الوثيقة القادرية

الوثيقة القادرية
الوثيقة القادرية انحراف عميق في تاريخ الامة

vendredi 15 août 2014

محاكم التفتيش .. وما خفي كان أرعب

يحكى أن قارة عجوزا طاعنة في العمر تدعى أوروبا  كانت تغط في نوم عميق، وكانت غارقة لأذنيها في جهل أعمق، فحل عليها من الجنوب ضيف ثقيل الظل ولكنه كان يحمل لها الخلاص بإحدى يديه، وبالأخـرى أعظم ثورة علمية.
جاءها مبتــسما فاتحا ذراعـيه مسالما، ومقدما لها كل ما في جعبته من علوم الفلك والطب والرياضيات والهندسة والمعمار..
ذاك هو الإسلام بعينه الذي مـر ذات يــوم من هناك، وحط رحاله بأرض أطلق عليها اسم الأندلس.
الثــاني من يناير من عام 1492 للميلاد، نقطة من الزمن كانت كافية لكتم أنفاس ثمانية قرون من الحضارة، في هذا التاريخ بالذات تسقط رسميا الخلافة الإسلامية في الأندلس .
 ومن هنا تبدأ الحكاية، لنبـدأ التفتيش معا عن البداية، وعن قصص الرعب والموت، التي نقلها التاريخ إلينا، وليس علينا إلا البحث  عن الحقيقة، في الأقبية السوداء، وعن ذكـرى أناس سجـدوا قسرا، أمام قضاة ليسوا كالقضاة، يحملون صلبانا وسياطا، وتقابلهم دموع وتوسلات، تطلـب رحـمة أو موتا، وفي السـاحة الكـــبرى بالجــوار، رماد الجثث المنثور في سماء إسبانيا، ودخان متطاير في الأجواء، ينبعث منه عبق الخوف من الرهبان، وعيون أخرى تلمح مصيرها يساق إلى النيران .
هذه هي بكل بساطة قصة محاكم التفتيش، في أرض كانت تدعى الأندلس.
دعونا ننطلق من البداية، والبداية كانت في أوائل القرن الثالث عشر للميلاد، حين كانت أوروبا بأكملها تخضع لسيطرة الكنيسة، فكانت الأمِرُ الناهي في كل شيء، والويل وكل الويل لمن تخول له نفسه مجرد التفكير في مخالفة أوامر الكنيسة، فأنشئت محاكم خاصة بأمر من البابا (غريغوريوس التاسع) عام 1233، تقتفي آثار المهرطقين والمخالفين والملحدين والسحرة، لتُنـزِل بهم أشد العقاب.
السادس من يوليو من عام 1415، يوم قُـتِلَ فيه المصـلح التشــيكي المشهور (يان هوس) لم يكن هذا الرجل إلا راهبا معروفا بإخلاصه وتقواه واستقامته، كما أنه شغل في بداية القرن الخامس عشر، أرفع المناصب الأكاديمية بصفته عميدا لجامعة براغ، ولكن الكنيسة إتهمته بأنه يدعي أنها خرجت عن مبادئ الدين، وأن قساوستها ورهبانها انحـرفوا عن واجبهم الحقيـقي، واهتموا بمصالحهم الشخصية، مستغلين الناس البسطاء.
فألتف حوله أناس كثيرون أحسوا بصدقه  وإخلاصه، حينئذ قامت الكنيسة بتكفيره بتهمة الزندقة، وساقته للمحاكمة بعد أن أدانته في مجمع كونستانس، وأعدمته حرقا في السادس من يوليو من عام 1415، هاهو تمثاله اليوم يقبع وسط مدينة براغ، شاهدا على حقبة سوداء من التاريخ الكنسي.
لم يكن (يـان هوس) الوحيد من المفكرين والمصلحين الذي مَـثُلَ أمــام محاكم التفتيش، فالتــاريخ يروي لنا الكثــير من القصص، ويخبرنا عن العديد من أسمـاء العلماء والباحثين والفلاسفة، الذين أحرقتهم الكنيسة وسط كتبهم ومؤلفاتهم.
نيكولاس كوبرنيكوس، هذا الذي وُلِدَ عام 1473، لم يكن يعلم أن الأيام ستجعل منه فلكيا وإداريا وقانونيا وطبيبا ودبلوماسيا وجنديا وعالما في الرياضيات، بل لم يكن يعلم أنه سيأتي يوم يصوغ فيه أهم وأخطر نظرية في حياته على الإطلاق، قد تؤدي إلى قلب كل الموازين رأسا على عقب، وقد تسوقه إلى الهلاك.
كان أول من أشار إلى مركزية الشمس، ودوران الأرض حولها وحول نفسها، كما أنه كان يعي جيدا أن إعلان أو نشر نظريته تلك سيؤدي به حتما إلى المحرقة.
فما جاء به كوبرنيكوس يعتبر ثورة في علم الفلك، وفي الوقت ذاته تحديا لقوانين وضعتها الكنيسة، التي يُعَاقَبُ عقابا شديدا كل من يخالفها.
لأجل هذا تعمد كوبرنيكوس تأجيل نشر كتابه الذي يحتوي على نظريته الجديدة، إلى اليوم الذي توفي فيه بالضبط، لا لشيء إلا لكي لا يمـثُل أمام أناس يتكلمون باسم الآب والإبن والروح القدس، ولا يعيرون للعلم أي إهتمام، ولا تعرف قلوبهم لا رحمة ولا شفقة.
لقد نجا كوبرنيكوس من بطش الكنيسة، و لكن نظريته لم تسلم من ذلك .
جيوردانو برونو، راهب وفيلسوف إيطالي وُلِدَ عام 1548، من أوائل الرافضين لفلسفة أرسطو في علم الكون، هرب من إيطاليا بسبب تعلقه بالأفكار الفلسفية، وتبنيه لنظرية كوبرنيكوس المدانة من طرف البابا، فأضطره ذلك للفرار والعيش متنقلا بين فرنسا وسويسرا وإنجليترا وألمانيا، وقد إشتغل أستاذا في جامعات تلك البلدان التي مر بها، واشتهر بالتفوق والنبوغ العلمي، وبعد غياب طال أمده عن بلاده جعله يشعر بالحنين إليها، استدرجه أحد التجار الأغنياء من البندقية، وطلب منه العودة لتعليم أولاده، والعيش بأمان في إيطاليا، ولكنه سرعان ما غدر به  وسلمه إلى محاكم التفتيش في الفاتيكان، فقطعوا لسانه وأحرقوه حيا، في العشرين يناير من عام 1600.
نحـن الآن في رومــا عـام 1633، هاهو (جاليليو) وهو جاثٍ على ركبتيه أمام البابا (أوربان الثامن) ومعترفا قسرا:« أنا جاليليو، وفي السبعين من عمري، سجين جاثٍ على ركبتي، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس، الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع، بل أعلن وأحتقر خطأ القـول وهرطقة الاعتـقاد بأن الأرض تدور».
وكأني أرى الارتباك باديا على وجه (جاليليو) وهو يقر بشيء لا يؤمن به، همس بعدها بصوت منخفض:« ومع هــذا فإنها تدور».
هي الكلمات التي لم يجـرأ (جاليليو) على التلفظ بها جهرا أمام البــابا، لأنه كان يدرك جيدا، أن اعترافا كهذا، في محكمة كهذه، في أيام كتلك، معناه بكل بساطة الإعدام حرقا.
لم يكن ( جاليليو ) ليتراجع عن اكتشافاته لولا خوفه الشديد من أن يلاقي نفس مصير الذين أحرقوا.
كانت فكرة أن الأرض مستـديرة لا تـرق للكنيسة، وقد أزعجها كثيرا انتشار هذه الهرطقة كما تصفها، فهاجم رجالها الفكرة هجـوماً عنـيفاً وشرسًا، مقدمين حججا أسخف من السخف نفسه، ومعتمدين على آراء القديسين ورجال الدين، التي يغلب على معظمها الجهل أكثر من غيره.
من بينها ما رمى إليه  القديس (أوغسطين) بقوله : ـ إن التبشير  بالإنجيل طالما لم يصل إلى الجهة المقابلة من الأرض، فلا يمكن أن يكون هناك من سلالة بشرية ـ
وهناك من قال ..: ـ  إذا كـان على الجهة المقابلة من الأرض أناس  ، لوجب أن يذهب المسيح إليهم، وأن يموت صلباً في سبيل خلاصهم مرة ثانية ـ .
كأنهم أرادوا أن يقولوا لنا  ..: « إن لم نبصر عقولكم بأعيننا ، إذن فلا عقول لديكم ». 
وتساءل معلم الكنيسة (لاكتانتيوس) مستنكراً:ـ هل هذا معقول ؟! أ يعـقل أن  يُجَن  الناس إلى هذا الحد !! فيدخل في عقولهم أن البلدان والأشجار تتدلى من الجانب الآخـر من الأرض، وأن أقدام الناس تعـلو رؤوسهم ؟! ـ .
لقد كانت الأرض بالنسبة إلى  بعض الناس منهم تلاً تدور الشمس حوله ما بين الشروق   والغروب، وبالنسبة إلى الآخرين سطحاً تطوقه المحيطات من كل جانب ورأت الكنيسة أن الأمر لن يُحل إلا باستخدام القوة ، فأقامت لذلك محاكم التفتيش .
لم يقتصر دورها في محاكمة المخالفين من العلماء والمفكرين فحسب، بل شمل قفص اتهامها كل من تشك وتشتبه فيه أو تظن مجرد الظن أنه قد يهدد مصالحها في يوم ما، فأمست محاكم التفتيش أنجع وسيلة لتحافظ الكنيسة بها على سلطتها.
وقد بلغ الرعب منها إلى اعتبار الإشاعات تهم تسوق أصحابها إلى المثول أمامها، وقد فتحت الباب على مصراعيه أمام الضغائن الشخصية، فكان من يطمع في زوجة جاره يذهب إلى القس ويشي به، ومن كان يتهرب من دفع أجرة أجيره يذهب إلى القس ويشي به، والتاجر الذي تزعجه منافسة التجار له يذهب إلى القس ويشي بمنافسيه، لم يكن على الخصم إلا أن يشي بخصمه متهما إياه بأنه ينشر أفكارا شاذة أو يتهمه بالإلحاد مثلا ومحاكم التفتيش تعرف جيدا بعدها ما يجب عمله، فأمست بحق وصمة عار في تاريخ الكنيسة.
كانت مقدمة طويلة وكان لابد منها، هي حقائق قصها التاريخ علينا ،وما خفي كان أرعب. 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire