد

     أولاً : قال سيد في تفسير قوله تعالى } وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ{  ( المائدة آية 64  ) قال : وذلك من سوء تصور اليهود لله سبحانه فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك وقد قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة ! وقالوا : يد الله مغلولة ، يعللون بذلك بخلهم ، فالله - بزعمهم - لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل .. فكيف ينفقون ؟! .
     وقد بلغ من غلظ حسهم ، وجلافـة قلوبهم ، ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهـو البخـل بلفظـه المباشر ، فاختاروا لفظاً أشد وقاحـة وتهجماً وكفراً فقالوا : يد الله مغلولة ! .
     ويجئ الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم ، ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهـم  :  } غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا  { . وكذلك كانوا ، فهم أبخل خلق الله بمال ! .
     ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم ، ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم . وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب : } بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ   {
     وعطاياه التي لا تكف ولا تنفذ لكل مخلوق ظاهرة للعيان .. شاهدة باليد المبسوطة ، والفضل الغامر ، والعطاء الجزيل ، ناطقة بكل لسان . ولكن يهود لا تراها ، لأنها مشغولة عنها بالـلم والضم ، وبالكنود وبالجحود ، وبالبذاءة حتى في حق الله ! . 

     ثانياً :  وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى : } قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ {  ( ص آية 75 )  : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ؟ والله خالق لكل شئ . فلا بد أن تكون هناك خصوصية في خلق هذا الإنسان  تستحق هذا التنويه . هي خصوصية العناية الربانية بهذا الكائن وإبداعه  و نفخه من روح الله ، دلالة على هذه العناية .    

     ثالثاً :  وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى } وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {  ( الزمر آية 67 )  قال : نعم ما قدروا الله حق قدره ، وهم يشركون به بعض خلقه . وهم لا يعبدونه حق عبادته . وهم لا يدركون وحدانيته وعظمته . وهم لا يستشعرون بجلاله وقوته .
     ثم يكشف لهم عن جانب من عظمة الله وقوته . على طريقة التصوير القرآنية ، التي تقرب للبشر الحقائق الكلية  في صورة جزئيه ، يتصورها إدراكهم المحدود }  وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ { .     
     وكل ما يرد في القرآن وفي الحديث من هذه الصور والمشاهد  إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونـه ، وحتى صورة يتصورونها . ومنـه هذا التصوير لجانب من حقيقـة القدرة المطلقـة التي لا تتقيد بشكل ولا تتحيز في حيز ولا تتحدد بحدود .   

     هذه المواطن التي أخذت على سيد في صفة اليد لله تعالى ، فقد أوردها محمد المغراوي ثم قال تعقيباً على كلام سيد :
     وتأويله في هذه الصفة واضح جداً بل عبارته تكاد تكون مثل عبارة الزمخشري صاحب الكشاف انظر الرد على القرطبي في تأويل هذه الصفة . 

     وقـال الشيـخ عبد الله الدويـش تعليقـاً على كـلام سيـد السابق في تفسير سورة ص  آيه 75  - راجع الفصل السابق ثانياً - : هذه الآية صريحة في إثبات صفة اليدين لله تعالى على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل خلافاً لأهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ممن نفى هذه الصفة أو أولها بتأويل باطل وقد بسط العلماء الكلام على ذلك ، راجع كتاب التوحيد لإمام الأئمة ابن خزيمة ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيميه ومختصر الصواعق المرسلة على المعطلة والجهمية وغيرها ، فإن أراد إثبات هذه الصفة فهو حق وإن أراد أن معنى الآية هو خصوصية العناية فقط فهذا باطل .     

     وقد أشار ربيع بن هادي المدخلي إلى أن سيد يعطل هذه الصفة دون أن يبين بالشواهد أين عطل سيد صفة اليد لله فقال :
     وخامستها تعطيله لعدد من الصفات كالاستواء والنزول واليد ولا يستبعد انه يجري على هذا المنوال في كل الصفات . أ . هـ .  


المواطن التي أورد فيها سيد قطب صفة اليد

     أولاً :  قال سيد قطب في تفسير قوله تعالى } وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {
 ( الأعراف آية 57  ) : إنه تصور حي ينفي عن القلب البلادة . بلادة الآلية والجبرية . ويدعها أبداً في يقظة وفي وقاية .. كلما حدث حدث وفق سنة الله . وكلما تمت حركة وفق ناموس الله انتفض هذا القلب يرى قدر الله المنفذ ويرى يد الله الفاعلة ويسبح لله ويذكره ويراقبه ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه .     

     ثانياً :  كما أَورد صفة اليد في موضع آخر حيث جاءَ في تفسيره لقوله تعالى } ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ {  ( السجدة آية 9 ) : أنها يد الله التي سوت هذا الإنسان .... أ . هـ . 

     ثالثاً :  ذكر سيد قطب في تفسير قول الله تعالى } إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً {  ( الفتح آية 10 )  : وهو تصور رهيب جليل للبيعة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ،  والواحد منهم يشعر وهو يضع يده في يده ، أن يد الله فوق أيديهم فالله حاضر البيعة ، والله صاحبها والله آخذها ويده فوق أيدي المتبايعين … ومن ؟ الله ! يا للهول ! ويا للروعة ! ويا للجلال ! . 

     رابعاً : قال أيضاً في تفسير قوله تعالى } لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ { ( الحديد آية 29 ) قال : ... فالله يدعوا الذين آمنوا إلى استحقاق رحمته وجنته وهبته ومغفرته حتى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على احتجاز شئ من فضله وان الفضل بيده يؤتيه من يشاء غير مقصور على قوم ، ولا محجوز لطائفة ولا محدود ولا قليل : } وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ { .    

     وللاستزادة في المواطن التي أورد فيها سيد قطب صفة اليد لله تعالى يمكنكم الرجوع إلى ذلك في المواضع التالية :  (  المائدة 2 / 918 ) ، ( المؤمنون 4 / 2478 ) ، ( النمـل 5 / 2659 ) ( يـس 5 / 2978 ) ، ( الحجرات 6 / 3338 ) ، ( الذاريات 6 / 3385  ) .
والإشكال أن سيداً رحمه الله عندما يورد صفة اليد لا يثبتها كما أثبتها السلف بقولهم أنها يد حقيقية تليق بالله عز وجل ، ولا يؤولها كما يؤولها الأشاعرة وغيرهم بقولهم واليد هنا بمعنى القدرة .
إنما يوردها كما هي ، فهو أحياناً يوردها وتفهم منه أنه يثبتها وإن لم يصرح كما مرت في الآية العاشرة من سورة الفتح ، وأحياناً يوردها وكأنه يؤولها كما مرت في الآية السابعة والستين من سورة الزمر فالأولى أن نقول كما قال الشيخ الدويش رحمه الله " إن أراد إثبات الصفة فهو حق وإن أراد كذا فهو باطل " والله أعلم .




سابعاً : المحبة

     أورد الشيخ محمد المغراوي كلام سيد قطب رحمه الله عند تفسير آيه ( 54 )  من سورة المائدة في الظلال وذلك على صفة المحبة دون أن يعلق عليه .   

     وعند استقصاء كلام سيد رحمه الله تعالى في صفة المحبة ، نجد أنه يثبت هذه الصفة لله تعالى ، وما نقله المغراوي عنه في تفسير سورة المائدة ( آيه 54 ) يثبت لنا أن سيد يثبت صفة المحبة لله تعالى فإليك ما يدل على ذلك :

     أَولاً :   قال عند تفسير قوله تعالى } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {  ( المائدة آية 54 ) : فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم .. الحب .. هذا الروح الساري اللطيف الرفراف المشرق الرائق البشوش .. هو الذي يربط القوم بربهم الودود .
     وحب الله لعبد من عبيده ، أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله - سبحانه - بصفاته كما وصف نفسه ، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها .. أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي .. الذي يعرف من هو الله .. من هو صانع هذا الكون الهائل ، وصانع الإنسان الذي يخلص الكون وهو جرم صغير ! من هو في عظمته . ومن هو في قدرته . ومن هو في تـفرده . ومن هـو في ملكوتـه .. من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب  ..   والعبد من صنع يديه    - سبحانه - وهـو الجليـل العظيم ، الحي الدائم ، الأزلي الأبدي ، الأول والآخر والظاهر والباطن .
     وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها .. وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمراً هائلاً عظيماً ، وفضلاً غامراً جزيلاً ، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد ، الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه .. هو إنعام هائل عظيم .. وفضل غامر جزيل .
     وإذا كان حب الله لعبد من عبيده امراً فوق التعبير أن يصفه ، فإن حب العبد لربه امر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين .. وهذا الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين - وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل - ولازالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد وهي تقول :
فليتك تحلـوا والحيـاة مـريـرة       وليتك ترضى والأَنام غضاب
ولـيت الذي بيني وبينك عـامـر       وبيـني وبين العالميـن خراب
إذا صح منك الود فالكـل هيـن        وكل الذي فوق التراب تراب

     هذا الحب من الجليل للعبد من العبيد ، والحب من العبد للمنعم المتفضل ، يشيع في الوجود ويسري في هذا الكون العريض ، وينطبع في كل حي وفي كل شئ ، فإذا هو جو وظـل يغمران هذا الوجود ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلاً في ذلك العبد المحب المحبوب  . أ . هـ . 

     ثانياً : قال أيضاً عنـد تفسير قولـه تـعالى } قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ { ( آل عمران آية 32 ) : أي لا تخالفـوا عن أَمره - } فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ  { .. فدل على أَن مخالفته في الطريقة كفر ، والله لا يحب من اتصف بذلك ، وإن ادعى وزعم في نفسه أَنه محب لله .    
     يتبين من الموضعين السابقين أَن سيد يثبت صفة المحبة لله عز وجل وإن كان قد ذكر كلاماً فيه إشكال عند تفسير قوله تعالى } وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ  مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً {  ( النساء آية 36 ) : وهو " والتعبير القرآني يقول : إن الله (( لا يحب )) هؤلاء والله سبحانه - لا ينفعل انفعال الكره والحب إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال من مأَلوف البشر من الطرد والأَذى وسوء الجزاء " . 

     وهذا كلام يحتمل تأويل صفة المحبة وعند جمعه مع كلامه السابق الذي فيه إثبات صفة المحبة لله عز وجل قد يقال إن مقصود سيد رحمه الله تنزيه الله عن مشابهة خلقه في الانفعالات التي تصاحب الحب والكره ، ولكنه لا يقصد أن يحصر معنى الحب في القرب والإحسان وحسن الجزاء ولا أن يحصر معنى الكره في الطرد والأذى وسوء الجزاء وذلك لأن في حديثه السابق عن الحب لله عز وجل يثبت معانٍ أُخرى لحب الله لعبيده وإن كانت هذه العبارات ليست من عبارات السلف رحمهم الله .

     وخلاصة القول :  أن سيد أورد صفة المحبة بما يفهم من أنه يثبتها وإن كانت له عبارات غير صحيحة كان الأولى تركها . والله أعلم .

ثامناً :  الوجه

     الوجـه صفـه ذاتيـة خبرية لله عز وجل ، قال تعالى } وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ { ، وقال } وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ  { .  

     أقوال سيد في صفة الوجه لله تعالى :

     1 - قال : في سورة البقرة عند قوله تعالى }  وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {  ( البقرة آية  115 ) : " فهي توحي بأنها جاءت رداً على تضليل اليهود في ادعائهم أن صلاة المسلمين إذاً إلى بيت المقدس كانت باطلة وضائعة ولا حساب لها عند الله ، والآية ترد عليهم هذا الزعم وهي تقرر أن كل اتجاه قبلة فثم وجهه حيثما توجه إليه عابد وإنما تخصيص قبلة معينة هو توجيه من عند الله فيه طاعة ،  لا أن وجه الله سبحانه في جهة دون جهة والله لا يضيق على عباده ولا ينقصهم ثوابهم ، وهو عليم بقلوبهم ونياتهم ودوافع اتجاهاتهم وفي الأمر سعه والنية لله  إن الله واسع عليم  " .  

     2 - وقال في قوله تعالى : }  كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ { ( القصص آية 88 ) : فكل شيء زائل ، وكل شيء ذاهب المال ، والجاه ، والسلطان ، والقوة ، والحياة ، والمتاع وهذه الأرض ومن عليها وتلك السماوات ومن فيها ، وما فيها وهذا الكون كله ما نعلمه منه وما نجهله كله هالك فلا يبقى إلا وجه الله الباقي متفرداً بالبقاء .  

     3 - وقال عند قوله تعالى : } كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ { ( الرحمن آية 27 )  : وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس وتخشع الأصوات وتسكن الجـوارح وظل الفناء يشمل كل حي ، ويطوي كل حركة ويغمر آفاق السماوات والأرض ، وجلال الوجه الكريم الباقي يظلل النفوس والجوارح والزمان والمكان ويغمر الوجود كله بالجلال والوقار …. ويعقب على هذه اللمسـة العميقة الأثر بنفس التعقيب فيعد استقرار هذه الحقيقـة الغناْ ، لكل من عليها وبقاء الوجـه الجليل الكريم وحده بعد استقرار هذه الحقيقة نعمة يواجـه بها الجن والإنس . 

     4 - وقال عنـد قولـه تعالى : } وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى { ( الليل آية 19 - 20 ) : ثم ماذا ؟ ماذا ينتظر هذا الأتقى ، الذي يؤتي ماله تطهراً ، وابتغاء وجه ربه الأَعلى ؟ إن الجزاء الذي يطالع القرآن به الأرواح المؤمنة هنا عجيب . ومفاجئ . وعلى غير المألوف .  

     5 - قال في تفسير قوله تعالى } لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ {  ( البقرة آية 272 ) : إن هذا هو شأَن المؤمن لا سواه . إنه لا ينفق عن هوى ولا عن غرض . لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون ! لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ ! لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أَو ليكافئه بنيشان ! لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله .  
     6 - أَما في تفسير قوله تعالى }  وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ {  ( الرعد آية 22 ) : والصبر ألوان . وللصبر مقتضيات . صبر على تكاليف الميثاق . من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد ... الخ  . وصبر على النعماء والبأساء . وقل من يصبر على النعمة فلا يبطر ولا يكفر . وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور .. وصبر وصبر وصبر وصبر .. كله ابتغاء وجه ربهم ، لا تحرجاً من أن يقول الناس : جزعوا . ولا تجملاً ليقول الناس : صبروا . ولا رجاء في نفع من وراء الصبر . ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع . ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله ، والصبر على نعمته وبلواه . صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع .. .  

     7 - وقـال في تفسير قولـه تعالى } وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {  ( القيامـة آية 22 - 23 )
 : فلنتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ ، وفيض الفرح المقدس الطهور ، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقـة الموقف على قدر ما نملك . ولنشغل أَرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض ، فهذا التطلع ذاته نعمة . لا تفوتها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم .. 

     قال المغراوي : " والذي يظهر أن سيد قطب يثبت صفة الوجه لكن بتحفظ " .
     وقال أيضاً : " سيد قطب في تفسيراته لهذه الآيات لا يؤولها بل يبقيها على ظاهرها ، فنحن نحمله على المتبادر إلى الذهن من إثبات الصفة " . 


تاسعاً : العين
     صفة ذاتية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة .
أورد سيد قطب رحمه الله العين مضافة إلى الله تعالى في عدة مواضع من الظلال ، فتارة يؤولها بالرعاية والتعليم والإحاطة وما شابه ذلك ، وتارة ينسب لها الرؤية وهو وجه من أوجه إثبات الصفة ، وتارة يسكت عنها .
     فمن الأولى قولـه في تفسير الآية 37 من سورة هود } وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا { .
 قال : "  أي برعايتنا وتعليمنا " 
     ومن الثاني قوله في تفسير قوله تعالى : } عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {   ( التغابن آية 18 ).
قال : " فكل شيء مكشوف لعلمه ، خاضع لسلطانه ، مدبر بحكمته ، كي يعيش الناس وهم يشعرون بأن عين الله تراهم " . 



عاشراً : الـرؤيـة

     صفة الرؤية صفة ذاتية ثابتة لله تعالى كالبصر والنظر .
     وسيد رحمه الله تعالى يثبت الرؤية لله تعالى وسوف نذكر بعض الأمثلة على إثباته للرؤية :

     أولاً : قال في تفسير قوله تعالى : } إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {   ( الأعراف آية 5 ) " الذين يعبدون الله كأنهم يرونه فإن لم يكونوا يرونه فهو يراهم كما جاء في الوصف النبوي للإحسان " .

     ثانياً : قال عند تفسير قوله تعالى } ا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى{  ( طه آية 46 ) إِنني معكما إِنـه القوي الجبار الكبير المتعـال إنـه الله القاهر فوق عبـاده . إنـه موجد الأَكـوان والحيوانـات والأفـراد والأشيـاء بقولـه : كـن ولا زيادة .. إنـه معهما .. وكان هذا الإجمال يكفي . ولكنه يزيدهما طمأنينة ولمسا بالحس للمعونة
}  أَسْمَعُ وَأَرَى {   فما يكون فرعون وما يملك وما يصنع حين يفرط أَو يطغى ؟ والله معهما يسمع ويرى !! . 

     ثالثاً :  وقال أَيضاً عند تفسير قوله تعالى } قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {  ( المجادلة آية 1 )  : وهو مطلع ذو إيقاع عجيب .. إنكما لم تكونا وحدكما .. لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما . لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها . وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه .. } إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ  { . يسمع ويرى . هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه .. .  

     رابعاً :  قال في تفسير قولـه تعالى }  أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى {   ( العلق آية 14 ) : هنا يجئ التهديد الملفوف كما جاء في نهاية المقطع الماضي : } أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى  {  يرى تكذيبه وتوليه . ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلى ، وهو على الهدى آمراً بالتقوى . يرى وللرؤية ما بعدها ! }  أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى  { .  

     خامساً : وقد أثبت سيد أن هذه الرؤية تكون بعين الله كما مر قبل قليل في قوله : " وهم يشعرون أن عين الله تراهم " .

الحادي عشر : رؤية الله سبحانه وتعالى .

     المؤمنون يرونـه سبحانه وتعالى يوم القيامة ، عياناً بأبصارهم ، كما يرون الشمس صحواً ، ليس دونها سحاب ، وكما يرون القمر ليلة البدر ، لا يُضامُون في رؤيته ، يرونه سبحانه ، وهم في عر صات القيامة ، ثم يرونه بعد دخول الجنة ، كما يشاء الله سبحانه فيكرمهم ، ويتجلى لهم من فوقهم ، ولا يراه الكافرون قال تعالى } كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ { وقال تعالى }  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ { .  

     أثبت سيد قطب رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة لكنه لم يثبت أن هذه الرؤية تكون بالعين ،  فقال في تفسير سورة القيامة عند قوله تعالى  }  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {  ( القيامة آية 22 - 23 ) : إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها ، كما يعجز الإدراك عن تصورها بكل حقيقتها . ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لا تشبهها حالة . حتى لتتضاءَل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم !
     هذه الوجوه الناضرة .. نضرها أنها إلى ربها ناظرة .. إلى أي مستوى من الرفعة هذا ؟ أي مستوى من السعادة ؟ إن روح الإنسان لتستمتع أحياناً بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أَو النفس ، تراها في الليلة القمراء . أَو الليل الساجي . أَو الفجر الوليد . أَو الظل المديد . أَو البحر العباب . أَو الصحراء المناسبة . أَو الروض البهيج . أَو الطلعة البهية . أَو القلـب النبيـل . أَو الإيمان الواثق . أَو الصبر الجميل .. إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود .. فتغمرها النشوة ، وتفيض بالسعادة ، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة . وتتوارى عنها أَشواك الحياة ، وما فيها من أَلم وقبح ، وثقلة طين وعرامة لحم ودم ، وصراع شهوات وأَهواء .. فكيف ؟ كيف بها وهي تنظر - لا إلى جمال صنع الله - ولكن إلى جمال ذات الله ؟ .
     ألا إنه مقـام يحتاج أَولاً إلى مد من الله . ويحتاج ثانياً إلى تـثبيت من الله . ليمـلك الإنسان نفسه ، فيثبت ،
 }  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {  .. وما لها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر ؟ إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض . من طلعة بهية ، أَو زهرة ندية ، أَو جناح رفاف ، أَو روح نبيل ، أَو فعل جميل . فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه ، فيبدوا فيها الوضاءة والنضارة . فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال . مطلقاً من كـل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال ؟ فما تبلغ الكينونـة الإنسانية ذلك المقام ، إلا وقـد خلصت من كـل شائبـة تصدرها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال ! كل شائبة لا فيما حولها فقط ، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله .. فأَمـا كيف تنظـر ؟ وبأَي جارحــة تنظر ؟ وبأَي وسيلـة تنظر ؟ ..  فذلـك حديث لا يخطـر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقـه النص القرآني ، في القلب المؤمن ، والسعادة التي يفيضها على الروح ، والتشوف والتطلـع والانطلاق ! .
     فما بال أناس يحرمون أَرواحهم أَن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة ؟ ويشغلونها بالجدل حول مطلق ، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته ؟ ! .
     إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأَرضية المحدودة هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة المطلقة يوم ذاك . وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أَن تتصور - مجرد  تصور - كيف يكون ذاك اللقاء  .
     إِذن  فقد كان جدلا ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أَهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في ذلك المقام .... .
     إلى أن قال : فالتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ ، وفيض الفرح المقدس الطهور ، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقة الموقف على قدر ما نملك . ولنشغل أَرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض ، فهذا التطلع ذاته نعمة . لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم .. .  



ذكر أقوال من انتقد على سيد قطب كلامه في النظر إلى وجه الله الكريم

     أولاً : قال الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله ، تعليقاً على كلام سيد قطب في سورة القيامة :  قال : أقول قوله " فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف..... إلخ "
     خلاف ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيما رواه عنه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه حيث قال " كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته الحديث رواه البخاري ومسلم ... الخ . 

     ثانياً : قال ربيع بن هادي المدخلي تعليقاً على ما كتبه سيد في تفسير سورة القيامة : " ويقول مشككاً ومشككاً - يقصد سيد قطب - في رؤية الله في الدار الآخرة في تفسير قول الله تعالى} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ { ..... وهكذا !! وبمثل هذه السفسطة والتهاويل !!  يظن سيد قطب أنه قد حل مشكلة الخلاف بين أَهل السنة والمعتزلة !! .
ولا يدري أنه قد انحاز إلى المعتزلة في إنكار رؤية الله تعالى ، فما هي تلك الحالة من السعادة التي لا يدري القارئ ما هي ؟! والقرآن قد حددها بالنظر إلى الله ، والسنة المتواترة أكدتها ، وآمن بها السلف الصالح .
     فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنـه ، قـال : كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر ، قال : ((  إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته  )) ... إلى أَن قال : وهكذا يوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤكد أَقوى تأكيد أَن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة ، والأحاديث متواترة بذلك .
     وسيد قطب يشكك في هذا الأمر العظيم الثابت بالكتاب والسنة المتواترة ، ويرى أنه يعز تصوره مجرد تصور ، ولا يدري كيف ينظر ، وبأي جارحة وبأي وسيلة ينظر ؟ . 

بعد استعراض كلام سيد وكلام خصومه يتبين لنا ما يلي :

     أولاً : إن سيد قطب رحمه الله يثبت أن المؤمنين سيرون ربهم كما مر معنا في تفسير سورة القيامة ومن ذلك قوله : " هذه الوجوه الناضرة .. نضرها أنها إلى ربها ناظرة " .
وقوله أيضاً " كيف بها وهي تنظر - لا إلى جمال صنع الله - ولكن إلى جمال ذات الله " . وقوله أيضاً " وما لها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر " .
وقوله أيضاً " ولنشغل أَرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض ، فهذا التطلع ذاته نعمة . لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم " .  

     ثانياً : أما الشيخ عبد الله الدويش فقد علق على عبارة موهمة لسيد قطب رحمه الله وكان الأولى قراءة كلام سيد في الصفة كاملاً ثم نقده فيما أخطأ وتصويبه فيما أصاب .

     ثالثاً : أما ربيع المدخلي فلم يكن منصفاً لسيد حيث حذف كلامه الذي فيه إثبات الرؤيا وأبقى ما قد  أخطأ فيه من حيث أنه لم يثبت أن هذه الرؤيا تكون يوم القيامة عياناً .

     رابعاً : قول سيد رحمـه الله تعالى " فأما كيف تنظر ؟ وبأَي جارحـة تنظر ؟ وبأي وسيلـة تنظر ؟ .. "  
     فهو خطأ فأهل السنة والجماعة يثبتون أن المؤمنين سيرون ربهم عياناً كما جاء في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : " كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال : إنكم سترون ربكم  ( عياناً )  كما ترون  القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته .. " رواه البخاري ومسلم .
     قال الشيخ عبد الله الغنيمان : وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله  (( أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه ))  . ففي كلا اللفظين تأكيد بليغ منه صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون ربهم رؤية حقيقية بأبصارهم . 

     فهذا يبين أن المؤمنين سيرون ربهم بأبصارهم التي في وجوههم ، خلافاً لما قاله سيد . ولا يعني هذا أن سيد ينكر أن المؤمنين سيرون ربهم ، بل سيد رحمه الله قد خالف الصواب في كيفيـة الرؤيا .

     ومن خلال العرض السابق يتبين لنا أن سيد قطب قد أثبت بأن المؤمنين سيرون ربهم في الآخرة خلافاً لمن أَنكر عليه أنه لا يثبت ذلك ، ولكنه رحمه الله قد جانبه الصواب في تسائله عن جارحة النظر إلى وجهه تعالى . والله اعلم . 

الثاني عشر : الاستماع (( السمع ))

     أما السمع فإن سيد رحمه الله يثبت أن الله يسمع وذلك في عدة مواضع من الظلال نسوق بعضاً منها :

     أولاً : قال في تفسير قولـه تعالى } قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {  ( طـه آيـة 46 ) : إِنني معكما .. إنه القوي الجبار الكبير المتعال . إنه الله القاهر فوق عباده إنه موجد الأَكوان والحيوانات والأَفراد والأَشياء بقوله : كن . ولا زيادة .. إنه معهما . وكـان هذا الإجمال يكفي . ولكنه يزيدها طمأنينـة ولمسـاً بالحس للمعونـة :  } أَسْمَعُ وَأَرَى { فما  يكون فرعون وما يملك وما يصنع حين يفرط أو يطغى ؟ والله معهما يسمع ويرى ؟  . 

     ثانياً : وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى } قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ {  ( سبا آية 50 ) : }  إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ { وهكذا كانوا يجدون الله . هكذا كانوا يجدون صفاته هذه في نفوسهم كانوا يجدونها رطبة بالحياة الحقيقية كانوا يحسون إن الله يسمع لهم وهو قريب منهم . وأنه معني بأمرهم عناية مباشرة وأن شكواهم ونجواهم تصل إليه بلا واسطة . 

     ثالثاً : وقال في تفسير قوله تعالى } قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {   ( المجادلة آية 1 ) : وهو مطلع ذو إيقاع عجيب ... إنكما لم تكونا وحدكما .. لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه إن الله سميع بصير .  يسمع ويرى  . 

الثالث عشر : الاستهزاء

     قال سيد في تفسير قولـه تعالى } اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {  ( البقرة آية 15 ) :
 " وما أيأس من يستهزئ به جبار السماوات والأرض وما أَشقاه !! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رهيب ، وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب .
     وهو يقرأ : } اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ { .. فيدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته ، واليد الجبارة تتلقاهم في نهايته ، كـالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ ، غافلة عن المقبض المكين .. وهذا هو الاستهزاء الرهيب ، لا كاستهزائهم الهزيل الصغير .
     وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل إليها . حقيقة تولي الله - سبحانه - للمعركة التي يراد بها المؤمنون وما وراء هذا التولي من طمأنينـة كاملـة لأولياء الله ، ومصير رهيب بشع لأعداء الله الغافلين ، المتروكين في عماهم يخبطون ، المخدوعين بمـد الله لهم في طغيانهم ، وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم ، والمصير الرهيب ينتظرهم هنالك ، وهم غافلون يعمهون ! " .     

     نقل المغراوي كلام سيد ولم يعلق عليه .  

     والذي يظهر أن سيد لم يؤول هذه الصفة بل أثبتها ، ولو أنه كان يؤولها لذكر ذلك كما فعل أهل البدع . فالحمد لله رب العالمين .





الرابع عشر : القبض

     القبـض والطــيُّ ، صفتان فعليتان لله عز وجل ، ثابتتان بالكتاب والسنة ، قال تعالى } وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {  ( البقرة آية 245 ) .

     وسيد رحمه الله تعالى تكلم على صفة القبض في موضعين من الظلال وهما :

     الموضع الأول : وهو مما أُخذ عليه رحمه الله فيما قاله عند تفسير قوله تعالى } وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {  ( الزمر آية 67 ) قال سيد :  نعم . ما قدروا الله حق قدره ، وهم يشركون به بعض خلقه . وهم لا يعبدونه حق عبادته . وهم لا يدركون وحدانيته وعظمته . وهم لا يستشعرون جلاله وقوته .
     ثم يكشف لهم عن جانب من عظمة الله وقوته . على طريقة التصوير القرآنية ، التي تقرب للبشر الحقائق الكلية في صورة جزئية ، يتصورها إدراكهم المحدود : }  وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ { ..
     وكل ما يرد في القرآن وفي الحديث من هذه الصور والمشاهد ، إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أَن توضع لهم في تعبير يدركونه ، وفي صورة يتصورونها . ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة ، التي لا تتقيد بشكل ، ولا تتحيز في حيز ، ولا تتحدد بحدود . 

     قال الشيخ عبد الله الدويش تعليقاً على كلام سيد السابق : أقول ظاهر هذا الكلام أن هذا ضرب مثل وليس ظاهره في القبض حقيقة ، وهذا تعطيل لهذه الصفة مخالف لقول أَهل السنة والجماعة فإِنهم يثبتون صفة القبض واليدين والأَصابع حقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته ، إثباتاً بلا تمثيل ، وتنزيهاً بلا تعطيل ، على حد قوله تعالى }  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {  وكلامه هذا يشبه قول الزمخشري في كشافه ... إلخ .  

     الموضع الثاني :  فقـد قـال في تفسـير قولـه تعـالى } مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {  ( البقرة آية 245 ) : وإذا كان الموت والحياة بيد الله ، والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء ، فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق . إنما هو قرض حسن لله ، مضمون عنده ، يضاعفه أضعافاً كثيرة . يضاعفه في الدنيا مالاً وبركة وسعادة وراحة ، ويضاعفه في الآخرة نعيماً ومتاعاً ، ورضى وقربى من الله . ومراد الأمر في الغنى والفقر إلى الله ، لا إلى حرص وبخل ، ولا إلى بذل وإنفاق :  } وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ { .. والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف . فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله }  وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { .. 

     الخلاصة :  أن كلام سيد في هذه الصفة غير واضح ، فمع أَنه لا يوجد في كلامه إثبات واضح لهذه الصفة ، إلا أنه لا يمكن أَيضاً حمل كلامه الأول على التعطيل لأنه متشابه ويعتمد على مقصوده من التصوير والتقريب الذي ذكره فإن كان يعني أن هذا القبض ليس حقيقة لكنه تمثيل ، فهذا خطأ وتعطيل ، وإن كان يعني أن الكيفية غير معقولة ،  إنما هو تقريب وتصوير للأذهان فصحيح ، وأنظر تعليق الدويش على صفة المجيء . والله أعلم .








الخامس عشر : الإتيان والمجيء

     الإتيان والمجيء صفتان فعليتان ثابتتان بالكتاب والسنة .

     والذي أُخذ على سيد في صفتي الإتيان والمجيء ما ذكره محمد المغراوي والشيخ عبد الله الدويش رحمه الله ، وإليك المواطن :

     أولاً :  قال سيد في تفسير قوله تعالى } هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ {  ( البقرة آية 210 ) : وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة . ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة ؟ ماذا ينتظرون ؟ وماذا يترقبون ؟ تراهم سيظلون هكذا في مواقفهم حتى يأتيهم الله - سبحانه - في ظلل من الغمام وتأَتيهم الملائكة ؟ وبتعبير آخر : هل ينتظرون ويتلكأون حتى يأتيهم اليوم الرهيب الموعود ، الذي قال الله سبحانه : انه سيأتي فيه في ظلل من الغمام وتأتي الملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ؟ .
     وفجأة - وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب - نجد أَن اليوم قد جاء ، وأن كل شئ قد انتهى ، وان القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها : }  وَقُضِيَ الْأَمْرُ { . 

     ثانياً : وقال أيضاً عند تفسير قوله تعالى } وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {  ( الفجر آية 22 ) : فأما مجيء ربك والملائكة صفاً صفاً ، فهو أمر غيبي لا ندرك طبيعته ونحن في هذه الأرض . ولكنا نحس وراء التعبير بالجلال والهول كذلك المجيء  بجهنم يأخذ منه قربها منهم وقرب المعذبين منها وكفى . فأما حقيقة ما يقع وكيفيته فهي من غيب الله المكنون ليومه المعلوم .
     إنما يرتسم من وراء هذه الآيات ، ومن خلال موسيقاها الحادة التقسيم ، الشديدة الأسر ، مشهد ترجف له القلوب ، وتخشع له الأبصار . والأرض تدك دكاً دكا ! والجبار المتكبر يتجلى ويتولى الحكم والفصل ، ويقف الملائكة صفاً صفـاً . ثم يجـاء بجهنم فتقف متأهبـة هي الأخرى ! . 

     قال محمد المغراوي تعليقاً على كلام سيد في الموطنين : والذي يظهر أن سيد قطب يثبت صفة المجيء وإن كانت عبارته غير مفصحة تماماً لكن سياقاته تدل على الإثبات . 

     وقال الشيخ عبد الله الدويش معلقاً على كلام سيد في الموطن الثاني وذلك في تفسير سورة الفجر آيه 22 : الكلام على هذا من وجوه :

     الوجه الأول : إن كان مراده أن هذا حقيقة ولكن لا تدرك كيفيته فهذا حق وإن كان مراده أن ذلك ليس حقيقة ولكنه مجاز عن الجلال والهول فهذا قول المعطلة وهو باطل من وجوه كثيرة بسطها العلامة ابن القيم .... " 

     الخلاصة : يتبين لنا بعد استعراض كـلام سيد وكلام كلاً من المغراوي والدويش رحمه الله أن سيداً يثبت لله صفتي الإتيان والمجيء كما مر معنا بقول سيد : " حتى يأتيهم الله … " وقوله رحمه الله : " فأما مجيء ربك … " . والله اعلم .

السادس عشر : التجلي للجبل

     ومما أُخذ على سيد في تجلي الرحمن للجبل ما قاله في تفسير قوله تعالى } وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ {   ( الأعراف آية 143 ) قال : }  فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ { فكيف كان هذا التجلي ؟ نحن لا نملك أَن نصفه ولا نملك أَن ندركه ولا نملك أَن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله حين تشف أَرواحنا وتصفو وتتجه بكليتها إلى مصدرها . فأَما الأَلفاظ المجردة فلا تملك أَن تنقل شيئاً .. لذلك لا نحاول بالأَلفاظ أَن نصور هذا التجلي .. ونحن أَميل إلى اطراح كل الروايات التي وردت في تفسيره ؟ وليس منها رواية عن المعصوم صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئاً .

     قال الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله تعليقاً على كلام سيد السابق : أقول قوله " ولا نملك أَن ندركه وأن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله حين تشف أَرواحنا وتصفوا وتتجه بكلتيها إلى مصدرها... الخ " .
     كلام باطل فإن إدراك تجلي الذات لا يقع في هذه الحياة وإنما يحصل استيلاء المعرفة على القلب فلا يشهد سوى معروفه ويحصل له نور تجلي معاني الأسماء الحسنى على القلب فتضيء بـه ظلمة القلب وقد ورد في الحديث الصحيح (( واعلموا أَن أَحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت )) رواه مسلم .

     وأما قوله : " فأمام الألفاظ المجردة فلا تملك أَن تنقل شيئاً ونحن أَميل إلى اطراح كل الروايات في تفسيره وليس منها رواية عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ... إلخ "
     فليس كما قال فقد ورد في الحديث ما يشير إلى شئ من ذلك وهو ما رواه الإمام أحمد وابن حجر والترمذي والحاكم وغيرهم عن ثابت البناني عن أَنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله} فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ {  قال : هكذا يعني أَنه اخرج طرف الخنصر قال احمد أَرانا معاذ فقال له حميد الطويل ما تريد إلى هذا يا أبا محمد قال : فضرب صدره ضربـه شديدة وقال : من أَنت يا حميد وما أَنت يا حميد يحدثني به أَنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول ما تريد إليه قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم والله اعلم  أ . هـ . 



ملاحظات حول الكلام السابق :

     أَولاً :  قول سيد أَنه يرى إطراح الروايات التي وردت في تفسير التجلي لأَنه يرى عدم صحتها ، هو الصحيح في حقه لأن هذا مبلغ علمه .
     والحافظ ابن كثير في تفسيره  أَورد روايات عدة في تفسير التجلي ، فأَورد رواية ابن جرير الطبري عن أنس وقال - ابن كثير - فيه رجل مبهم لم يسم ، وأَورد روايات أُخرى عن أَنس رواها ابن جرير والإمام أَحمد ولم يتكلم على إسنادها ، وذكر أن الترمذي روى رواية انس بن مالك ثم قال - الترمذي - هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفـه إلا من حديث حماد أ . هـ  .
     وقال الحافظ ابن كثير : وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق عن حماد بن سلمة به وقال - الحاكم - هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .
     ثم قال الحافظ ابن كثير : ورواه أَبو محمد الخلال عن حماد بن سلمـة فذكره وقال - أي الخلال - هذا إسناد صحيح لا علة فيه . ثم أَورد رواية داود بن المحبر وقال - ابن كثير - وهذا ليس بشيء لأن داود بن المحبر كذاب . ثم أورد رواية الحافظان الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً وقال ولا يصح أَيضاً ، وقال رواه الترمذي وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم . ثم أَورد الحافظ ابن كثير روايات أخرى عن السلف في التجلي ولم يصححها بل ضعف بعضها . والله اعلم . 

     بعد هذا النقل عن ابن كثير رحمه الله فأقول لعل سيد رحمه الله فهم من الحافظ ابن كثير أَنه يضعف الروايات ولا يصححها لذلك قال ما قال من أَنه ليس منها رواية عن المعصوم صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئاً ، وخاصةً كما ذكرنا سابقاً من أَن سيد كثير الرجوع في تفسيره إلى تفسير الحافظ ابن كثير .

     ثانياً :  سيد رحمه الله لم يتأول الصفة بل توقف عن الحديث عنها بالألفاظ لأنه لا يملك دليلاً على معناها .

     ونستنتج مما سبق بأَن سيد قطب رحمه الله لا يتأول صفة التجلي إنما توقف عن تفسيرها بالألفاظ لأَنه لا يعلم معناها ولم يصح عنده حديث في ذلك فآثر عدم الخوض فيما لا يعلم . والله اعلم .







الـــفــصــل الــثــانــي


تـكـفـير المـسـلـمـين

     نسب إلى سيد رحمه الله تهمة تكفير المسلمين أو المجتمعات الإسلامية من خلال الفهم الخاطئ  لكتابات سيد رحمه الله في الظلال وغيرها من كتبه . وهذه التهمة ناتجة من اطلاقاته مثل :
     - الناس في جاهلية ، وهم عادوا إلى الجاهلية الأولى .
     - عدم وجود المجتمع المسلم .
    - المجتمعات تحب أَن تكون مسلمة وليست مسلمة .
    - تسمية المساجد معابد الجاهلية .

     وهناك مجموعتان تخرجان بنتائج خاطئة من قراءة كلام سيد حول هذا الموضوع :
     المجموعة الأولى  : مجموعة تكفر المسلمين وتزعم أنها متبنيـة لفكر سيد وأبرز أمثلتها " جماعة المسلمين " واشتهرت باسم " جماعة التكفير والهجرة " .

     المجموعة الثانية  : وهي التي راحت تتهم سيد في عقيدته وفكره ، فنسبت إليه أنه يكفر المسلمين بسبب الفهم الخاطئ لكلام سيد ، ولا يستبعد سوء القصد من البعض منهم والرغبة في التجريح بقصد التشويه لسيد ولمنزلته ولفكره وظلاله .

النماذج التي أوردها سيد قطب في الظلال وفهم منها البعض تكفيره لأفراد المجتمع

     أولاً : يقول في تفسير قوله تعالى : } وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ{   ... " ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا .. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين ، في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام ، يسيطر عليها دين الله ، وتُحكم بشريعته .. ثم إذا هذه الأرض ، وإذا هذه الأقوام ،  تهجر الإسلام حقيقة ، وتعلنه إسما وإذا هي تتنكر لعقيدة الإسلام اعتقادا وواقعا وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد أن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه وأن الله وحده هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد ، كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله ولم تدخل في الإسلام بعد وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين وهم من سلالات المسلمين وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول .
     وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين وطريق المشركين المجرمين واختلاط الشـارات والعناوين والتباس الأسماء والصفات والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق .
     ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل " تهمة " يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام تهمة تكفير " المسلمين " ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله .
     هذه هي المشقة الكبرى وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل .
     يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين ويجب أن لا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف وألا تقعدهم عنها لومة لائم ولا صيحة صائح انظروا إنهم يكفرون المسلمين .
     إن الإسلام ليس  بهذا التمييع الذي يظنه المخدوعون ، إن الإسلام بَيِّن والكفر بَيِّن ، الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين المجرمين . 

     ثانيا : ما قيل من أنه جعل مساجد المسلمين كمعابد الجاهلية انطلاقا من تكفير مجتمعاتهم واعتبارها جاهليـة : قال سيد قطب في تفسير قولـه تعالى : } وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ{  ( يونس آية 87 ) " وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية وهما معا ضروريتان للأفراد والجماعات وبخاصة قبيل المعارك والمشقات ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأَول في المعركة وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئا كثيرا في ساعة الشدة .
     وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة ليست خاصة ببني إسرائيل فهي تجربة إيمانية خالصة وقد يجد المؤمنين أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت وفسد الناس وأنتنت البيئة وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة وهنا يرشدنا الله إلى أمور :

     1 - اعتزال الجاهلية ، نتنها وفسادها وشرها ما أمكن في ذلك وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها لتطهرها وتزكيها وتدربها وتنظمها حتى يأتي وعد الله لها .
     2 - اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المؤمنة مساجد تحس فيها بانعزال عن المجتمع الجاهلي وتزاول عبادتها لربها على نهج صحيح وتزاول بالعبادة ذاتها نوعا من التنظيم في جو العبادة الطهور . 

     ثالثاً : قال سيد : " لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان ونكصت عن لا إله إلا الله وإن ظل فريق منها يردد على المآذن : " لا إله إلا  الله " دون أن يدرك مدلولها ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها ودون أن يرفض شرعية " الحاكميـة " التي يدعيها العباد لأنفسهم  - وهي مرادف الألوهية - سواء ادعوها كأفراد أو كتشكيلات تشريعية أو كشعوب فالأفراد كالتشكيلات كالشعوب ليست آلهة فليس لها إذن حق الحاكمية إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية وارتدت عن لا إله إلا الله فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية ولم تعد توحد الله وتخلص له الولاء .
     البشرية بجملتها بما فيهـا أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات : " لا إله إلا الله " بلا مدلول ولا واقع وهؤلاء  أثقل إثما وأشد عذاباً يوم القيامة لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعد ما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله .
     فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلا أمام هذه الآيات البينات ! ما أحوجها أن تقف أمام آيات الولاء : } قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {
     ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله وليا - بكل معاني " الولي " وهي الخضوع والطاعة والإستنصار والاستعانة يتعارض مع الإسلام لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليخرج منه الناس ولتعلم أن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة ، الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء ولتعلم أنها تستهدف اليوم إخراج الناس جميعا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، وأنها تواجه جاهلية كالتي واجهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة حين تلقي هذه الآيات .
     وما أحوجها أن تستصحب في مواجهتها للجاهلية تلك الحقائق والمشاعر التي تسكبها في القلب المؤمن الآيات التالية  }  قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ،  وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ { .
     فما أحوج من يواجه الجاهلية بطاغوتها وجبروتها وبإعراضها وعنادها وبالتوائها وكيدها وبفسادها وانحلالها .. ما أحوج من يواجه هذا الشر كله أن يستصحب في قلبه هذه الحقائق وهذه المشاعر مخافة المعصية والولاء لغير الله ومخافة العذاب الرهيب الذي يترقب العصاة .. واليقين بأن الضار والنافع هو الله . وأن الله هو القاهر فوق عباده فلا معقب على حكمه ولا راد لما قضاه ، إن قلبا لا يستصحب هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف
 " إنشاء " الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية .. وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال ! .
     ثم ما أحوج العصبة المؤمنة - بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم ، وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته ، وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر .. ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم كما كانت تزاولـه جاهلية البشرية الأولى . وأن تقول ما أَمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله ؛ وأن تقذف في وجه الجاهلية بما قذف به في وجههـا الرسول الكريم تنفيذا لأمر ربه العظيم
 } قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ { .

     بعد إيراد بعض النصوص لا بد من معرفة حقيقة موقف سيد من هذه القضية و الردود التي ذكرت في سياق الرد على هذه التهمة .

     يقول الدكتور صلاح الخالدي بعد أن أورد النص الأول عند تفسير سيد لقوله تعالى } وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ{ قال : في هذا النص لسيد - الذي آثرنا نقله كاملا على طوله لنعرف قصده من كلامه وحتى لا نقع في خطأ " الاجتراء " بنقل عبارات وقطعها من سياقها واستخراج أحكام منها لا تحتملها لأن معناها لا يفهم إلا في سياقها - في هذا النص يتجلى لنا أن سيد كان يهدف إلى بيان مضامين ومعنى لا إله إلا الله ويرسم نقطة البدء على هذا الأساس ويوضح طريق الدعوة وتعامل الدعاة على هذا الأساس ويكشف محاولة الأعداء في التلبيس والتخليط والتمييع حتى لا تبقى الجماهير مخدوعة في حقيقة ما هي عليه وحكم الله وشرعه ورسوله في واقعها هذا ما كان يريده سيد ولم يرد أن يكفر المسلمين كما لم يرد أن يعطي كلامه صفة الحكم القانوني المحدد والأمر القضائي النافذ إنما كلامه كلام داعية يرسم طريق الدعوة ويعبر عن هذا بالعاطفة الجياشة والانفعال الظاهر والتأثير البليغ ليستثير الهمم ويشحذ العزائم وما سوى ذلك ظلم لسيد ولرأيه وفكره وتقويل له ما لم يقله . 

     وحول هذا الموضوع يقول الأستاذ سالم البهنساوي " الألفاظ العامة للكتاب والشراح و أوصافهم للمجتمع أنه جاهلي أو على غير الإسلام أو معدود على الديانة الإسلامية لا تعطي حكما شرعيا لكل أفراده فهناك فرق بين الحكم الفقهي وبين الموعظة أو الزجر " . 

     يقول الدكتور إبراهيم الكيلاني : إننا يجب أن نفهم كلام سيد قطب من خلال منهجه لا أن نفهمه من خلال كلمات مبعثرة هنا وهناك فسيد قطب رجل دعوة يسعى لإقامة حكم الله في الأرض وكان يرى كفرا بواحا منتشرا في المجتمعات الإسلامية كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  (( إلا أن تروا كفرا بواحا ))  فاستحلال الربا والخمر والزنا والقمار وتعطيل شريعة الله ماذا يسميها الفقيه المسلم ؟ أليس هذا كفرا بواحا ؟ بلى وباتفاق المسلمين هذه كفر بواح فعندما يقول إن المجتمع الذي يستحل حرمات الله مجتمع جاهلي كافر إنما يعني أن استباحـة حرمات الله تبارك وتعالى ولم يقل أن اللذين في هذا المجتمع كفار .
     وقد سألت عن هذه القضية الأستاذ محمد قطب فقال : " إن سيد لم يقل أن المسلم الفلاني كافر إلا أن يستحل حرمات الله كذلك المجتمع بصورة عامة عندما تستباح به المحرمات و يخرج عن دين الله فإذا كان سيد قد اجتهد ووصفه بهذا الوصف فله دليل من القرآن الكريم " . 

     أما عن القول بأن سيد يسمي المساجد معابد الجاهلية فهذا اتهام باطل ذلك أن كلام سيد في تفسير قوله تعالى } وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ{ على النحو التالي يقول : " وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة ليست خاصة ببني إسرائيل فهي تجربة إيمانية خالصة وقد يجد المؤمنين أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت وفسد الناس وأنتنت البيئة وكذلك كان الحال على عهد فرعون "  
     بهذا القيد المؤمنين مطاردين في مجتمع جاهلي وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت ، هنا ذكر سيد اعتزال الجاهلية واعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد .
     ولنتأمل قول ابن كثير في هذه الآية يقول : " اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى }  وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً { عن ابن عباس قال }  وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً {   قال : كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم وكذا قال مجاهد وأبو مالك والربيع بن أنس والضحاك وغيرهم يقول ابن كثير وكأن هذا والله أعلم لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم وقال مجاهد }  وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً {   لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد . 
       فسيد قطب قد جعل الأمر مقيدا بالخوف من الطواغيت أما المساجد التي أسست على تقوى من الله والتي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يقول عنها سيد عند قوله تعالى  } فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ {  يقول تلك البيوت  } أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ {  وأذن الله هو أمر للنفاذ فهي مرفوعة قائمة وهي مطهرة رفيعة يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماء والأرض وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني المضيء وتتهيا بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم الله  }  وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ...... الآية {  ... إلخ " . 

     كتب الأستاذ محمد قطب رسالة موجهة إلى مجلة المجتمع حيث أن محمد قطب كان يتدارس الإسلام مع شقيقه وهو خير من يكتب في هذا الموضوع نظرا لمعرفته لأفكار أخيه .
نص الرسالة : " السلام عليكم و رحمة الله و بركاته و بعد : فإنك تعلم يا أخي ما دار من لغط في محيط الإخوان حول كتابات الشهيد سيد قطب وما قيل من كونها مخالفة لفكر الإخوان أو جديدة عليها وأحب في هذا المجال أن أثبت مجموعة من الحقائق أحس بأنني مطالب أمام الله بتوضيحها حتى لا يكون في الأمر شبهة .
     إن كتابات سيد قطب قد تركزت حول موضوع معين هو بيان المعنى الحقيقي للا إله إلا الله شعورا منه بأن كثيرا من الناس لا يدركون هذا المعنى على حقيقته وبيان المواصفات الحقيقية للإيمان كما وردت في الكتاب والسنة شعوراً منه بأن كثيراً من هذه المواصفات قد أهمل أو غفل الناس عنها ولكنه مع ذلك حرص حرصا شديدا على أن يبين أن كلامه هذا ليس مقصودا به إصدار أحكام على الناس وإنما المقصود به تعريفهم بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة ليتبينوا هم لأنفسهم إن كانوا مستقيمين على طريق الله كما ينبغي ،  أم إنهم بعيدون عن هذا الطريق فينبغي عليهم أن يعودوا إليه .
     ولقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول " نحن دعاة لسنا قضاة " إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة لا إله إلا الله لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي وهو التحاكم إلى شريعة الله كما سمعته أكثر من مرة يقول إن الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك وهذا أمر ليس في أيدينا ولذلك فنحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس فضلا عن كوننا دعوة ولسنا دولة دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم ... إلخ " . 

     وفي مقابلة أجرتها مجلة المجتمع مع زينب الغزالي والتي سئلت فيها هل حقا أن الفكر الذي كان يتبناه سيد ويدرسه للإخوان هو تكفير أفراد المجتمع فأجابت بأنها قد سألت سيد رحمة الله عن ذلك فاستغرب هذا القول وبين أن هذا فهم خاطئ لما كتبه ، وبين أنه سيوضح هذا في الجزء الثاني للمعالم .. وقالت إن سيد لم يكن يكفر الأفراد بل كان يرى أن المجتمعات ابتعدت عن الإسلام إلى درجة جعلتها تفقد هذه الصفة . 

     وسئل الأستاذ عمر الأشقر في مجلة المجتمع عن سؤال : " هل كفر سيد قطب الأفراد والمجتمعات " ؟ ومما جاء في الجواب قوله : لم تحمل كتب الشهيد نصا واحدا يصرح فيه بتكفير المجتمعات أو الأفراد ولم يتفق الإخوان على أن سيد كان يصرح في لقاءاته وجلساته وأحاديثه بتكفير المجتمعات ولكن كثيرا من كتاباته قد يستنتج منها تكفير المجتمعات والأفراد وتلك الاستنتاجات أمر طبيعي لتفاوت الأفهام أحيانا ، ولتعمق المؤلف في معنى معين للتأكيد على فكرة ما وبين خطورة التحاكم لغير الله على كلمة الشهادة وصراحة الشرك في الرضى بتشريعات البشر الوضعية ووصل به التشديد درجة " قارب " معها اتهام المجتمعات والأفراد وليس أدل على ذلك مما كتبه في الظلال عندما توقف عند قوله تعالى } وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِين َ{ من سورة الأنعام وتعمق سيد في هذا المعنى وتشديده على خطورة التحاكم لغير الله لم يؤد به إلى تكفير المجتمعات والأفراد رغم حماستـه لهذه الفكرة ذلك لأنه يعلم حدود فكرته ورأيه ولكن بعض تلامذتـه - وممن تلقوا الدعوة على يديـه - تجاوزوا فكرته ورأيـه ووصلوا إلى المحظور وقالوا بتكفير المجتمعات والأفراد . 

     وأخيرا فهذا أيضا نص صريح من سيد قطب بعدم تكفيره للمجتمعات : وهو ما جاء في اعتراف سيد قطب نفسه المسجل في محضر التحقيق الذي أجراه معه صلاح نصر ونقله بالحرف السيد سامي جوهر في كتابه " الموتى يتكلمون " :

     س : هل ترى أن هناك فرقـا بين المسلم المنتمي لجماعـة الإخوان وغير المنتمي لتلك الجماعة ؟ .
     ج : الذي يميز الإخوان أن لهم برنامجا محددا في تحقيق الإسلام فيكونون مقدمين في نظري على من ليس لهم برنامج محدد .

     س : فلم التمييز إذن بين أفراد هذه الجماعة وبين المسلمين قاطبة وهم جميعا أصحاب عقيدة وأهداف وبرنامج ؟
     ج : التمييز - في رأيي - ليس تمييز شخص على شخص ولكن فقط باعتبار أن الجماعة ذات برنامج وأن كل فرد فيها مرتبط بهذا البرنامج لتحقيق الإسلام عمليا وهذا وجه التمييز في رأيي .

     س : هـل كنتم ترون أن وجود الأمة المسلمة قد انقطع منذ مدة طويلة ولا بد من إعادتها للوجود ؟
     ج : لا بد من تفسير مدلول كلمة الأمة المسلمة التي أعنيها فالأمة المسلمة هي التي تحكم كل جانب من جوانب حياتها الفردية والعامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية شريعة الله ومنهجه . وهي بهذا الوصف غير قائمة الآن في مصر ولا في أي مكان في الأرض وإن كان هذا لا يمنع من وجود الأفراد المسلمين لأنه فيما يتعلق بالفرد الاحتكام إلى عقيدته وخلقه وفيما يتعلق بالأمة الاحتكام إلى نظام حياتها كله .

     وقال سيد : إننا لم نكفر الناس ، وهذا نقل مشوه إنما نحن نقول : إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة ، وعدم تصور مدلولها الصحيح ، والبعد عن الحياة الإسلامية ، إلى حال المجتمعات الجاهلية ، وأنه من أجل هذا لا تكون نقطة البدء في الحركة هي قضية إقامة النظام الإسلامي ، ولكن تكون إعادة زرع العقيدة ، والتربية الأخلاقية الإسلامية فالمسألة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية أكثر ما تتعلق بالحكم على الناس .
     وعلق الأستاذ عدنان عر عور على كلام سيد بقوله : وهذا من الأدلة الصريحة من سيد رحمه الله على عدم تكفير الناس جملة .
     الخلاصة : أن سيد رحمه الله تعالى لم يكفر أحدا من الأعيان ولم يكفر المجتمعات أَو الأفراد . أَما الذين وصفهم سيد بأنهم ليسوا مسلمين أو بأنهم جاهليون أو غير ذلك من الأوصاف التي استنتج منها  البعض  تكفير سيد للمجتمعات والأفراد تلك الأوصاف يطلقها سيد ويوضح في كلامه من المقصود بتلك الأوصاف وهم من استحل المحرمات أو جحد شريعة الله ، أو حكم بغير ما أنزل الله أو رضي وقبل التحاكم إلى شريعة غير شريعة الله . ولا يوجد نصاً صريحاً في كتب سيد يقول فيه بكفر المجتمعات أو الأفراد بدون وجود الأسباب المذكورة .
وإن قيل يلزم من كلامه القول بكفر المجتمعات  أو الأفراد قلنا إن منهج أهل السنة والجماعة أن لازم كلام غير المعصوم غير لازم حتى يصرح صاحبه بالتزام ذلك اللازم ، كيف وقد صرح سيد رحمه الله في التحقيق معه عندما سئل هل ترون أن وجود الأمة المسلمة قد انقطع ؟
     أجاب قائلا : " الأمة المسلمة هي التي تحكم كل جانب من جوانب حياتها الفردية والعامة بشريعة الله وهي بهذا الوصف غير قائمة وإن كان هذا لا يمنع من وجود الأفراد المسلمين لأنه فيما يتعلق بالفرد الاحتكام إلى عقيدته وخلقه وفيما يتعلق بالأمة الاحتكام إلى نظام حياتها كله " انتهى باختصار .
     بجانب ما نقلناه عن أقران سيد قطب المقربين منه الذين نفوا عن سيد مثل ذلك القول وكذلك ما عرف من سيرته وتعايشه مع أفراد المجتمع وتعامله معهم معاملة المسلمين من محبته لهم وتوجيهه لهم والعمل والتعامل اليومي معهم على ذلك الأساس .
     وكما قال عنه أخوه محمد قطب أن سيد أول من رفع شعار " نحن دعاة ولسنا قضاة " . فاتهامه بهذه التهمة ظلم له وتقول عليه بما لم يقله .
     ثم هنا فائدة مهمة ينبغي التنبيه لها وهي أن أهل السنة والجماعة يفرقون بين الكفر المطلق والكفر المعين فلا يرون بأساً أن نقول من فعل كذا فهو كافر أو القول بخلق القرآن كفر وما شابه ذلك لكن لا يكفرون المعين إلا إذا توفرت شروط وانتفت موانع انظر كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 23/ 245 ) فالقول بتكفير المجتمعات أو الأنظمة أو الدول كفر مطلق لا يستلزم كفر الأعيان .

الــفــصــل الــثـالــث


خلق القرآن والقول بالحلول


أولاً : خلق القرآن

     أَما فيما يتعلق بمسأَلة خلق القرآن فقد ذهب خصوم سيد إلى أَنه كان يقول بخلق القرآن حيث قـال ربيع بن هادي المدخلي : فالرجـل مغرق في إنكار أن الله يتكلـم ، مغـرق في القـول بخلـق القرآن . أ . هـ . 

الأقوال التي أخذت على سيد قطب في مسأَلة خلق القرآن

     الموضع الأول : قال سيد رحمه الله : والشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعاً وهو مثل صنع الله في كل شئ وصنع الناس ، إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آنية أو اسطوانة ، أو هيكل أو جهاز . كائناً في دقته ما يكون .. ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة . حياة نابضة خافقة . تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز .. سـر الحياة .. ذلك السر الذي لا يستطيعه بشـر ، ولا يعرف سره بشر .. وهكذا القرآن .. حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاماً وأوزانا ، ويجعل منها الله قرآناً وفرقاناً ، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات ، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض .. هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة !
     الموضع الثاني : قال سيد : وكما أَن الروح من الأسرار التي اختص الله بها فالقرآن من صنع الله الذي لا يملـك الخلـق محاكاته ، ولا يملك الإنس والجن - وهما يمثلان الخلق الظاهر والخفي - أن يأتوا بمثله ، ولو تظاهروا وتعاونوا في هذه المحاولة  } قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً { ..
     فهذا القرآن ليس ألفاظاً وعبارات يحاول الإنس والجن أَن يحاكوها . إنما هو كسائر ما يبدعه الله يعجز المخلوقون أَن يصنعوه . هو كالروح من أمر الله لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل ، وإن أَدركوا بعض أَوصافه وخصائصه وآثاره . 

الموضع الثالث : قال سيد : " ألف . لام . ميم " .. الحروف المقطعة التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلا أنها مادة الكتاب الذي أَنزله الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مؤلفاً من مثل هذه الحروف ، المألوفة للقوم ، الميسرة لهم ليؤلفوا منها ما يشاءون من القول ، ولكنهـم لا يملكـون أَن يؤلفـوا منهـا مثـل هذا الكتـاب . لأنه من صنع الله لا من صنع إنسان . 

الموضع الرابع : قال سيد : هذا الحرف .. " صاد " يقسم به الله سبحانه كما يقسم بالقرآن ذي الذكر . وهذا الحرف من صنعة الله تعالى  فهو موجده . موجده صوتاً في حناجر البشر ، وموجده حرفاً من حروف الهجاء التي يتألف من جنسها التعبير القرآني . وهي في متناول البشر ولكن القرآن ليس في متناولهم لأنه من عند الله وهو متضمن صنعة الله التي لا يملك البشر الإتيان بمثلها لا في القرآن ولا في غير القرآن . وهذا الصوت .. " صاد " الذي تخرجه حنجرة الإنسان ، إنما يخرج هكذا من هذه الحنجرة بقدرة الخالق المبدع ، الذي صنع الحنجرة وما تخرجـه من أَصوات . وما يملك البشر أَن يصنعوا مثل هذه الحنجرة الحية التي تخرج هذه الأصوات ! وإنها لمعجزة خارقة لو كان الناس يتدبرون الخوارق المعجزة في كـل جزئيـة من جزئيـات كيانهـم القريـب ! ولـو عقلوهـا ما دهشوا لوحـي يوحيـه الله لبشر يختاره منهم . فالوحي ليس أكثر غرابة من إيداع تكوينهم هذه الخصائص المعجزات ! 
     هذه هي المواضع التي أُخذت على سيد في الظلال والمتعلقة بمسألة خلق القرآن ، ولكي نضع الأمور في نصابها الصحيح نقدم لك أخي القارئ أقوال الذين نسبوا إلى سيد القول بخلق القرآن :

ذكر أقوال من نسب إلى سيد القول بخلق القرآن

     أولاً : قال ربيع بن هادي المدخلي تعليقاً على كلام سيد في المأخذ الأَربعة السابقة " وعلى كل حال فالرجل مغرق في إنكار أن الله يتكلم ، مغرق في القول بخلق القرآن .
     وهل قالت الجهمية والمعتزلة أكثر من هذا ؟! .
     وهل فطرة سيد السليمة قادتـه إلى هذا القول الخطير في القرآن العظيم وفي كـلام الله عموماً ؟! .
     وهل سيد يعيش في غابات وأدغال وكهوف ، فلم يسمع بتلك الفتنة الكبيرة التي دارت رحاها على أهل السنة ردحاً من الزمن أيام المأمون والمعتصم والواثق ، يقود تلك الفتنه ويؤجج نيرانها الجهمية والمعتزلة على الأمة الإسلامية التي يقودها أئمة السنة والحق ، وعلى رأسهم الإمام احمد بن حنبل .
     تلك الفتنة التي يتردد صداها إلى يومنا هذا في مسامع كثير من صغار طلاب العلم وعوام المسلمين عربهم وعجمهم .
     ألا إنه انحياز من سيد قطب إلى صفوف خصوم أهل الحق والسنة ، إلى أهل البدع الكبرى من الجهمية والخوارج والمعتزلة ، الذين يقولون تلك المقولة الضالة :  (( إن القرآن مخلوق )) " 

     ثانياً : قال الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله تعليقاً على كلام سيد - في المأخذ الثاني - : أقول تشبيهه القرآن بالروح فيه نظر لأن الروح مخلوقة باتفاق العلماء والقرآن ليس بمخلوق بل هو كلام الله ، ومن قال أنه مخلوق فهو كافر ، وأيضاً القرآن صفة من صفات الله يضاف إليه إضافة صفة إلى موصوف ، وأما الروح فليست من صفات الله وإنما تضاف إليه إضافة خلق ، لكونها خلقها وأوجدها إلا أن قصد بتشبيهه بها عجز الخلق عن أن يأتوا بمثل القرآن كما يعجزون عن معرفة الروح فهذا حق والله أعلم .  
     ثالثاً : قـال أيضاً الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله تعليقـاً على كلام سيد - في المأخذ الثالث - : أقول هذا خلاف قول أهل السنة فإنهم لا يقولون القرآن صنع الله وإنما يقولون القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود والله اعلم .  

     رابعاً : قال أيضـاً الشيخ عبدالله الدويش رحمه الله تعليقـاً على كلام سيد - في المأخذ الرابع - : " قوله  وهذا الحرف من صنعة الله وموجده " هذا قول الجهمية والمعتزلة القائلين إن القرآن مخلوق وأما أهل السنة والجماعة فيقولون القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 12 : 41 قيل للإمام أحمد إن فلاناً يقول لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت : لا أسجد حتى أومر فقال هذا كفر . فأنكر على من قال إن الحروف مخلوقة لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقا لزم أن يكون العربي والتوراة العربية وغير ذلك مخلوقاً وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة ، مخالف للأدلة العقلية والسمعية كما قد بسط في غير هذا الموضع انتهى .
     وقال : " قوله وهو متضمن صنعة الله التي لا يملك البشر مثلها لا في القرآن " هذا خلاف قول أهـل السنة كما تقدم فإنهم يقولون القرآن كلام الله حروفه ومعانيه ولم يقولوا صنعة الله والله اعلم .  

     ومن خلال هذا العرض السابق لما أورده سيد قطب وما جاء به خصومه يتضح لنا أن هذه المآخذ التي أخذت عليه بشأن خلق القرآن كلمات مثل : " صنع الله " و " صنعة الله " .
     وقالوا إن سيد يقول بخلق القرآن !! .
     والصحيح أن هذا بمفرده لا يكفي بأن يتهم سيد رحمه الله بالقول بخلق القرآن ، ونحن لا نشك في مجانبة سيد للصواب في قوله " صنع الله " و " صنعة الله " ، أما أن نقول إنه يقول بخلق القرآن فلا ولو أراد ذلك لقاله وقد استعرضنا كتاب الظلال كاملاً فلم يتلفظ بالقول بخلق القرآن ولا أن القرآن مخلوق البتة .

     لذلك قال الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد حفظه الله : لما رجعت إلى الصفحـات المذكورة - يقصـد بهـا صفحـات القول المنسوب لسيد بخلـق القرآن في كتـاب أضـواء إسلامية - لم أجد حرفاً واحداً يصرح فيـه سيد رحمـه الله تعالى بهذا اللفظ " القرآن مخلـوق " كيف يكون هذا الاستسهـال للرمي بهذه المـكفرات إن نهاية ما رأيت له تمدد في الأسلوب كقوله : " ولكنهم لا يملكون أن يؤلفوا منها - أي الحروف المقطعة - مثل هذا الكتاب لأنه من صنع الله لا من صنع الناس " هي عبارة لا نشك في خطئها لكن هل نحكم من خلالها أن سيد يقول بهذه المقولة الكفرية : خلق القرآن . اللهم لا أستطيع تحمل عهدة ذلك . أ . هـ . 

     ومن هنا يمكن أن نقول بأن سيد لا يقول بخلق القرآن لأن الذين يقولون بخلق القرآن ينفون عن الله صفة الكلام ، وسيد رحمه الله يثبت أن الله تعالى يتكلم ، فهو لا ينفي عنه سبحانه صفة الكلام كما سبق بيانه . والله أعلم .







ثانياً : وحدة الوجود

     أُتهم سيد بأنه من القائلين بقول الملاحدة أهل وحدة الوجود والحلول وذلك في موضعين من الظلال في سورة الحديد والإخلاص ، واليك قول سيد رحمه الله  في هذين الموضعين :

     الموضع الأول : قال سيد في تفسير قوله تعالى }  هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  { 
( الحديد آية  3 )  : " وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض حتى تطالعه حقيقة أُخرى لعلها أضخم وأقوى حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة . فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه ومن ثم فهي محيطه بكل شئ عليمة بكل شئ . }  هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  {  .
     الأول فليس قبله شئ والآخر فليس بعده شئ والظاهر فليس فوقه شئ والباطن فليس دونه شئ . الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان ، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان . وهما مطلقتان ويلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله . وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله . فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شئ وجوده وهذه الحقيقة هي الحقيقـة الأولى التي يستمد منها كل شئ حقيقتـه . وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود ...
     } وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  {  ... علم الحقيقة الكاملة . فحقيقة كل شيء مستمدة من الحقيقة الإلهية وصادرة عنها . فهي مستغرقة إذن بعلم الله اللدني بها . العلم الذي لا يشاركه أحد في نوعه وصفته وطريقته . مهما علم المخلوقون عن ظواهر الأشياء ! .
     فإذا استقرت هذه الحقيقـة الكبرى في قلب ، فما احتفاله بشيء في هذا الكون غير الله سبحانه ؟ وكل شيء لا حقيقة له ولا وجود - حتى ذلك القلب ذاته - إلا ما يستمده من تلك الحقيقة الكبرى ؟ وكل شيء وهم ذاهب ، حيث لا يكون ولا يبقى إلا الله ، المتفرد بكل مقومات الكينونة والبقاء ؟
     وإن استقرار هذه الحقيقة في قلب ليحيله قطعة من هذه الحقيقة . فأما قبل أن يصل إلى هذا الاستقرار ، فإن هذه الآية القرآنية حسبه ليعيش في تدبرها وتصور مدلولها ، ومحاولة الوصول إلى هذا المدلول الواحد وكفى ! .
     ولقد أخذ المتصوفة بهذه الحقيقة الأساسية الكبرى ، وهاموا بها وفيها ، وسلكوا إليها مسالك شتى ، بعضهم قال إنه يرى الله في كل شيء في الوجود . وبعضهم قال : إنه رأى الله من وراء كل شيء في الوجود . وبعضهم قال إنه رأى الله فلم ير شيئاً غيره في الوجود .. وكلها أقوال تشير إلى الحقيقة إذا تجاوزنا عن ظاهر الألفاظ القاصرة في هذا المجال . إلا أن ما يؤخذ عليهم - على وجه الإجمال - هو أنهم أهملوا الحياة بهذا التصور . والإسلام في توازنه المطلق يريد من القلب البشري أن يدرك هذه الحقيقة ويعيش بها ولها ، بينما هو يقوم بالخلافة في الأرض بكل مقتضيات الخلافة من احتفال وعناية وجهد لتحقيق منهج الله في الأرض ، باعتبار هذا كله ثمرة لتصور تلـك الحقيقـة تصوراً متزنـاً ، متناسقـاً مـع فطرة الإنسان وفطرة الكون كما خلقهمـا الله . 

     الموضع الثاني :  كلامه في تفسير سورة الإخلاص من قوله :  " أنها أحدية الوجود إلى أن قال وهذه درجه يرى فيها القلب يد الله في كل شي يراه . ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئاً في الكون إلا الله لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله  الخ " . 

     قالوا إن كلامه هذا ( في سورة الإخلاص والحديد ) هو كلام أهل وحدة الوجود . هذان الموضعان هما من أقوى ما أُخذ عليه رحمه الله تعالى في القول بوحدة الوجود وإليك أقوالهم :

ذكر أقوال من نسب الحلول إلى سيد

    أولاً : قال الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله في تعليقه على كلام سيد في تفسير سورة الحديد :

      أ - الوجـه الثاني : قوله : " وإن استقرار هذه الحقيقـة في قلب ليحيله قطعة من هذه الحقيقة " .
     هذا الكلام باطل وهو يشبه قول النصارى الذين يجعلون المسيح بعضاً من الله وقول أهل وحدة الوجود الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق ، لأن القطعة من الشيء بعض منه يبين ذلك قوله بعده فأما قبل أن يصل إلى هذا الاستقرار فإن هذه الآية القرآنية حسبه فافهم كلامه أنه قبل أن يصل إلى هذه الحقيقة وهي أن كل شيء مستمد من هذه الحقيقة لم يصل إلى الحقيقة فإذا وصل إلى تلك الحقيقة فإنها تحيله قطعة من هذه الحقيقة . وإن تعذر عنه حمل كلامه على أن من لم يصل إلى هذه الحال فهو ناقص وإذا وصل إلى هذه الحال فهو الواصل حقاً لأن قلبه اجتمع على الله وحده فإن أراد هذا فهو حق ولكن قولـه ليحيله قطعة من هذه الحقيقة يبعد هذا الاحتمال ويقوي ما تقدم

     ب - وقال أيضاً : الوجه الثالث قوله : " ولقد أخذ المتصوفـة بهذه الحقيقـة الأساسية الكبرى.... الخ "
     أقول مدحه ذلك خطأ لأن السابقين الأولين لم يصدر عنهم مثل هذه الألفاظ والواجب اتباعهم والاقتداء بهم دون ما احدث بعدهم واما ما قاله هؤلاء المتصوفة فإن أرادوا بقولهم إن الله يرى في كل شيء وأن الله حال في خلقه فهذه أقوال الحلولية وهو كفر . 

     ج - وقال أيضاً الشيخ عبدالله الدويش رحمـه الله في الرد على سيد في تفسير سورة الإخلاص : الوجه الثاني قوله : " وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئاً في الكون إلاّ الله لأنه لا حقيقة يراها إلاّ حقيقة الله " .
     أقول قوله ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئاً في الكون إلاّ الله . هذا قول أهل الاتحاد الملاحدة الذين هم أكفر من اليهود والنصارى كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء قال شيخ الإسلام : الثالث فناء عن وجود السوي بمعنى أنه يرى أن الله هو الوجود وأنه لا وجود لسواه لا به ولا بغيره وهذا القول والحال للاتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوي ونحوهم الخ . 

     ثانياً : قـال ربيع بن هادي المدخلي في تعليقه على كلام سيد في  تفسير سورة الحديد :

     أ - وهكذا يقرر سيد قطب وحدة الوجود والحلول ، وينسبهما إلى أهلهما الصوفية الضالة في سياق المدح ، ويدعوا إلى ذلك بقوله : "والإسلام في توازنه المطلق يريد من القلب البشري أن يدرك هذه الحقيقة ويعيش بها ولها ".
    
إنه يرى أن وحدة الوجود والحلول كمال لا يدركه كثير من الناس ، ومن لا يصل إلى هذه المرتبة من الكمال ، فحسبه أن يعيش في تدبر هذه الآية التي تدل على عظمة الله ، فحولها سيد قطب إلى وحدة الوجود والحلول ، أعظم أنواع الكفر بالله .
     ولقد قال في تفسير سورة البقرة بإبطال وحدة الوجود ، ونفاها نفياً قاطعاً ، وبين أنها عقيدة غير المسلم ، فما باله يقررها ها هنا وفي تفسير سورة الإخلاص ؟! هل تسلل إليـه غلاة التصوف أهـل وحدة الوجـود والحلول والجبر فأقنعـوه بعقيدتهم فآمن بها وقررهـا ؟! أو أنـه أمعـن في دراسـة كتب التصوف ، فاقتنـع بهذه العقيدة بنفسـه ، فصدع بها ؟! . 

     ب - وقال أيضاً في رده على كلام سيد في تفسير سورة الإخلاص : وفي هذا تأكيد قوي لما قرره من وحدة الوجود في تفسير سورة الحديد : فهل هناك أصرح في وحدة الوجود من قوله : " إنها أحدية الوجود ، فليس هناك حقيقة إلا حقيقته ، وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده " ؟! .
     وهل هناك أصرح في وحدة الوجود والدعوة إليها من قوله : " إن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهو يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله ، وان لا وجود إلا وجوده " ؟! .
     وكذلك قوله : " الحقيقة التي لا حقيقة غيرها " .
     فنسبته هذا المذهب إلى أهله ، واستخدامه تعبيراتهم نفسها ، ألا يدل على دراسة متعمقة ثم قناعة بهذا المذهب بعد أن نفاه وأبطله في أول تفسيره ؟! . 

     وبعد هذا العرض لأقوال الذين قالوا بنسبة القول بالحلول إلى سيد ، نقول وبالله التوفيق :

ذكر أقوال وحجة من نفى وحدة الوجود عن سيد رحمه الله

     إن المدافعين عـن سيد قـد حملوا كلامـه في سورة الحديـد والإخلاص على محامـل شتى منها :

     1 - أما سورة الحديد فقالوا أنه يتحدث عن الحقيقة الإلهية وإن الله خالق هذا الكون وما فيه والعالم بكل شئ والمحيط به والفاعل الحقيقي فيه .
     ولذلك كل ما في الوجود خاضع لله عز وجل لا يخرج عن أمره ... ويدعو القاري أن يعيش هذه الحقيقة الاعتقادية ... الخ .
     وقالوا : إن هدفه من كلامه هدف تربوي حركي .
     أما في سورة الإخلاص قالوا : إنه مقصور على ( أحدية الوجود ) التي لا تكون إلا لله وليس عن وحدة الوجود بالمفهوم المنحرف إنه يتحدث عن أحدية الوجود التي ينتج عنها أحدية الفاعلية التي ينتج عنها نفي فاعلية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد كل شئ وكل حدث وكل حركة في هذا الكون إلى الله وحده سبحانه وينتج عن ذلك تنحية الأسباب الظاهرة عن التأثير في هذا الكون والانتباه إلى المسبب الذي خلق هذه الأسباب ووجهها كيف شاء .
     وهذا كله يقرره سيد لهدف اعتقادي تربوي عملي حركي إنه يخاطب الدعاة بذلك ليكونوا عقيدتهم ويعيشوا بها ويتحركوا بدينهم وهذه عقيدة حية إيجابية مؤثرة ولذلك يأخذ سيد على المتصوفة في هذا الموطن سلبيتهم وانعزالهم التي قادتهم إلى القول بوحدة الوجود . 

     2 - إن كلام سيد في سورة الحديد والإخلاص كلاماً متشابهاً حلق فيه بالأسلوب ووسع فيه بالعبارة في تفسير سورتي الحديد والإخلاص . 

     3 - ومنهم من قال إن كلام سيد يفهم منه أنه يقول بوحدة الوجود وقد كتب هذا في الطبعات الأولى من الظلال وقد نسخ هذا الذي كتبه في الطبعة الثانية منه وقد ذم في الطبعة الثانية القول بوحدة الوجود . 

رد دعوى القول بوحدة الوجود عن سيد

     بعد أن ذكرنا ما اخـذ على سيد في وحدة الوجود ، وذلك في سورة الحديد وسورة الإخلاص ، وذكرنا أقوال الذين ادعوا أن سيداً يقول بوحدة الوجود ، وأقوال الذين نفوا عن سيد دعوى القول بوحدة الوجود ، أود أن أُبين أُموراً مهمة :

     الأمر الأول : إن كلام سيد متشابه وخطأ وكان الأولى منه أن يتحرى عبارات السلف ولا يدع أسلوبه الأدبي يجره إلى ألفاظ مبتدعة .

     الأمر الثاني : أن لسيد رحمه الله أقوالاً أخرى تتعارض مع ما ذكر هنا ، ذكرها في الطبعة الثانية في سورة البقرة أي بعد تفسيره لسورتي الحديد والإخلاص - وستأتي -  وأنه في حالة وجود قولين متعارضين - كما هو الحال مع سيد في وحدة الوجود - لابد من اتخاذ الخطوات التالية : قال الدكتور عبدالله عزام رحمه الله :
     أولاً : أن يجمع بين النصوص لسيد قطب : فيحمل المجمل على المبين والمبهم على الواضح .

     ثانياً : أو يلجأ إلى النسخ فسورة البقرة التي كتبها سيد في الطبعة الثانية بعد سورة الحديد والإخلاص لأنـه لم يصل إليها في الطبعة الثانية بل وصل إلى الجزء الرابع عشر فقط في الطبعة الثانية .

     ثالثاً : أو يرجح بين النصوص المتعارضة لسيد . فيرجح عبارة النص في سورة البقرة على إشارة النص في سورتي الإخلاص والحديد . ويرجح المنطوق الصريح في مهاجمة وحدة الوجود على المنطوق غير الصريح في السورتين .

     رابعاً : أو يلجأ إلى إسقاط العبارتين فيسكت عما فيهما . 

     وكلام الدكتور عبدالله عزام رحمه الله كان يرد فيه على العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله وكان يدعي أن الشيخ الألباني يكفر سيد قطب فبين الشيخ رحمه الله أنه لا يكفر سيد ولكن يقول : إن هذا الكلام كفر - أي كلام سيد في سورة الإخلاص والحديد - ويقول : انه لا تلازم بين أن يتكلم الإنسان بكلمة الكفر وبين الحكم عليه بأنه كفر وارتد عن دينه . ولابد من إقامة الحجة على من يقول بالكفر . 

     ومن هنا أستطيع أن أقول إن للظلال كما مر معنا سابقاً له طبعتان ، طبعة أولى ، وطبعه ثانية وصل فيها سيد إلى الجزء الثالث عشر بنهاية سورة إبراهيم .وفي الطبعة الثانية انتقد سيد القائلين بوحدة الوجود نقداً واضحاً وضوح الشمس وإليك الأمثلة على ما أقول :

     المثال الأول : قال سيد في الظلال : والنظرية الإسلامية أن الخالق غير المخلوق } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {  ومن هنا تنتفي من التصور الإسلامي فكرة وحدة الوجود على ما يفهمه غير المسلم من هذا الاصطلاح أي بمعنى أن الوجود وخالقه وحدة واحدة أو أن الوجود إشعاع ذاتي للخالق أو أن الوجود هو الصورة المرئية لموجده أو على أي نحو من أنحاء التصور على هذا الأساس والوجود وحدة في نظر المسلم على معنى آخر .وحدة صدوره عن الإرادة الواحـدة الخالقـة . ووحـدة ناموسـه الذي يسير بـه . ووحـدة تكوينـه وتناسقـه واتجاهـه إلى ربـه في عبادة وخشـوع بل لـه ما في السماوات والأرض كـل لـه قانتـون . 

     المثال الثاني : قـال في تفسـير آيـة الكرسي : تبدو سائـر التصـورات المنحرفـة للذين جاءوا من بعـد الرسـل فخلطـوا بين حقيقـة الألوهية وحقيقة العبودية فزعموا لله سبحانـه خليطـا يمازجـه أو يشاركـه بالنبـوة أو بغيرهـا من الصور في أي شكـل وفي أي تصور …  . 

     المثال الثالث : وقال في تفسير قوله تعالى } قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{  ( الأعراف آيـة 188 ) قال : ... وبهذا الإعلان تتم لعقيدة التوحيد الإسلامية كل خصائص التجريد المطلق من الشرك في أية صورة من صوره أو تنفرد الذات الإلهية بخصائص لا يشاركها البشر في شئ منها ولو كان هذا البشر محمداً رسول الله وحبيبه ومصطفاه عليه صلوات الله وسلامه ... . 

     المثال الرابع : وقال في كتابه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته : يقوم التصور الإسلامي على أساس أن هناك أُلوهية وعبودية ... أُلوهية يتفرد بها الله سبحانه ، وعبودية يشترك فيها كل من عداه وكل ما عداه ... وكما يتفرد الله سبحانه بالأُلوهية كذلك يتفرد تبعا لهذا بكل خصائص الألوهية ... وكما يشترك كل حي وكل شئ - بعد ذلك - في العبودية ، كذلك يتجرد كل حي وكل شئ من خصائص الألوهية ...... فهناك إذاً وجودان متميزان . وجود الله ،  ووجود ماعداه من عبيد الله ،  والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالمـخلوق والإله بالعبيد ... . 

     بعد أن سقنا الأمثلة على ذم سيد للقائلين بوحدة الوجود من كتابه في ظلال القرآن وغيره من الكتب تبين لنا أن سيداً ليس من القائلين بوحدة الوجود كما تحامل عليه الشيخ ربيع هداه الله ، ويرحم الله الشيخ عبدالله الدويش فقد أنصف سيداً بقوله : (( .... ولعله لم يقصد ما يُفهمه كلامه من قول الاتحادية ونحن إنما قصدنا التنبيه على كلامه لئلا يغتر به من لا يفهمه وأما هو فله كلام صريح في الرد على الاتحادية كما قال في خصائص التصور الإسلامي ومقوماته ... ))

     وقال أيضاً في تعليقه على كلام سيد في سورة الحديد : ((  ... وأما ما قاله هؤلاء المتصوفة فإن أرادوا بقولهم إن الله يرى في كل شئ أن الله حال في خلقه فهذا أقوال الحلولية وهو كفر ، وإن أراد بقوله إنه رأى الله أي عرف بقلبه وبصيرته ذلك فهذا حق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) . 

     وأما ربيع المدخلي فلم يكن منصفاً لسيد فهو بعد أن ساق كلامه في سورة الحديد قال : ولقد قال في تفسير سورة البقرة بإبطال وحدة الوجود ، ونفاها نفياً قاطعاً ، وبين أنهـا عقيدة غير المسلـم ، فمـا بالـه يقررها ها هنا وفي تفسير سورة الإخلاص ؟! هل تسلـل إليـه غلاة التصـوف أهـل وحدة الوجـود والحلـول والجبر فأقنعـوه بعقيدتهم فآمـن بها وقررها ؟! أو أنـه أمعن في دراسـة كتـب التصوف ، فاقتنـع بهـذه العقيــدة بنفســه ، فصـدع بهــا .أ.هـ .
     وربيع يجهل أو يتجاهل أثر الطبعتين في الظلال من حيث ترجيح أقواله المتعارضة فقد قال بعد أن ساق كلام سيد في تفسير سورة البقرة : (( هذا ما قرره سيد قطب في الطبعة الأولى ، هذا الكلام الجيد القوي الذي هاجم فيه وحدة الوجود مهاجمة من يعرف أنها كفر وضلال ، وأنها عقيدة غير المسلمين ، ومهاجمة دارس يعرف أصنافها وأشكالها وتفاصيلها .
     ثم لما وصل إلى تفسير سورة الحديد ، سالمها وعانقها ونسبها إلى أهلها ، وهم الصوفية ، وعرضها على أنها كمال ، وعرض أشكالها وأصنافها .
     ثم عاد مرة أخرى وعانقها في سورة التوحيد والإخلاص ، ونسبها إلى أهلها ، وهم الصوفية ، وقرر أنها كمال لا يرقى إليه كل أحد ، وعرض أصنافها وأشكالها عرض عارف لها . فما هو عذره إذاً ؟! )) . 

     فكلامه هذا يعني أن الطبعة الأولى كالثانية مع العلم أن سيد رحمه الله لم يصل في الطبعة الثانية من الظلال إلى سورة الحديد والإخلاص ، بل وصل إلى تفسير سورة إبراهيم مما يعني أن كلامه في تفسير سورة البقرة والذي فيه نفي وحدة الوجود كان بعد كلامه في تفسير سورتي الحديد والإخلاص  .

     ولله در الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد فقد كان أيضاً منصفاً لسيد خيراً من الذين تحاملوا عليه فقد قال في رده على ربيع المدخلي : إن سيد رحمه الله تعالى قال كلاماً متشابهاً حلق فيه بالأسلوب في تفسير سورتي الحديد والإخلاص وقد اعتُمِدَ عليه بنسبة القول بوحدة الوجود إليه . وأحسنتم حينما نقلتم قوله في تفسير سورة البقرة من رده الواضح الصريح لفكرة وحدة الوجود ومنه قوله : ومن هنا تنتفي من التفكير الإسلامي الصحيح فكرة وحدة الوجود .
     وأزيدكم : إن في كتابه : مقومات التصور الإسلامي رد شاف على القائلين بوحدة الوجود . لهذا فنحن نقول : غفر الله لسيد كلامه المتشابه الذي جنح فيه بأُسلوب وسع فيه العبارة ، والمتشابه لا يقاوم النص الصريح القاطع من كلامه . أ . هـ . 

     وخلاصـة القول فيما يتعلق بمسألة وحدة الوجود فقد كانت هناك ثلاثة آراء ( طرفان ووسط ) فمن هذه الآراء من رماه بقول الملاحدة وبوحدة الوجود وآراء تنفِ عنه القول بوحدة الوجود في سورة الحديد والإخلاص وآراءٌ عرفت الحق وتجردت له من خلال القراءة في الطبعتين من الظلال وفيها ذمه للقائلين بوحدة الوجود ، كأمثال الشيخ بكر أبو زيد وغيره ، وهذا هو الحق إن شاء الله . والله اعلم .

يتبع - إن شاء الله- الجزء الثاني : الفصل الرابع والخامس




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire