الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

mercredi 9 octobre 2013

كتاب عثمان بن عفان محمد رضا الأديب المصري والكتاب مرجع مهم ـ لدراسة سيرة ثالث الخلفاء الراشدين: عثمان بن عفان،

رضا الأديب المصري  والكتاب مرجع مهم ـ لدراسة سيرة ثالث الخلفاء الراشدين: عثمان بن عفان، ذي النورين ـ يتميز بالموضوعية في التناول، والمنهجية في العرض، والصدق في المعالجة، والكتاب دراسة جادة، تصفي من الروايات شوائبها، وتُرسي من الحقائق رواسخها، بعيدًا عن الغلو والتشويش..


قال عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ وهو محصور‏:‏ يا ابن عباس، اذهب إلى خالد بن العاص ‏[‏التروية‏:‏ اليوم الثامن من ذي الحجة‏]‏ وهو بمكة فقل له‏:‏ يقرأ عليك أمير المؤمنين السلام ويقول لك‏:‏ إني محصور منذ كذا وكذا يومًا لا أشرب إلا من الأجاج ‏[‏الأجاج‏:‏ الماء الشديد الملوحة‏]‏، وقد مُنعت بئرًا اشتريتها من صلب مالي رومه، فإنما يشربها الناس ولا أشرب منها شيئًا، ولا آكل إلا مما في بيتي، مُنعت أن آكل مما في السوق شيئًا، وأنا محصور كما ترى، فأمره، وقل له فليحج بالناس وليس بفاعل‏.‏ فإن أبى فاحجج أنت بالناس‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فقدمت الحج في العشر، فجئت خالد بن العاص فقلت له ما قال لي عثمان‏.‏ فقال لي‏:‏ هل لي طاقة بعداوة من ترى، وهذا الأمر لا يقضى إلا إليه يعني عليًا وأنت أحق أن تحمل له ذلك، فحججت بالناس‏.‏ ثم قفلت في آخر الشهر فقدمت المدينة، وإذا عثمان قد قتل، وإذا الناس يتواثبون على رقبة عليّ بن أبي طالب، فلما رآني عليّ ترك الناس وأقبل عَلَيَّ فانتجاني فقال‏:‏ ما ‏[‏ص 172‏]‏ ترى فيما وقع، فإنه قد وقع أمر عظيم كما ترى لا طاقة لأحد به‏.‏ فقلت‏:‏ أرى أنه لا بدَّ للناس منك اليوم فأرى أنه لا يبايع اليوم أحد إلا اتهم بدم هذا الرجل‏.‏ فأبى إلا أن يبايع فاتّهم بدمه‏.‏

لما خرج ابن عباس يريد الحج مرَّ بعائشة ـ رضي اللَّه عنها ـ في الصّلصُل بنواحي المدينة على سبعة أميال منها فقالت‏:‏ يا ابن عباس، أنشدك اللَّه فإنك قد أعطيت لسانًا إزعيلًا ‏[‏إزعيلًا‏:‏ نشيطًا‏]‏ أن تخذل عن هذا الرجل، وأن تشكك فيه الناس فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت، ورُفعت لهم المنار، وتحلبوا من البلدان لأمر قد جمّ‏.‏ وقد رأيت طلحة ابن عبيد اللَّه قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح فإن يَلٍ يَسر بسيرة ابن عمه أبي بكر ـ رضي اللَّه عنه ـ‏.‏

فأجابها ابن عباس‏:‏ يا أمة لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا يعني عليًا فقال‏:‏ إيهًا عنك إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك‏.‏ هذا يبين لنا موقف عائشة ورأيها، فإنها أرادت من ابن عباس أن يقوم بالدعوة ضد عثمان في مكة، وأن يشكك الناس فيه، وكانت تريد أن يتولى الخلافة بعد عثمان طلحة بن عبيد اللَّه، لا عليّ‏.‏ وطلحة أسلم بدعوة أبي بكر الصدِّيق، وقد أبلى يوم أحد بلاءً عظيمًا، ووقى رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بنفسه، واتقى عنه النبل حتى شلُّت إصبعه، وضرب ضربة على رأسه، وحمل رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ على ظهره حتى صعد معه الصخرة، وكان شديدًا على عثمان، وقتل يوم الجمل، وكان شهد ذلك اليوم محاربًا لعليِّ بن أبي طالب‏.‏ وقال طلحة يوم الجمل‏:‏

ندمت ندامة الكسعيّ لما *** شربت رضى بني جرم برغمي

اللَّهم خذ لعثمان حتى يرضى‏.‏ وقد كان أهل البصرة يريدون طلحة، كما كان أهل مصر يريدون عليًّا‏.‏ أما أهل الكوفة فكانوا يشتهون الزبير‏.‏

فعائشة كانت تريد طلحة، ولا ترغب في عليّ ـ رضي اللَّه عنه ـ، ويرجع السبب في نفورها منه إلى حديث الإفك ‏[‏راجع كتاب ‏"‏محمد رسول اللَّه‏"‏ للمؤلف‏]‏ فإن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لما استشار عليًا في شأن عائشة قبل أن ينزل الوحي ببراءتها قال‏:‏ ‏"‏يا رسول اللَّه لم يضيِّق اللَّه عليك والنساء سواها كثير‏.‏‏"‏

  كتاب عثمان إلى أهل مكة

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 685‏]‏‏:‏

كتب عثمان كتابًا إلى أهل مكة يسألهم أن يأخذوا له بالحق ممن حصروه، وأعطاه لابن ‏[‏ص 173‏]‏ عباس‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فقرأت هذا الكتاب عليهم قبل التروية ‏[‏التروية‏:‏ اليوم الثامن من ذي الحجة‏]‏ بمكة بيوم ثم قدمت المدينة‏.‏

وهذا نص الكتاب كما نسخه عبد المجيد بن سُهَيْل بن عكرمة ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 685‏]‏ ‏"‏بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين‏.‏ سلام عليكم‏.‏ فإني أحمد اللَّه إليكم الذي لا إله إلا هو‏.‏ أما بعد، فإني أذكركم باللَّه عز وجل الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البينات، وأوسع عليكم من الرزق، ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمته‏.‏ فإن اللَّه عز وجل يقول وقوله الحق‏:‏ ‏{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏.‏ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا‏}‏ إلى قوله ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102ـ 105‏]‏ وقال وقوله الحق‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ إلى قوله ‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6ـ 7‏]‏ وقال وقوله الحق‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ‏}‏ إلى قوله ‏{‏فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 6ـ 8‏]‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا‏}‏ إلى قوله ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ وقال وقوله الحق‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ إلى قوله ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ وقال وقوله الحق‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏ إلى قوله ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 91ـ 96‏]‏ وقال وقوله الحق‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ‏}‏ إلى قوله ‏{‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ وقال وقوله الحق‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ إلى قوله ‏{‏وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏ وقال وقوله الحق‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهُ‏}‏ إلى قوله ‏{‏فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏‏.‏

أما بعد، فإن اللَّه عز وجل رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبَّأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدم إليكم فيه ليكون له الحجة عليكم إن عصيتموه، فاقبلوا نصيحة اللَّه عز وجل واحذروا عذابه، فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلا من بعد أن تختلف إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعًا وسُلط عليكم عدوُّكم ويستحل بعضكم حُرم بعض، ومتى يفعل ذلك لا يُقم للَّه سبحانه دين، وتكونوا شيعًا، وقد قال اللَّه عز وجل لرسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏ وإني أوصيكم بما أوصاكم اللَّه، وأحذركم عذابه، فإن شعيبًا ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ قال لقومه‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيَبكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ‏}‏ إلى قوله ‏{‏رَحِيمٌ وَدُودٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 89ـ 90‏]‏ ‏[‏4‏]‏‏.‏

أما بعد، فإن أقوامًا ممن كان يقول في هذا الحديث، أظهروا للناس إنما يدعون إلى كتاب اللَّه عز وجل والحق، ولا يريدون الدنيا ولا المنازعة فيها‏.‏ فلما عُرض عليهم الحق إذا الناس في ذلك شتى، منهم آخذ للحقٍ ونازعٌ عنه حين يُعطاه، ومنهم تارك للحقٍ ونازل عنه في الأمر يريد أن يبتزه بغير الحق‏.‏ طال عليهم عمري، ورَاث عليهم أملهم إلا مرة فاستعجلوا القدر، وقد كتبوا إليكم أنهم قد رجعوا بالذي أعطيتهُم، ولا أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئًا كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود فقلت‏:‏ أقيموها على من علمتم تعداها‏.‏ أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد قالوا‏:‏ كتابُ اللَّه يتلى‏.‏ فقلت‏:‏ فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل اللَّه في الكتاب، وقالوا‏:‏ المحروم يرزق والمال يُوفى ليُستن فيه السنة الحسنة ولا يُعتدى في الخُمس، ولا في الصدقة، ويؤمر ذو القوة والأمانة، وتُرَدّ مظالم الناس إلى أهلها فرضيتُ بذلك واصطبرت له وجئت نسوة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ حتى كلمتهن فقلت‏:‏ ما تأمرنني‏؟‏‏.‏ فقلن‏:‏ تؤمر عمرو بن العاص وعبد اللَّه بن قيس، وتدع معاوية، فإنما أمَّره أمير قبلك فإنه مصلح لأرضه راضٍ به جنده، واردد عمرًا فإن جنده راضون به وأمره فليصلح أرضه فكل ذلك فعلت‏.‏ وأنه اعتديَّ علي بعد ذلك وعدا على الحق‏.‏

كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر استعجلوا القدر ومنعوا مني الصلاة وحالوا بيني وبين الصلاة وابتزوا مما قدروا عليه بالمدينة كتبت إليكم كتابي هذا وهم يخبرونني إحدى ثلاث‏:‏ إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ أو صوابًا غير متروك منه شيء، وإما أعتزل الأمر فيؤمرون آخر غيري، وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من الذي جعل اللَّه سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة، أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يُستقد من أحد منهم، وقد علمت إنما يريدون نفسي‏.‏ وأما أن أتبرأ من الإمارة فإن يكلبوني أحبُّ إليَّ من أن أتبرأ من عمل اللَّه عز وجل وخلافته‏.‏

وأما قولكم يُرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من طاعتي فلست عليكم بوكيل، ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة‏.‏ ولكن أتوها طائعين يبتغون مرضاة اللَّه عز وجل، وإصلاح ذات البين‏.‏ ومن يكن منكم إنما يبتغي الدنيا فليس بنائل منها إلا ما كتب اللَّه عز وجل، ومن يكن إنما يريد وجه اللَّه والدار الآخرة وصلاح الأمة وابتغاء مرضاة اللَّه عز وجل والسنة ‏[‏ص 175‏]‏ الحسنة التي استن بها رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ والخليفتان من بعده ـ رضي اللَّه عنه ـما فإنما يجزي بذلكم اللَّه‏.‏ وليس بيدي جزاؤكم ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثمن لدينكم ولم يغنٍ عنكم شيئًا‏.‏ فاتقوا اللَّه واحتسبوا ما عنده فمن يرضى بالنكث منكم فإني لا أرضاه له ولا يرضى اللَّه سبحانه أن تنكثوا عهده‏.‏ وأما الذي يخبرونني فإنما كله النزع والتأمير فملكت نفسي ومن معي ونظرت حكم اللَّه وتغيير النعمة من اللَّه سبحانه وتعالى وكرهتُ سُنة السوء وشقاق الأمة وسفك الدماء فإني أنشدكم باللَّه والإسلام ألا تأخذوا إلا الحق وتعطوه مني، وتركَ البغي على أهله وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم اللَّه عز وجل، فإني أنشدكم اللَّه سبحانه وتعالى الذي جعل عليكم العهد والمؤازرة في أمر اللَّه فإن اللَّه سبحانه قال وقوله الحق‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 34‏]‏ فإن هذه معذرة إلى اللَّه ولعلكم تذكرون‏.‏

أما بعد، فإني لا أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم‏.‏ وإن عاقبتُ أقوامًا فما أبتغي بذلك إلا الخير، وإني أتوب إلى اللَّه عز وجل من كل عمل عملته وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلا هو‏.‏ إن رحمة ربي وسعت كل شيء إنه لا يقنط من رحمة اللَّه إلا القوم الضالون، وإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون‏.‏ وأنا أسأل اللَّه عز وجل أن يغفر لي ولكم وأن يؤلف قلوب هذه الأمة على الخير ويكرّه إليها الفسق‏.‏

والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته أيها المؤمنون والمسلمون‏.‏

هذا كتاب طويل كتبه عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ، وقرأه ابن عباس على أهل مكة في موسم الحج‏.‏ وقد استشهد بكثير من آيات القرآن الكريم لأنه كان يحفظ القرآن، ويكثر من تلاوته ويتعبَّد به‏.‏ وهذه الآيات التي استشهد بها كان غرضه من إيرادها حض المؤمنين على طاعة اللَّه والاعتصام بحبله، والتخويف من عذاب اللَّه وعاقبة نقض الأيمان بعد توكيدها، ووجوب طاعة اللَّه والرسول وأولي الأمر ولزوم الجماعة والتحذير من الاختلاف والتفريق‏.‏

ثم أمر بإقامة الحدود ورد المظالم وشكا إليهم ما يلقاه من الحصر ومنع الماء والزاد عنه وقال‏:‏ إنه لا يعتزل ولا يتخلى عن واجبه، ولم يكره أحدًا على اختياره خليفة، بل اختاروه طائعين، وذكر أنه تجنب سفك الدماء والشقاق‏.‏ ثم تاب إلى اللَّه واستغفره ولم يبرئ نفسه، فإن النفس أمارة بالسوء وسأل اللَّه أن يؤلف بين قلوب الأمة‏.‏

إلا أن هذا الكتاب لم يأت بالغرض الذي رمى إليه عثمان من تحريره وتلاوته، لأن المحاصرين كانوا قد شددوا عليه الحصار فإن ابن عباس لما عاد إلى المدينة بعد تأدية فريضة الحج وجد عثمان قد قتل‏.‏

الفصل السادس‏:‏ قتل عثمان ‏"‏ـ ونُبَذٌ مِنْ أَخْبَارِهِ ـ‏"‏ ‏(‏35 هـ/ 656 م‏)‏

 قتل عثمان

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64‏]‏ يوم الجمعة 8 من ذي الحجة سنة 35 هـ‏.‏

قال ابن عديس لأصحابه‏:‏ لا تتركوا أحدًا يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده‏.‏ وأصرَّ المصريون على قتله‏.‏ وقصدوا الباب فمنعهم الحسن، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان، وسعيد بن العاص، ومن معهم من أبناء الصحابة‏.‏ واجتلدوا ‏[‏اجتلدوا‏:‏ تضاربوا‏.‏ ‏[‏القاموس المحيط، مادة‏:‏ جلد‏]‏ ‏]‏، فزجرهم عثمان وقال‏:‏ أنتم في حلٍّ من نصرتي، فأبوا، ففتح الباب لمنعهم‏.‏ فلما خرج ورآه المصريون رجعوا فركبهم هؤلاء، وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن، فدخلوا، فأغلق الباب دون المصريين‏.‏

فقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض وكان من الصحابة، فنادى عثمان، فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلب الكندي بسهم فقتله‏.‏ فقالوا لعثمان عند ذلك‏:‏ ادفع إلينا قاتله لنقتله به‏.‏ قال‏:‏ لم أكن لأقتل رجلًا نصرني وأنتم تريدون قتلي‏.‏ فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب، فلم يمنعهم أحد منه، والباب مغلق، لا يقدرون على الدخول منه، فجاءوا بنار، فأحرقوه‏.‏ وثار أهل الدار وعثمان يصلي قد افتتح ‏{‏طه‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 1‏]‏، فما شغله ما سمع ما يخطئ وما يتتعتع حتى أتى عليها‏.‏ فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه وقرأ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ فقال لمن عنده بالدار‏:‏ إن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ قد عهد إليَّ عهدًا فأنا صابر عليه‏.‏ ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه‏.‏

اقتحم الناس الدار من الدورة التي حولها حتى ملؤوها ولا يشعر الذين بالباب ممن وقفوا ‏[‏ص 180‏]‏ للدفاع‏.‏ وأقبلت القبائل على أبنائهم فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم وندبوا رجلًا لقتله، فانتدب له رجل فدخل عليه البيت فقال‏:‏ ‏"‏اخلعها وندعك‏.‏‏"‏

فقال‏:‏ ‏"‏ويحك، واللَّه ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيتُ ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ولست خالعًا قميصًا كسانيه اللَّه عز وجل، وأنا على مكاني حتى يُكرم اللَّه أهل السعادة ويُهين أهل الشقاء‏"‏‏.‏

فخرج وقالوا‏:‏ ما صنعت‏؟‏ فقال‏:‏ عَلِقنا واللَّه، واللَّه ما ينجينا من الناس إلا قتله، وما يحل لنا قتله‏.‏

فأدخلوا عليه رجلًا من بني ليث‏.‏ فقال‏:‏ ممن الرجل‏؟‏ فقال‏:‏ ليثي‏.‏ فقال‏:‏ لست بصاحبي‏.‏ قال‏:‏ وكيف‏؟‏ فقال‏:‏ ألست الذي دعا لك النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فلن تضيع، فرجع وفارق القوم‏.‏

فأدخلوا عليه رجلًا من قريش، فقال‏:‏ يا عثمان إني قاتلك‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ كلا يا فلان لا تقتلني‏.‏ قال‏:‏ وكيف‏؟‏ قال‏:‏ إن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ استغفر لك يوم كذا وكذا، فلن تقارف دمًا حرامًا‏.‏ فاستغفر ورجع وفارق أصحابه‏.‏

فأقبل عبد اللَّه بن سلام ‏[‏هو عبد اللَّه بن سلام بن الحارث، الإسرائيلي، أبو يوسف، صحابي، قيل‏:‏ إنه من نسل يوسف بن يعقوب المتوفى سنة 43 هـ، أسلم عند قدوم النبي صلى اللَّه عليه وسلم المدينة، كان اسمه ‏"‏حصين‏"‏ فسمَّاه النبي صلى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه وفيه نزلت الآية‏:‏ ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏ والآية‏:‏ ‏{‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وعندما قامت الفتنة بين علي ومعاوية اتخذ سيفًا من خشب واعتزلها‏.‏ للاستزادة راجع‏:‏ خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 124، الإصابة ج 3/ص 118، الاستيعاب ج 2/ص 311‏.‏‏]‏ حتى قام على الباب ينهاهم عن قتله وقال‏:‏

‏"‏يا قوم، لا تسلّوا سيف اللَّه بينكم‏.‏ فواللَّه إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرَّة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف‏.‏ ويلكم إن مدينتكم محفوفة بملائكة اللَّه‏.‏ واللَّه لئن قتلتموه لتتركنها‏"‏ ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64‏]‏‏.‏

فقالوا‏:‏ يا ابن اليهودية، وما أنت وهذا فرجع عنهم‏.‏

وروي عن عبد اللَّه بن عمير عن ابن أخي عبد اللَّه بن سلام قال‏:‏

لما أُريد قتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ جاء عبد اللَّه بن سلام فقال له عثمان‏:‏ ما جاء بك‏؟‏ قال‏:‏ جئت في نصرك‏.‏ قال‏:‏ اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارج خير إليَّ منك داخل‏.‏ فخرج عبد اللَّه إلى الناس فقال‏:‏

‏"‏أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلانًا، فسماني رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ عبد اللَّه، ونزلت فيَّ ‏[‏ص 181‏]‏ آيات من كتاب اللَّه عز وجل‏.‏ ونزل فيَّ‏:‏ ‏{‏وَشَهدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى مِثلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ ونزل فيَّ‏:‏ ‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏‏.‏ إن للَّه سيفًا مغمودًا، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ‏.‏ فاللَّه اللَّه في هذا الرجل إن تقتلوه لتطردن جيرانكم الملائكة، وليسلنّ سيف اللَّه المغمود فيكم، فلا يغمد إلى يوم القيامة، قالوا‏:‏ اقتلوا اليهودي‏.‏

فانظر الفرق الشاسع بين عبد اللَّه بن سلام الذي تطوَّع للدفاع عن عثمان وبين عبد اللَّه بن سبأ الذي كان يحرَّض الناس على قتله‏.‏ فإن كليهما كان يهوديًا وأسلم‏.‏

وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي بكر‏.‏ فقال له عثمان‏:‏

‏"‏ويلك على اللَّه تغضب‏؟‏ هل لي إليك جُرم إلا حق أخذته منك‏؟‏ ورجع‏.‏

فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان بن حُمران والغافقي لعنهم اللَّه فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله، فاستدار المصحف فاستقر بين يديه، وسالت عليه الدماء‏.‏ وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبت عليه زوجة عثمان نائلة، واتقت السيف بيدها، فتغمدها ونفح أصابعها‏.‏ فأطن أصابع يدها، فغمز أوراكها، وقال‏:‏ إنها لكبيرة العجيزة‏.‏ وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، وقد كان عثمان أعتق من كف منهم، فلما رأوا سودان قد ضربه أهوى له بعضهم، فضرب عنقه، فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت، وأخرجوا من فيه، ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 676، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 68‏]‏‏.‏

فلما خرجوا إلى الدار وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل مُلاءة نائلة، والرجل يدعى كلثوم بن تجيب، فتنحَّت نائلة‏.‏ فقال‏:‏ وَيحَ أمك من عجيزة ما أتمك، وبصر به غلام لعثمان فقتله، وقُتل، وتنادى القوم أبصر رجل من صاحبه وتنادوا في الدار‏:‏ أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه، وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم، وليس فيه إلا غِرارتان‏.‏ فقالوا‏:‏ النجاء، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا، فهربوا، وأتوا بيت المال، فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالتانئ يسترجع ويبكي، والطارئ يفرح، وندم القوم‏.‏

وكان الزبير قد خرج من المدينة، فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله‏.‏ فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو قال‏:‏ ‏"‏إنا للَّه وإنا إليه راجعون، رحم اللَّه عثمان وانتصر له‏"‏‏.‏ وأتى الخبر طلحة فقال‏:‏ ‏"‏رحم اللَّه عثمان وانتصر له وللإسلام‏"‏‏.‏ وقيل له‏:‏ إن القوم نادمون‏.‏ فقال‏:‏ تبًَّا لهم، وقرأ‏:‏ ‏{‏فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِم يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 50‏]‏ ‏[‏ص 182‏]‏‏.‏

وأُتِيَ عليٌّ فقيل‏:‏ قُتل عثمان فقال‏:‏ ‏"‏رحم اللَّه عثمان وخلف علينا بخير‏"‏‏.‏ وقيل‏:‏ ندم القوم فقرأ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 16‏]‏‏.‏ الآية‏.‏ وطُلب سعد فإذا هو في حائطه وقد قال‏:‏ لا أشهد قتله‏.‏ فلما جاء قتله، قال‏:‏ فررنا من المدينة فدنينا وقرأ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏، اللَّهم أندمهم ثم خذهم ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 676‏]‏‏.‏

وفي رواية أخرى ‏[‏الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص ، 677‏]‏

إن محمد بن أبي بكر تسوَّر على عثمان من دار عمرو بن حزم، ومعه كنانة بن بشر بن عتّاب، وسودان بن حُمران، وعمرو بن الحمق، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة، وهو يقرأ في المصحف ‏{‏سورة البقرة‏}‏ فتقدمهم محمد بن أبي بكر، فأخذ بلحية عثمان فقال‏:‏

قد أخزاك اللَّه يا نَعْثَل ‏[‏نَعْثَل‏:‏ هو اسم رجل قبطي كان بالمدينة، عظيم اللحية يشبهون به عثمان لعظيم لحيته، ولم يكونوا يجدون فيه عيبًا سوى هذا‏]‏‏.‏

فقال عثمان‏:‏ لستُ بنعثل، ولكن عبد اللَّه وأمير المؤمنين‏.‏ فقال محمد‏:‏ ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان‏.‏ فقال عثمان‏:‏ يا ابن أخي دعْ عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه‏.‏ فقال محمد‏:‏ ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك‏.‏ فقال عثمان‏:‏ أستنصر اللَّه عليك وأستعين به‏.‏ ثم طعن جبينه بمِشْقَص ‏[‏المشقص‏:‏ سهم فيه نصل عريض‏.‏ ‏[‏القاموس المحيط، مادة‏:‏ شقص‏]‏‏.‏‏]‏ في يده‏.‏ ورفع كنانة بن بشر بن عتّاب مشاقص كانت في يده فَوَجَأَ بها ‏[‏وَجَاءَ‏:‏ أي ضرب‏]‏ في أصل أذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حَلقه، ثم علاه بالسيف حتى قتله‏.‏ وقيل‏:‏ ضرب كنانة بن بشر جبينه ومُقَدم رأسه بعمود، فخرَّ لجنبه‏.‏ وضربه سودان بن حُمران المرادي بعد ما خرَّ لجنبه فقتله‏.‏ وأما عمرو ابن الحَمِق ‏[‏أسلم بعد الحديبية، صحب النبي صلى اللَّه عليه وسلم وحفظ عنه أحاديث، ثم جاء مصر وانتقل منها إلى الكوفة‏.‏ قيل‏:‏ إنه سقى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال‏:‏ اللَّهم متعه شبابه، فمرت عليه ثمانون سنة لا ترى في لحيته شعرة بيضاء‏.‏ قال ابن الأثير في أسد الغابة‏:‏ وهو أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان الدار وصار بعد ذلك من شيعة عليّ‏.‏ وقيل‏:‏ أول رأس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق إلى معاوية‏]‏ فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال‏:‏ أما ثلاث منهن فإني طعنتهن للَّه‏.‏ وأما ست فإني طعنت إياهن لما كان في صدري عليه ‏[‏ص 183‏]‏‏.‏

وعن جدة الزبير بن عبد اللَّه قالت ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 671‏]‏‏:‏

لما ضربه المشاقص قال عثمان‏:‏ ‏"‏بسم اللَّه توكلت على اللَّه‏"‏، وإذا الدم يسيل على اللحية يقطر والمصحف بين يديه فاتكأ على شقه الأيسر وهو يقول‏:‏ ‏"‏سبحان اللَّه العظيم‏"‏ وهو في ذلك يقرأ المصحف والدم يسيل على المصحف حتى وقف الدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏‏.‏ وأطبق المصحف وضربوه جميعًا ضربة واحدة‏.‏ فضربوه واللَّه بأبي وهو يحيي الليل في ركعة، ويصل الرحم، ويُطعم الملهوف، ويحمل الكَلَّ، فرحمه اللَّه‏"‏‏.‏

وعن الزهري قال ‏[‏ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 68‏]‏‏.‏

قُتل عثمان عند صلاة العصر، وشدَّ عبدٌ لعثمان أسود على كنانة بن بشر فقتله‏.‏ وشدَّ سودان على العبد فقتله‏.‏ ودخلت الغوغاء دار عثمان فصاح إنسان منهم‏:‏ أيحل دم عثمان ولا يحل ماله‏؟‏ فانتهبوا متاعه‏.‏ فقامت نائلة فقالت‏:‏ لصوص ورب الكعبة‏!‏ يا أعداء اللَّه ما ركبتم من دم عثمان أعظم‏.‏ أما واللَّه لقد قتلتموه صوَّامًا قوَّامًا يقرأ القرآن في ركعة‏.‏ ثم خرج الناس من دار عثمان فأغلق بابه على ثلاثة قتلى‏:‏

ـ1ـ عثمان‏.‏

ـ2ـ وعبد عثمان الأسود‏.‏

ـ3ـ كنانة بن بشر‏.‏

وقد اختلف الرواة في حكاية محمد بن أبي بكر فذكر بعضهم أنه طعن جبين عثمان بمشقص كان في يده‏.‏ وقيل‏:‏ إن عثمان لما أمسك محمد لحيته قال له عثمان‏:‏ أستنصر اللَّه عليك وأستعين به فتركه‏.‏ وابن الأثير يرجح أنه تركه ولم يضربه‏.‏

وذكر ابن الأثير ‏[‏ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 67‏]‏ أنهم أرادوا قطع رأسه فوقعت نائلة عليه وأم البنين، فصحن وضربن الوجوه‏.‏ فقال ابن عديس‏:‏ اتركوه‏.‏ وأقبل عمير بن ضابئ فوثب عليه وكسر ضلعًا من أضلاعه وقال‏:‏ سجنت أبي حتى مات في السجن‏.‏

وبلغ الخبر عليًا وطلحة والزبير وسعدًا فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر حتى دخلوا على عثمان فقال عليّ لابنيه‏:‏ كيف يقتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب، ورفع يده فلطم الحسن، وضرب الحسين على صدره‏.‏ وشتم محمد بن طلحة وعبد اللَّه بن الزبير، وخرج وهو غضبان ‏[‏ص 184‏]‏ حتى أتى منزله فجاء الناس يهرعون إليه يريدون مبايعته فقال‏:‏ ‏"‏واللَّه إني لأستحي أن أبايع قومًا قتلوا عثمان، وإني لأستحي من اللَّه تعالى أن أبايع وعثمان لم يدفن‏"‏‏.‏ فافترقوا، وتمت البيعة له‏.‏

  مروان ودفاعه عن عثمان

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 659، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 66‏]‏

لما ألقى الناس النيران في أبواب دار عثمان فاحترق بعضها قال‏:‏ ما احترق الباب إلا لما هو أعظم منه‏.‏ لا يحركنَّ رجل منكم يده‏.‏ فواللَّه لو كنت أقصاكم لتخطوكم حتى يقتلوني‏.‏ ولو كنت أدناكم ما جاوزوني إلى غيري وإني لصابر كما عهد إليَّ رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لأصرعن مصرعي الذي كتب اللَّه عز وجل لي‏.‏

فقال مروان‏:‏ واللَّه لا تقتل وأنا أسمع الصوت‏.‏ ثم خرج بالسيف على الباب يتمثل بهذا الشعر‏:‏

قد علمتْ ذات القرون الميل *** والكف والأنامل الطفول

أبي أروع أول الرعيل *** بغارة مثل قَطا الشليل

ثم صاح‏:‏ من يبارز وقد رفع أسفل درعه فجعله في منطقته، فوثب إليه ابن النباع، فضربه على رقبته من خلفه، فأثبته حتى سقط، فما ينبض منه عرق، فأدخل بيت فاطمة ابنة أوْس جدة إبراهيم بن العديّ وكانت أرضعت مروان، وأرضعت له‏.‏ وفي رواية أن فاطمة وثبت على عبيد بن رفاع الذي أراد أن يجهز عليه بعد ضربة ابن النباع وقالت‏:‏ إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح‏.‏ فكفَّ عنه‏.‏ فما زالوا يشكرونها لها فاستعملوا ابنها إبراهيم بعد‏.‏

  فظاعة الجرم

لم يتوقع أحد من الصحابة أن يُقتل عثمان‏.‏ أما الحسن والحسين ومن معهما فقد كانوا يحرسون بابه، ولكن القتلة تسوَّروا عليه من دار مجاورة لداره‏.‏ لقد قتلوه قتلة شنيعة ترتعد منها الفرائص، ومثلوا به وهو يتلو القرآن، وكانت تلاوة القرآن نوعًا من العبادة، فضربه بعضهم بحديدة، وبعضهم ضربه بمشقص، وطعنه آخر بتسع طعنات، وكسر الآخر ضلعًا من أضلاعه‏.‏ ولم يكتفوا بذلك بل تعدوا على امرأته المخلصة بالسيف وببذيء الكلام، وأرادوا قطع رأسه بعد أن فارق الحياة، ونهبوا أمتعة المنزل وما في بيت المال، ومنعوا عنه الماء أثناء الحصار حتى ‏[‏ص 185‏]‏ غضب عليّ وهالته قسوتهم، فقال لهم‏:‏ ‏"‏أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي‏.‏‏"‏

لا أحد يبرز قتل عثمان والتمثيل به‏.‏ ولم يجترئ عليه أحد من كبار الصحابة حتى المخالفين له في الرأي، لأنهم كانوا يجلُّونه، ويوقرونه، لمكانه من رسول اللَّه، وأياديه البيضاء في سبيل الإسلام، وحسن أخلاقه، وعواطفه، وسائر فضائله التي لا ينكرها أحد‏.‏

لا شك أن هؤلاء القتلة مجرمون، غلاظ الأكباد، قساة القلوب‏.‏ فلم يراعوا حرمة صحبته للرسول، وصهره، ومنزلته في الإسلام، وخدماته الجليلة، وبذل الأموال الطائلة لنصرته ورفعته، ولم يخجلوا من التهجم على رجل فاضل قال عنه رسول اللَّه‏:‏ ‏(‏إن الملائكة تستحي منه‏)‏ ‏[‏رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب‏:‏ 26، وأحمد في‏(‏م 6/ص 155‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏ رجل سهل، لين، كريم، كفَّ يده، ونهى عن سفك دم المسلمين، وهو محاصر أشد الحصار، مهدد بالقتل، وكان مثال الصالحين، والقراء للقرآن، وعاش محببًا للناس لا يميل إلى الشدة والعنف، لقد فتكوا به وهو قابع في بيته، يتعبد بتلاوة القرآن، ونهى أصحابه حتى عن الدفاع عنه‏.‏ فأيِّ قلب لا يتفطر، وأيِّ دمع لا ينهمر، وأيِّ فؤاد لا يذوب كمدًا وأسى على قتل الخليفة الصالح من غير أن يرتكب إثمًا يوجب القتل‏.‏

إن الذي جنى على عثمان وبغَّضه في الناس هم كما قلنا وقال غيرنا من كبار المؤرخين المحققين أقاربه الذين كان يحسن إليهم، فإنهم كانوا مستشاري سوء، ولم يكن لهم رأي صائب ونظر بعيد، وكانوا مع ذلك يصرفونه حسب أغراضهم وأهوائهم لا حسب ما تقضي به مصلحة المسلمين عامة‏.‏ وقد ظل عثمان كما قبل ست سنوات في بدء حكمه وهو أحب الناس إلى الناس‏.‏ فلو أنه ترك وشأنه يدبر الأمور بطبيعته الخيّرة الهادئة التي لا تميل إلى الشدة والقسوة والتعدي، وبلطفه وأدبه وإحسانه وبما اشتهر عنه أيام الرسول لما شكا منه شاك، بل لكان عهده عهد خير وسلام‏.‏ لكن أقاربه قد تمكَّن منهم حب الذات والجشع، فانتهزوا فرصة خلافته، واستغلوا صفة حميدة فيه ألا وهي صلة الرحم، فكانوا يأتونه من هذه الجهة لينالوا مأربهم من ولاية وثراء واستئثار بالحكم، وقد تحكَّموا فيه زمن شيخوخته فلم يقوَّ على مقاومتهم وخلافهم‏.‏ فكان ما كان من سفك دمه وبث بذور الفتن والشقاق‏.‏

قال جيبون في كتاب سقوط الإمبراطورية الرومانية‏:‏ ‏"‏إن عثمان اختار فخُدع، ووثق فغُدر، وصار من كان موضع ثقته عديم الفائدة وعدوًا لحكومته، وانقلب إحسانه جورًا وتذمرًا‏"‏‏.‏

  قتلة عثمان وخاذلوه

أجمع أهل السنة على أن عثمان كان إمامًا على شرط الاستقامة إلى أن قُتل‏.‏ وأجمعوا على أن قاتليه قتلوه ظلمًا، فإن كان فيهم من استحل دمه فقد كفر‏.‏ ومن تعمد قتله من غير استحلال كان فاسقًا غير كافر‏.‏ والذين هجموا عليه واشتركوا في دمه معروفون بقطع بفسقهم، منهم محمد بن أبي بكر، ورفاعة بن رافع، والحجاج بن غزنة، وعبد الرحمن بن خصل الجمحي، وكنانة بن بشر النخعي، وسندان بن حمران المرادي، وبسرة بن رهم، ومحمد بن أبي حذيفة، وابن عتيبة، وعمرو بن الحمق الخزاعي‏.‏

وأما الذين قعدوا عن نصرة عثمان فهم فريقان‏:‏ فريق كانوا معه في الدار فدفعوا عنه كالحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عمر، والمغيرة بن الأخنس، وسعيد بن العاص، وسائر من كان في الدار من موالي عثمان، إلى أن أقسم عليهم بترك القتال وقال لغلمانه‏:‏ ‏"‏من وضع السلاح فهو حر‏"‏‏.‏ فهؤلاء أهل طاعة وبر وإحسان‏.‏ والفريق الثاني من القعدة عن نصرته فريقان‏:‏ فريق أرادوا نصرة عثمان فنهاهم عثمان عنها، كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد اللَّه بن سلام‏.‏ فهؤلاء معذورون لأنهم قعدوا عنه بأمره‏.‏ والفريق الثاني‏:‏ قوم من السوقة أعانوا الهاجمين فشاركوهم في الفسق واللَّه حسبهم‏.‏

ودليلنا على براءة عثمان مما قذف بت ورود الروايات الصحيحة بشهادة الرسول له ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بالجنة عند تجهيز جيش العسرة، وما روي من أنه يدخل الجنة بلا حساب، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن‏.‏ وقد روي أن النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ صعد جبل حراء، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقال‏:‏ ‏(‏اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد‏)‏ رواه الدارقطني في ‏(‏ج 4/ص 198‏)‏‏.‏‏.‏ وفي هذا دليل على أن عثمان قُتل شهيدًا، ودليل صحة إمامته إجماع الأمة بعد عمر أن الإمامة لواحد من أهل الشورى وكانوا ستة، فاجتمع خمسة عليه فحصل إجماع الأمة على إمامته ‏[‏أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي‏.‏ أصول الدين ‏(‏م 1/ص 287 289‏)‏، ط 1، استنابول سنة 1346 هـ 1928 م‏.‏‏]‏‏.‏

  كتاب نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية

كتبت نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ إلى معاوية كتابًا مع النعمان بن بشير وبعثت إليه بقميص عثمان مخضبًا بالدماء‏.‏ وهذا هو نص كتابها‏:‏

من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان ‏[‏ص 187‏]‏‏.‏

‏"‏أما بعد، فإني أدعوكم إلى اللَّه الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة‏.‏ وأنقذكم من الكفر‏.‏ ونصركم على العدو‏.‏ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة‏.‏ وأنشدكم اللَّه وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم اللَّه عليكم فإنه قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ فإن أمير المؤمنين بُغي عليه، ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حق الولاية لحق على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره، فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام، وحسن بلائه، وأنه أجاب اللَّه وصدق كتابه، واتبع رسوله، واللَّه أعلم بت، إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة‏!‏ وإني أقص عليكم خبره‏.‏ إني شاهدة أمره كله‏.‏ إن أهل المدينة حصروه في داره، وحرسوه ليلهم ونهارهم، قيامًا على أبوابه بالسلاح يمنعونه من كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء، فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وطلحة والزبير فأمروهم بقتله‏.‏ وكان معهم من القبائل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل وطوائف من جهينة ومزينة وأنباط يثرب‏.‏ فهؤلاء كانوا أشد الناس عليه‏.‏ ثم إنه حصر، فرشق بالنبل، فجرح ممن كان في الدار ثلاثة نفر‏.‏ فأتاه الناس يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال فنهاهم وأمرهم أن يردوا إليهم نبلهم فردوها عليهم‏.‏ فما زادهم ذلك في القتل إلا جرأة وفي الأمر إلا إغراقًا فحرقوا باب الدار‏.‏ ثم جاء نفر من أصحابه فقالوا‏:‏ إن ناسًا يريدون أن يأخذوا من الناس بالعدل فاخرج إلى المسجد يأتوك فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية‏.‏ فقال‏:‏ ما أرى اليوم أحدًا يعدل‏.‏ فدخل الدار وكان معهم نفر ليس على عامتهم سلاح‏.‏ فلبس درعه وقال لأصحابه‏:‏ لولا أنتم ما لبست اليوم درعي‏.‏ فوثب عليه القوم فكلَّمهم ابن الزبير وأخذ عليهم ميثاقًا في صحيفة بعث بها إلى عثمان‏.‏ عليكم عهد اللَّه وميثاقه أن لا تقربوه بسوء حتى تكلّموه وتخرجوا‏.‏ فوضع السلاح، ودخل عليه القوم يقدمهم محمد بن أبي بكر‏.‏ فأخذ بلحيته ودعوا باللقب‏.‏ فقال‏:‏ أنا عبد اللَّه وخليفته عثمان فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات وضربوه على مقدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم، فسقطت عليه، قد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به فأتتني ابنة شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي فوطئنا وطئًا شديدًا عُرِّينا من حلينا وحرمة أمير المؤمنين أعظم‏.‏ فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهورًا على فراشه‏.‏ وقد أرسلت إليكم بثوبه عليه دمه فإنه واللَّه إن كان أثم من قتله فما سلم من خذله‏.‏ فانظروا أين أنتم من اللَّه، وأنا أشتكي كل ما مسنا إلى اللَّه عز وجل وأستصرخ بصالحي عباده‏.‏ فرحم اللَّه عثمان ولعن قتلته وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة وشفى منهم الصدور‏"‏‏.‏

فحلف رجال من أهل الشام أن لا يمسوا غسلًا حتى يقتلوا عليًّا أو تفنى أرواحهم‏.‏

وهذا كتاب طويل ذكرت فيه زوجة عثمان تفاصيل قتله بعد أن فجعت بفقده، لكنها لم ‏[‏ص 188‏]‏ تذكر أسماء من باشروا القتل‏.‏ وقد كانت نائلة من أخلص المخلصين لزوجها، ودافعت عنه بقدر طاقتها، وعرضت نفسها للقتل‏.‏ وهكذا فليكن الوفاء والإخلاص‏.‏ وقد حرضت معاوية والمسلمين بهذا الكتاب على الأخذ بالثأر‏.‏

  موقف علي ـ رضي اللَّه عنه ـ إزاء قتل عثمان

كان علي ـ رضي اللَّه عنه ـ أحد الستة الذين رشَّحهم عمر بن الخطاب للخلافة بعده‏.‏ وقد بايع عبد الرحمن بن عوف عثمان بناء على ما اجتمع إليه من رأي أصحاب رسول اللَّه وأمراء الأجناد وأشراف الناس‏.‏

فقال عمار‏:‏ إن أردت ألاَّ يختلف المسلمون فبايع عليًا‏.‏ فقال المقداد ابن الأسود‏:‏ صدق عمار، إن بايعت عليًا قلنا سمعنا وأطعنا‏.‏ وقال ابن أبي سرح‏:‏ إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان‏.‏ فقال عبد اللَّه بن أبي ربيعة‏:‏ صدق، إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا‏.‏ فشتم عمار ابن أبي سرح وقال‏:‏ ومتى كنت تنصح المسلمين‏.‏

وأخيرًا بايع عثمان فاستاء عليّ وقال‏:‏ حبوته حبو دهر‏.‏ ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا يعني بني أمية فصبر جميل واللَّه المستعان على ما تصفون‏.‏ واللَّه ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك‏.‏ واللَّه كل يوم هو في شأن‏.‏

فقال عبد الرحمن‏:‏ يا علي، لا تجعل على نفسك سبيلًا فإني نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان‏.‏ فخرج علي وهو يقول‏:‏ سيبلغ الكتاب أجله‏.‏

بايع عبد الرحمن عثمان لأنه كما قال نظر وشاور وهو مع ذلك صهر عثمان، وكان لعلي رجال يؤيدونه، لكنه سكت بعد ذلك وأطاع‏.‏ وكان عثمان يعرف قدره ويقدر رأيه غير أنه تركه ولم يقلده ولاية ما، فلما اشتدت الفتنة لجأ إليه يستشيره ويستنجد به ليرد عنه عادية الأعداء فبذل له من النصح أخلصه فلم يعمل بنصحه لتسلط حاشيته ومستشاريه عليه وقد كانوا يبغضونه في علي خشية أن يطيعه فيفسد عليهم سياستهم وتدابيرهم‏.‏

لم يكن عليّ يتحامل على عثمان بل كان يجلّه لقد قال له وهو يحدثه في أمر الفتنة‏:‏

‏"‏واللَّه ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئًا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه‏.‏ إنك لتعلم ما نعلم‏.‏ ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمر دونك‏.‏ وقد رأيت وسمعت صحبت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ونلت صهره إلخ‏.‏‏"‏

ثم أظهر له علي موضع ضعفه وسبب شكوى الناس فقال‏:‏

‏"‏ضعفت، ورفقت على أقربائك‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏إن معاوية يقطع الأمور دونك، وأنت تعلمها فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تغيّر على معاوية‏"‏ ‏[‏ص 189‏]‏‏.‏

ولما ذهب عثمان إلى عليّ في بيته يسأله أن يرد المصريين عنه قال له‏:‏ ‏"‏قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك تخرج وتقول، ثم ترجع عنه وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد اللَّه بن سعد‏.‏ فإنك أطعتهم وعصيتني‏"‏‏.‏ فقال عثمان‏:‏ فأنا أعصيهم وأطيعك‏.‏ فركب عليّ وردَّ عنه المصريين‏.‏

ولما خطب عثمان وتاب، ثم خرج مروان وشتم الناس وأفسد عليه توبته غضب علي وحق له أن يغضب نصحته زوجته نائلة أن يستصلحه‏.‏

ثم طلب عثمان المهلة ثلاثة أيام وأكد لعليّ أنه يعطيهم الحق من نفسه ومن غيره‏.‏ فخرج فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتابًا أجله فيه ثلاثًا على أن يرد كل مظلمة ويعزل كل عامل كرهوه‏.‏ فكف المسلمون عنه، ورجعوا، إلا أنه كان قد طلب الأجل انتظارًا للمدد من الأمصار حتى إذا قدموا وأنس القوة حاربهم، كما أوحى إليه مروان بن الحكم‏.‏ وما كان عليّ يدري شيئًا من ذلك بل كان يحسب أنه إنما طلب الأجل ليتسنى له إجابتهم إلى ما يريدون في هذه المدة، لأنه قال له‏:‏ ‏"‏اضرب بيني وبينهم أجلًا يكون فيه مهلة فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد‏"‏‏.‏ ومضت الأيام الثلاثة ولم يغيّر شيئًا‏.‏ وعدا ذلك أمر عليّ ابنه وأبناء الصحابة أن يحرسوا باب عثمان، فماذا يصنع عليّ بعد ذلك‏؟‏‏.‏ وماذا كان في طاقته‏؟‏‏.‏

وعن شداد بن أوس قال‏:‏ لما اشتد الحصار بعثمان يوم الدار أشرف على الناس فقال‏:‏ يا عباد اللَّه‏.‏ قال‏:‏ فرأيت عليّ بن أبي طالب خارجًا من منزله معتمًا بعمامة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ متقلدًا سيفه‏.‏ أمامه الحسن وعبد اللَّه بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار حتى حملوا على الناس وفرَّقوهم، ثم دخلوا على عثمان فقال له عليّ‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين إن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر وإني لا أرى القوم إلا قاتليك فمرنا فلنقاتل‏.‏ فقال عثمان‏:‏ أنشد اللَّه رجلًا رأى للَّه حقًا وأقرَّ أن لي عليه حقًا أن يهريق في سببي ملء محجمة من دم أو يهريق دمه فيَّ‏.‏ فأعاد عليّ عليه القول، فأجابه بمثل ما أجابه، ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة فقالوا‏:‏ يا أبا الحسن تقدَّم فصلِّ بالناس فقال‏:‏ لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي، فصلَّى وحده وانصرف إلى منزله إلخ‏.‏

وأخذ علي يبحث عن قتلة عثمان فسأل امرأته فقالت‏:‏ لا أدري، إلا أن دخل عليه محمد بن أبي بكر ومعه رجلان لا أعرفهما فدعا محمدًا وسأله، قال واللَّه لم تكذب دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكر لي أبي فقمت عنه وأنا تائب للَّه‏.‏

وجميع الروايات تثبت براءة عليّ ـ رضي اللَّه عنه ـ من دم عثمان‏.‏

  رؤيا عثمان

‏[‏ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 195‏]‏‏:‏ ‏[‏ص 190‏]‏

عن عبد اللَّه بن سلام أنه قال‏:‏

أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال‏:‏ مرحبًا بأخي مرحبًا بأخي‏.‏ أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام‏؟‏ فقال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في هذه الخَوْخة ‏[‏الخوخة‏:‏ كوَّة يدخل منها الضوء إلى البيت‏]‏ وإذا خوخة في البيت‏.‏ فقال‏:‏ أحصروك‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ عطشوك‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ فأدلى لي دلوًا من ماء فشربت حتى رويت فإني لأجد بردًا بين كتفيَّ وبين بدني‏.‏ إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا‏.‏ قال‏:‏ فاخترت أن أفطر عندهم‏.‏ قال‏:‏ فقتل عثمان في ذلك اليوم‏.‏

وعن مسلم عن أبي سعيد مولى عثمان، أن عثمان أعتق عشرين مملوكًا، ودعا بسراويل، فشدَّها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام‏.‏ قال‏:‏ إني رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ البارحة وأبا بكر وعمر فقالوا لي‏:‏ صبرًا، فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه‏.‏

عن ابن عمر أن عثمان أصبح يحدث الناس‏.‏ قال‏:‏ رأيت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في المنام‏.‏ قال‏:‏ يا عثمان أفطر عندنا غدًا فأصبح صائمًا وقتل من يومه‏.‏ واختلاف الروايات محمول على تكرار الرؤيا فكانت مرة نهارًا ومرة ليلًا‏.‏

  وصيته

عن العلاء بن الفضل عن أمه‏.‏ قال‏:‏ لما قُتل عثمان فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقًا مقفلًا ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوبًا فيها‏:‏

‏"‏هذه وصية عثمان‏:‏ بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏.‏ عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن اللَّه يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه‏.‏ إن اللَّه لا يخلف الميعاد‏.‏ عليها يُحيى وعليها يموت‏.‏ وعليها يُبعث إن شاء اللَّه‏"‏‏.‏

  آخر خطبة لعثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 672‏]‏‏:‏

ذكر الطبري آخر خطبة خطبها عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ في جماعة‏:‏

‏"‏إن اللَّه عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها‏.‏ إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى‏.‏ فلا تُبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على ‏[‏ص 191‏]‏ ما يفنى‏.‏ فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى اللَّه‏.‏ اتقوا اللَّه عز وجل فإن تقواه جُنة من بأسه ووسيلة عنده‏.‏

واحذروا من اللَّه الغِيرَ والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزابًا ‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏‏.‏

 دفن عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 687، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 69‏]‏‏:‏

قيل‏:‏ بقي عثمان ثلاثة أيام لم يدفن، ثم إن حكيم بن حزام وجبير بن مطعم، كلَّما عليًا في أن يأذن في دفنه، فقعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وغيرهم، وفيهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطًا من حيطان المدينة يسمى حَش كوكب ‏[‏الحش‏:‏ البستان‏.‏ وحَش كوكب‏:‏ موقع إلى جانب بقيع الغرقد بالمدينة‏]‏‏.‏ وهو خارج البقيع فصلَّى عليه جبير بن مطعم، وخلفه حكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه، ثم تركوهم خوفًا من الفتنة‏.‏

وعن الربيع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه قال‏:‏ كنت أحد حملة عثمان بن عفان حين توفي حملناه على باب، وإن رأسه يقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمرًا عظيمًا، حتى واريناه في قبره في حش كوكب‏.‏

وأرسل عليّ إلى من أراد أن يرجم سريره ممن جلس على الطريق لما سمع بهم فمنعهم عنه‏.‏

ونزل في قبره، بيان وأبو جهم وحبيب، وقيل‏:‏ شهد جنازته علي وطلحة وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وعامة من أصحابه‏.‏

وعن الحسن قال‏:‏ شهدت عثمان بن عفان دفن في ثيابه بدمائه، وفي البخاري أنه لم يغسل‏.‏

 مدة حياته

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 689‏]‏‏:‏

كانت مدة حياة عثمان على المشهور 82 سنة‏.‏ قال الواقدي‏:‏ لا خلاف عندنا أنه قُتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وهو قول أبي اليقظان‏.‏

  خطبة علي عليه السلام عند بيعته بعد مقتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ

‏[‏ابن قتيبة، عيون الأخبار ‏(‏م 2/ص 236‏]‏‏:‏ ‏[‏ص 192‏]‏

‏"‏أيها الناس، كتاب اللَّه وسنة نبيكم، لا يدَّع مدعٍ إلا على نفسه‏.‏ شُغِلَ الجنةُ والنارُ أمامه‏.‏ ساعٍ نجا‏.‏ وطالبٌ يرجو‏.‏ ومقصرٌ في النار، ثلاثة واثنان‏:‏ ملَك طار بجناحيه، ونبي أخذ اللَّه بيديه، لا سادسَ‏.‏ هلك من اقتحم‏.‏ وردِيَ من هوى‏.‏ واليمين والشمال مضلَة، الوسطى الجادَّةُ‏:‏ منهج عليه باقٍ‏:‏ الكتاب وآثار النبوة‏.‏ إن اللَّه أدَّب هذه الأمة بأدبين‏:‏ السوطِ والسيفِ، فلا هوادة فيهما عند الإمام‏.‏ فاستتروا ببيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم من أبدى صفحته للحق هلك‏.‏ قد كانت أمور ملتم علي فيها مَيلة لم تكونوا عندي محمودين ولا مصيبين‏.‏ واللَّه أن لو أشاء أن أقول لقلت‏.‏ عفا اللَّه عما سلف‏.‏ انظروا، فإن أنكرتم فأنكروا وإن عَرَفتم فاروُوا‏.‏ حق وباطل ولكل أهل، واللَّه لئن أمِّر الباطل لقديمًا فعل‏.‏ ولئن أمر الحق لَرُبَّ ولعل‏.‏ ما أدبر شيء فأقبل‏"‏‏.‏

  عمال عثمان سنة وفاته

‏[‏ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 75‏]‏‏:‏

قتل عثمان بن عفان ـ رضي اللَّه عنه ـ وعماله على الأمصار كما يلي‏:‏

ـ1ـ عبد اللَّه بن الحضرمي على مكة‏.‏

ـ2ـ القاسم بن ربيعة الثقفي على الطائف‏.‏

ـ3ـ يعلى بن منية على صنعاء‏.‏

ـ4ـ عبد اللَّه بن ربيعة على الجند‏.‏

ـ5ـ عبد اللَّه بن عامر على البصرة، خرج منها ولو يول عليها عثمان‏.‏

ـ6ـ سعيد بن العاص على الكوفة‏.‏

ـ7ـ عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح على مصر‏.‏

ـ8ـ معاوية بن أبي سفيان على الشام‏.‏

ـ9ـ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على حمص‏.‏

ـ10ـ حبيب بن مسلمة على قنسرين‏.‏

ـ11ـ أبو الأعور بن سفيان على الأردن‏.‏

ـ12ـ علقمة بن حكيم الكناني على فلسطين‏.‏

ـ13ـ عبد اللَّه بن قيس الفزاري على البحرين‏.‏

ـ14ـ أبو الدرداء على القضاء ‏[‏ص 193‏]‏‏.‏

ـ15ـ جرير بن عبد اللَّه على قرقيسياء‏.‏

ـ16ـ الأشعث بن قيس على أذربيجان‏.‏

ـ17ـ عتيبة بن النهاس على حُلوان‏.‏

ـ18ـ مالك بن حبيب على ماه‏.‏

ـ19ـ النسَير على همذان‏.‏

ـ20ـ سعيد بن قيس على الرَّيِّ‏.‏

ـ21ـ السائب بن الأقرع على أصبهان‏.‏

ـ22ـ حبيش على ماسبذان‏.‏

ـ23ـ عقبة بن عمرو على بيت المال‏.‏

ـ24ـ زيد بن ثابت على قضاء عثمان‏.‏

  فتوح المسلمين في خلافة عثمان

حكم عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ اثني عشر عامًا وكانت خلافته فتحًا وفوزًا للمسلمين امتدت سطوتهم إلى بلاد النوبة في مصر واتصلت بحدود الهند حتى ضربت النقود الإسلامية على ما قيل بهراة، وأنشؤوا الأساطيل بعد أن لم يكن لهم سفينة واحدة في البحر وغزوا الجزر، وحاربوا في البحر، وزادت هيبتهم في نفوس الدول الأخرى، ولا سيما الروم، وفتح المسلمون شمالي أفريقية، وقتلوا آخر ملك للفرس وغزوا الترك، وواصلوا الفتوح حتى القوقاز مجتازين الفيافي والقفار والجبال، واستولوا على جزيرة قبرس ورودس، واستأذن معاوية بفتح القسطنطينية فأذن له فسار إليها ورجع عنها بعد أن حاصرها مدة‏.‏

تمت كل هذه الفتوح العظيمة بسرعة مدهشة لم يعهدها التاريخ من قبل بالرغم من الفتن الداخلية والنقمة على عثمان، وبالرغم من لين الخليفة وشدّة حياته، لأن المسلمين كانوا يجاهدون في سبيل اللَّه بقوة إيمانهم وقد ذاقوا حلاوة الفتح والنصر والغنائم، فلم يكن يعوقهم عن الفتح عائق‏.‏ وقد قامت هذه الفتوح على يد الولاة الذين ولاَّهم عثمان أمثال الوليد وسعيد بن العاص وعبد اللَّه بن عامر وعبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح ومعاوية‏.‏ فلا غرو إذا قلنا إن عهد عثمان كان عهد فوز للمسلمين كانت هذه الفتوح العظيمة سببًا في اتساع الدنيا على الصحابة‏.‏ فكثرت الأموال حتى كان الفَرس يُشترى بمائة ألف، وحتى كان البستان يباع بالمدينة بأربعمائة ألف درهم، وكانت المدينة عامرة كثيرة الخيرات والأموال والناس يجبى إليها خراج الممالك وهي دار الأمان، وقبة الإسلام، فبطر لناس بكثرة الأموال والخيل والنعم وفتحوا أقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا‏.‏ ثم أخذوا ينقمون على خليفتهم‏.‏

الفصل السابع‏:‏ آراء ومواقف في مقتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ

  رأي الأستاذ فريد وجدي في مقتل عثمان

نورد هنا ما كتبه الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف خاصًَّا بمقتل عثمان‏:‏

‏"‏إن الناظر في حادثة عثمان على ما أحاطها به المؤرخون من عبارات التضليل الباعث عليه ضعف النقد، يعدها أمرًا جليلًا، وهي في حقيقتها أمر طبيعي، كانت نتيجتها لازمة لمقدمات سابقة‏.‏ ونحن لا نود أن نقول بأن عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ استحق أن يقتل‏.‏ ولكنا نقول‏:‏ إنه استحق أن يعزل، ولكن الشكل الفذُّ الذي كانت عليه الحكومة إذ ذاك لم يسمح إلا بحدوث هذه النتيجة المحزنة المريعة‏.‏

عثمان استحق أن يعزل لجملة أسباب‏:‏

أولًا ـ لضياع هيبة الخلافة في عهده، فإنه كان يجترئ رجل مثل ‏"‏جهجاه‏"‏ على كسر العصا التي كان يتوكأ عليها، وهو على المنبر، فلم يقوَّ على معاقبته بما يستحق، أو بمؤاخذته بحيث لا يجترئ بمثلها‏.‏

وقد تبيَّن من تاريخ حياته أنه كان يصعد المنبر فيتوب مما فعل، ويستغفر اللَّه، ثم يعود سيرته الأولى من الخضوع لرأي فتية بني أمية‏.‏ وفي توبته إقرار بأنه أخطأ، ثم في عودته دليل محسوس على خضوعه للمؤثرين عليه، وكفى بهذا مسقطًا لهيبة الخلافة، وهي الوظيفة التي كانت تعتبر تالية لمقام النبوة‏.‏

ثانيًا ـ لوقوعه تحت تأثير قرابته، من أمثال عبد اللَّه بن أبي سرح، وعمرو بن العاص ‏[‏يلاحظ أن عمرو بن العاص كان ناقمًا على عثمان بعد أن عزله عن ولاية مصر سابقًا غير أن عثمان كان مع ذلك يستشيره‏]‏، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم، وهم إما من الطلقاء الذين مَنَّ رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ عليهم بالعفو عند فتح مكة بعد أن كان تاريخهم في مكافحة الدعوة الإسلامية أقبح تاريخ‏.‏ وإما من الفتيان الذين لا حريجة لهم في الدين، ولا صفة لهم بين المؤمنين ‏[‏ص 198‏]‏‏.‏

ثالثًا ـ لحرمانه المجتمع الإسلامي من مكونيه الأولين أمثال علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وعبد اللَّه بن عمر، وغيرهم من كبار الصحابة، واعتماده على فتيان بني أمية‏.‏ فكان يرسل إلى الولايات الكبرى كمصر وسورية والعراقين والفرس من أولئك الفتية ممن لا يحسنون قيادة، ولا يعرفون سيادة‏.‏ ويترك أمثال أولئك الكاملين عاطلين بلا عمل، وهم مكونو المجتمع الإسلامي وأرواحه التي أقامته من المجتمعات البشرية‏.‏

هذه الأمور الثلاثة وحدها كانت كافية لإهلاك المجتمع الإسلامي وحلِّ الوحدة الدينية، وهي وحدها كانت كافية لجمع المسلمين على خلع ذلك الخليفة، ولكن شكل تلك الحكومة لم يكن يسمح لهم بخلعه، فحدثت الحادثة التي انتهت بقتله‏.‏

كان عثمان يستطيع أن يتلافى الوقوع في شرِّ هذه الحوادث بتولية أمثال علي وطلحة والزبير الولايات الكبيرة‏.‏ فإن هؤلاء النفر كان لهم من المقام الرفيع، والسوابق الجليلة، والحب في نفوس الناس ما كان يقيم الكافة على الطريق السوِّي، ويوجد للمجتمع الإسلامي روحه المدبر، ولكن عثمان كان تحت تأثير مثل عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح المطعون في دينه، ومروان بن الحكم المكروه من الناس وغيرهما من الغلمان والأحداث دون أولئك الصحابة الأكرمين الذين استعان بهم النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ نفسه في تكوين الأمة، واستعان بهم أبو بكر وعمر في تقويم معرج الشؤون‏.‏ فكيف لا تنحرف عنه الأمة‏؟‏‏.‏ وكيف لا تسقط مهابة الخلافة‏؟‏‏.‏ وكيف لا يجترئ الناس عليه‏!‏‏.‏

إن قتل عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ على حسن سوابقه وفضله في إقامة الدين، وبذله نفسه وماله في مساعدة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، يعد من الأمور المريعة‏.‏ ولكن الثائرين طلبوا إليه أن يخلع نفسه فأبى فحاصروه ليحملوه على ذلك فأصر على الإباء‏.‏ فدخلوا عليه وهددوه بالقتل فلم يزدد إلا إباءً فاستهدف نفسه بذلك لما حدث‏.‏

هذا رأينا ولكن إخواننا المؤلفين الأولين كانوا يذهبون في تعظيم الأشخاص مذهبًا لا يلائم نصَّ الدين نفسه، فاستنكروا حادثة عثمان استنكارًا لم يفعله معاصروه أنفسهم‏"‏‏.‏

  رأي رفيق بك العظم

كتب الأستاذ رفيق بك العظم المؤرخ الشهير في ترجمته حياة عثمان بن عفان كلمة في هؤلاء الناقمين على عثمان وفي أهمية تاريخ الصحابة، ما يأتي‏:‏

‏"‏إنَّ من يطالع هذا الخبر من أسراء الاستبداد وأليفي الاستعباد يعجب من جرأة القوم وتجاوزهم حدود الحشمة مع وجود الصحابة، وأعجب منه عندهم أن يتجاوز عن القوم لا ينالهم ‏[‏ص 199‏]‏ أدنى عقاب على ما فعلوه سوى التوبيخ، إذ لو حدث من غيرهم ما حدث منهم في حكومة أخرى غير الحكومة الإسلامية يومئذٍ لما كان جزاؤهم إلا القتل أو قضاء الحياة في أعماق السجون‏.‏ ولكن شأن العرب وشأن الإسلام وحكومته يومئذٍ لا يضاهيه شأن الأمم الأخرى وحكوماتها‏.‏ إذ العرب قد اعتادوا بأصل الفطرة حرية الفكر والقول‏.‏ وشرائع الإسلام لم تكن مصادمة لتلك الفطرة، بل هي معينة لها، داعية لتهذيبها وارتقائها‏.‏ فالقرآن يأمر المسلمين عامة بقول الحق، وأن يقوموا بالقسط ويشهدوا بالحق ولو على أنفسهم، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر‏.‏ وفي هذا كله ما يجيز لهم الانتقاد على الأمراء والعمال ويطلق لهم العنان فيما اعتادته فطرتهم من حرية القول، بشرط أن لا يترتب على قولهم حدُّ من الحدود الشرعية كالقذف وكل ما يمسُّ بالشرف والعرض ويدعو إلى إقامة الحدِّ، أو أية عقوبة من عقوبات التعزير‏.‏ لهذا قام هؤلاء الناس وغيرهم في الأمصار الإسلامية يظهرون الطعن على عثمان وعماله باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس من يجرؤ على معاقبتهم، أو الضرب على أيديهم من العمال، لأنه حق من الحقوق التي خولتها لهم الفطرة والشرع‏.‏ ولم يظهر عليهم النكير إلا بعد أن ترتب على عملهم حق من حقوق اللَّه في قتل عثمان رحمه اللَّه وـ رضي اللَّه عنه ـ‏.‏ وهذا عين ما يشاهد الآن في الممالك الأوربية ذات الحكومات الشورية من إطلاق ألسنة الانتقاد على الحكومات ومناقشة أهل الشورى للوزراء في كل جليل وحقير‏.‏ وكثيرًا ما يلجئون الوزراء إلى اعتزال مناصبهم إذا رأوا منهم ما يستدعي ذلك، فيعتزلونها صاغرين‏.‏ وشأنهم هذا شأن المسلمين في ذلك العهد مع أمرائهم كما رأيت‏.‏ وترى العبرة في عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ وعماله ونهوض الأمة لمؤاخذته على أمور هي ولا نكران للحق أقل مما يأتيه أصغر عامل من عمال الدول المطلقة في هذا العصر وفي كل عصر‏.‏ ومع هذا فقد أفضى الأمر إلى طرد عماله من الأمصار، ثم إجلاب الناس عليه بالخيل والرجل من كل مصر وقتله بين ظهراني إخوانه من المهاجرين والأنصار‏.‏ فليت شعري كيف نسي المسلمون تاريخ هذه النشأة التي نشأ عليها أسلافهم وأهملوا أمور شريعتهم التي عمل بها مؤسسو دولتهم فاستخذوا بعد ذلك للأمراء واستسلموا للقضاء حتى صاروا أسراء الاستبداد، وتعبَّدهم الملوك في كل الأنحاء، وسامتهم الدول الحاكمة عليهم من إسلامية ومسيحية دروب الخسف‏.‏ وأذاقتهم أنواع الهوان‏.‏ وأين تلك الروح البارَّة والنفس العالية التي كانت تأبى الضيم وتغضب للحق فترى أن الموت والحياة سيان في سبيل الذود عن حقوقها والاحتفاظ بحريتها‏.‏

لا جرم أن الأمة الإسلامية قد أُنست ذلك لأمرين‏:‏

الأول‏:‏ عدم العناية بوضع قواعد الشورى على الأصول الثابتة منذ نشوء الدولة كما سبق بيان هذا في صدر هذا الجزء‏.‏

والثاني‏:‏ تحريم العلماء بإيعاز الأمراء الخوض في تاريخ الخلفاء ‏[‏ص 200‏]‏ الراشدين ‏[‏قال‏:‏ نريد بالخوض هنا معناه اللغوي وهو من قولهم‏:‏ خاض الماء أي تغلغل فيه‏.‏ فإذا كان مراد القائلين بحرمة الخوض في أخبار الصحابة هذا التغلغل فلا نسلم لهم بحرمته وإذا كان مرادهم به المعنى المجاز كالخوض في الباطل ونحوه فهذا ما لا ننكره عليهم بل هو مما نقول ونسلم به وأنا أريد الخوض هنا بالمعنى الأول‏.‏ فليتنبه له‏.‏‏]‏ وأخبار الصدر الأول التي كلها حياة‏.‏ كلها عبر‏.‏ حرية‏.‏ وليس في كل ما كان بين الصحابة من الأمور العظام، والفتن الجسام، ما يدعو دينًا أو أدبًا إلى اجتناب الخوض في أخبارهم والنظر في تاريخهم تعظيمًا لهم واحترامًا لجنابهم، وتسليمًا بسلامة مقاصدهم كما يذهب إليه خدام الأمراء من بعض العلماء‏.‏ إذ لو كان في أخبارهم ما يمنع من الخوض فيها دينًا، أو أدبًا لاستلزم أنها أعمال تحطُّ من منزلتهم وتقلل من احترامهم‏.‏ وهذا باطل بالبداهة‏.‏

والحقيقة هي أن هذا التحريم لم يكن إلا بإيعاز الأمراء الجبارين والزعماء المستبدين‏.‏ لأن تاريخ الصدر الأول وأخبار الصحابة كلها تدل على حياة منبثة في صدور القوم ومقاصد عالية تعلي شأن أولئك الرجال، وواللَّه ليس في تاريخ من تواريخ الأمم في بدء نشأتها وإبان ظهورها ما في تاريخ الخلفاء الراشدين‏.‏ ووقائع الصحابة من الحوادث التي ترمي كلها إلى غرض الحرية وتمحيص الحق مما قلَّ أن يكون في أمة حديثة النشأة ودولة جديدة التكوين‏.‏ أما أن فريقًا منهم أخطأ وفريقًا أصاب‏.‏ وفريقًا بغى وفريقًا بغي عليه‏.‏ فهذا الحكم إنما هو تابع للمقاصد والمقاصد كانت كلها متجهة إلى تمحيص الحق والرغائب العالية‏.‏ فمن العبث أن يحكم بخطأ فريق ما دام يعتقد أنه على صواب‏.‏ ومثاله هؤلاء المحرضون على عثمان، فإنا مع اعتقادنا أن عثمان ـ رضي اللَّه عنه ـ خير من كثير غيره ممن أتى بعده من الخلفاء‏.‏ ومع علمنا أنه لم يأتِ من حبِّ النفس أو الأثرة بجزء مما يأتيه حتى أشهر من اشتهر بالعدل من الخلفاء الأمويين أو العباسيين، أو غيرهم فإن أولئك الثائرين على عماله الناقمين منه مهما كان الدافع لهم إلى ذلك العمل فإن غايتهم التي يقصدون إليها بحسب الظاهر هي العدل بين الناس بعدم الاستئثار بمصالح المسلمين ومنافع الأمة كما تعودوا ذلك من الخليفتين السابقتين، وإن كانت سيرتهما في الخلافة وسياسة الملك فوق المستطاع لمن عداهما‏.‏ لهذا لم يستطع أن يمد إليهم العمال بسوء فهم إذا أوخذوا فإنما يؤاخذون من جهة أنهم كانوا يطلبون من عثمان فوق ما يستطاع بالنسبة إليه‏.‏ وأنهم غلوا في ذم سيرته تذرعًا لمحو الصبغة الأموية من الدولة غلوًا يلامون عليه ما دام ذلك الغلو لغرض آخر يرمون إليه‏.‏

وأما قتلته فإنهم أخزاهم اللَّه ليسوا بمؤاخذين وحسب بل هم ملعونون على لسان كبار الصحابة كحذيفة بن اليمان وأضرابه، وهو مسؤولون عن عملهم دون غيرهم‏.‏ وقد جنوا على الأمة في مستقبلها جناية كبرى كما سنشير إليه بعد إن شاء اللَّه ‏[‏ص 201‏]‏‏.‏

إذا تقرر هذا، فاعلم أن أخبار الصحابة إنما حرم بعضهم الخوض فيها، لأنها أخبار قوم ملئت صدورهم بالحياة ونفوسهم بالعزة‏.‏ وهم بالضرورة قدوة الأمة، والمنادون منذ نشأت الدولة بصوت العدل والحرية والحق‏.‏ فوقوف الناس على أخبارهم والأخذ والردُّ فيما حدث بينهم يُحيي في القلوب روح الحرية، ويبعث على استظهار عامة الناس للحجة التي يصادمون بها آلات الاستبداد من الخلفاء والملوك الذين حولوا الخلافة إلى الملك العضوض، وأمعنوا في التمكُّن من رقاب الناس‏.‏ ولهذا ولما كثر خوض الناس في أخبار الصحابة أرادوا إلهاءهم عنها بحجة حرمة الخوض فيها، فأوعزوا إلى الوضاع والقصاصين بوضع أخبار المغازي، وقصة عنترة، وأشباهها في أعصر مختلفة لا تعلم بالتحقيق، إلا إذا صحَّ نسبة أكثر تلك الكتب إلى الواقدي والأصمعي، فإنها تكون في عصر العباسيين وذلك ليتلهى بها العامة عن التاريخ الصحيح الذي يبعث في النفوس روح الجرأة على قول الحق والتشبه بسلف الأمة ورجالها، ورافعي دعامة دولتها في مناهضة أرباب العتو والجبروت ومحبي الاستبداد وآلهة الملك‏.‏ هذا ما أراه في هذا الباب واللَّه أعلم بالصواب‏"‏‏.‏

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire