نداء تونس: الترياق من وهم الثورة ودجل الثوريين
رغم سعيي إلى تجنّب الجمل
التقريرية القائمة على "الوعي العفوي" غير المؤسس على المعطيات الموثوقة
والقابلة للبرهنة، فإنه لا يخفى أنّ العداء لنداء تونس
عند أغلب الراغبيين في الحل السياسي الجماعي ضمن ما يُسمّى بقانون "تحصين
الثورة" (في الحد الأقصى القادم من النهضة والمؤتمر مع تحفظ كبير من التكتل)وعند
المدافعين عن الحلول الفردية ضمن المقاربة القضائية (في الحد الأدنى القادم أساسا
من المعارضة)،لا يمكن ردّه إلى واقع العداء للتجمع ولا للولاء لمبادئ الثورة والبراءة
من قوى الثورة المضادة والدولة العميقة التي اتخذت من نداء تونس واجهة قانونية
لتبييض ماضيها الأسود وحماية مصالحها المادية والرمزية، بل إنني أزعم أنّ العداء
لنداء تونس مردّه الخوف من قدرة هذا الحزب على إعادة تفعيل الشبكة التجمعية بكل
مكوناتها المحلية والجهوية، وبكل التضامنات الجهوية والاقتصادية التي تقف خلفه. ويكفي
لإثبات ذلك المقارنة البسيطة بين الليونة في ردود الأفعال تجاه الأحزاب التجمعية
"الصغيرة" (وهي أكثر من أن تُحصى مثل المبادرة غيره ) والعنف الكبير
الذي يواجه به نداء تونس رغم أنه لا وجود لاختلاف فكري أو بشري أو رمزي بين النداء
وسائر العائلة النيو-تجمعية التي تُسمّى مجازا "العائلة الدستورية". ولذلك
فإنّ الحديث عن عداء للتجمع في خطاب من أركبوهم على ظهورنا في الإدارات ومراكز
القرار الجهوي والوطني(الحكومة ونواتها النهضوية) أو في النقابات والإعلام والمنظمات
المدنية (المعارضة بكل تشكيلاتها التقدمية اليسارية والقومية) هو من باب السفسطة،
بل هو من باب التغطية الفاشلة على تداخلات كبيرة تربط الجميع بالميراث البشري
التجمعي من جهة ، وبعقليته الاحتكارية للمجال العام من جهة أخرى
يبدو النشاط القانوني لنداء تونس بمثابة "المفارقة"
السوسيولوجية التي تضع النهضة وحلفاءها الأقربين أمام وضعية تناقضية. فمن جهة أولى
هم لا يستطيعون منع هذا الحزب من النشاط العلني بحكم وضعيته القانونية غير القابلة
للمراجعة بحكم غياب أي طرح جدّي للمحاسبية أو لتمرير قانون تحصين الثورة بعيدا عن
الاحتياجات الحزبية الضيقة، ولكنهم من ناحية ثانية لا يمكنهم أن يكونوا لا مبالين
أمام إعادة تشكّل التجمع تحت غطاء
دستوري-بورقيبي وهميي. وبالطبع فإنّ المخاوف لا تتوجّه إلى التجمعيين
كأفراد –فمن الممكن احتواؤهم أو تحييدهم- ولكن الخوف هو من التجمع كتنظيم أو كشبكة
مصالح وعلاقات وتموقعات يستطيع –إن تُرك ينشط بطريقة طبيعية- أن يعيد بناء
نفس"الكتلة" الهجينة من الناحية الإيديولوجية والفعّالة من الناحية
التنظيمية. فهي كتلة "ميتا-ايديولوجية" اذا ما قاربناها من جهة تشكّلها
من ليبراليين ويساريين وإسلاميين ينتمون إلى المؤسّسة الدينية الرسمية،
ولكنها في نفس الوقت كتلة إيديولوجية سواء
أنظرنا إليها من زاوية موقفها "الصدامي" (ذي الأصل التجمعي) من العدو
المشترك:الإسلام الحركي، أم نظرنا إليها من منظور النموذج المجتمعي الذي تدافع عنه
(مجتمع حداثي يتم اختزاله في مقاربة ثقافوية تركّز على الحريات الفردية وتهمّش
الاختيارات الليبرالية أو الطبيعة القمعية "بنيويا" للحقل السياسي
اليعقوبي القائم على إقصاء الإسلاميين من الحقل السياسي وتشريك القوى
التقدمية"المدجّنة" في عملية التشريع للاختيارات اللاوطنية للمركّب
المالي-الجهوي-الأمني الحاكم)
-
بالنسبة إلى
"المعارضة" فإنّ الحسابات السياسية البراغماتية (فضلا عن"المشترك
الثقافي العام" مع نداء تونس بحكم هيمنة المسألة الثقافية أو الهووية على
أغلب وجوه الصراع مع الترويكا ونواتها النهضوية) يجعلها غير قادرة على المطالبة بجديةٍ
بتحييد هذا الفاعل النيو-تجمعي رغم خطره المؤكّد على المسار التأسيسي للحريات
والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وذلك بالنظر إلى الكلفة الانتخابية
التي قد تنتج عن التفويت في التحالف"التكتيكي" مع طرف يمكن أن يكون شريكا فعّالا في معارضة النهضة
قبل الانتخابات(بحكم سيطرته على مفاصل الادارة
والمال والإعلام والعلاقات الدبلوماسية خاصة)، وكذلك شريكا في الحكم بعد
تلك الانتخابات. فحتى تلك الأطراف التي رفضت في الجبهة الشعبية الانخراط في
التحالف من أجل تونس الذي يضم المسار والجمهوري ونداء تونس، فإنها ستختار التحالف
الانتخابي-أو على الأقل عدم التصعيد- مع
هذا الائتلاف النيو-تجمعي لأنه أقرب إليها "ثقافيا"
و"وجدانيا" (وليس في مستوى الاختيارات الاقتصادية) من النهضة
والإسلاميين عموما(رغم أنّ عموم النهضويين والإسلاميين هم من الفئات الفقيرة والمهمّشة
التي يُفترض في "التقدميين" الدفاع عن مصالحها ومحاولة تغيير وعيها
"الطبقي" لا التصادم الإيديولوجي معها على أساس"ثقافوي" لا
يخدم في التحليل الأخير إلا مصالح "البرجوازية" الليبرالية المهيمنة على
نداء تونس وحلفائهم في البيروقراطية الإدارية والنقابية، بل التي تُشكّل القسم
الأعظم من قاعدتهم الانتخابية.
-
وقد يبدو الحديث عن التقارب الثقافي والوجداني
باعتباره محددا لتحالفات سياسية استراتيجية أمرا غريبا، ولكنّ تلك الغرابة ستزول
عندما نستحضر واقعا اجتماعيا هاما ألا وهو أنّ الصراع لا يُدار
الآن"واقعيا" بين مشاريع"اقتصادية" مختلفة (لأنّ الجميع رغم
كل العنتريات يعرف أنه لا يستطيع التحرك خارج منطق العولمة وإملاءاتها مع هامش
مناورة محدود جدا على الأقل في المدى القريب والمتوسّط)، وإنما على أساس"نموذجين
مجتمعيَّين" مختلفين، وهما نموذجان يشتركان-
رغم تباينهما الثقافي-الإيديولوجي في تهميش المسألة الاجتماعية والاقتصادية وإعلاء
المقاربة"الثقافوية" في فهم الصراع وإدارته-من جهة التحالفات والعداوات-
حتى لدى النخبة اليسارية إلى درجة صارت فيها أغلب مكوّناتها تُنعت
باليسار"الثقافي" تعبيرا عن ضمور الأطروحات الاقتصادية وعدم اعتمادها لتكون
أساس التمايز عن باقي الفاعلين السياسيين بمن فيهم الحليف الندائي وشركائه من
البرجوازيين الصغار، وهو ما نتج من المحافظة على نفس
المنطق"السكولاستكي" المهيمن منذ أواخر القرن الماضي والقاضي بضرورة
تقديم التناقض الرئيسي مع الرجعية الدينية(النهضة والسلفية والتحرير) على التناقض
الهامشي مع الرجعية البرجوازية(التجمع في أوائل تسعينات القرن الماضي ونداء تونس
وحلفائه بعد "الثورة") دون أن
يُكلّف العقل السياسي "التقدمي"(في نسختيه اليسارية والقومية) نفسه أي
مراجعة نقدية للكلفة الكارثية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا لمثل هذه
المقاربة"الثقافوية" العقيمة والتي لم يكن محصولها"الواقعي"
إلا تدجين المعارضة"الكرتونية" و"الكفاءات" التقدمية
وجعلها"واقعيا" في خدمة الرأسمال اللاوطني الوكيل للامبريالية الغربية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire